حضرة المحترم
حضرة المحترم
حضرة المحترم
حضرة المحترم
تأليف
نجيب محفوظ
حضرة المحترم
1
انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لانهائية. تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكانا محدودا منطويا في شتى التفاصيل. آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم؛ لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهار سحري. فقد أول ما فقد تركيزه. نسي ما تاقت النفس لرؤيته، الأرض والجدران والسقف. حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه حبا جنونيا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود، وحرضه على الفداء، ولكنه سلك مع الآخرين سلوك التقوى والابتهال والطاعة والأمان. كالوليد عليه أن يذرف الدمع الغزير قبل أن يملي إرادته. وتلبية لإغراء لا يقاوم خطف نظرة من الإله القابع وراء المكتب، ثم خفض البصر متحليا بكل ما يملك من خشوع.
وكان حمزة السويفي مدير الإدارة يتقدم الموكب الصغير، فقال مخاطبا المدير العام: هؤلاء هم الموظفون الجدد يا صاحب السعادة ..
مر ضوء عينيه على الوجوه، وعلى وجهه ضمنا، فجال بخاطره أنه دخل تاريخ الحكومة، وأنه يحظى بالمثول في الحضرة. وخيل إليه أنه يسمع همهمة من نوع عجيب، لعله يسمعها وحده، ولعله صوت القدر نفسه. ولما استوفت الفراسة امتحانها الوئيد تكلم صاحب السعادة. تكلم بصوت بطيء وهادئ ومنخفض فلم يكشف عن شيء يذكر من جوهره. قال متسائلا: جميعهم من حملة البكالوريا؟
فأجاب حمزة السويفي: بينهم اثنان من حملة التجارة المتوسطة.
فقال صاحب السعادة بنبرة مشجعة: العالم يتقدم، كل شيء يتغير، ها هي البكالوريا تحل محل الابتدائية.
اطمأنت القلوب ودارت فرحتها بمزيد من الخشوع، فقال الرجل: حققوا المأمول منكم بالاجتهاد والاستقامة.
وراح يراجع بيانا بالأسماء حتى سأل عن غير توقع: من منكم عثمان بيومي؟
دق قلبه دقة قوية جدا. وقع نطق الرجل لاسمه من نفسه موقعا مؤثرا عنيفا. تقدم خطوة مطرقا وهمس: أنا يا صاحب السعادة! - ترتيبك ممتاز في البكالوريا فلم لم تكمل تعليمك؟
صمت. اضطرب. لم يدر في الواقع ماذا يقول بالرغم من حضور الجواب في وعيه طيلة الوقت. وعنه أجاب مدير الإدارة كالمعتذر: لعلها ظروف يا صاحب السعادة!
سمع الهمهمة مرة أخرى، سمع صوت القدر. ولأول مرة شعر بأن ثمة زرقة تخضب الجو، وأن رائحة طيبة غريبة تجول في المكان. ولم يحزنه أن يشار إلى «ظروفه» المعوقة بعد أن تقدس شخصه بعطف صاحب السعادة وتقديره. وقال لنفسه إنه يستطيع أن يحارب جيشا بمفرده فينتصر عليه. والحق أنه ارتفع وارتفع حتى غاص رأسه في السحاب، وثمل لدرجة العربدة الوحشية. أما صاحب السعادة فنقر على حافة المكتب وقال مؤذنا بالختام: شكرا، ومع السلامة ..
وهو يغادر المكان قرأ في سره آية الكرسي.
2
إني أشتعل يا ربي.
النار ترعى روحه من جذورها حتى هامتها المحلقة في الأحلام. وقد تراءت له الدنيا من خلال نظرة ملهمة واحدة، كموجة من نور باهر، فاحتواها بقلبه وشد عليها بجنون. كان دائما يحلم ويرغب ويريد ولكنه في هذه المرة اشتعل، وعلى ضوء النار المقدسة لمح معنى الحياة. أما على الأرض فقد تقرر إلحاقه بالمحفوظات. لم يهمه كيف يبدأ؛ فالحياة بدأت من خلية واحدة بل من دون ذلك. وهبط إلى مقره الجديد وجناحاه يرفرفان، يشق طريقه إلى بدروم الوزارة. طالعته قتامة، ورائحة أوراق قديمة، ورأى سطح الأرض في الخارج عند مستوى رأسه من خلال نافذة مصفحة. وامتد البهو أمامه، تتلاصق على جانبيه دواليب شنن، وصف طويل منها يشقه شقا طوليا. على حين استقرت مكاتب الموظفين في ثغرات بين الدواليب. ومضى وراء موظف إلى مكتب يستعرض تجويفا كالمحراب في الصدر جلس إليه رئيس المحفوظات. لم يكن أفاق من نفثة السحر المقدسة، حتى الغوص في البدروم لم يوقظه. سار وراء الموظف بتشتته وذهوله وانفعالاته وهو يقول لنفسه: اللانهاية هي ما ينشد الإنسان.
وقدمه الموظف إلى الرئيس: عثمان أفندي بيومي الموظف الجديد.
ثم قدم الرئيس إليه قائلا: رئيسنا سعفان أفندي بسيوني ..
رأى في الوجه قرابة طبيعية كأنما كان في الأصل من مواليد حارته. وأحب عظام وجهه البارزة وجلده الغامق المشدود وشعر رأسه الأبيض المشعث، وأحب أكثر نظرة عينيه الأليفة الطيبة النزاعة لعكس معنى الرياسة بلا جدوى. ابتسم الرجل كاشفا عن أقبح ما فيه، أسنان سود مثرمة، وقال: أهلا بموظفنا الجديد، اجلس ..
وراح يقلب في صور أوراق تعيينه ثم قال: أهلا .. أهلا .. الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين؛ استقبال ثم توديع ..
وقال عثمان في نفسه ولكنها رغم ذلك لانهائية. وهفت عليه ريح خفية مجهولة مليئة بجميع الاحتمالات، فقال إنها لانهائية ولكنها في حاجة إلى إرادة لانهائية كذلك. وأشار الرئيس إلى مكتب خال متآكل الجلدة منجرد اللون ملطخ ببقع حبر باهت وقال: مكتبك، تفحص الكرسي بعناية؛ فإن أحقر مسمار قد يهتك بدلة جديدة ..
فقال عثمان: بدلتي قديمة جدا والحمد لله ..
فواصل الرجل تحذيره: واقرأ الصمدية عندما تفتح دولابا من دواليب شنن؛ فقبيل العيد الماضي طلع علينا من أحد الدواليب ثعبان لا يقل طوله عن متر ..
وضحك حتى سعل ثم استدرك: ولكنه لم يكن من نوع سام ..
فتساءل عثمان بقلق: وكيف نفرق بين السام وغير السام؟ - عندك فراش المحفوظات؛ فهو أصلا من أبو رواش وهي بلدة الثعابين ..
وتناسى ذلك واعتده مزاحا. وراح يلوم نفسه: كيف فاته أن يرى بكل عناية حجرة صاحب السعادة المدير العام! كيف فاته أن يملأ عينيه من وجهه وشخصه! كيف لم يحاول أن يقف على سر السحر الذي يخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه! هذه هي القوة المعبودة، وهي الجمال أيضا. هي سر من أسرار الكون. على الأرض تطرح أسرار إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة. إن الزمن قصير بين الاستقبال والتوديع، ولكنه لا نهائي أيضا. الويل للذي ينسى هذه الحقيقة. ثمة أناس لا يتحركون مثل سعفان أفندي بسيوني. الرجل الطيب التعس. إنه يترنم بحكمة لم يتعلم منها شيئا. كذلك كان أبوه عم بيومي. وليس كذلك من مست النار المقدسة قلوبهم. هناك طريق سعيدة تبدأ من الدرجة الثامنة وتنتهي متألقة عند صاحب السعادة المدير العام. هذا هو المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب، ولا مطمح لهم وراء ذلك. تلك هي سدرة المنتهى حيث تتجلى الرحمة الإلهية والكبرياء البشري. ثامنة .. سابعة .. سادسة .. خامسة .. رابعة .. ثالثة .. ثانية .. أولى .. مدير عام. معجزتها تتحقق في اثنين وثلاثين عاما، وربما تحققت في أكثر من ذلك. أما الساقطون في وسط الطريق فلا حصر لهم. إن النظام الفلكي لا يطبق على البشر وبخاصة الموظفون منهم .. والزمن يستكن بين يديه كطفل وديع ولكن لا يمكن التنبؤ بغده. إنه يشتعل، هذا كل ما هنالك. ويخيل إليه أن النار المتقدة في صدره هي التي تضيء النجوم في أفلاكها. نحن أسرار لا يطلع على خباياها إلا خالقها.
وقال له سعفان أفندي بسيوني: ستدرب أولا على الوارد؛ فهو أسهل ..
ثم وهو يضحك: على كاتب المحفوظات أن يخلع جاكتته وهو يعمل، أو أن تحيك لكوعه كمامة من القماش تقيه شر الغبار والإكلبسات.
كل ذلك يسير، أما العسير حقا فهو كيف نتعامل مع الزمن ..
3
في مسكنه - حجرة وحيدة ومرافق - يرى نفسه، يتجسد له معنى حياته. إنه يعيش متفتح الحواس مرهف الوعي ليتزود بكل سلاح. ومن نافذته الصغيرة يرى وطنه - حارة الحسيني - كأنها امتداد لروحه وجسده. حارة طويلة ذات منحنى حاد، مشهورة بموقف للكارو ومسقى للحمير. البيت الذي ولد ونشأ فيه تهدم. وقامت في موضعه باحة صغيرة لعربات اليد. قليل من مواليد الحارة من يبرحها بصفة نهائية إلا للقبر. يعملون في مواقع كثيرة، في المبيضة .. الدراسة .. السكة الجديدة .. أو فيما وراء ذلك، ولكنهم يرجعون إليها آخر النهار. ومن خواصها الحميمة أنها لا تعرف الهمس أو النجوى، أصواتها مرتفعة جدا، متوترة بين الحكمة والبدائية، ومن بينها صوت قريب قوي خشن لم يخلخله الكبر، صوت أم حسني صاحبة البيت. إن أحلام الأبدية جد مرهقة، ولكن ماذا كان بالأمس، وماذا يكون اليوم؟ خليق بمثله ألا يعرف المستحيل. وخليق به ألا يترك نفسه للتيار بلا خطة. وخطة محكمة. كثيرا ما يحلم أنه يبول ولكنه يستيقظ في اللحظة المناسبة، فما معنى ذلك؟ أم حسني كانت صديقة لأمه وزميلة ومرشدة، صديقة عمر طويل. كانت كلتاهما زوجة لسواق كارو، وعاملة كادحة، تكد بصبر النمل ودأبه سعيا وراء القرش، تسند به زوجها وترمم عشها. دلالة .. ماشطة .. خاطبة، وغير ذلك. ماتت أمه وهي تعمل، أما أم حسني فما زالت تعمل بهمة عالية. وكانت أم حسني أحسن حظا وأوفر رزقا فتجمع لديها من المال ما بنت به بيتها المكون من ثلاثة أدوار؛ مخزن أخشاب أرضي، وشقتين، تقيم هي في إحداهما وعثمان في الأخرى. وابنها حسني لم يخلف وراءه إلا اسمه أما شخصه فقد حملته أيام الحروب والمحن إلى بلاد نائية فاستقر فيها.
ألا يحق له أن يحلم؟ إنه يحلم بفضل الشعلة المقدسة التي تتقد في صدره، وبفضل حجرته الصغيرة يحلم أيضا. وألف أحلامه كما يألف الفراش والكنبة والسحارة والحصيرة، وكما ألف الأصوات الحادة والمنغومة التي تند عن حنجرته فتردد أصداءها الجدران الراسخة القاتمة.
ماذا كان بالأمس؟ أراد أبوه أن يجعل منه سواق كارو مثله ولكن شيخ الكتاب قال له: يا عم بيومي توكل على الله وأدخل الولد المدرسة الابتدائية ..
فذهل الرجل وتساءل: ألم يحفظ من القرآن ما يقيم به الصلاة؟
فقال الشيخ: الولد ذكي وعاقل وربما رأيته يوما من رجال الحكومة ..
وقهقه عم بيومي غير مصدق فقال الشيخ: عليك بمدارس الأوقاف فربما قبل بالمجان.
وتردد عم بيومي زمنا ثم تمت المعجزة. ونجح عثمان في المدرسة نجاحا مذهلا حتى حصل على الابتدائية. تميز عن أقرانه الحفاة من أبناء الحارة ورأى بعينيه الحادتين أول شرارة مقدسة تنطلق من فؤاده النابض وأيقن أن الله يبارك خطاه ويفتح له أبواب اللانهاية. والتحق بالمدرسة الثانوية بالمجان كذلك فحقق من النجاح ما لم يصدقه أحد في حارة الحسيني. ومرض عم بيومي مرض الوفاة وابنه في السنة الثانية، فندم الرجل على ما «فعله» بابنه وقال له: ها أنا أتركك تلميذا لا حول له، فمن يسوق الكارو، ومن يحفظ البيت؟
وفاضت روح الرجل وهو حزين، وضاعفت الأم نشاطها مؤملة أن يجعل الله من ابنها كبيرا من الأكابر، أليس الله بقادر على كل شيء؟! ولولا وفاة الأم بغير توقع؛ لأكمل عثمان تعليمه في المدارس العليا. وقد اشتدت لذلك حسرته ، وضاعف من حدتها اكتمال وعيه بطموحه وبأحلامه المقدسة. ومقدسة عنده أيضا ذكرى والديه. وكل موسم يزور قبرهما - وهو من قبور الصدقة - الضائع بين القبور في العراء. وهو اليوم وحيد، مقطوع من شجرة. قتل أخوه الأكبر - كان شرطيا - في مظاهرة، وماتت أخته بالتيفود في مستشفى الحميات. وأخ آخر مات في السجن. إنه يتذكر أسرته فيشقى بالتذكر ويرثي لوالديه، ويقرن تلك الأحداث بدراما عليا يتطلع إليها باحترام ووجل؛ فالمصائر تتقرر في الحارة بفضل الإرادات المتصارعة والقوى المجهولة ثم تتقدس في الأبدية؛ لذلك فهو يؤمن بنفسه بلا حدود ولكنه يعتمد في النهاية على الله ذي الجلال؛ ولذلك أيضا فلا تفوته فريضة وبخاصة صلاة الجمعة في جامع الحسين. وكإيمان أهل حارته لم يكن يفرق بين الدين والدنيا، فالدين للدنيا والدنيا للدين، وجوهرة متألقة مثل درجة المدير العام ما هي إلا مقام مقدس في الطريق الإلهي اللانهائي. ولما كان يعيش بين زملائه بوعي يقظ لماح فقد التقط ما يهمه من المعاني والكلمات، ثم عكف على دراسة خطة دقيقة للمستقبل، ترجمها في ورقة عمل ليذاكرها كل صباح قبل انطلاقه إلى العمل:
شعار للعمل والحياة (1)
القيام بالواجب بدقة وأمانة. (2)
دراسة اللائحة المالية التي يشار إليها كأنها كتاب مقدس. (3)
الدرس للحصول على شهادة عليا ضمن الطلبة الذين يعملون من منازلهم. (4)
دراسة خاصة للغتين الإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلى العربية. (5)
التزود بالثقافة العامة وبخاصة الثقافة المفيدة للموظف. (6)
الإعلان بكل وسيلة مهذبة عن تديني وخلقي واجتهادي في عملي. (7)
العمل على كسب ثقة الرؤساء ومحبتهم. (8)
الاستفادة من الفرص المفيدة مع الاحتفاظ بالكرامة؛ مثل مساعدة أدبية تقدم لذي شأن، صداقة مفيدة، زواج موفق من شأنه تمهيد الطريق للتقدم.
ولم يكن من النادر أن ينظر في مرآة صغيرة معلقة بمسمار بين النافذة والمشجب ليتفحص منظره، وليطمئن على نفسه. من هذه الناحية لن يكون منظره عائقا في سبيله على أي حال؛ فهو قوي الجسم كأبناء حارته، ووجهه أسمر طويل ذو جبهة عالية مشرقة وشعر حليق، وبصفة عامة سيجد في جسمه الصلاحية لملء أي مركز مهما جل شأنه.
وقال لنفسه مستمدا من طواياها القوة والتشجيع: بداية لا بأس بها، وطريق بلا نهاية ..
4
ساعة اللقاء عند أعتاب الخلاء مقدسة أيضا، وهو يهرع إليها بقلب مشغوف، وبمرح من يتخفف من حمل الأيام بثقلها العتيد. هناك عند مشارف الصحراء يقوم السبيل الأثري المهجور، على أدنى سلمه يجلسان جنبا إلى جنب في أحضان الأصيل اللامتناهية، تترامى الصحراء أمامهما حتى سفح الجبل، ويغني الصمت بلغته المجهولة. سمرتها الغامقة تشبه لون المساء المتحفز، سمرة موروثة عن أم مصرية وأب نوبي توفي وهي في السادسة. زمالتهما القديمة في الحارة تمتد أصولها في الماضي البعيد حتى تتلاشى في منبع الحياة نفسه. عندما ينظر في عينيها النجلاوين الواسعتين أو يرى جسمها الصغير المدمج الفائر بالحيوية فإنه يتلقى المثال المثير لفطرته الذي يبعث في غرائزه اليقظة والابتهال. إنها قرينة طفولته في الحارة وفوق السطح، وزميلته في الكتاب، وبالرغم من أنها لم تجاوز السادسة عشرة فهي معدودة ست بيت ماهرة، وهي يد أمها الوحيدة بعد أن تزوجت أخواتها السبع.
ابتسمت سيدة. وجهها بسام دائما، وعينها مشعة، وأطرافها تتناوبها حركة رشيقة دائمة ومتوترة، وخصلات شعرها المموج الخشن ترقص في تيار النسيم الجاف الهابط من الجبل. ومرقت من الصمت المعذب قائلة: فرحت أمي بدخولك الحكومة ..
سألها في دعابة: وأنت؟
فتمادت في ابتسامتها ولم تجب. أحاطها بذراعه ولثم بشفتيه الحادتين شفتيها المليئتين. لم يجر للحب ذكر بينهما ولكنهما يعربان عنه في كل خلوة بالأحضان والقبل. وهي تشبع من نفسه جانبها المنهوم بالحياة في بساطتها ومسراتها، ويحبها بعقله أيضا لأنه يقدر مزاياها وإخلاصها، ويشعر بتلقائية بأنها كفيلة بإسعاده. - أصبحت موظفا ..
وشى صوتها بالإعجاب فقبلها مرة ثانية. - ولم يحظ أحد في حارتنا بذلك ..
جميع أقرانه يعملون في شتى الحرف. يرمقونه - إذا مر - بالإعجاب وأحيانا بالحسد. ما أجدره بأن يسر لولا شعوره الحاد القاسي بطول الطريق وعناده! - أنت الأفندي الوحيد!
فقال بهدوء: لا قيمة لذلك خارج حارتنا. - الخارج لا يهم، أما حارتنا فهي حارة الكارو!
فقبلها للمرة الثالثة وقال: لا تتكلمي عن الكارو إلا بالاحترام .. - صدقت، أنت شهم ..
وقد قبض على أبيها في المعركة التي قبض فيها على أخيه فدخل السجن ومات فيه بسببها، ولكن تلك الأحداث تعد من الأمجاد التي يطيب بها ذكر الحارة. ولكن سيدة تدور حول نقطة واحدة لغرض واضح، ولا جدوى من تجاهله؛ فها هي تسأل: وماذا بعد ذلك؟
إنه يدرك لهفتها على كلمة يطيب بها الفؤاد ويسعد. ويعلم أيضا أن سعادته لن تقل عن سعادتها بحال إن لم تزد. إنه يحب هذه الفتاة كما تحبه ولا غنى له عنها. ولكنه يخاف. عليه أن يفكر ألف مرة. وليراجع ورقة العمل المريرة. ليتمل طويلا الحياة التي تقف أمامه مرحبة ومتحدية معا. - ماذا تعنين يا سيدة؟ ..
