وجب قلبه بألم عميق ولكنه تأبط ذراعه قائلا: يا لها من فكرة رائعة!
وجلسا في المقهى وهو يتذكر عيدا من أعياد الفطر تمزق فيه جلبابه الجديد في معركة بحارة الحسيني، ضربه أبوه، واضطر إلى استعمال الجلباب عاما كاملا بعد أن رقعته أمه. وأزعجه سرور الكهل وانشراحه. إنه يتوقع أن يسمع خبرا سارا بلا شك. وها هي فرحة قلقة في أعماق عينيه الشاحبتين، وها هو يجود بالرضى على كل شيء .. قال: أأنت سعيد بزملائك في المحفوظات؟ .. - أعتقد ذلك. - إنهم تعساء ولكنهم طيبون .. - إنهم طيبون حقا .. - أما أنت فشاب ممتاز، هل تعمل محاميا إذا انتهيت من دراستك؟ - كلا، ولكني أرجو تحسين حالتي. - فكرة طيبة. يعجبني طموحك الشريف!
وخرج عثمان من تردده مصمما على النجاة ولو بخنق آمال الرجل. قال: إن همومي أكبر مما تتصور ..
فرمقه الرجل متوجسا وسأله: لم؟ كفى الله الشر! - لا يهمني الطموح كما تظن، تهمني أشياء أقل من ذلك بكثير .. - حقا؟ - لولا الظروف القاسية لما فكرت إلا في أمر بسيط وطبيعي ومعقول وهو أن أكمل نصف ديني!
لم يفلح الكهل في مداراة الخيبة التي خنقته، وتساءل: أي ظروف يا ترى؟
فتنهد عثمان في أسى وقال: مسئوليات جسيمة؛ نحن أبناء الفقر، وهو يصر على مطاردتنا ..
وأطرق وهو يقول بصوت كئيب: كم كنت أود ...
وسكت كأنما غلبه الانفعال. تراجع الكهل عن ضوء المصباح فمضى في الظل. لا مفر من ذلك ولكن عليه أن يحافظ على صداقته ما وسعه الجهد والحيلة. وجاءه صوت الرجل من الظل: ومتى تستطيع الوقوف على قدميك؟
فأجاب بنبرة يائسة: في عنقي صغار وأرامل، ما أنا إلا ثور معصوب العينين يدور في ساقية ..
مات كل شيء. حتى مطارق قطع النرد لم تعد تسمع. عاد يتمتم: كم كنت أود ...
Unknown page