فأجابت معاندة في خفة: لا شيء! - لا يجوز أن ننسى أننا صغيران .. - أنا؟!
قالتها باحتجاج عذب أشارت به إشارة مليحة إلى أنوثتها الصارخة.
فقال مداعبا: إنما قصدت نفسي .. - أطلق شاربك فهذا ما ينقصك.
أخذ مزاحها مأخذ الجد وفكر بأن ذلك قد ينفعه حقا في نضاله؛ فمن ذا الذي يتصور موظفا كبيرا بلا شارب؟!
قال بهدوء: سأكمل تعليمي يا سيدة. - هل ما زال ينقصك تعليم؟ - الشهادة العليا. - لماذا؟ - مساعد لا بأس به للترقي. - وهل يلزمك وقت طويل؟ - أربعة أعوام على الأقل.
قرأ بتألم خفي الفتور في عينيها وربما الخجل وشيئا من الغضب! - وما ضرورة الترقي؟
ضحك. لثم شعرها. لم يجرؤ على تجاوز ذلك. ذكرته رائحة شعرها بملاعب الطفولة والصبا، وبلكمة أصابت ظهره عندما ضبطا وهما يلعبان لعبة العريس والعروس. لاحت ظلمات الليل فوق الجبل وترامى غناء من فونوغراف. - الظاهر أن الترقي مهم أكثر مما تصورت .. فتناول يدها بين يديه وغمغم: أحبك، إلى الأبد ..
نطق صدقا. وبقدر صدقه اغتم وتألم وسخط على نفسه، وقال إن تجربة الحياة عظيمة جليلة ولكنها مرهقة.
5
وقف على قبر والديه الضائع بين قبور لا حصر لها وقرأ الفاتحة، ثم قال: يرحمكما الله رحمة واسعة ..
ثم ناجاهما بامتنان قائلا: عثمان موظف محترم يخطو خطواته الأولى في طريق عسير ولكنه مصمم على السير حتى النهاية.
ثم انحنى قليلا وقال بابتهال: كل ما نلت من خير فبفضل الله وفضلكما ..
وتلا غلام ضرير بعضا من السور الصغيرة فنقده نصف قرش، ورغم تفاهة المبلغ لم يخل من الضيق الذي يركبه عند الدفع. ولما ذهب الغلام عاد إلى مخاطبة والديه قائلا: عهد الله أن أنقلكما إلى قبر جديد إذا حقق الله آمالي ..
ولم يكن لديه فكرة عما يبقى من الجثث في مجرى الزمن ولكنه تخيل أن يبقى شيء على أي حال. وتذكر وهو يعجب لذلك سيدة فوضحت صورتها الباسمة أمام عينيه، وخيل إليه أنها تتحفز لإطلاق ملاحظة حادة وصريحة وساخرة. انقبض قلبه وتوجع وهمس: اللهم اهدني سواء السبيل فكل ما أفعل من وحيك.
وعاش من جديد الأيام الأخيرة لأبيه. هذا أمر لا مفر منه. كان المرض والكبر قد أقعداه فكانت نزهته أن يفترش فروة أمام البيت، لا يكاد يرى أو يسمع، يتأمل عجزه، يتأوه هاتفا: اللهم لطفك ورحمتك ..
كان في زمانه من رجال الحارة الأشداء، عاش حياة طويلة معتمدا على عضلات ذراعيه وساقيه، يعمل بلا انقطاع ويعاني على المدى شظف العيش والفقر. قوة مهدرة تتغذى على لا شيء ويقهقه في الملمات بلا معنى ولا سبب. ووجد ذات مساء ميتا حيث يجلس على الفروة فلم يدر أحد كيف حضره الموت ولا كيف تلقاه هو. أما أمه فكانت ميتتها أدعى للدهشة. كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست وراحت تصرخ من شدة الألم. وجاءت الإسعاف فحملتها إلى قصر العيني وتقرر إجراء جراحة في الأعور قتلت في أثنائها.
أسرته ضحية فريدة للموت. شيء قال له في باطنه إنه ربما بسبب ذلك سيعمر هو طويلا. واجتاحته موجة من الأسى. كل موت معقول بالقياس إلى موت أخيه الشرطي. رجل كالجمل يقتل بطوب الثوار. أي ميتة. لا يعرفهم ولا يعرفونه. إنه يقف من تلك الأحداث موقف المتفرج المتعجب. لا يفقه لها معنى على الإطلاق. أجل عرف الكثير من مطالعة التاريخ. عرف التاريخ من أقدم العصور حتى قبيل الحرب العظمى. عرف الثورات. ولكنه لم يعشها ولم يستجب لها. وقد رأى وسمع ولكنه انعزل وتعجب. لم يحظ بعاطفة عامة واحدة تشده إلى الميدان. ما أعجب اقتتال رجال الدولة الكبار وأتباعهم. لقد عاش حياته مطاردا بالفقر والجوع فلم يدع له ذلك وقتا لمد آفاق تفكيره إلى الخارج. انحصر في الحارة بهمومها المجهولة من الجميع، الوحشية، القاسية، المتلاحقة. واليوم يعرف لنفسه هدفا دنيويا وإلهيا في آن لا علاقة له في تصوره بالأحداث العجيبة التي تجري باسم السياسة. قال إن حياة الإنسان الحقيقية هي حياته الخاصة التي ينبض بها قلبه في كل لحظة، التي تستأديه الجهد والإخلاص والإبداع. إنها مقدسة ودينية. بها تتحقق ذاته في خدمة الجهاز المقدس المسمى بالحكومة أو الدولة. بها يتحقق جلال الإنسان على الأرض فتتحقق به كلمة الله العليا. إنهم يهتفون بغير ذلك أو بما يناقض ذلك ولكنهم مجانين مزيفون؛ ولذلك فإنه لم يغفر لنفسه أنه لم يملأ عينيه من حجرة المدير العام، ولا من شخصه المتفرد الذي يحرك الإدارة كلها من وراء برافان، في نظام دقيق وتتابع كامل يذكر الغافل بالنظام الفلكي، وبحكمة السماوات.
تنهد بعمق.
قرأ الفاتحة مرة أخرى. قال مودعا: ادع لي ربك يا أبي.
ودار حول القبر الذي سقط شاهداه وتشقق ركنه ثم قال: ادعي لي ربك يا أمي.
6
ما أعجب الفصول في تعاقبها! إنه يعايشها من خلال عمله المتواصل. الشتاء في الحارة فصل شديد القسوة ولكنه يحفز للعمل، الربيع بخماسينه لعنة، الصيف جحيم، الخريف بسمة غامضة متأملة. إنه يواصل العمل بإرادة صلبة وشهوة نارية. ها هي كتب القانون تصطف تحت الفراش وفوق منصة النافذة. لا ينام من الليل إلا أقله. يعانق الأفكار ويصارع الغموض، وحتى النجاح لا يريد أن يقنع به وحده. ويوم الجمعة يخصص عادة للثقافة العامة الجديرة بالمديرين ومن في خدمتهم. واهتم بالشعر خاصة، حفظ الكثير، بل حاول نظمه ولكنه فشل. قال إن الشعر كان وما زال خير وسيلة للتقرب من الكبراء، والتألق في الحفلات الرسمية. إنه لخسران فادح أن يفشل في نظمه. ولكنه على أي حال خير طريق لإتقان النثر، والخطابة لا تقل عن الشعر في النجاح المنشود. والأسلوب الجزل مطلوب، قلبه يحدثه بذلك. واللغات الأجنبية مثله وأكثر. جميع تلك المعارف مفيدة، ولها وقتها الذي ترتفع فيه قيمتها في بورصة المضاربات الديوانية، فليس بالتعليمات المالية وحدها يحيا الموظف. أجل عليه أن يتزود من كل شيء نافع بطرف، فمن يعلم؟ وكان يقول إن حياته تيار غير منقطع ماض في مجرى النور والعرفان، يتكاثف بكل طريف، ويتشعب في مجالات الفكر، تدفعه حرارة الإيمان والكبرياء البشري الشريف، ليصب في النهاية في الأعتاب الإلهية.
أما راحة النفس فيحظى بها على سلم السبيل الأثري. في عناق الحب المشبوب. بين يدي الفتاة الجملية المحبة. في حضنها العذري المشتعل. بلا تورط في فعل أو قول. لكنه يتعلق به تعلقه بالحياة نفسها. آه لو كانت الحياة تقنع بالحب والسعادة اليسيرة. ومن شدة قلق سيدة تجاوزت تحفظها الفطري. تمادت في الإفصاح عن عواطفها الصادقة. كشفت عن لهفتها المحمومة. قالت له مرة بورع: لا حياة لي بدونك.
ولكن بدا قولها فاترا بالقياس إلى ما تمنحه شفتاها المليئتان. وقالت له مرة أيضا: أنت كل شيء، ما مضى وما وهو آت ..
وعيناها العسليتان تبعثان ألقا ناطقا بالوفاء والجزع والأشواق الصادقة. وفي غمار العناق الذائب في الأنفاس المحترقة قالت متنهدة: ينقصنا شيء ..
فقال ببلادة وأنانية: حبنا الكامل لا ينقصه شيء!
فرفعت منكبيها محتجة ولكن بحذر من يرغب عن إحراجه ويستعين عليه بالصبر والإصرار، ووجد أنه يعاني كبتا مرعبا سيرمي به مرة تحت رحمة المجهول. ذلك أذعن لإغراء زميل دعاه إلى زيارة لدرب البغاء الرسمي. وكابن من أبناء حارة الحسيني لم تعوزه الجرأة الكافية، انطلق في الدرب الذي يضيئه مصباحان غازيان متباعدان يغلفهما الغبار الراسخ فيغرق جنباته في شبه ظلام مثير للشهوات. وقلب عينيه القلقتين حتى استقر على صيد. ويعقب ذلك عادة إكباب على طلب الغفران، وعكوف طويل على الصلاة والعبادة. وهو ما يفعله عادة كلما واجه نواياه العميقة الخفية من ناحية سيدة. فإلى جانب عناء العمل المتواصل وجد عناء أشد من عذابات ضميره. وكان يختم لياليه الطويلة المرهقة في إعياء نفسي شديد، كالإغماء، وأحيانا تبتل جفونه وهو لا يكاد يدري.
وكان سعفان بسيوني رئيس المحفوظات يتابع نشاطه الرسمي بإعجاب وحذر. أعجب بجلده وحسن تصرفه وخلقه، ولم يرتح من بادئ الأمر إلى البكالوريا التي تميز بها وحده في المحفوظات ولا إلى طموحه إلى المزيد من التعلم الذي سيرفعه درجات جديدة من الامتياز عليه هو بشهادته اليتيمة «الابتدائية». وفطن عثمان إلى ذلك في حينه ولكنه طمع في طيبته الفطرية وضاعف من تودده إليه وإذعانه لتوجيهاته حتى اطمأن الرجل إليه تماما وفتح له قلبه في صفاء نادر. وفي أوقات الفراغ قربه إليه، وأفضى إليه بخواطره، حتى السياسة صرحه فيها برأيه وأهوائه. ولشدة حماس الرجل جفل عثمان من الإعراض عن اهتماماته أو معالنته بحياده البارد إزاءها، وقال بغموض وحذر: الحق أننا من مشرب واحد، ولا عجب في ذلك ..
فسر الكهل بقوله سرورا عظيما ذهل له عثمان. عجيب استغراق الرجل في هذه الشئون. وأعجب منه استغراق زملائه التعساء فيها. ماذا يشدهم إليها؟ أليس لديهم هموم صميمية تشغلهم عنها؟ ولكنه قال لنفسه بازدراء غير قليل: إنهم أناس لا يعرفون لأنفسهم هدفا محددا، وإيمانهم الديني إيمان سطحي، ولم يفكروا بما فيه الكفاية في معنى الحياة، ولا فيما خلقهم الله من أجله، وهكذا تتبدد أفكارهم وأعمارهم في لهو وسفسطة، وتهدر قواهم الحقيقية بلا عمل. تستغفلهم الأوهام، ويمضي الزمن وهم لا يعلمون ..
7
وقال له سعفان بسيوني بعد أن تلقى منه بريد الوارد: إني أدعوك إلى سهرة ممتعة في بيتي ..
دهش وانزعج ولكنه لم يفكر في التملص. قال الرجل: يوجد حفل زفاف في بيت الجيران، سنتعشى معا لحمة رأس، ونجلس في الشرفة نستمع للغناء ..
كان الرجل يقيم في شقة بالدور الثالث ببيت بعطفة البحر بباب الشعرية. وتبين له أنه كان المدعو الوحيد. طاب نفسا بالمكانة التي يؤثره بها رئيسه، وتناول معه عشاء لذيذا مكونا من المخ والجبهة واللسان والجوهرة وممبار وفتة بالتقلية غير الفجل والمخلل، وحلوى من الشمام، أكلة ممتازة ووفيرة وقد أكل حتى امتلأ. وجلسا في شرفة تطل على فناء البيت الذي قام فيه الفرح. تبدى الفناء غارقا في الأنوار تصب عليه من كلوبات كثيرة. وصفت به الأرائك والكراسي التي اكتظت بالمدعوين، واكتظت المماشي بالغلمان والأطفال، وأحدق عشرات وعشرات منهم بسور الفناء من الخارج. وشعت الأنوار في البيت من الداخل أيضا وتراءت النساء وهن يذهبن ويجئن. وهدر المكان بالأصوات من جميع الدرجات والأنواع، وارتفع الضحك والسعال والزغاريد. خفق قلب عثمان وهو يرنو إلى جو الفرح وانتقلت إلى فؤاده حرارته الفواحة بعطر الجنس والحب؛ لذلك تلقى دغدغات التخت الأولى بتأثر أشد مما توقع ومما ألف. فهو لا يعشق الغناء ولكن إذا جاءه بلا كلفة فلا بأس به ولو إلى حين قليل. حسن، الموسيقى لا بأس بها أحيانا، شيء طيب ومريح. الزواج علاقة باهرة وفرح ودين. وخالجه شعور شامل بالأسى. - لعلك في حاجة إلى الترفيه، هذا ما أقوله لنفسي كثيرا ..
قال سعفان ذلك وهو ينظر ناحيته بوجه تضيء أنوار الفرح أجزاء منه وتتواري أجزاء في الظلال. وقال أيضا: عمرك يجري في العمل والدراسة ولكن الحياة تطالبنا بأشياء كثيرة ..
أصغى إليه باهتمام في الظاهر واستخفاف في الباطن. إنه يحتقر المواعظ التي تحث على الكسل ويعتدها تجديفا بذي الجلال، غير أنه تذكر سيدة في عذابها الطويل، وما عليه أن ينجزه ويحفظه ويراجعه، وشعر بأنه يبتسم ابتسامة لا معنى لها. وعاد سعفان يقول: لك همة عالية ولكن راحة البال جوهرة ثمينة أيضا ..
فقال له واستخفافه به يتصاعد: أنت رجل حكيم يا سعفان أفندي ..
وظهر في مدخل الشرفة شبح فتاة تحمل صينية تفوح منها رائحة الشاي المنعنع. انعكس الضوء الصاعد من الفرح على وجهها فوضحت بعض معالمه رغم ظلام الغرفة القابع وراءها، وجه مستدير، لونه قمحي، وثمة ملاحة ملحوظة مغلفة بغموض وأشواق. ساوره قلق. وهو يميل قليلا ليتناول قدح الشاي رأى عن قرب ساعدها السوية البضة وكأنها هي التي تنفث رائحة النعناع. وقفت دقيقة أو أقل ثم توارت في الظلام وهي تداري ابتسامة كادت تفلت منها حياء وارتباكا. وساد صمت كأنه الشعور بالإثم، وتشبع الجو بروح المؤامرة، وتضاعف قلقه. قال سعفان: ابنتي ..
هز رأسه إعرابا عن الاحترام .. - حصلت على الابتدائية قبل أن تنقطع عن المدرسة ..
واصل هز رأسه في تقدير وإعجاب. ترامت إليهما أصوات الجوقة وهي تغني التواشيح. ومضى سعفان قائلا: البيت هو المدرسة الحقيقية للبنت ..
لم يعلق؛ لم يجد ما يقوله، وضاق في الوقت نفسه بصمته. - ما رأيك في ذلك؟ - أوافقك كل الموافقة ..
ولكنه تذكر جهاد أمه الكادح في حياتها المريرة. شعر بأنه يدفع إلى مصيدة. بدأ الغناء بصوت الطرب هادئا وخافتا وناعما. وتمتم سعفان: ما أجمل الصوت! - نعم. - الحياة جميلة أيضا. - بلا شك. - ولكنها تطالبنا بالحكمة لتجود علينا بحلاوتها .. - أليست الحكمة ثمرة عسيرة؟ - كلا، هي هبة من الله سبحانه.
قال لنفسه: إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة. الرجل يحاصره وهو لن يستسلم، ولكن كيف يفوز بحريته ورضى رئيسه معا؟! لم يعد يسمع من الغناء شيئا. سعفان يتابع الغناء بأذنه ويده وقدمه وينظر إليه بين ذلك متفحصا مستطلعا. وحنق عليه كجلاد ماكر. ورأى أن عليه أن يرد الدعوة بأحسن منها دفاعا عن نفسه المهددة. آلمه ذلك ألما غير هين. إنه لا ينفق القرش بغير ضرورة ملحة. وفتح حسابا في دفتر توفير البريد مع أول مرتب قبضه؛ ولذلك لم يخطر له على بال أن يغير مسكنه أو حارته أو طعامه. وهو يؤمن بأن الادخار وسيلة هامة من وسائل جهاده الطويل وشعيرة من شعائر دينه، وأمان ضد الخوف في عالم مخيف. ولكن لا بد مما ليس منه بد. سيرد الدعوة بأحسن منها. وسيتم ذلك في مطعم لا في حجرته المكتظة بالكتب، الفقيرة في كل شيء عدا ذلك. وإذن فسوف ينفق مبلغا جسيما حقا. اللعنة على الحمقى. بات الغناء ضجيجا لا معنى له وتفتحت أبواب الجحيم. والكهل يهز رأسه طربا غير عالم بجريمته. والدنيا تطلق سخرية من سخرياتها.
8
وقبل مضي الشهر دعا الرجل للعشاء في مطعم الكاشف. تناولا سمكا شهيا وحليا بمهلبية. وكان الكهل من السعادة في غاية وخيل إليه أنه يتوقع نزول ملاك السعادة والرحمة. ولم يقنع بالعشاء فيما يبدو فاقترح قائلا: ما رأيك في سهرة في الفيشاوي؟
وجب قلبه بألم عميق ولكنه تأبط ذراعه قائلا: يا لها من فكرة رائعة!
وجلسا في المقهى وهو يتذكر عيدا من أعياد الفطر تمزق فيه جلبابه الجديد في معركة بحارة الحسيني، ضربه أبوه، واضطر إلى استعمال الجلباب عاما كاملا بعد أن رقعته أمه. وأزعجه سرور الكهل وانشراحه. إنه يتوقع أن يسمع خبرا سارا بلا شك. وها هي فرحة قلقة في أعماق عينيه الشاحبتين، وها هو يجود بالرضى على كل شيء .. قال: أأنت سعيد بزملائك في المحفوظات؟ .. - أعتقد ذلك. - إنهم تعساء ولكنهم طيبون .. - إنهم طيبون حقا .. - أما أنت فشاب ممتاز، هل تعمل محاميا إذا انتهيت من دراستك؟ - كلا، ولكني أرجو تحسين حالتي. - فكرة طيبة. يعجبني طموحك الشريف!
وخرج عثمان من تردده مصمما على النجاة ولو بخنق آمال الرجل. قال: إن همومي أكبر مما تتصور ..
فرمقه الرجل متوجسا وسأله: لم؟ كفى الله الشر! - لا يهمني الطموح كما تظن، تهمني أشياء أقل من ذلك بكثير .. - حقا؟ - لولا الظروف القاسية لما فكرت إلا في أمر بسيط وطبيعي ومعقول وهو أن أكمل نصف ديني!
لم يفلح الكهل في مداراة الخيبة التي خنقته، وتساءل: أي ظروف يا ترى؟
فتنهد عثمان في أسى وقال: مسئوليات جسيمة؛ نحن أبناء الفقر، وهو يصر على مطاردتنا ..
وأطرق وهو يقول بصوت كئيب: كم كنت أود ...
وسكت كأنما غلبه الانفعال. تراجع الكهل عن ضوء المصباح فمضى في الظل. لا مفر من ذلك ولكن عليه أن يحافظ على صداقته ما وسعه الجهد والحيلة. وجاءه صوت الرجل من الظل: ومتى تستطيع الوقوف على قدميك؟
فأجاب بنبرة يائسة: في عنقي صغار وأرامل، ما أنا إلا ثور معصوب العينين يدور في ساقية ..
مات كل شيء. حتى مطارق قطع النرد لم تعد تسمع. عاد يتمتم: كم كنت أود ...
فلم يعلق الكهل بكلمة. وأراد أن يدفع الحساب ولكن عثمان أبى عليه ذلك ودفعه من جيبه وهو يتمزق. تلاشت البهجة من الجلسة ولم ينفع في إحيائها الافتعال. وغادرا المقهى فمضيا مشيا على الأقدام حتى ميدان باب الشعرية، وهناك فارقه الرجل إلى مسكنه. وجد نفسه في حال تعيسة من التوتر والقلق. ودهمته موجة مجنونة من الاستهتار فدعته إلى التبذير اليائس كأسلوب من الانتحار.
وقصد بلا تردد الدرب ليدفن في أعماقه قلقه وأحزانه وعذابات ضميره. وقال لنفسه بحزن: حتى أخطاء الإنسان يجب أن تكون مقدسة ..
9
اعترضت أم حسني طريقه وهو نازل. إنها لا تفعل ذلك بلا سبب. نظر إلى وجهها المخدد بالتجاعيد وشعرها المصبوغ بالحناء وجسمها القوي رغم شيخوختها فتذكر أمه، صافحها وهو يبتسم فقالت: عندي خبر .. - خير إن شاء الله.
فقالت وهي تضيق عينها الوحيدة - فقدت الأخرى في معركة من معارك الحارة - قالت: لا خير فيه ..
نظر إليها جادا فقالت: عريس، وجد عريس في طريقك! - هه؟ - عريس تقدم لسيدة ..
اجتاحه حزن وذهول كأن ذلك لم يكن متوقعا. لم يجد ما يقوله. - ترزي بلدي ..
كان يعلم بأن ذلك آت لا ريب فيه. لا يحاول دفعه ولا أمل له في منعه كالموت. ولم ينبس فسحبته من يده إلى حجرتها وأجلسته على الكنبة إلى جانبها، وسألته: ألا يهمك الأمر؟
شعر بألم حاد في أعماق روحه. شعر بأن الدنيا تتلاشى. قال بغضب: لا تطرحي أسئلة لا معنى لها .. - هدئ خاطرك .. - يحسن بي أن أذهب. - ولكنك لن تتمكن من لقائها.
الدنيا تتلاشى أكثر وأكثر .. قالت: كان يجب أن تدرك ذلك من نفسك. - لم؟ - أمها تتشدد في منعها من الخروج، فرجل حقيقي خير من خيال ..
وتمتم بلا وعي: رجل حقيقي خير من خيال. - أنت تحبها، أليس كذلك؟
فقال بأسى: إني أحبها. - حكاية محفوظة في حارتنا. - وهي حقيقية. - عظيم، ولم لم تتكلم؟
فقال بحدة: لا أستطيع. - اسمع، توسلت البنت إلي أن أبلغك ..
تنهد في يأس كامل. فقالت المرأة: اذهب من توك فاخطبها أو دعني أتولى ذلك عنك.
حادث نفسه بأصوات مبهمة كأنما يتكلم لغة مجهولة حتى ذهلت المرأة فقال مواصلا حديثه مع نفسه: ولن يغفر الله لي .. - أعوذ بالله، أتراها غير أهل لموظف مثلك؟ - لا تتقولي علي يا أم حسني .. - أطلعني على قلبك، أنا أمك ..
فقال متنهدا: لا أستطيع أن أتزوج الآن. - تنتظرك كما تشاء. - سيطول الانتظار .. - اربطها بكلمة، هذا يكفي الآن .. - كلا، لست أنانيا، إني أرفض حرصا على سعادتها.
وهمت بالاسترسال في الحديث ولكنه غادر الحجرة. سار ببطء في الحواري الضيقة. كان يتعذب بعمق ويسلم بمرارة بأنه لن يراها مرة أخرى. ورغم عذابه شعر بارتياح خفي يائس، وبقدر ارتياحه آمن بأن اللعنة حلت به. إنه يحبها ولن تملأ أخرى الفراغ الذي خلفته وراءها في نفسه. وهذا الحب لن يمحى بسهولة، وسيعلمه كيف يكره نفسه وطموحه، ولكنه سيصر على التعلق بهما بقوة الكراهية واليأس. إن ما يركبه جنون، ولكنه جنون مقدس يغلق باب السعادة باستهانة وكبرياء ويدفعه بقوة في طريق المجد الشاق المحفوف بالأشواك. إن السعادة تغريه بالتفكير في الانتحار أما الشقاء فهو الذي يحرضه على نشدان الحياة وعبادتها.
ولكن يا للخسارة يا سيدة! ..
10
وتقدم في كل شيء ولكن عذابه لم يكد يخف، ورسخت قدمه في عمله حتى شهد له سعفان بسيوني - رغم إخفاقه معه - بالمواظبة والكفاءة والاستقامة، وكان يقول عنه: إنه أول الحاضرين وآخر الذاهبين وفي أوقات الصلاة يؤم المصلين بمصلى الوزارة ..
وهو يؤدي عمله، ويؤدي عن المتأخرين أعمالهم، فالكلام عن نجدته لا يقل عن الكلام عن قدرته. وسار في دراسته بعزم قوي يبشر بنجاح باهر. وأصبح من مدمني التردد على دار الكتب، يقرأ بنهم شتى الثقافات إلى جانب دراسته القانونية الشاقة. أصبح كذلك من الوجوه المعروفة التي ترى في جامع الحسين في صلاة الجمعة فعرف في الحي - كما عرف في الوزارة - بالتقوى والورع. ولكن عذابه لم يكد يخف، وظلت سيدة مسيطرة تماما على خياله ووعيه حتى قال لنفسه: إنها الجوهرة الوحيدة في حياتي ..
وفي مواعيد اللقاء يجلس على سلم السبيل الأثري فتلفحه حرارة الذكريات ويغوص فيها حتى تتجسد له حية ملموسة. في لحظات اشتداد الوجد يتوقع أن يسمع وقع قدميها الخفيفتين ويرى طلعتها المقبلة محفوفة بالشوق والحياء. وحديثها الطويل وعناقهما الحار وكل موضع ثمين غسله بقبلاته. ولكنها لا تأتي ولن تأتي. قطعته ولعلها نسيته. وإذا خطر ببالها لعنته بما يستحق. ويوما مر تحت نافذتها في ساعة العصاري فخيل إليه أن رأسها لاح لحظة وراء القلة المعرضة للهواء لتبترد، ولكنها لم تكن هناك أو لعلها تراجعت باشمئزاز وعجلة. وقال لنفسه: مقدس الإنسان في عذاباته ..
وقال أيضا: لا يخلو عمل للإنسان من عبادة ..
وصادفها صباح الجمعة في الخيمية بصحبة أمها. تلاقت عيناهما لحظة ثم حولتهما عنه في غير مبالاة. لم تلتفت وراءها. تجلى له معنى من معاني الموت، كما خرج أبوه من الجنة بإرادته. وكما يخوض العذاب بشموخ وكبرياء.
وكان يختلف إلى الدرب بحذر وانفعال ويأس. ووثقت الأيام علاقته بفتاة تماثله في السن تسمي نفسها قدرية. جذبته بسمرة غامضة - مثل سيدة - ولكنها أعمق في زنجيتها وبدانتها ولم تكن مغرقة في البدانة. ومنذ ساقته قدماه إليها - منذ زمن ليس بالقصير - لم ينحرف إلى سواها. وذكرته حجرتها بحجرته ولكنها أكثر بدائية بأرضها العارية وفراشها المرتفع والمرآة وكرسي وحيد يستعمل للجلوس وكمشجب، وطشت وإبريق؛ لذلك لم يكن يستطيع خلع بدلته في ليالي الشتاء. ومرت أعوام لم يبادلها سوى تحية القدوم وتحية الذهاب. ورغم تدينه العميق علمته الشراب، القدر القليل الضروري. وكان قدح نبيذ من نبيذ «السلسلة» الجهنمي - بنصف قرش - يكفي لطمس عقله وبعث الجنون في دمه حتى قال لها مرة في نشوة مضحكة: أنت سيدة الكون ..
وكان يتأمل الحجرة العارية، ويشم البخور، ويلمح الحشرات، ويتخيل الجراثيم المستكنة ويتساءل أليس هذا الركن الملعون المشتعل بنار الجحيم جزءا من مملكة الله؟! ومرة أمطرت السماء وجعجع الرعد فانحبس في الحجرة العارية. خلا الدرب وخفتت الأصوات وساد الظلام. تربعت قدرية فوق الفراش وجلس هو فوق الكرسي الخيزران، وأضاء الحجرة شمعة وحيدة. ولما طال الوقت تناول من جيبه مذكرة مدونا بها ملاحظات من دروسه وراح يقرؤها - كعادته - بصوت مسموع. وسألته قدرية: قرآن؟
فهز رأسه بالنفي وهو يبتسم. - مواعيد غرامية؟ - دروس! - تلميذ؟! .. ولماذا تربي شاربك؟ .. - موظف وتلميذ في مدرسة ليلية ..
وتذكر سيدة بحنين وأسى. وخطرت له فكرة استراح لها وهي أن المطر المنهمر يغسل الدرب ويجلو وجهه.
وعاد ذات يوم إلى الحارة فرأى الأرض مفروشة بالرمل أمام بيت سيدة والرايات تخفق على الجانبين. دق قلبه دقة النهاية. والتقى بأم حسني على السلم - ترى هل تعمدت أن تنتظره؟ - فحياها عابرا ومضى وصوتها يدعو له: ربنا يحقق مقاصدك ويسعدك ..
لم يستطع أن يركز عقله في دروسه. واقتحمت حجرته الصغيرة الأصوات، الزعاريد، تهليل الغلمان. موسيقى حسب الله، أجل .. ها هي سيدة تدخل مملكة رجل آخر، وتنطوي فترة من الشباب وتدفن. •••
غادر البيت بتصميم جديد. قال إن الحياة أعظم من جميع آمالها. وإن الخيام أجمل حكمة من المعري. وإن القلب هو المرشد الوحيد. اقتحم الفرح حتى قالوا إنه مجنون. وأشار إلى سيدة وقال لها: «إني أدع لك الحكم.» استجابت رغم الصراخ والعويل؛ لأنه في اللحظات الحرجة التي تسبق الإعدام تتعرى الحقائق فتهزم الموت. ومضى بها مخترقا ثلاثة أزقة مارقا من باب النصر إلى مدينة الأموات وهما يترنحان من السعادة. •••
لم تسكت الأصوات والزغاريد والأغاني حتى مطلع الفجر. وكان ينظر إلى الكلمات ولا يفقه لها معنى. وشعر بالوحدة فتوغل في عالم مجدب خال من الأصوات والأمل. وثقلت عليه المعاناة في الطريق الشاق فتذكر معارك الأمم، ومعارك الجراثيم، ومعارك الصحة والعافية فهتف: سبحان الله العظيم!
11
حضرة صاحب السعادة المدير العام
أتشرف بإبلاغ سعادتكم بأنني حصلت على ليسانس الحقوق هذا العام - من منازلهم - استزادة من العلم واستكمالا للوسائل الضرورية للموظف، مستلهما الهمة من عبقرية سعادتكم، في ظل مولانا الملك المعظم حفظه الله وأدام ملكه.
رجاء التكرم بالعلم والأمر بحفظ الشهادة المرافقة بملف خدمتي.
وتفضلوا يا صاحب السعادة بقبول فائق الاحترام.
عثمان بيومي
كاتب الواردات بالمحفوظات
لقد أحرز نجاحا باهرا بالقياس إلى زملائه المتقدمين من منازلهم. وسيدور خطابه الموجه إلى حضرة صاحب السعادة دورة رائعة تعلن تفوقه على الملأ؛ فهو يعرض أولا على رئيسه المباشر سعفان بسيوني ليوقع عليه بالعرض على صاحب العزة مدير الإدارة حمزة السويفي؛ فهو يسرك في صادر المحفوظات ثم يسرك مرة أخرى في وارد الإدارة. بعد ذلك يعرض على حمزة السويفي ليوقع بعرضه على حضرة صاحب السعادة المدير العام، فيسرك في صادر الإدارة ثم يسرك في وارد مكتب المدير العام، ثم يقرؤه حضرة صاحب السعادة المدير العام، يقرؤه بعينيه ويتسلل إلى ذاكرته وربما هز عواطفه، ثم يوقع عليه بالتحويل إلى المستخدمين لإجراء اللازم، فيسرك في صادر مكتب المدير العام ووارد المستخدمين حيث تتخذ الإجراءات ثم ترسل صورة إلى المحفوظات التي صدر منها الخطاب للحفظ في ملف خدمته الإداري، بذلك تتم الدورة الفلكية ويعلم من لم يكن يعلم.
وثمل بالسعادة يوما. وتتابعت الأيام. ماذا بعد ذلك؟ هل يبتلع الصمت كل شيء؟ لا شيء يحدث. النار المقدسة مشتعلة في صدره. ومقام الحسين يشهد مناجاته الطويلة. الطريق طويلة ولا خطوة واحدة تبشر بالضياء. وقد انتهى من الدراسة. أما اغترافه من بحر الثقافة فلا يتوقف أبدا. إنه يشبع بها أشواقه إلى المعرفة ويكمل بها ذاته لتكون أهلا للمركز الذي سيشغله يوما بإذن الله وفضله. ويتسلح بها في نضاله الطويل المرير في الغابة الرسمية التي يطالب فيها كل ذي شأن بقرابينه. إنه لا يملك سحر المال، ولا يتمتع بامتيازات الأسر الكبيرة. ولا قوة حزبية تسنده، وليس من الذين يرتضون أن يلعبوا دور البهلوان أو العبد أو القواد، إنه واحد من أبناء الشعب التعيس الذي عليه أن يتزود بكل سلاح، ويتحين كل فرصة، ويتوكل على الله، ويستلهم حكمته الأبدية التي قضت على الإنسان بالسقوط في الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرة أخرى إلى السماء.
ومن خلال تتابع الأيام في مجراها الأبدي خلت درجة سابعة بالمحفوظات بنقل شاغلها إلى وزارة أخرى. وقال له سعفان بسيوني: رشحتك للدرجة الخالية فلا يوجد في المحفوظات من هو أحق بها منك ..
فشد على يده بامتنان وهو يود أن يقبله فقال الكهل: سبعة أعوام مضت عليك في الثامنة، وقد حصلت في أثنائها على ليسانس الحقوق، وأثبت بجدارة كفاءة لا نظير لها ..
وضحك الكهل كاشفا عن أسنانه السود المثرمة وقال: وهي مضمونة لك إن شاء الله فلا رغبة لأهل الوساطات في وظيفة بإدارة تسكنها الثعابين والحشرات ..
وطال الانتظار ومضت الأيام. وقال لنفسه: ها هي سبعة أعوام تمر في درجة واحدة فيلزمني على هذا القياس أربعة وستون عاما حتى أبلغ الأمل المنشود. المدير العام الذي أشعل النار المقدسة في قلبه. لم تقع عليه عيناه منذ مثل بين يديه ضمن المستجدين. وإن متعة نفسه أن يقف في جانب من الميدان يراقب موكبه وهو يغادر الوزارة في أبهة الملك وقدسيته. هذا هو غاية الحياة ومعناها وجلالها.
واستفحل العمل في الإدارة أيام إعداد الميزانية فاحتاج مدير الإدارة إلى موظفين إضافيين في الأقسام التابعة له فندب عثمان للعمل عن المحفوظات. سر بذلك وقال إنها فرصته. وتوثب للعمل بهمة هائلة، عمل مع المراجعين كما عمل مع وكيلي الإدارة، وشهد اجتماعات مع مدير الإدارة نفسه. انفجر كبركان وكأنما كان ينتظر هذه الفرصة منذ اشتعل قلبه بالطموح المقدس. ولم يتردد فوضع نفسه تحت تصرف السادة الرؤساء من مطلع الصباح حتى منتصف الليل. في الظروف الدقيقة الحرجة ينسى كل شيء في الحكومة إلا الكفاءة الحقة. والميزانية عمل خطير يتصل بالمدير العام ووكيل الوزارة والوزير ومجلس الوزراء والبرلمان والصحافة، فلا مجال في أيامها المشحونة بالإرهاق لصاحب امتياز، ولكن يفرض الانتخاب الطبيعي نفسه ويتقدم الأكفاء ويعترف بالقيمة الذاتية حتى ولو لم يقدر لها حسن الجزاء. وقد لفت عثمان إليه الانتباه وحاز الثقة الكاملة، وتجلت قدرته الخارقة على العمل، كما تجلت درايته باللوائح والقانون. ولم يقنع بما أحرز من نجاح فتطوع سرا لكتابة مشروع بيان الميزانية الذي يكتبه عادة مدير الإدارة بنفسه. وهيأ له العمل فرصة الانفراد بمدير الإدارة حمزة السويفي فلما فرغ من عرض أوراقه قال له بأدبه الجم: سيدي المدير، اسمح لي أن أقدم لكم بعض الملاحظات التي قيدتها أثناء العمل لعلها تنفع عند النظر في تحرير بيان الميزانية!
فنظر إليه حمزة البسيوني باستخفاف مشوب بالعطف وقال: أنت شاب ممتاز كما يقال عنك .. - أستغفر الله يا افندم. - على فكرة، مبارك؛ فقد تمت اليوم الموافقة على ترقيتك إلى السابعة ..
تمتع عثمان بلحظة انتصار سعيدة فقال بامتنان: بفضل الله وفضلكم!
فقال مدير الإدارة مبتسما: مبارك، أما بيان الميزانية فشيء آخر!
فقال باستماتة: عظم الله قدرك، لا جرأة لي على الاقتراب من بيان الميزانية، ولكن عنت لي ملاحظات في أثناء العمل، ملاحظات مجتهد درس القانون والمالية، فطمع أن تكون في الخدمة عندما تحتشدون لوضع البيان الخطير.
وتناول الرجل «الملاحظات» وراح يقرؤها والآخر يتابعه باهتمام مركز خيالي. لقد سيطرت عليه الملاحظات، هذا واضح. ثم قال بهدوء سطحي: أسلوبك جيد .. - شكرا يا سيدي .. - يخيل إلي أنك قارئ ممتاز. - أعتقد ذلك يا سيدي. - ماذا تقرأ؟ - الأدب، سير العظماء، الإنجليزية والفرنسية .. - هل لك قدرة على الترجمة؟ - إني أمضي أوقات فراغي في مطالعة القواميس.
فضحك حمزة السويفي وقال: شيء جميل، وفقك الله ..
وأذن له في الانصراف ولكنه استبقى «الملاحظات» عنده. وغادر عثمان حجرته ثملا بالأفراح، يؤمن بأنه نال من ثقته ما هو أثمن من الدرجة السابعة نفسها.
وعندما طبع مشروع الميزانية بعد ذلك بأشهر هرع عثمان إلى مقدمة الميزانية فقرأ البيان الذي كتبه بخط يده عدا تغيير طفيف لا يقدم ولا يؤخر. سعد بذلك سعادة كبيرة، امتلأ ثقة بنفسه وبمستقبله، واستوصى بذكائه فلم يفش سر البيان لأحد.
وما لبث أن صدر قرار بنقله من المحفوظات إلى إدارة الميزانية.
ليلتها وقف وراء نافذة حجرته ينظر إلى الحارة الغارقة في الظلام. ورفع عينيه إلى السماء فرأى النجوم الساهرة. مستقرة فيما يبدو ولكن لا شيء جامد في الكون. وقال إن الله خلق النجوم الجميلة ليحرضنا على النظر إلى أعلى. وإن المأساة أنها ستطل يوما من عليائها فلا تجد لنا من أثر. ولا يتحقق معنى لوجودنا إلا بالعرق والدم.
12
قال له سعفان بسيوني: سأحزن لغيابك عن المحفوظات بقدر ما أنا سعيد بك.
وذاب عثمان في الجو العاطفي بإخلاص وقتي فدمعت عيناه وتمتم: لن أنساك أبدا يا سعفان أفندي ولن أنسى عهد المحفوظات. - ولكني سعيد لأنك سعيد ..
فتنهد عثمان وقال: السعادة عمرها قصير جدا يا سعفان أفندي.
ولم يفهم سعفان قوله ولكن الآخر كان يعيشه. كان يحمل الزمن على ظهره لحظة فلحظة ويعاني الصبر نقطة نقطة. وسرعان ما نسي تماما أنه رقي إلى السابعة أو أنه يعمل في إدارة الميزانية، كان يعمل بجنون في الوزارة، ويتبحر في المعرفة في حجرته الصغيرة. وبين هذا وذاك يقول بجزع: العمر يجري .. الشباب يجري .. الأيام لا تريد أن تستريح ..
وما زال في أول الطريق الطويل. وكان ولعه بالادخار يزداد مع الأيام، واستمساكه بمسكنه البدائي يقوى ويشتد. المال حصن، هكذا يشعر. وهو مهر عند الضرورة لعروس الأحلام. وعروس الأحلام هي التي تفتح مغالق الأبواب وتستنزل جوهرة المستقبل من معتصمها. وللموظفين في ذلك أقوال مأثورة وحكم وأمثال. العروس الجميلة إما أن تكون هدية مجد مبكر أو ذريعة إلى المجد المستعصي. والطريق يبدو شاقا وطويلا فهو في حاجة إلى إسعاف. وهم يقولون: سعادة المدير العام ارتقى إلى مركزه الفريد وهو شاب تقريبا بفضل السياسة والأسرة فتزوج من فتاة من أسرة تعد من ملكات الجمال.
ويقولون أيضا: أما الوكيل الأول للإدارة فترقى بفضل زوجته، أو أسرة زوجته وهو الأصح ..
وهو يزود نفسه بكل سلاح فلا عيب إذا استعان بعد ذلك بعروس كريمة، وإلا فكيف يقف ضد تيار الزمن المتدفق بلا رحمة؟! ولذلك راح يترجم للصحف والمجلات ليزيد من دخله ويزيد بالتالي من مدخراته. ونجح في ذلك نجاحا لا بأس به. ولم ينفق مليما جديدا للتخفيف من تقشفه. ولم يعرف من عالم اللهو إلا زيارته الأسبوعية لقدرية في الدرب وشرب قدح النبيذ الجهنمي بنصف قرش. قالت له مرة: أنت لا تغير هذه البدلة أبدا، هي هي صيفا وشتاء، أعرفها من سنوات كما أعرفك ..
فقطب ولم يعلق فقالت: لا تغضب، أنا أحب الضحك ..
فسألها بسذاجة: هل جمعت ما أعطيتك من نقود طيلة السنين الماضية؟
فقالت ساخرة: عشقت رجلا مرة فسرق مني مائتي جنيه، هل تعرف معنى مائتي جنيه؟
تخيل المصيبة فاستعاذ بالله وقال لنفسه إن كوارث الدنيا لا تعد ولا تحصى، وسألها: وماذا فعلت؟ - لا شيء، ربنا يحفظ صحتنا فهي الأهم ..
قال لنفسه إنها مجنونة بلا شك؛ ولذلك فهي بغي. ولكنها كانت الترفيه الوحيد في حياته الشاقة، ووهبته عزاء لا بأس به. وأحيانا كان يحن إلى الحب وأيامه وسحره الذي يغير مذاق الدنيا، ويتذكر سيدة وسلم السبيل المهجور والصحراء، ولكنه يستسلم في النهاية لدعابات الدنيا القاسية، ويرضى عن نفسه المعذبة لاختيارها الطريق العسير المكلل ببركة الله ومجده العالمي. وقالت له قدرية ذات ليلة: ألا تحب أن نمضي صباح الجمعة معا في نزهة؟
فدهش وقال: إني أجيئك كاللص متخفيا في الظلام .. - مم تخاف؟
ماذا يقول؟ .. إنها لا تفهم شيئا. وقال معتذرا: لا يجوز أن يراني أحد .. - هل ترتكب جريمة؟ - الناس ..
فقالت هازئة: أنت الثور الذي يحمل الأرض على قرنيه.
إنه ذو دين وخلق وسمعة طيبة يجب المحافظة عليها. وقالت له بإغراء: ممكن أن تحتكرني ليلة كاملة، يمكن الاتفاق على ذلك ..
فسألها بحذر: والثمن؟ - خمسون قرشا ..
وفكر باهتمام. سيهبه ذلك راحة حقيقية ولكن الثمن فادح. إنه في حاجة إلى الراحة. قال: فكرة طيبة ولتكن مرة في الشهر .. - هل تكتفي بمرة واحدة في الشهر؟ .. - ربما أجيء غيرها ولكن بالطريقة العادية.
واعترف بأنه لا غنى له عنها. إنها تماثله في السن، ولكن يبدو أنها غافلة عن الزمن، وعن أثره السريع فيها. وهي تعيش بلا حب ولا مجد، وكأنها تؤاخي الشيطان في غضبها. وكم غاظه أن تعترف له مرة بأنها اشتركت في مظاهرة فهتف محتدا: مظاهرة! - ما لك! .. نعم مظاهرة .. حتى هذا الدرب أحب الوطن يوما ما ..
وقال إن الجنون منتشر أكثر مما تصور. الاهتمامات السياسية تثيره وتدهشه. وهو يصر على عدم الاكتراث بها. ويؤمن بأن للإنسان طريقا واحدة، وأن عليه أن يشقها وحيدا مصمما بلا أحزاب ولا مظاهرات، وأن الإنسان الوحيد هو الخليق بالشعور بربه وبما يطالبه به في هذه الحياة، وأن مجده يتحقق في تخبطه الواعي بين الخير والشر، ومقاومة الموت حتى اللحظة الأخيرة.
13
واطلع عثمان بيومي ذات يوم على إعلان له شأنه. أعلنت الوزارة عن حاجتها إلى مترجم للغتين الإنجليزية والفرنسية بمكافأة 35 ج. م، وحددت يوما لامتحان مسابقة. اشترك في المسابقة بلا تردد ولا تفكير شامل. وأسفرت النتيجة عن اختياره مما زاد ثقته بنفسه واعتزازه بمواهبه. واستدعاه حمزة السويفي إلى مكتبه - وكانت الوظيفة الجديدة في مكتبه - وقال له: أهنئك على نجاحك الذي يقطع بتعدد قدراتك.
فشكره عثمان بأدبه المعهود فقال الرجل: ولكنها وظيفة ذات مرتب ثابت وسوف تخرج بها من الكادر العام، فهل فكرت في ذلك؟
لم يفطن في الواقع إلى ذلك فسرعان ما فتر حماسه لمرتبها الضخم نسبيا وقال: الحق أني لا أرغب في الخروج من الكادر العام .. - هذا يعني أن نعين التالي في الترتيب؟
فطرأت على ذهنه فكرة طيبة فقال: ألا يمكن أن أرقى إلى الدرجة السادسة على أن تضاف إلى أعمال الترجمة وبذلك أوفر للميزانية مبلغا لا بأس به؟
فتفكر مدير الإدارة مليا ثم قال: المسألة تحتاج إلى مراجعة المستخدمين والإدارة القانونية .. - ليكن يا سيدي ..
فضحك حمزة بك وقال: إنك طموح وحكيم، أرجو أن يكون اقتراحك مقبولا ..
وتقررت ترقيته إلى الدرجة السادسة بمرتب قدره خمسة وعشرون جنيها، ورغم تضحيته بعشرة جنيهات إلا أنه فاز بترقية ما كان يبلغها قبل سنوات وسنوات، فضلا عن الأهمية التي اختص بها بعمله المزدوج. وتمتع بسعادة قصيرة كالعادة. لم يعرف السعادة إلا خطفا مثل لقاءات الطريق العابرة. وعاد يقيس الطريق الطويلة ويئن تحت وطأة لانهائيتها. ما جدوى الدرجة السادسة وهو يوشك أن يلج مرحلة جديدة من العمر؟ وقبله سعفان بسيوني وقال له: إنك تقفز بقوة مليحة يا ولدي ..
فقال بأسى: ولكن الأيام أسرع من الخيال .. - هي كذلك، كفاك الله شرها ..
فرنا إلى وجهه المتغضن وسأله: هلا حدثتني عن طموح شبابك؟ - أنا؟! له الحمد، كانت رئاسة المحفوظات أبعد من خيالي .. - ألم تحلم بأن تكون المدير العام؟
فأغرق الكهل في الضحك حتى دمعت عيناه، ثم قال: نحن أبناء الشعب لا نطمع فيما يتجاوز رئاسات الأقسام.
إنه مخطئ. إنما يصدق كلامه على وظائف الوزراء والوكلاء، أما وظيفة المدير العام فلا تستعصي على أبناء الشعب، هي أملهم المنشود والأخير. وبخاصة الأفذاذ منهم الذين يعدون أنفسهم لذلك المجد العظيم. بيد أن الأيام تمر بلا توقف، وفي غفلة ونعومة. ولا قيمة لدرجة المدير العام إذا لم يتح لصاحبها البقاء فيها أعواما حتى ينعم بها وينعم بالدنيا في ظلها ويحقق باسمها أجل الخدمات للجهاز المقدس الذي يسمونه الحكومة.
ومتى يكمل نصف دينه؟ قبل بلوغ الأمل أم بعده؟ يجب أن يكون أسرة وينجب ذرية وإلا حقت عليه اللعنة. فإما العروس التي ترفع إلى العلا وإما العلا الذي يحظى بالعروس الباهرة. ومن شدة معاناته للعذاب يحن أحيانا للهدوء والخمول ويتطلع إلى الجهاد الشاق الذي يهب الحياة معناها الوحيد، وعذابها المقدس.
وسمع ذات يوم أن مدير الإدارة حمزة السويفي يشكو ضعف نجله في اللغات الأجنبية فاقترح عليه أن يساعده. وتردد الرجل قائلا: الأوفق أن أحضر له مدرسا خاصا حرصا على وقتك.
فقال له بأسلوبه المختار: لن أغفر لسعادتك هذا القول ..
وتردد على بيت المدير فقدم للشاب مساعدة فذة كان لها أثرها في إنجاحه. وفكر المدير في تقديم مكافأة له فتراجع كأنما يجفل من نار وقال: لن أغفر لسعادتك هذا أيضا ..
وأصر على موقفه حتى سلم الرجل، فقال له بنبرة الممتن: لا زلت أسير فضلك وتشجيعك ..
على أنه شعر في أعماقه بألم يناسب المبلغ الذي رفضه بشهامته. وثمة خيبة أخرى عاناها في تردده على بيت المدير، فقد حلم بأن يجد هناك عروسا «مناسبة» ومن يعلم؟ .. وحلم أيضا بأن خدماته قد تشفع له عند حمزة بك فيغضي عن وضاعة أصله، ويقبله في طبقة جديدة تمهد له السبيل إلى التقدم. ولكن الحلم لم يتحقق، ولم يصادفه في تردده إلا الذكور! سعفان بسيوني ما كان يهمه أصله فهما من أصل واحد تقريبا ومنبت متشابه، ولكن أي فائدة كان يرجوها من الزواج من كريمته؟ لا شيء إلا الذرية والمتاعب والفقر. ولا حب أيضا. فهو لم يحب إلا سيدة، وقد مات قلبه مذ سلاها ، ولكن المتطلعين إلى المجد في طريق الله لا يحفلون بالسعادة.
وتمضي الأيام، وستمضي أبدا، بصيفها اللافح، وخريفها الحالم، وشتائها القاسي، وربيعها الفواح، وسيظل عزيمة مثابرة وهمة متصاعدة وقلبا معذبا وأشواقا طاحنة.
14
وزارته أم حسني كعادتها بين الحين والحين. أهدته برطمانا من الليمون المخلل وجلست على الكنبة وهي تنظر إليه باهتمام أثار فضوله. ضربت على ركبتها فجأة وقالت: تحزنني وحق الحسين وحدتك ..
فابتسم بلا اكتراث فقالت: أنسيت أنك تتقدم في العمر؟ - كلا طبعا يا أم حسني .. - وأنه لا يوجد ما هو أغدر من السنين! - صدقت. - أين الذرية لتؤنس وحدتك؟ - في عالم الغيب.
وصمت قليلا حتى قال ضاحكا: طبع المهنة يتحرك فيك يا أم حسني ..
فضحكت وقالت: اسمع، عندي شيء ثمين ..
رغم موقفه الحاسم جذبه الحديث بإغراءاته العذبة المجهولة. قال: دائما عندك شيء ثمين.
فقالت بأمل: حلوة .. أرملة .. متوسطة العمر .. ولكنها عاقلة، بنت المرحوم شيخ الحارة .. - هه! - لها بنت وحيدة في الرابعة عشرة! - إذن هما امرأتان لا امرأة واحدة .. - ستذهب البنت إلى بيت عمها .. لا تحمل هما من هذه الناحية .. - عظيم. - وهي صاحبة ملك! - حقا؟! - بيت في برجوان .. في حوشه شجرة توت ..
نظرت إليه ببصرها الضعيف لترى أثر كلامها، فتوهمت رضاه، وقالت: ستراها بنفسك ..
وبإرشاد من أم حسني رآها في السكة الجديدة. رآها ترتدي معطفا ولكن وضح له أن مشيتها المتثنية الوانية تربت وترعرعت في الملاءة اللف. مائلة للقصر وبدينة، ذات وجه ريان وشعر أسود. نادت فيه رغبة بدائية. مثل قدرية. قال إنها أنظف ربما ولكن متاعبها أكثر بما لا يقاس. وشعر برثاء نحو أم حسني التي تجهله كل الجهل رغم طول المعاشرة. من أين لها أن تفهم معنى مراجع بإدارة الميزانية ومترجم؟ مأساة الآدمية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم.
وسألت أم حسني: ما رأيك؟
فأجاب باسما: سيدة ممتازة .. ما زلت أستاذة! - هل أكمل ما بدأت؟
فأجاب بهدوء: كلا. - ألم تقل إنها سيدة ممتازة؟ - ولكنها ليست بالزوجة الصالحة لي.
وأثبتت العجوز أنها أعند مما يتصور فجاءته يوما وهي تقول: من المصادفات السعيدة أن ست سنية جاءت تزورني ..
فتحركت الرغبة البدائية واستسلم لضعف طارئ فذكرته أم حسني بقولها قائلة: جاءت تزورني ..
فقال بخبث: لعلها تزورني أيضا.
فقالت وهي تمضي: إذا شئت فانزل أنت ..
ولم يتردد فنزل. وغلب الصمت فانفسح المجال لأم حسني فراحت تتكلم بلا توقف. وتذكر عثمان أنه لم يتكلم كلاما له معنى إلا مع سيدة. واضطر إلى أن يقول: شرفتنا ..
فهمست: متشكرة .. - الجو بارد اليوم. - نعم. - هل انتهيت من تبييض بيتك؟
فأحنت رأسها بالإيجاب.
حاولت أيضا استدراجه للحديث عن وظيفته ولكنه لزم الصمت. ورغبته تأججت ولكن بلا أمل. وتحركت سنية حركة خفيفة تنبئ عن رغبتها في الذهاب فقام من فوره، سلم وذهب. وبدلا من أن يصعد إلى شقته هبط أسفل السلم مضمرا خطة تتسم بالجرأة. سمع أقدامها وهي تتحرك على السلم نازلة. دهشت لمرآه فقال متظاهرا بالدهشة كذلك: فرصة طيبة ..
أوسع لها ولكنه همس وهي تحاذيه: تفضلي لشرب فنجان شاي فوق ..
فقالت بعجلة: شكرا .. - تفضلي، عندي ما أقوله ..
فقالت باحتجاج: كلا.
ومضت مسرعة ما أمكنها ذلك. قال وأطرافه ترتعش بالرغبة إنه أسرع، كيف تصور أنها يمكن أن تقبل؟ ولكنها الرغبة وقلة الصبر والحيلة. وصعد خجلان غاضبا. وقال إنه سيظل مراهقا حتى يستقر في بيت محترم.
15
حالته المالية تتحسن يوما بعد يوم، استحق علاوة، وعائده من الترجمة يتزايد، ولأنه لا ينفق إلا ما تحتمه الضرورة فرصيده في البريد يرتفع باستمرار. وهمته في العمل لا تهن، وعلاقته بمدير الإدارة حميمة كأنها الصداقة، ويوما قال له: أبدى سعادة المدير العام إعجابه بأسلوبك في الترجمة ..
فاجتاحته موجة فرح حتى أغرقته، وأيقن بأنه لن ينام من الليل ساعة. طبعا سعادته لا يتذكره، ولكنه بات يعرف الاسم وشخص المترجم المعنوي. قال مدير الإدارة: سعادة المدير مترجم كبير، ترجم كثيرا من الكتب الهامة فهو يقدرك عن بينة!
وتمتم شاكرا ثم قال: إنما نلت تقدير سعادته بفضل رضاك عني.
ابتسم المدير وقال بنبرة مبالغة في الود: دعيت لإلقاء محاضرة في جمعية الموظفين، وقد سجلت نقاطها، فما رأيك في أن تكتبها بأسلوبك الممتاز؟
فقال بحماس: إنها لسعادة كبرى يا سيدي المدير.
إنه يتمنى لو يكلف كل يوم بعمل كهذا. إن عمله في الإدارة - على ضخامته وتقدير الجميع له - لن يكفي وحده. فلا أقل من تقديم الخدمات للرؤساء، وإشعارهم بأهميته وفوائده الشريفة. ولعل ذلك يقلل من جزعه لقلة ما ناله بالقياس إلى ما يطمح إليه. ولكنه عزاء يتزود به في طريقه الطويل. وفي الليل غشيته كآبة بلا مقدمات وهتف: يا لي من مجنون، كيف أتصور أنني سأبلغ يوما مرادي؟!
وحسب ما ينقصه من درجات، الخامسة والرابعة والثالثة والثانية والأولى، قبل أن يتبوأ ذروة المجد! حسب ذلك وما يقتضيه من سنوات العمر فدار رأسه وداخله شعور عميق بالأسى. وقال إنه يجب أن يحدث شيء كبير، وإن حياته لا يمكن أن تضيع هدرا. وكان على موعد مع سعفان بسيوني في المقهى فارتدى ملابسه وغادر الشقة. وجد أم حسني في انتظاره أمام شقتها فقالت له: عندي ضيوف يجب أن تسلم عليهم، عندي سيدة وأم سيدة ..
دخل وسلم. دخل كالخائف ولكن سرعان ما أدرك أن كل شيء قد انتهى وانقضى. لم يلمس لمحة جفاء أو عتاب واحدة، ولكنه رأى نظرة محايدة لا تكلف فيها ولا التماعة تذكر فأيقن من سقوط الماضي في هوة الموت اللانهائية. وضاعف من إحساسه العميق بالزمن ترحيب الأم به ترحيبا صافيا بلا شائبة. رأى الموت يفترس قيمة عزيزة ظن بها الخلود والأبدية فإذا بها ذكرى مجردة تكاد تخرج من نطاق التاريخ نفسه كأنها خروج آدم من جنة الخلد. وها هي سيدة تميل إلى البدانة والبلادة. ذكرته بقدرية، فأمعن في الاضطراب ورأى أعلى ملاءتها قد هبط عن رأسها فطوق منكبيها، فانطلق الرأس والعنق في حرية، وتراجع منديلها المنمنم عن جبهة لامعة ومقدم شعر مفروق، أما الألق الذي ألف أن يطالعه في عينيها فقد استقر وانطفأ. تمت المقابلة في جو محنط وغربة ساخرة، وعبثا حاول أن يجد فوق الشفتين الغليظتين أي أثر لشفتيه أو أسنانه . مكث ما تقتضيه المجاملة ثم ذهب بقلب يخفق بالابتهالات للمجهول الغامض الفتاك ذي الابتسامة الناعمة القاسية. ذهب إلى رئيسه القديم لقضاء سهرة ودية لمناسبة إحالته على المعاش بعد أيام معدودات. أمسى الكهل عودا هزيلا، هلكت آخر شعرة في رأسه، لا بسبب الكبر ولكن لمرض في المعدة، ولكنه ظل طيبا مستسلما كالعهد به. ووضح أنه يستقبل نهاية خدمته بكآبة وحزن وتشتت فمضى يجامله ويقول: أتمنى لك راحة سعيدة مديدة ..
فقال الكهل وهو يضحك ضحكة لا معنى لها: لا أدري كيف تكون الحياة بعيدا عن المحفوظات ..
ثم وهو يتنهد: ولا هواية لي، وهذا هو المزعج حقا .. - ولكنك محبوب، الجميع يحبونك .. - نعم، ولم تعد لدي واجبات عائلية بلا إنجاز، ولكنني خائف.
وجعلا يحتسيان الشاي وهو يسترق منه النظر برثاء حتى رجع يقول - الرجل: أذكر يوم التحاقي بالخدمة كأنه الأمس، إنه يوم لا ينسى مثل ليلة الدخلة، أذكره بكل تفاصيله، كيف مر ذلك العمر بهذه السرعة؟!
فانقبض قلب عثمان وتمتم: نعم كأشياء كثيرة ..
فابتسم إليه كأنما يفتتح بالابتسامة عهدا جديدا وسأله: وكيف حال أعبائك العائلية؟
تذكر ادعاءاته الكاذبة فقال: ما زال الحمل غير خفيف ..
فرنا إليه بمودة وقال: تسلمتك غلاما كبيرا ليس إلا، وها أنت اليوم رجل كامل، وعما قليل .. ولكن ما علينا، المهم ألا يسرقك الزمن، خذ بالك بكل قوة .. - عظيم، وهل يجدي ذلك؟ - على الأقل لا يجوز أن يفوتك القطار .. - هل تقصد الزواج؟ - كل شيء، دائما أراك في حال تأهب واستعداد، لأي شيء؟ وحتى متى؟ - ولكن هذه هي طبيعة الحياة ..
فلوح الرجل بيده محتجا وقال: كلنا يتكلم عن الحياة بثقة كأنما يعرفها حق المعرفة .. - لا مفر من ذلك .. - لولا وجود الله سبحانه وتعالى لكانت لعبة خاسرة لا معنى لها .. - من حسن حظنا أنه موجود وأنه أعلم منا بما يفعل ..
فقال الكهل بعمق: الحمد لله ..
وصمتا وتكلما، ثم صمتا وتكلما حتى آن وقت الذهاب. شعر عثمان بأنه لن يراه مرة أخرى. ولم تكن تربطه به إلا زمالة قديمة وإحساس بالواجب ولكنه وجد نحوه - في لحظته - أسى غير قليل. قال الكهل وهو يصافحه: أتوقع ألا تنساني؟
فقال بنبرة أحر من قلبه: معاذ الله ..
فقال الرجل برجاء: النسيان هو الموت. - مد الله في عمرك.
ولم تكن لديه نية لزيارته، ولا هو جاء لتوديعه بدافع حقيقي من عواطفه ولكن خوفا من أن يتهم بالجحود؛ ولذلك كربه ضميره وورعه الديني، ومضى في طريقه لا يرى شيئا، ورغما عنه تركز تفكيره في الدرجة الخامسة التي ستخلو بعد أيام.
وكانت مكانته قد تدعمت لدى مدير الإدارة فلم تعترض سبيله عقبة ذات وزن.
ورقي إلى الدرجة الخامسة في نفس الشهر مع نقله رئيسا للمحفوظات.
16
هبة قيمة تتخلق في الفراغ المشحون بالصبر. الوثبة الجديدة وثبة حقيقية، وامتيازها الخطير أن رئيس المحفوظات يعرض بنفسه الخطابات الهامة على حضرة صاحب السعادة المدير العام ليتلقى توجيهاته وينفذها في سرية تامة. رضي الله عنه أخيرا ففتح له الباب العالي الموصل إلى الحضرة الإدارية العليا. وهي فرصة سلطانية تطالبه باستغلال جميع ما تمرس به من خبرة وثقافة ولباقة وإخلاص. ها هي الحجرة المترامية كميدان التي يحلم بأن يحكم منها ذات يوم. الحلم الذي يجب أن يتحقق ولو ضحى على مذبحه بجميع القرابين، الحلم المضنون به على غير أهله من الأكفاء الذين يشترونه بمسرات الدنيا الرخيصة العابرة.
وتفحص الحجرة بعناية بطولها الطويل وعرضها العريض، سقفها الأبيض الأملس، ونجفتها الكرستال، وجدرانها المورقة، مدفأتها الموشاة بالقرميد، بساطها الأزرق الذي لم يتخيل إمكان وجود بساط في طوله وعرضه، وطاولة الاجتماعات ذات الغطاء الأخضر، والمكتب المتصدر بأرجله الغليظة الملتوية وسطحه البلوري، وتحفه الفضية من وراقات ومحابر وأقلام وساعة وسومان ونافضة وعلبة خشبية للسجائر من خان الخليلي.
وتهيأت فرصة لاستراق النظر إلى المدير السعيد وهو مستقر فوق مقعده الكبير، يطالعه بعينين داكنتين حادتين ووجه حليق، وطربوش غامق الاحمرار، ورائحته الزكية، وشاربه الأسود المتوسط الطول والارتفاع، وهالة الصحة التي تطوقه، وبدانته المتوسطة وإن لم يعرف على وجه الدقة طوله، وتحفظه الراسي المهيب الذي يجعل من صداقته مطلبا عزيز المنال.
ها هو يقف في حضرته، في متناول أنفاسه، في مجال رائحته الزكية، يكاد يسمع نبضه، ويقرأ أفكاره، ويستلهم رغائبه، وينفذ - قبل البوح - أوامره، ويقرأ المستقبل على ضوء ابتساماته، وقرة عين حلمه الأبدي أن يجلس ذات يوم مكانه.
انحنى بأدب وورع وقال: صبحك الله بالسعادة يا صاحب السعادة.
فرفع إليه بصره مغمغما برد تحيته، فقال الآخر يقدم نفسه: عثمان بيومي رئيس المحفوظات.
فقرأ في ارتفاع حاجبيه المستقيمين ابتسامة لم ترسم على شفتيه، فقال مستزيدا من تقديم نفسه: الجديد يا افندم. - والمترجم. أليس كذلك؟
فقال بقلب خافق: نعم يا صاحب السعادة.
فقال بصوت منخفض: أسلوبك جيد .. - إنه لشرف عظيم هذا التشجيع .. - هل لديك مراسلات هامة؟
راح يفتح المظاريف برشاقة ويعرض الخطابات ويتلقى في دقة التوجيهات. انحنى مرة أخرى ثم غادر الحجرة ثملا بالأفراح. فكر في طريق عودته إلى المحفوظات بأن حمزة السويفي يتراجع - في حياته - إلى الظل حتى يدركه الظلام الذي ابتلع سعفان بسيوني وأن مستقبله أصبح منذ الساعة بيد حضرة صاحب السعادة بعد الله ذي الجلال. وقال لنفسه: احذر يا عثمان مغبة السير الرتيب، لا بد من وثبة أو وثبات ..
وقال أيضا: سعفان بسيوني قضى نصف مدة خدمته في الدرجة التي أسلمته إلى المعاش!
وهو يحفظ عن ظهر قلب أن للإدارة وكيلين ولكن الوثبة لن تأتي إلا عن طريق حمزة السويفي، بأن يرقى أو يحال إلى المعاش أو .. يموت! وامتعض من نفسه كما يحدث له كثيرا، وابتهل إلى الله قائلا: أسألك اللهم العفو والسماح!
وتساءل: لماذا خلقنا على هذه الصورة الفاسدة؟
قل أن يرضى عن طبيعته ولكنه يسلم بواقعها، ويؤمن بأن طريقه المقدس تتلاطم على جانبيه أمواج الخير والشر، وأن شيئا لا يمكن أن ينال من قدسيته سوى الضعف والخور والقناعة والاستسلام للمسرات السهلة وأحلام اليقظة. - اغفر لي ذنبي أنني أحب المجد الذي بثثت حبه في نفسي يا ذا الجلال ..
وتساءل نفسه بتصميم: كيف تقنع حضرة صاحب السعادة بفوائدك؟ .. هذه المسألة.
كيف ومتى يتاح له تقديم الخدمات دون انحراف أو خزي؟ وهو دائن لا مدين كما فعل مع حمزة السويفي؟ وفي نطاق الكبرياء والشموخ وإن يكن في الحدود الرسمية بأدبها المعروف وكلماتها المعسولة؟ - إن جهادي شريف أما العواطف والأفكار فهي ملك لله وحده ..
إنه يؤمن بأن الله خلق الإنسان للقوة والمجد، الحياة قوة، المحافظة عليها قوة، الاستمرار فيها قوة، فردوس الله لا يبلغ إلا بالقوة والنضال.
وحانت فرصة لا بأس بها عندما منح حضرة صاحب السعادة بهجت نور المدير العام نيشان النيل. حبر مقالة في تهنئته نشرتها له صحيفة يمدها عادة بمترجماته. نوه فيها بالحزم والخلق والدين والإدارة والمثالية، قال إنه مثال للمدير الوطني الذي ظن يوما أنه لا يمكن أن يقوم مكان المدير الإنجليزي.
وعندما دخل الحجرة العصماء لعرض البريد ابتسم صاحب السعادة له لأول مرة، وقال له: أشكرك يا عثمان أفندي ..
فقال وهو ينحني: الشكر لله يا صاحب السعادة .. - أما أسلوبك فمما تغبط عليه.
وآمن بأنه ليس بالنبيذ الجهنمي وحده يسكر الإنسان. ولكن السكر لا يدوم. وكثيرا ما يعقبه خمار. ويخيل إليه أن عجلة الأيام تزيد من سرعتها. غاية ما يذكر أن الزمان لم يكن موجودا. كانت حارة الحسيني مكانا صرفا. لا خطورة للدرجة الخامسة في حياة رجل يتوسط العمر. رجل يرفع رأسه دواما نحو النجم القطبي، يحبس نفسه في حجرته الصغيرة المكتظة بالكتب. خير ما في حياته من طعام لحمة الرأس أو الكباب في المواسم السعيدة. ولا يعرف من مسرات الدنيا إلا النبيذ الجهنمي وقدرية الزنجية في الحجرة العارية.
إنه بحاجة إلى دفء إنساني حقيقي، إلى عروس وأسرة. لم يعد يحتمل أن يحترق في الحياة وحيدا ..
ما أحوجه إلى أنيس في هذا الكون المكتظ بملايين الأكوان! ..
17
دعا أم حسني لزيارته. صنع لها القهوة بيده على موقده الكحولي. لعلها شعرت بأنه يتهيأ للكلام في قلق عذب. قالت برجاء: قلبي يحدثني أنك ناديتني لأمر، يشهد الله بأنني حلمت أمس ...
فقاطعها: لا داعي للأحلام يا أم حسني، أريد عروسا.
فتهلل وجهها وهتفت: يا ألف نهار أبيض .. - عروس مناسبة .. - ما أكثرهن! - لي شروط يا أم حسني ، افهميني جيدا .. - عندي البكارى والثيب، مطلقات وأرامل، الغنيات ومن هن على باب الكريم ..
فقال بصوت حاسم: أبعدي فكرك عن حارتنا، عن حينا كله ..
فتساءلت بحيرة: ما هي أفكارك يا بني؟ - أريد عروسا من أسرة كريمة .. - عندك المعلم حسونة صاحب المطحن البلدي ...
فقاطعها بنفاد صبر: لا تفكري في حينا، عليك بالأسر الكريمة .. - تقصد؟ - الأعيان .. كبار الموظفين .. أصحاب السلطة.
بهتت المرأة كأنما تسمع عن عالم فلكي جديد. - الظاهر أنه لا حول لك في هذا المجال.
فقالت بيأس: تفكيرك غريب يا بني .. - ليكن .. - لا حول لي كما قلت ولكني أعرف أم زينب الخاطبة بالحلمية. - عليك بها، وعند التوفيق سأعاملك كما لو كنت صاحبة الفضل الأول ..
وهي تضحك: أنت بخيل يا سي عثمان. - يا ولية يا ظالمة، هذا وعد مني، ورحمة أمي .. - ربنا يوفق. - ليس من الضروري أن تكون بكرا، لتكن أرملة .. مطلقة .. عانسا .. لا يهمني الجمال - ولكن لتكن مقبولة - ولا يهمني السن ولا المال.
هزت المرأة رأسها في حيرة فقال: عن الوظيفة والدرجة والشهادة فليرجعوا إلى الوزارة، أما ...
وسكت قليلا ثم استطرد: أما الأصل فيمكن القول بأن الأب كان تاجرا مثلا، هل يتحرون عن ذلك بدقة؟ - نعم .. رحم الله والديك .. - على أي حال قد يشفع لي شخصي، ولنجرب!
ومضت الأيام مرهقة وهو ينتظر. وكلما رجع إلى أم حسني أوصته بالصبر. تخيل أسباب التأخير وقلبه يغوص في الظلام، وراح يتردد على مقام الحسين.
وحدث في تلك الأيام أن تخلف عن العمل مدير الإدارة حمزة السويفي. وعلم بأنه لزم الفراش لارتفاع شديد في ضغط الدم. وزاد من الحرج العام أن الإدارة كانت بصدد إعداد الميزانية الجديدة. وقد عاده في مرضه، وجلس قرب فراشه طويلا، وأبدى من الحزن والإشفاق ما أطلق لسان الرجل بالثناء عليه والدعاء له أن يكفيه الله شر الأيام. وتذكر عثمان في جلسته أنه لم يزر سعفان بسيوني، وأنه ترك أخباره تنقطع عنه كأنه رحل. وقال مخاطبا حمزة السويفي: ارتح تماما، ولا تترك الفراش حتى تسترد عافيتك بالكامل، ولا تقلق من ناحية العمل فإني والزملاء في خدمتك ..
فشكره الرجل وتمتم في قلق: مشروع الميزانية!
فقال له بيقين: سيعد بإذن الله، كلهم تلاميذك ويعرفون من العمل تحت رياستك ما ينبغي عمله ..
أما في الوزارة فقد دار الحديث طويلا حول المريض ومرضه، قيل إنه ربما اضطر حمزة بك إلى التقاعد أو التنحي على الأقل عن مهامه الرئيسية. سمع تلك الأقوال باهتمام فخفق قلبه بسرور خفي تلقاه بسخط وقلق. كالعادة، ولكنه هيج أحلامه ومطامعه. وإذا بالمدير العام يصدر قرارا بتشكيل لجنة خاصة لإعداد الميزانية جعله مقررها. وتم اختياره عن دلالة لا تخفى على أحد. أجل لم يشك أحد في كفاءته ولا في حكمة القرار من هذه الناحية ولكن - قيل - ألم يكن اللائق أن تسند رئاستها إلى وكيل الإدارة محافظة على الشكل؟! أما هو فكرس كل قواه لإعداد المشروع حتى يبرز للوجود كاملا بلا هفوة واحدة. وتجلت مقدرته في توزيع العمل وتنظيمه ومتابعة المعلومات المطلوبة من إدارات الوزارة على حين تعهد هو بالموازنة الختامية وتحرير البيان. واقتضى العمل الاتصال المباشر بحضرة صاحب السعادة والاجتماع به ساعة كل يوم وأحيانا ساعتين، حتى حلت الألفة بينهما مكان الكلفة. وامتد الاجتماع يوما أربع ساعات فأمر له بقهوة، وقدم له سيجارة ولكنه اعتذر شاكرا لكونه غير مدخن. مرت أيام أترعت قلبه بالسعادة والزهو والأمل، ورضي الرجل عن عمله فشعر برضى الله وإقبال الدنيا. وأعد للمشروع مقدمة مثالية حازت إعجاب المدير بصفة خاصة فتربع على قمة النصر المبين.
ورجع حمزة السويفي إلى مكتبه مستردا صحته في اليوم الأخير لعمل اللجنة، وأعلن عثمان أفراحه فعانقه داعيا له بطول العمر. قال له: كنا كالضائعين فالحمد لله على سلامتك.
وتساءل الرجل: والمشروع؟ - أعد، وكتبت المقدمة، هما معروضان الآن على صاحب السعادة، وسوف تطلع عليهما غدا أو بعد غد، ولكن كيف حال الصحة؟ - الحمد لله، أجروا لي حجامة، ووصفوا لي رجيما دقيقا، والأمر لله من قبل ومن بعد. - ونعم بالله .. ما هي إلا سحابة صيف ..
ألف في خدمته الطويلة انقسام الشخصية والعذابات الأخلاقية. كما ألف الصدمات المتوقعة وغير المتوقعة. كهذه الصدمة مثلا. وجثم الفتور في أعماق قلبه حتى اليأس؛ ولذلك فعندما خلت درجة رابعة في الإدارة القانونية دفعه التوتر إلى الكلام. أول مرة تكلم فيها بلسانه بعد أن اعتاد الكلام بأفعاله وخدماته. وبفضل الجو الذي خلفه العمل بينه وبين صاحب السعادة قال له: لو تعطف حضرة صاحب السعادة بالموافقة فقد يرى أن أستغل ثقافتي القانونية في الإدارة القانونية ..
ولكن الرجل قال بلهجة حاسمة: كلا، الإدارة القانونية وقف على أصحاب امتيازات يحسن تجنب التعرض لها ..
آه .. كالعروس التي طال انتظاره لها. وامتعض ولكنه قال بخشوع: أمرك يا صاحب السعادة!
ومضى نحو الباب ولكن صوت الرجل أدركه قائلا: اقترحت رفع درجة رئيس المحفوظات إلى الرابعة في الميزانية الجديدة.
رجع في خطوة واسعة واحدة وانحنى حتى كاد رأسه يمس طرف المكتب.
18
وثبة موفقة لا شك في ذلك. وإذا جرى الحظ بذلك المعدل فربما بلغ المراد في اثني عشر عاما أو خمسة عشر، ويتبقى له عدد لا بأس به من السنين يمارس فيه الإدارة الكبرى كصاحب سعادة. أما مهمة أم زينب فقد باءت بفشل أكيد، لم يعد من مجال للشك في ذلك. - رئيس المحفوظات رفض بلا عناء، مدير الإدارة ربما قبل، أما صاحب السعادة فلا يمكن رفضه ولو بلغ أرذل العمر!
لا حصر للأسباب التي تدعوه للزواج. منه يستمد العون، ويبدد وحشة القلب وعذابات الوحدة، ويرضي ورعه الديني الذي يرى عزوبته إثما. قدرية تلعب دورا ملطفا في حياته المتوترة ولكنها لا تهيئ رحمة أو حنانا أو مودة إنسانية، فضلا عن مضاعفتها لمشاعر الإثم. العزاء الباقي هو العمل، والثقافة، والادخار، وكلما ضاق بتقشفه قال لنفسه: هكذا عاش الخلفاء الراشدون!
وذات يوم وهو يعمل في المحفوظات بوغت بسعفان بسيوني يقف أمامه مهدما مهزولا كأنه شبح يودع الحياة. نهض للترحيب به خجلان من هول ما أهمله. وأجلسه وهو يقول بحرارة مفتعلة: أي فرصة سعيدة!
فاستجمع العجوز أنفاسه بجهد جهيد ثم تمتم: كم أوحشتنا يا رجل!
فهتف بأسف وندم: اللعنة على العمل، اللعنة على البيت ومن فيه، كم إنني آسف يا صديقي العزيز ..
قال بصوت شاك: أنا مريض يا عثمان .. - لا بأس عليك، بخير إن شاء الله، هل آمر لك بقهوة؟ - لا شيء ألبتة، كل شيء ممنوع .. - ربنا يرد لك الصحة والعافية ..
غاص في الحرج والضيق ولم يدر كيف يمكن أن تنتهي هذه المقابلة التعيسة. وصمت سعفان قليلا ثم قال بانكسار وذل: إني في مسيس الحاجة إلى ثلاثة جنيهات.
غص بالكلام ثم استدرك: للعلاج كما ترى ..
ارتعد عثمان. رأى أن الخطر يوشك أن يدهمه. بلا رحمة. هتف بطريقة مؤثرة كالمطارد: يا للفظاعة، ما كنت أتصور، ما كنت أتصور أن أرد لك طلبا، فضلا عن هذا الطلب بالذات، أيسر علي أن أسرق من أن أرفض طلبك ..
فازدرد الرجل ريقه وقال بيأس: ولا جنيه واحد؟! - ألا تصدقني يا أعز الناس؟! والله لولا الحياء، لولا الحياء ..
يئس الرجل تماما. غرق في أفكار مجهولة. قام بصعوبة وهو يقول: إني مصدقك، كان الله في عونك، ربنا يلطف بنا كلنا ..
دمعت عينا عثمان وهو يصافحه. دمعة حقيقية. لا تمثيل فيها. هي تكثيف لبعض أبخرة الصراع المعذب الناشب في أعماقه. كاد يلحق به. لكنه لم يتحرك. تركه يذهب. رجع إلى المكتب وهو يناجي نفسه: يا للعذاب! ..
وقال: كان يجب أن نقد من صخر أو حديد لنستطيع تحمل الحياة ..
وقال أيضا: الطريق طويلة جدا، عزائي أنني أقدس الحياة - نعمة الله - ولا أستهين بها!
في نفس الأسبوع أبلغ بنعي سعفان بسيوني! فصدم صدمة عنيفة رغم أن الأمر كان متوقعا.
ومن شدة ألمه صاح بنفسه: كف عن التألم، لديك من العذاب ما يكفيك.
وتساءل: إني محسود فهل أنا سعيد؟
وتساءل أيضا: ما السعادة؟
ثم قال: سعادتنا الحقيقية أن الله موجود.
ثم بإصرار: إما أن نحيا وإما أن نموت!
19
الوقت كالسيف إن لم تقتله قتلك. بات خبيرا بقتل الوقت ولكن هل نجا حقا من سيفه؟! أمس خلا إليه موظف جديد شاب ليسأله النصح في مسألة خاصة فمهد لسؤاله بقوله: معذرة يا سيدي الرئيس، إنما أسألك كوالد أو أخ أكبر!
وقع قوله من مسمعه موقعا غريبا حتى خيل إليه أنه يسخر منه! كوالد! حقا كان من الممكن أن يكون له ولد في سنه. لم لا؟ ومع ذلك فإنه لم يهمل قط في قتل الوقت.
ويوما قالت له أم حسني: أما هذه المرة فهي ناظرة مدرسة!
اهتز بسرور لا خفاء فيه. ولكن الناظرة زوجة صالحة، ربما، على حين أنه يريد «مصعدا» فما العمل؟
ولم يستطع أن يقاوم حب الاستطلاع فسأل العجوز: طاعنة في السن؟ - عز الأنوثة .. خمس وثلاثون سنة على أكثر تقدير .. - أرملة أو مطلقة؟ - عذراء كما خلقها الله، لم يكن يسمح لهن بالزواج كما تعلم ..
ولم يجد بأسا في أن يراها. رآها في السيدة. مقبولة المنظر والمبنى. أثارته كما أثارته سنية من قبل. هكذا رآها وعلم أيضا بأنها رأته.
وقالت له أم حسني في مقابلة تالية: لن تكلفك مليما واحدا ..
فأدرك أنه حاز القبول .. وها هي تقترح أن تجهز نفسها وتعد بيتها ولن يطالب إلا بالهين. قالت العجوز: الدبلة والشبكة وبعض النثريات، فهل أقول مبارك؟ - صبرك .. - لها شرط واحد: أن يكون مؤخر الصداق مائة وخمسين جنيها ..
كل شيء جميل ويوافق تماما حرصه. وهو مناسب جدا إذا كان يروم إكمال نصف دينه فقط، ولكن ماذا عن دنياه؟! رغم ذلك غرق في دوامة التفكير ربما بسبب شعوره بتقدم العمر. بسبب الإيحاءات المجهولة التي انثالت عليه من عالم الغيب. بسبب ما لاح له ساخرا وقاسيا وغادرا. بسبب الورود التي لم يتشممها والأنغام التي تتردد بعيدا عن تناول أذنيه. بسبب التقشف والحرمان. ومع ذلك قال لنفسه: أي تفكير وأي تردد؟ .. هراء في هراء .. لن أجن على آخر الزمن!
وتمنى لو تنشأ بينهما علاقة ما. غير مقدسة! ولكنه يلقى رفضا أشد مما لقي لدى سنية. والقبول ليس سعيدا كما يتبادر إلى الذهن. فهو يقتضيه إعداد شقة وتأثيثها. وانقبض قلبه خوفا. وقال لأم حسني ببساطة آخر الأمر: كلا.
فهتفت العجوز: أنت تعني شيئا آخر .. - قلت: كلا .. - أنت لغز يا بني.
فضحك بلا سرور. - ماذا تريد؟ .. ألا تحب جنس النساء؟
فضحك مرة أخرى: غفر الله لك ..
فقالت العجوز: أنا حزينة يا بني ..
فقال لنفسه، بالحزن يتقدس الإنسان ويعد نفسه للفرح الإلهي ..
20
وجاءت أنسية رمضان وهو فريسة لمشاعر سوداوية طاحنة لا عهد له بها بمثل تلك القوة من قبل. قال إنه تائه في صحراء قاحلة تتلظى بالنيران، لم يفز بشيء ذي قيمة، الأمل طويل والعمر قصير، والماضي حقير، رغم العواطف الشخصية الحميمة فهو حقير، رمزه الحقيقي قبر الصدقة والسجن، والشهيد في أسرته، استشهد في جانب الظلم والبغي، وهو بلا صديق، انقطعت الصلة تماما بينه وبين أقران صباه، له زملاء يحترمونه ويحسدونه ولكن لا صديق له، الوحيد الذي يجالسه أحيانا في صفاء خادم في جامع الحسين، والهبة الرومانسية في حياته الجافة حجرة عارية وبغي نصف زنجية.
ما معنى هذه الحياة؟
وهو كرس نفسه حقا لطريق الله المجيد ولكنه يغوص في الآثام، ويتلوث ساعة بعد أخرى، ويبدو أنه لا يقاوم الموت بما فيه الكفاية من قوة. - كأنها لعبة خاسرة!
في الأتون المتقد، وهو يتلظى في جحيمه، وفدت على المحفوظات نسمة لطيفة ذات عبير جديد؛ جديد على المحفوظات والإدارة العامة بكل معنى الكلمة. كانت أول فتاة تلحق بالإدارة وبالمحفوظات بالذات. سمراء رشيقة متناسقة القسمات بسيطة الملبس. أثار منظرها ارتباكه ودهشته وعطفه وهي تقف أمام مكتبه مقدمة نفسها. دعاها للجلوس وهو يلمح رءوس الموظفين تبرز من بين صفوف دواليب شنن. إنهم يتعجبون ولا يصدقون. - أهلا بك .. - متشكرة، اسمي أنسية رمضان. - تشرفنا، يبدو أنك صغيرة جدا؟ - كلا، ثمانية عشر عاما! - عظيم .. عظيم .. وما شهادتك؟ - بكالوريا علمي .. - جميل، لم يا ترى لم تكملي تعليمك؟
وندم على ما فرط من سؤاله. عاودته ذكريات أول يوم في خدمته في حجرة حضرة صاحب السعادة المدير العام. أما الفتاة فأجابت بحياء: ظروف اضطرتني إلى الاكتفاء بذلك.
ولعن الظروف ولكنه تعزى باشتراكهما التاريخي في هم مخيف واحد. قال ملاطفا: إنك تذكرينني بنفسي، ولكن اعلمي بأنني أكملت تعليمي وأنا موظف، وأن الأبواب المغلقة خليقة بأن تفتح أمام الهمة العالية ..
فغامت عيناها برنوة حزن وقالت: ولكننا نعايش مجتمعا فظا سيئا ..
وجد الأفكار «الثورية» التي يجهلها ويتجاهلها تهدد بمطاردته كالعادة فقال بإصرار: الاعتماد على النفس خير من مهاجمة المجتمع، الله يأمرنا كأفراد ويحاسبنا كأفراد، وشق طريقك وسط الصخور خير من تسول صدقة من المجتمع، الظاهر أنك تهتمين بالسياسة وبما يسمونه بالأفكار الاجتماعية؟ - إني أومن بذلك .. - هذا يعني أنك لا تؤمنين بنفسك، أنا لا أعرف إلا عزيمتي وحكمة الله المجهولة!
فابتسمت ولم تعلق بحرف فابتسم أيضا وقال: سأعهد إليك بالوارد فهو أنسب عمل للموظف الجديد .. - شكرا يا سيدي .. - وسأنتظر منك دائما ما يجعلك أهلا للثقة .. - أرجو أن تجدني عند حسن ظنك .. - وإذا صادفتك مضايقات من الزملاء فلا تترددي عن إخباري. - أرجو ألا أحتاج لذلك.
وعهد بها إلى موظف ليمرنها على العمل قائلا باقتضاب: سركي الوارد ..
شعر بأن المحفوظات تثب وثبة موفقة نحو الحياة المضيئة، وأنها لن تخلو بعد اليوم مما يحرك القلب والعواطف، وتبددت بعض الشيء سحب الذكريات السوداوية، وتذكر بدلا من ذلك سيدة وسنية وأصيلة ناظرة المدرسة وقدرية فقال لنفسه: إن عالم النساء لا نهاية لتنوعه وعذوبته وعذاباته. وتساءل في حيرة: أيهما الغاية وأيهما الوسيلة، المرأة أم الدرجة؟!
وقال أيضا: رجال كثيرون عاشوا بلا درجات ولكن من منهم عاش بلا امرأة؟
في مثل سنه يفكر الإنسان مرتين. قد يضيق بصحبة الكتب ويتأفف من العمل، ويشق عليه الحرمان والتقشف ويطارده الماضي بلا رحمة. في مثل سنه تشتد الحساسية بالعزلة والوحشة، وبالانتظار المؤرق لمجد يتعسر. وأمس قال له حمزة السويفي ضاحكا: ها هي شعرة بيضاء في رأسك يا عاهل اللوائح المالية!
فزع كأنما ضبط متلبسا بجريمة، وقال: لعل المنظر خدعك يا سيدي المدير. - لتكن المرآة حكما بيني وبينك فانظر جيدا في البيت ..
فتمتم منهزما: جاءت قبل الأوان.
فقال مدير الإدارة ضاحكا: أو بعد الأوان، لقد عرفت الشيب وأنا أصغر منك بعشرة أعوام ..
وضحك المدير طويلا ثم قال: أمس دار حديث عنك مع بعض الزملاء، تساءلنا بحيرة كيف تعيش؟ قلنا إنك لا تظهر في طريق أو مقهى أو حفل فأين تقضي وقتك؟ وقالوا إنه غير متزوج فلماذا يعيش؟ وقالوا إنه لا يهتم لشيء مما يهتم به الناس فماذا يهمه حقا في الدنيا؟!
فابتسم في فتور وقال: يؤسفني أنني شغلت بالكم .. - إنك رجل قادر وفاضل ولكنك غامض، ماذا يهمك في هذه الدنيا؟
فقال وقلبه يلهث حيال حصار التحقيق: لا غموض يا حمزة بك، إني رجل هوايته الواجب وقرة عينه في عبادة الله .. - ونعم بالله، أرجو ألا أكون قد ضايقتك، المهم أن يرضى الإنسان عن نفسه ..
ولكن أين الرضى أين؟!
ها هي طليعة الشيب تغزو رأسه، والحياة المجيدة تنقضي كالحياة التافهة، وكم يتبقى له من الزمن يا ترى؟!
21
وقال له حمزة السويفي يوما في مناقشة على هامش العمل اليومي: السعادة هي غاية الإنسان في هذه الحياة ..
فقال عثمان بازدراء باطني: لو كان الأمر كذلك لما سمح سبحانه بخروج أبينا من الجنة .. - إذن فما الهدف من الحياة في نظرك؟
فأجاب باعتزاز: الطريق المقدس .. - وما هو الطريق المقدس؟ - هو طريق المجد، أو تحقيق الألوهية على الأرض!
فتساءل حمزة بدهشة: أتطمح حقا إلى سيادة الدنيا؟ - ليس ذلك بالدقة، ولكن في كل موضع يوجد مركز إلهي ..
ورمقه الرجل بنظرة غريبة فقال لنفسه - نادما - إنه يظن بي الجنون ..
وتطايرت شائعة بأن حضرة صاحب السعادة بهجت نور سينقل إلى وزارة أخرى، فخفق قلبه خفقة كاد يخلع لها. لقد فعل المستحيل حتى حاز ثقته فمتى يحوز ثقة القادم المجهول؟ ولكن الشائعة لم تتحقق .. ويوما سلمه مجموعة ضخمة من الأوراق قائلا: هذه أصول ترجمة كتاب عن الخديوي إسماعيل، ترجمتها في نصف عام!
نظر عثمان إلى الأوراق باهتمام فقال صاحب السعادة: يهمني أن تراجع الأسلوب، أسلوبك فذ حقا ..
تلقى التكليف بسعادة شاملة، وأكب على العمل بهمة وقوة وعناية فائقة. وفي شهر واحد أعاده إلى صاحب السعادة في صورة بيانية كاملة. بذلك قدم الخدمة التي تلهف طويلا على تقديمها، وأصبح رصيده عند صاحب السعادة دائنا، وحظي - عند كل لقاء - بابتسامة لا يحظى بها المقربون.
رغم ذلك كله ألهبه الجزع بسياطه، ورأى الزمن يجري حتى توارى في الأفق تاركا إياه وحيدا في الخلاء مع طموحه المقدس. ومن نفاد الصبر مضى إلى قارئة فنجان في التوفيقية، نصف مصرية ونصف إفرنجية، تناولت فنجانه وراحت تقرؤه وهو يتابعها باهتمام لا يخلو من خجل ويقول لنفسه إنه ما كان يجوز له أن يؤمن بهذه الخرافات. قالت له: صحتك ليست على ما يرام ..
الصحة جيدة بلا ريب. ولكن صحته النفسية عليلة. لعلها صدقت على أي حال ..
قالت المرأة: سيأتيك مال وفير ولكن من خلال متاعب كثيرة.
إنه لا يطلب المال وإن يكن حريصا على كل مليم يجيئه. لعلها تقصد علاوات الترقية المقدرة في عالم الغيب. - وعدو لك سيذهب في طريق فلا يعود منه ..
الأعداء كثيرون. يختفون وراء الابتسامات الخلابة والكلمات المعسولة. في طريقه يوجد وكيل إدارة ثالثة ووكيل آخر ثانية ومدير إدارة أولى. جميعهم أصدقاء - أعداء كما تقضي به إرادة الحياة الطاهرة القاسية.
وفي حياتك زيجتان ..
إنه لم يوفق إلى الزواج من واحدة، ولكن هذا هو جزاء من تدفعه الوساوس إلى الوقوع في أحضان الخرافات. وتذكر في طريق عودته أنسية رمضان. في طريق الصحة والأناقة تتقدم؛ فنعمة الوظيفة سرعان ما تتجلى على الفقراء. هو رئيسها الحنون. تربطهما علاقة إنسانية رقيقة مهذبة يتعذر - حتى الآن - تسميتها. على أي حال لم يعد يتصور المحفوظات بغير وجودها العطر.
ولما رجع إلى حجرته لحقت به أم حسني وقالت له باهتمام أثار ابتسامته: ست أصيلة هانم عندي وهي .. - الناظرة؟ - نعم، وهي تريد أن تستعين بك في بعض شئونها.
أدرك في الحال أن المرأة جاءت لتطوقه بضفيرتها. وانساق إلى المغامرة بغريزته المتطلعة. صافح أصيلة لأول مرة. كانت ترتدي فستانا أزرق يكشف عن نحرها وساعديها، ويبرز مفاتنها. ها هي تعرض عليه نفسها مهما ادعت من أسباب حقيقية أو وهمية. وأثارته كما أثارته سنية وقدرية. إنهن نمط واحد. شهي مثير لا خير في الزواج منه. وقالت أم حسني: سأذهب لأعد لكما القهوة ..
لها تكتيك واحد العجوز الساعية وراء الحلال. وها هما يجلسان على كنبة واحدة لا يفصلهما إلا وسادة. أمال رأسه ليستوي شاربه مرسلا طرفه إلى ساقها المدمجة المغروسة في حذاء ذي كعب واطئ أشبه بكعوب أحذية الرجال. - تشرفنا يا هانم. - ولي عظيم الشرف.
تشابكت يداها فوق حجرها وقالت بثبات دل على قدرتها على مواجهة المواقف: لي استفسار من فضلك. - أفندم؟ - أملك قطعة أرض نزعت ملكيتها، أظنك تفهم هذه الشئون؟ - طبعا. - الطريق المزمع إنشاؤه يغطي أغلبها ولكنه يترك أجزاء لا يمكن الانتفاع بها؟ - أعتقد أن التعويض عن ذلك يراعى عند تقدير الثمن. - ولكن الإجراءات معقدة كما تعلم! - لك أن تعتمدي علي ..
بقدر ما شعر بقوة شخصيتها بقدر ما يئس من إغرائها. إنها مستعدة للزواج وما جاءت في الواقع إلا من أجل ذلك، أما أن ترضى بعلاقة غير مشروعة معه فيبدو أمرا مستحيلا. ورجعت أم حسني، ومضيا يحتسيان القهوة في صمت تام، لعلها أصلح زوجة من أكثر من ناحية ولكنها ليست من يريد. وهبطت من السماء صورة أنسية رمضان فجلست بينهما ومحت المرأة محوا. منذ عهد السبيل الأثري لم يتحرك قلبه كما تحرك لهذه الفتاة الصغيرة. لانت أعصابه المتوترة وصفت نفسه وتلقى من الخيال نسمة منعشة أذكت أسمى عواطفه. ولما ذهبت المرأة وجد أم حسني تنظر إليه باهتمام تريد أن تطمئن على الوظيفة الحيوية التي ترعاها بعملها وإيمانها. باتت العجوز تعبد الزواج والإنجاب والأفراح وتسبح لله في معجزة الحب التي أبدعها. ولما طال سكونه قالت برجاء: لعلك غيرت رأيك؟ - لماذا؟ - ألم تر أنها مثل فلقة القمر؟
ولبث جامدا رافضا ممتنعا عن تناول يدها الحنون. فقالت باستياء: قالوا في الأمثال ...
غادر الحجرة قبل أن يسمع المثل. يا للخسارة! إذا لم يسعفه زواج قيم فقد يتبدد سعيه ويهدر أمله في وسط الطريق. وحياته أصبحت مثار تساؤلات وانتقادات لا حصر لها؛ فأناس يتساءلون لم لا يتزوج وينجب ويألف ويؤلف؟ وأناس يتساءلون كيف ينحصر في ذاته متجاهلا الأحداث التي تقع من حوله فينفعل بها المواطنون حتى الموت؟ وما هي الهموم التي تشغلهم وتستحوذ على أفئدتهم؟ إنها تتطاير مع أحاديثهم الصاخبة وتعطل أعمالهم. دواما يتحدثون عن الأولاد والأمراض والطعام ونظام الحكم وصراع الطبقات والأحزاب والحكم والأمثال والنكات. إنهم لا يحيون حياة حقيقية ويفرون من واجبهم المقدس. يجفلون من الاشتراك في السباق الرهيب مع الزمن والمجد والموت وتحقيق كلمة الله المضنون بها على غير أهلها.
22
جاءت أنسية رمضان لعرض ميزان البريد الشهري. كان صباح يوم من أيام الخريف والجو الرطيب يتسلل إلى حنايا النفس بالأسى العذب. نقل بصره بين الجدول الذي يراجعه وبين أصابع يديها المبسوطة على حافة المكتب. خيل إليه أن شيئا ما يتحرك في إحدى يديها. يتحرك ويقترب في زحف رشيق كأنه كلمة سر. يقينا أنها علبة صغيرة دستها بخفة تحت السومان بعد توكدها من رؤيته لها. - ما هذا؟
تساءل بصوت منخفض يتناسب غريزيا مع الحذر الذي اكتنف الحركة من أولها. رفع السومان قليلا فرأى علبة معدنية مفضضة بحجم نصف الكف. تساءل مرة أخرى: ما هذا؟
همست بوجه كالأرجوان: هدية بسيطة .. - هدية؟! .. ولكن ما المناسبة؟ - مناسبة سعيدة ..
بذهول وتشتت من شدة الانفعال: حقا؟ - ألا تتذكر؟
قال رغم أنه تذكر: ماذا؟ - اليوم عيد ميلادك!
تلقى موجة مترعة بنشوة الفرح. اليوم عيد ميلاده أو تاريخ ميلاده على الأصح. ولكنه يوم يمر كالأيام، ربما تذكره قبل حلوله بأيام أو بعد انقضائه بأيام أو حتى في ذات اليوم دون أن يكون لذلك أي أثر اللهم إلا مضاعفة الجزع على المستقبل. لم يحتفل به أبدا. لم يعرف ذلك التقليد. ولم تعرفه حارته العتيدة. ها هي أنسية تبشر بتقاليد جديدة، وجديدة أيضا مناورتها الطاهرة في التودد وقدرتها البارعة في فتح أبواب الرحمة. - الحق أني لا أعنى بتذكره .. - شيء غريب! - ولم كلفت خاطرك بذلك؟ - تحية متواضعة جدا. - إني عاجز عن شكرك. - لا داعي لذلك مطلقا. - كم أنك رقيقة مهذبة ولكن كيف عرفت تاريخ ميلادي؟
وضحك ثم قال مستدركا: آه .. نسيت .. اطلعت على ملف خدمتي الإداري وفضحت سني؟! - إنه سن العقل والنضج ..
مد لها يده فتصافحا. ضغط على يدها الرقيقة كغشاء من حرير. انثالت عليه الأفكار المعذبة طيلة الوقت. سيرد الهدية بأحسن منها في عيد ميلادها الذي سيعرفه من ملفها الإداري أيضا. ورغم سعادته المشرقة تمنى لو أنها اختارت وسيلة للتحية لا علاقة لها بالنقود، فإنفاق النقود يؤلمه ويخل بميزان حياته. ولكنه لم يهتم طويلا. إنه ينزلق في هاوية، يطير نحو المجهول، مفعم القلب بالمسرة والحنين. وقد ضغط على يدها فتلقت ذلك بابتسامة واعية راضية ومشجعة أيضا. وماذا بعد ذلك؟ هل يتفق وطريقه الأوحد؟ إنه يواجه ما هو أعظم من موقف دقيق عابر مفعم بعبير ساحر، إنه يواجه المجهول والقدر. إنه يطرق الباب الذي يوقفون وراءه الزمن أو يرجعونه خطوة إلى الوراء. وثمة نداء تردد أن ارجع وإلا هلكت! ولكن لم تستجب له أذن ولا قلب.
وقفت في اليوم التالي قبالته تراسله بنظرات تفيض بالطاعة والعذوبة. حرقت الحرارة رأسه وعنقه. انجذبت أصابعه إلى ملامسة أصابعها فوق الدوسيه المبسوط بينهما. أفضى إليها بتوجيهات مدغمة لا معنى لها. وفتشت عيناه المكان بحذر. مال رأسه حتى لثم فاها. تراجع إلى مقعده وهو ينتفض، يرتعش، يحترق، ثملا بخمر الحياة والخوف من المجهول.
23
وكان لقاء قبيل عصر الجمعة. تم نتيجة لتيار من الاستسلام لا يقاوم وبأمل في النجاة آخر الأمر. سماه تدهورا ولكنه كان محفوفا بالسعادة. ولم تكن له خبرة بأماكن اللقاءات السعيدة فاقترحت هي حديقة الأزبكية ولكنه اعترض قائلا إنها مكان مكشوف تحدق به الأعين من جميع الجهات. أما حديقة الحيوان فهي بعيدة بما فيه الكفاية، مهجورة، خارج العمران، ممتنعة عن الرقابة، يخوض الترام إليها حقولا وخلاء. ومشيا جنبا لجنب يستمتعان بحياة «حقيقية» في الساعات السابقة لميعاد الإغلاق. لم يكن رأى الحديقة منذ زارها في رحلة مدرسية. ولم تكن لديه فكرة عن أصول اللقاء، ما يقال وما لا يقال. ما يفعل وما لا يفعل. سارا صامتين سعيدين ولكن ثمة إحساسا غير مريح ناوشه، بأن اللقاء حدث شاذ وخطأ، بأنه ما كان ينبغي أن يستسلم. ودفعا لارتباكه ولمشاعره المحبطة أبدى إعجابه بالأشجار والقناطر والجبلاية والجداول والبحيرات وبأنواع شتى من الحيوان. ولبث مقتنعا بأنه لم ينطق بكلمة مفيدة بعد، وبأنه يحاول الهرب بعد فوات الأوان. وسارت إلى جانبه تسيل عيناها بنظرة حالمة وظافرة، مرفوعة الرأس، مسددة النهدين، يوحي منظرها بأنها مندفعة في مجرى من المطالب لا أفق له، وأنها تلتهم في نفسها أجمل أسرار الحياة. وتلاقت عيناهما فقرأ في ألقهما البراءة الناصعة والمكر العذب وسيالا من الرغبات المجهولة. قالت محتجة: حتى وأنا موظفة لا أستطيع أن أخرج إلى مثل هذا اللقاء بسهولة ..
فندت عنه نبرة أبوة مضحكة وهو يقول: لا تغضبي من أجل ذلك يا عزيزتي .. - ولكنه غير طبيعي ومهين .. - ترجمة غير دقيقة لعواطف الأمهات والآباء. - لا أعتقد أنك تؤمن بذلك .. - حقا؟!
فضحكت في ثقة كاملة ثم قالت مستدركة: لو عرفت ماما أنني سألقاك لما مانعت فيما أعتقد.
فقال بقلق: ولكنها لم تعرف؟
فعادها الضحك، وسكتت قليلا حتى جف ريقه تماما، ثم قالت: اللقاء سر كما اتفقنا. - طبعا يا عزيزتي. - الحق أني غير مقتنعة ..
واضح جدا أنها تود أن تعمل في النور. وما يعنيه ذلك واضح أيضا .. ترى هل بات تحت رحمتها؟ هل ترغمه الظروف على قبول ما ليس في مخططه؟ هل تحاصره عناصر هدم تبدد بصفة نهائية حلمه الوحيد المقدس الممتنع؟ .. وتحدى من خلال خواطره المخيفة المجهول فأنذره بالقتل، حتى خجل من أفكاره وهو يلحظ الغزال الأسمر الذي يثب متأبطا ذراعه في فرحة تباركها السحائب السابحة في سماء الحديقة. وسرعان ما صفت نفسه فدفن وساوسه، وهادن آماله الملحة، ليذوب في المفاتن المشرقة، ويتذوق السعير المشتعل في جوفه. ووجد أن كوعه يلامس جسدها اللدن، ويتلقى من مجاهيله الفتية إشعاعات من السحر، تفرس المكان حوله بنظرة متلصصة آثمة، ثم لثم خدها، وعنقها، ثم التقت شفتاهما. قال بصوت لم يعرفه: أنت فاتنة يا أنسية.
فابتسمت في حياء وسعادة فقال بحرارة: أود أن ..
وسكت هو يتنفس بصوت مسموع فتساءلت: هه؟ - كأنني أعرفك منذ الأزل ..
فابتسمت في رضى وإن طالبت عيناها بالمزيد. قال: ما أجمل المكان! كل شيء ينطق بجمال صارخ .. - أنت تحب الطبيعة!
وقع القول من أذنه موقعا غريبا وساخرا بقدر بعده عن واقعه. قال: أنت التي جعلت كل شيء جميلا .. - لا تبالغ، أتحب أن أصارحك بشيء؟ - جدا! - تبدو عادة غير مهتم بشيء. - حقا؟ .. وهل صدقت ما يبدو؟ - لا أدري، ولكنني شعرت بأنك لغز بقدر ما أنت طيب .. - لا معنى لذلك كله، الحقيقة الوحيدة المسلم بها هي أنك فاتنة .. - وبعد؟ - وما بيننا يجب أن يبقى إلى الأبد مهما يكن المصير! - المصير؟! - ألم يخبرك الملف الإداري بشيء غير طيب؟ - أبدا. - أنت أجمل شيء في حياتي ..
فقالت بهدوء واستسلام: وأنت كذلك ..
فلثم خدها من جديد وهو يضغط على راحتها بقوة وهمس: ما أشد حيرتي بين ما أريد وما أستطيع. - هل تريد شيئا ولا تستطيعه؟ - الدنيا مليئة بالرغائب الممتنعة .. - حدثني عما يخصني أنا ..
لها حق. ما زال فوه يندى بقبلتها. ما زال كوعه يلامس فتنتها الطرية، وهما يختالان أمام الفيل الذي يرفع خرطومه تحية لهما. - ليكن ما بيننا سرا. - لماذا؟ - كي لا يسيء أحد بنا الظن. - ولماذا يسيء بنا الظن؟ - هكذا الناس. - لا سوء بيننا. - ولكن هكذا الناس يا عزيزتي.
ضحكت بمرح وتساءلت: أدعوتني يا أستاذي لتعظني؟ - دعوتك لنتعارف ولأتوكد من أن قلبي على حق. - وماذا كانت النتيجة؟ - آمنت بأن القلب خير دليل!
تساءل طيلة الطريق لم لم يعترف لها بحبه صراحة؟ لم لم يطلب يدها؟ وعلى فرض أنها ستقلب حياته رأسا على عقب وستقيم له في محراب الحياة قبلة جديدة أليست هي أقدر على إسعاده من النجم القطبي؟!
24
جاءت أصيلة حجازي «الناظرة» بحجة السؤال عن نتيجة مسعاه. بذلك أخبرت أم حسني وهي تدعوه إلى شقتها. كان يعاني من همومه الثابتة بالإضافة إلى الحب الذي غزاه ليبلغ بحدة الصراع في نفسه درجة الجنون؛ لذلك رحب بزيارة أصيلة حجازي ليهرب من نفسه ولو ارتكب في سبيل ذلك حماقة مأمونة العواقب. كان بحاجة إلى الهرب ولم تكن قدرية في متناول يده كل يوم. صافح الناظرة. جلس وهو يقول: مسألتك تسير في طريق الحل ..
سرعان ما غنت مفاتن جسدها لحنها الجهنمي على أوتار فستانها المنقوش بالورد. وتساءلت وهي ترنو إليه بمودة: هل أنتظر طويلا؟
رأت أم حسني أن تذهب لإعداد القهوة فركبه تصميم جنوني على حسم الموضوع، وتوجيه ضربة غير متوقعة مستهينا بالعواقب. قال: لن تنتظري طويلا .. - بفضلك. - الحق أن كل شيء يتوقف على قوة أعصابك. - الظاهر أنه ينبغي أن أنتظر بعض الوقت؟
فقال بنبرة جديدة تماما كأنما يفتتح بها موضوعا جديدا لا صلة له بما قبله: اسمحي لي أن أصارحك بإعجابي!
فغضت بصرها موردة الوجنتين فقال: إنه إعجاب صادق، إعجاب رجل بامرأة، أنت تفهمين ذلك ..
فلم تنبس ولكنها تبدت سعيدة وعلى وشك دخول الجنة .. - ولكن يجب الحذر، يلزم المصارحة بأمر آخر لعله لا يروقك ..
لمحته مستطلعة فقال: فكرة الزواج مستحيلة!
راقبها وهي تتحول إلى رماد ثم قال بجرأة وبلا رحمة: عندي ألف سبب وسبب والدنيا أسرار ..
تساءلت بصوت مريض: ماذا دعاك لمصارحتي بذلك؟
فقال بلهجة مؤدبة وهو يمعن في قسوته: لسنا مراهقين فلنتكلم كراشدين ولنبحث عن سعادتنا بإخلاص وشجاعة .. - لا أفهم شيئا. - حسن، إني معجب بك ولكني أعزب أبدي. - لماذا تقول لي ذلك؟ - ربما وجدت عندك حلا للحال المستعصية.
فقالت باستياء شديد: إنك تجرح كرامتي بأسلوب غير إنساني .. - اعفي عني، إني أصارحك بدافع من عذاب شديد ..
لاذت بالصمت مقطبة فقال: يمكن أن تهبنا الشجاعة سعادة لا يستهان بها. - ماذا تقصد؟ - ألا يكفي أن أتكلم بالإشارة؟ - لا أظن أني فهمت قصدك ..
فقال بقحة لم يعهدها في نفسه من قبل: يلزمنا مكان آمن نلتقي فيه.
هتفت: عثمان أفندي!
فقال بدون مبالاة: سيكون مأوى رحيما لاثنين في حاجة إلى الحب والمعاشرة ..
قامت غاضبة وهي تقول: إما أن تذهب أو أذهب أنا .. - سأذهب ولكن فكري بالأمر بروية وعقل، ولا تنسي أنني رجل فقير!
25
لم تعد شعرة بيضاء واحدة يتعذر اكتشافها. كل فترة تطل شعرة جديدة بنظرة بيضاء باردة تنذر بإيقاع جديد للحياة. لعبة طارئة يتجرعها الإنسان بلا استساغة، ثم يجد نفسه وجها لوجه مع الحتم المؤجل. ويلقي نظرة على الحياة شاملة، يزن أعماله، يقيم ثماره، يتلقى أنفاس المجهول بامتعاض، يتوثب أكثر للصراع، يسلم بالهزيمة، ولكنه يأمل أن تحل مقدسة. لا خطوة قريبة في سلم الترقية، مدخره يتصاعد، توتره يشتد، جهده يتضاعف، علاقته بأنسية تتوطد ولكن في حذر، أما قدرية فتستحق أن توصف برفيقة العمر. في أعقاب صلاته يخاطب ربه: ما الحياة بغير وجودك يا رب.
ولكن يبدو أن الآخرين لا يتماسكون مثله، فقد دق جرس التليفون ذات يوم فإذا بالمتحدثة أصيلة حجازي الناظرة: أشكر لك وساطتك المثمرة. - العفو يا افندم. - وكيف حالك؟ - عال. الحمد لله. - إني سعيدة بسماع ذلك .. - شكرا. - ربنا لا يحرمنا منك. - كلك إنسانية.
ومضت ثوان من الصمت ثم واصلت: ولكن لي عليك عتاب. - لا سمح الله. - تركتك آخر مرة غاضبا، ألا تذكر؟ - آسف، لم يوجد سبب للغضب. - أتعتقد ذلك؟ - نعم. - ولكنك لم تسأل عني؟ - آسف، لم أعرف رقم تليفونك. - ولكني عرفت رقم تليفونك. - أكرر الأسف. - تمنيت أن تلطف الموقف بكلمة حلوة .. - إني على أتم الاستعداد. - حقا؟ - بكل توكيد. - كيف؟ - لنتفق على ذلك!
وهي تضحك ضحكة مكتومة: أوما زلت تشكو الفقر؟ - إنه قدر لا مفر منه. - من حسن حظنا أن عندي من المال الكفاية. - ربنا يزيدك. - هل تتوقع أن أصارحك أكثر من ذلك؟ - إني على أتم الاستعداد! - عظيم .. ليقم كل منا بما يخصه!
ما هو بالاستسلام ولكنه الانهيار. يستطيع أن يتخيل الواقع وراءه. العمر بها يتوسط ويميل نحو المنحدر، وهي تعاني الوحدة وترتعد أمام الشيخوخة المقبلة، لا شباب ولا جمال حقيقي. ثمة معركة لم يشهدها ولكنه يرى عواقبها المحزنة. ماذا يفعل؟ إنه يخاف أنسية ولا رغبة له حقيقية في أصيلة، يتمنى في لحظات يائسة لو يموت قلبه وتخمد شهوته لتطمئن نفسه في مسيرتها المضنية. وقال لنفسه في أسى: إني أعذر من يظنون بي الجنون!
26
متى وكيف يفرغ للبحث عن شقة وتأثيثها؟ ترك الأيام تمر وهو لا يفعل شيئا. أهمل الموضوع جملة وتفصيلا حتى وجدها - أصيلة - تقف أمام مكتبه! ابتسم مرحبا وهو يلعنها في باطنه. قالت: معذرة عن جرأتي ..
فابتسم صامتا. فقالت: لم يعد التليفون يكفي كي أفهمك ..
فقال بجدية تناسب مكان العمل: واضح أن الفراغ معدوم في هذه الأيام. - ماذا فعلت؟ - لا شيء. - أبدا؟ - لم يسمح العمل بدقيقة، صدقيني ..
كانت تتكلم بجرأة أشبه باليأس، حال من نفد صبره واشتدت مخاوفه. قالت: توقعت أن أجدك أكثر حماسة .. - الرغبة متوفرة أما الوقت فلا وقت عندي. - توجد شقة في روض الفرج ..
ومدت يدها بورقة مطوية واستطردت: إليك العنوان، عاينها بنفسك واشرع في تأثيثها.
ثم بنبرة إغراء وابتهال: أرجو أن تعجبك وأن تكون قدم السعد ..
رأى نارا تقترب وهي تصفر. وعقب اختفاء المرأة فكر بالليالي الطويلة التي ستلحق بليالي ألف ليلة وليلة، لا الليالي التي تنفق في الدراسة والترجمة وخدمة حضرة صاحب السعادة، قربانا على طريق المجد الذي اختاره منذ أول يوم كرمز متاح للأشواق اللانهائية. فترت رغبته في المرأة لشدة اندفاعها الأرعن وجودها بنفسها بلا تحفظ. إنها لا بأس بها لو تحل محل قدرية ولكنه رأى فيها نارا تقترب مصفرة تود أن تلتهمه هو وآماله المقدسة الموصولة بسر كلمة الله العظيم. لن يسمح لقوة أن تقتله إلا الموت نفسه باعتباره سرا من أسرار الله مثل مجده الملهم، وما دامت الزوجة المجهولة التي سعى إليها طويلا لم تقبله فلا يصح أن ينهزم ويستسلم لتسول الأرامل والعوانس.
وسمع نقرا على باب حجرته. ذهل عندما رأى أصيلة وهي تتسلل إلى الداخل متعثرة في خجلها وذلها، قالت بارتباك: صح عزمي على المجيء، وقلت لنفسي إذا لمحتني عين قصدت شقة أم حسني كأنما جئت أصلا لزيارتها ..
وجلست على الكنبة وهي تلهث فقال ملاطفا: فكرة طيبة .. - هل ضايقك حضوري؟
فقال والنشاط يدب في أعماقه: بل سرني فوق ما تتصورين .. - ولن تلبث أم حسني حتى تنام، هل يكدرك أن تشك العجوز فيما حصل؟ - ألبتة ..
وتبادلا نظرة طويلة تبدت تحت سيالها الغامض امرأة عارية من أي أثر للكبرياء، محض عاشقة مهدرة الدفاع. وسألته برقة ورجاء: ماذا فعلت؟
أفاق تماما من الدهشة. صدفت نفسه عن أي موضوع وتركزت في الرغبة المتجسدة في صورة امرأة مستسلمة. تناول يدها البضة الباردة بعد أن شفط القلب المتقلص الدم من الأطراف. وضغط عليها ضغطات متوترة باعثا برسائله الخفية. لم تتوقع ذلك أو بذلك تظاهرت. أرادت أن تسحب يدها فلم يسمح لها فقالت: ماذا فعلت؟ - سنناقش ذلك فيما بعد .. - ولكنك لم تحاول الاتصال بي؟
مال نحوها حتى قبل خدها وهمس في أذنها: فيما بعد .. فيما بعد .. - ولكني جئت لذلك. - سيكون لك ما قصدت ولكن فيما بعد.
همت بالكلام ولكنه سد فاها بقبلة غليظة وطويلة وهو يقول بحدة: فيما بعد ..
وأعلن لحن الألحان اللانهائية للطبيعة عن تغريده المتجسد بنشاط موفور وفرحة كالمعجزة. وسرعان ما خفت تغريده حتى العدم متراجعا إلى نوم أبدي، مخلفا وراءه صمتا مريبا وراحة فاترة مشبعة بالأسى. رقد على جنبه فوق الفراش على حين انحطت فوق الكنبة معرضة قميصها وحبات العرق فوق الجبين لضوء المصباح العاري. نظر إلى لا شيء لا ينشد شيئا كأنما قد أدى المطلوب منه في الحياة الدنيا. وحانت منه التفاتة إليها فأنكرها كلية. كأنها شيء غريب يخرج من باطن الليل، غير الكائن السحري الذي جره إلى السعير، شيء أخرس بلا تاريخ ولا مستقبل له. وقال لنفسه إن لعبة الرغبة والنفور ما هي إلا تمرين على الموت، والبعث، وإدراك مسبق لقبول المأساة بعظمة تناسب المجهول فيما يبدي من لمحات خاطفة عن ذاته اللانهائية. ودرجة المدير العام آية أخرى ولكنها تجل للإرادة الشامخة لا للاستسلام العذب! وحمدا لله فقد تحصن بالبرود العاقل والقاتل أيضا. وها هي المرأة ترغب بلا شك في العودة إلى موضوعها الهام ولكن من خلال تردد وخجل. تتمنى لو يبدأ هو. ولما يئست نظرت إليه بابتهال وأسى وغمغمت: نعم؟
عجب لغرابة صوتها وتطفله على وحدته المقدسة، ووجد نحوها نفورا ثابتا يوشك أن يصير كراهية. إنها تريد أن تهدم البناء الذي يشيده حجرا على حجر. سألت: ماذا قلت؟
ركبه عنف طبعه المستتر المستمد من أعماق حارته قال: لا شيء. - ولكنك فعلت شيئا بلا ريب؟ - أبدا. - ألم تعاين الشقة؟ - كلا.
فاسود وجهها من الحزن وقالت: معذرة .. هل ينبغي أن أضع النقود بين يديك؟ - كلا. - الحق أني لا أفهمك .. - إني واضح جدا. - ماذا تعني! .. لا تعذبني من فضلك. - ليس في نيتي أن أفعل شيئا ..
فقالت بنبرة مرتعشة: اعتقدت أنك وافقت ووعدت .. - ليس في نيتي أن أفعل شيئا .. - إذا لم يكن لديك وقت الآن ... - لا وقت لدي .. ولن أجده في المستقبل ..
تنفست أصيلة بصعوبة وقالت بصوت متهافت: صدقت أن شعورك مختلف ..
فاعترف قائلا: لا خير في، هذه هي الحقيقة ..
تراجعت كأنما طعنت. ارتدت فستانها في عجلة. ولكنها انهارت على الكنبة مرة أخرى في إعياء أسندت معه رأسها إلى كفها وأغمضت عينيها حتى توقع أن يغمى عليها. دق قلبه بعنف أيقظه من فتوره وقسوته. لو وقع ما ليس في حسبان فربما يتعرض لفضيحة منذرة بأوخم العواقب. الطريق شاق ومرير رغم ما يتمتع به من حسن السمعة، فكيف إذا دهمته فضيحة مما ترحب الصحف بالحديث عنها؟! أوشك أن يغير سياسته كلها، أن يخاطر بكذبة جديدة، ولكنها تحركت في آخر لحظة. قامت بشيء من الصعوبة، مضت نحو الباب بهدوء وأسى، ثم اختفت عن نظره. تنهد في ارتياح عميق. قام إلى النافذة ينظر إلى الحارة شبه المظلمة حتى رأى شبحها يمرق من الباب، ثم يوغل نحو طرف الحارة الموصل إلى الجمالية، وسرعان ما ذابت في الظلام تماما.
وقال لنفسه: إن أحدا لا يعلم الغيب؛ ولذلك يتعذر الحكم الشامل على أي فعل من فعالنا، بيد أن تحديد هدف للإنسان يعتبر هاديا في الظلام وعذرا في تضارب الحظوظ والأحداث، وهو مثال على ما يبدو أن الطبيعة تترسمه في خطواتها اللانهائية.
27
أما أنسية رمضان فهو يحبها. عليه أن يعترف بذلك أمام ضميره وأمام الله. منذ عهد السبيل الأثري لم يصدر عن قلبه مثل هذا اللحن العذب؛ ولذلك فعليه أن يخشاها أكثر من أي امرأة أخرى في الوجود. وهي أيضا تحبه؛ مما يضاعف من خطورة الأمر. العروس التي لا تدفع إلى الأمام ترجع إلى الوراء. ولعله كان يتزوجها بلا تردد لو أن الذي بينه وبين درجة حضرة صاحب السعادة خطوة واحدة، أما والحال على ما هو عليه فلن يجني من الزواج سوى المتاعب والهموم اليومية التي تستهلك القوى البشرية في غير ما خلقت له.
وجاءه يوما حسين أفندي جميل ليعرض البريد كالمعتاد، فلما وقع عليه بتوجيهاته لم يذهب كالمتوقع. إنه شاب من موظفي المحفوظات عمل تحت رئاسته خمس سنوات متتابعة وعرف بالمواظبة وحسن السلوك. - أتريد شيئا يا حسين أفندي؟
إنه مضطرب بصورة واضحة، ويريد أن يتمخض عن شيء، أي شيء؟ - ما لك؟ .. أهو أمر يتعلق بالعمل؟
اقترب الشاب أكثر كأنما ليضمن عدم وصول صوته إلى الآخرين، وقال: يوجد شيء يا حضرة الريس. - ما هو يا ابني؟ - آسف، ولكن لا بد من الكلام. - عظيم .. إني مصغ إليك.
وسكت ليتأهب ثم قال: الأمر يتعلق بالآنسة أنسية رمضان.
فيما بعد قال لنفسه أنه لم يسمع الاسم أو أنه سمعه ولم يفقه له معنى. قال بذهول: هيه؟ - أنسية رمضان! - زميلتك؟ .. ماذا عنها؟
فقال بصوت لا يكاد يسمع: الحق أني أحبها ..
فقطب عثمان وقلبه يترنح. تساءل مستنكرا: وما شأني أنا بذلك؟ - أردت أن أخطبها .. - كلام معقول ولكن ما شأني أنا؟
فأطرق وهو يتمتم: ولكن سعادتك ..
ارتعدت مفاصله. رمقه مستطلعا في استسلام: ماذا عني؟ - سعادتك تعلم بكل شيء .. - أي شيء من فضلك؟ - الحق أنه لولاك لتقدمت لخطبتها ..
أيقن أنه هلك. لم يعد لشيء قيمة. ولا الحياة نفسها. تساءل: لولاي؟
فقال الشاب بوجوم: شاهدت كل شيء، هنا وفي الخارج!
بقوة اليأس نفسه توثب للدفاع المستميت. لم يحزن لحبه الضائع بقدر ما خاف على «مركزه». قال: أنت شاب سيئ الظن، ماذا شاهدت؟ ماذا شاهدت يا مسكين؟ ولكن هكذا هم المحبون، طالما عاملتها كابنة من صلبي، علاقة هي البراءة نفسها، كم أخشى أن تكون قد أسأت إلى سمعتها بلسانك وأنت لا تدري ولا تقصد!
فقال الشاب ببراءة وحزن جليل: إني أعرف متى وكيف أكتم أحزاني وأحافظ على سمعة من أحبهم!
فقال وهو يتنهد: أحسنت .. أحسنت ..
ثم وموجة من الأسى تجتاحه:
من شدة رد الفعل، والشعور غير المتوقع بالنجاة اضطربت معدته فغزاه إحساس بالغثيان قال: مثلك يستحق أن يسعد بمن يحب ..
مضى عنه معذبه. بقي وحده مع حزنه. وتجسد الحزن وتهول فصار كالقدر نفسه. وأعاد إليه ذكرى حزنه القديم في الليالي الطويلة. وقال لنفسه إن الحياة لو تقيم بحظها من السرور فإن حياته تعتبر ضياعا وهباء. لم يقتضينا الجلال هذا الشقاء كله؟!
28
دعا أنسية إلى مقابلته في صحراء الهرم صباح الجمعة. هيأ للقاء تلك المرة بحذر أشد من المعتاد، فدس لها ورقة سمى فيها الميعاد وخط السير على أن يذهب كل منهما منفردا. كان صباحا من أصابيح الشتاء الجاف البارد ولكن أشعة الشمس كستهما كساء دافئا ومنعشا. وكان يرنو إليها طيلة الوقت بحزن صادق رغم اقتناعه بأنه يقوم أساسا بتمثيل دور قاس وقذر. ومن أول الأمر بدت الفتاة قلقة على غير عادتها، وقالت له: شعرت بشيء غير عادي فانقبض قلبي ..
فقال لنفسه إن للمرأة غريزة تغنيها عن العقل في معرفة شئونها الصميمة. وإنه لو كان للإنسان عموما غريزة مثلها لمعرفة المجهول لما ظل مجهولا حتى الآن. واشتد حزنه وهو يقول: الحق أن الأمر يستحق التفكير. - أي أمر تقصد؟ - علاقتنا الحميمة المقدسة. - ماذا عنها؟ - لعلك عجبت من صمتي، ناقشنا كل شيء إلا الجوهر، ولم تدركي طبعا أنني كنت أحترق وأتعذب طيلة الوقت ..
فلمست ذراعه بإشفاق وقالت: أعترف لك بأن قلبي يزداد انقباضا! - وأنا أعترف بأنني رجل أناني.
فرفضت ذلك بإصرار قائلة: كلا، لست أنانيا على الإطلاق. - أناني بكل معنى الكلمة، وبسبب أنانيتي شجعتك وأوهمتك فتمادينا إلى ما لا نهاية، لن أغفر لنفسي ذلك أبدا. - لم تفعل إلا ما هو نبيل وطيب! - لا تدافعي عني، لعلك تساءلت كثيرا متى يتكلم هذا الرجل، ماذا يريد مني؟ حتى متى نتلاقى ونفترق بلا تقدم حقيقي، هل يتسلى بي؟! - لم أظن بك سوءا قط! - أنا نفسي طرحتها مرات عديدة، ولكن غلبني الاستسلام الوهمي للسعادة فلم أحسم الأمر قبل أن يستفحل، وكم صممت على مصارحتك بالحقيقة ثم أضعف وأستسلم!
تساءلت بصوت يدل على الخيبة: تصارحني بماذا؟ - آه .. لم لم أعرض عليك الزواج؟
اختلجت عيناها وهي تسمع الكلمة المحبوبة، نظرت إليه بإشفاق، تحولت عنه متطلعة للمجهول وكأنها تصلي صلاة صامتة لدفع البلاء. - طبعا ساءلت نفسك عن ذلك وإلا فما معنى الحياة؟
أطرقت كأن رغبتها في معرفة المزيد قد فترت لعدم توقعها أي خير، أما هو فواصل قائلا: إني مريض .. - لا ..
ندت عنها بخوف صادق فقال: لا أصلح للزواج!
حدقت فيه بذهول فمضى: لا يغرنك منظري فمرضي ليس في القلب أو الصدر ولكنه يعوق تماما عن الزواج ..
أطرق كالمحزون فسمع تنهدة حادة مزقت قلبه. أوشك أن يتحرر من كافة التزاماته وأن يكب على قدميها بشفتيه وأن يمضي بها إلى المأذون، ولكن القوة الأخرى صدته وجمدته. - لم أهمل، ذهبت إلى أكثر من طبيب، لم أفقد الأمل، ولولا ذلك لصارحتك من زمن بعيد، ولكن لا فائدة، لا يجوز أن أستأثر بك أكثر من ذلك وإلا قضيت على مستقبلك إلى الأبد! - ولكن كيف أستقبل الحياة بدونك؟ - أنت صغيرة، جرح الشباب سريع الالتئام. - لا أصدق، إنه كابوس. - لا يجوز التمادي في الخطأ بعد ذلك. - لا أصدق .. - كل مصيبة غير متوقعة فهي لا تصدق ولكن الحياة تبدو أحيانا سلسلة من المصائب غير المتوقعة، ولكن عليك أن تهتدي إلى سبيلك قبل ضياع الفرصة ..
فتمزق صوتها بالجزع وهي تسأله: ماذا تريد؟ - أن نكف عن السير في طريق مسدود! - لا أستطيع. - لا بد مما ليس منه بد، فمن الجنون أن نستمر ..
وتجنب النظر إليها. كان قد نفذ خطته حتى النهاية بنجاح وإحكام. وبنجاحها الوحشي وجد نفسه في الفراغ منفردا بعذاب أليم، مكللا بعار الجحيم، بلا إيمان ولا عزاء. وقال لنفسه إنه لا نجاة له إلا بالجنون. الجنون وحده هو الذي يتسع للإيمان والكفر، للمجد والخزي، للحب والخداع، للصدق والكذب، أما العقل فكيف يتحمل هذه الحياة الغريبة؟ .. كيف يشيم ألق النجوم وهو مغروس حتى قمة رأسه في الوحل؟!
وبكى طويلا في الليل ..
29
بدا أن ظلمة السحب تنضح بشعاع يهفو خلفها. فقد علم بأن أنسية رمضان خطبت إلى حسين جميل. سعد بالخبر باعتباره بشير النجاة وقال لنفسه: أستطيع الآن أن أحزن على الحب الضائع ببال رائق لا تعكره المخاوف، أستطيع أن أنهل من العذاب حتى أستنفده وأتحرر منه، وإني بذلك لخبير ..
ولم يكن صادف في حياته من هي أكفأ منها على إسعاده. ولا سيدة نفسها. جميلة وذكية وطاهرة، وقد أحبته بصدق ونقاء. وبات يؤمن بأنه لن يظفر بمثلها مهما ابتسم له الحظ وأنه جزاء عادل على أي حال.
وحمل تيار الزمن حدثا آخر؛ فقد تخلف حمزة السويفي عن العمل، وعرف في الإدارة أنه يعاني أزمة ضغط جديدة أشد من الأولى وأخطر. ومضى إليه يعوده. ووجده راقدا في استسلام كامل هذه المرة وأطياف من العالم الآخر تلوح في نظرة عينيه الغائمة. تأثر لمنظره ورأى فيه المنظر الأخير الذي يترصد الجميع بمختلف درجاتهم. وقال له: سلمت أيها الإنسان الكريم ..
ابتسم المدير ممتنا، ومتسولا أي كلمة طيبة في ضعفه الداهم: أشكرك يا أخي، أنت رجل نبيل بقدر ما أنت كفء وقادر. - ما هي إلا سحابة تمر ثم تعود لتتربع فوق كرسيك العظيم ..
فتقلص وجه الرجل ليمنع دمعة وقال: الحق أني لن أعود ..
فقال محتجا: لا سمح الله .. - ولكنها الحقيقة يا أستاذ عثمان. - أنت دائما تبالغ .. - ولكنه تقرير الطبيب، قال لي صراحة أنني بالطاعة والدقة أنجو من الأزمة ولكن علي أن أعتزل العمل فورا ..
غلب الأسى على عواطفه المتضاربة فقال: ولكن رحمة الله واسعة ومعجزاته لا نهاية لها .. - لا أهمية للحرص على العمل، لقد زوجت البنات، والابن الأخير في السنة النهائية من كلية الزراعة، أديت رسالتي كما ترى، وما أحتاجه الآن فهو راحة البال. - متعك الله بكل طيب.
قال بفخار رغم وهنه وتعبه: الحمد لله، قمت بواجبي في الوزارة كما تعلم، وأديت رسالتي نحو الأسرة، وعشت كما سأعيش مستورا كثير الأحباب والأصدقاء، فيم يطمع المرء أكثر من ذلك؟ - أنت ذلك وأكثر يا صاحب الفضل والفضيلة. - نحن نمضي واحدا في أثر واحد ، هل تذكر المرحوم سعفان بسيوني؟ كل من عليها فان، ولكن العمل الطيب يبقى إلى الأبد. - صدقت في كل ما قلت ..
ونظر إليه طويلا ثم قال: وفقك الله إلى ما فيه صلاحك.
اشتد به التأثر. وبقي التأثر معه طويلا. وامتلأ في حينه بالعبرة والموعظة حال الراجع من دفن عزيز. ولكنه أفاق في الوقت المناسب كذلك. وقال لنفسه: إن أحزان الدنيا توجد لا لتثبط الهمة ولكن لتشحذها ..
واتجه تفكيره بكل قوة إلى الدرجة التي ستخلو قريبا. وهو لا يختلف اثنان في الشهادة له بالقدرة والاستقامة والورع. بل هو أكفأ من وكيلي الإدارة ولكن أحدهما في الثانية والآخر في الثالثة، ولو جرى العدل بغير اعتبار إلا للكفاءة وحدها لكان أحق منهما بدرجة مدير الإدارة، ولكن كيف يثب من الرابعة إلى الأولى دفعة واحدة؟!
وأحيل حمزة السويفي إلى المعاش بناء على طلبه. وأجريت حركة ترقيات شاملة في الإدارة من الثامنة إلى الأولى، فرقي إسماعيل فائق إلى درجة المدير، كما رقي عثمان بيومي إلى الدرجة الثالثة وكيلا للإدارة. وهكذا غير ضغط الدم شتى المصائر سلبا وإيجابا. وسعد عثمان بالترقية يوما ولكن سرعان ما أدركه الفتور، لقد كان حمزة السويفي موظفا قديرا ولكن لا يوجد بعده من هو أحق بمركزه منه هو، وأنه لمن المضحك المبكي أن يقدم رجل مثل إسماعيل فائق مديرا للإدارة. ومضى إلى حضرة صاحب السعادة المدير العام ليشكره. ولم يكن بداخله شك في أنه أقرب الموظفين إلى قلبه وتقديره، وأنه يعتمد عليه في أعمال الإدارة ونشاطه الخاص على السواء. صافحه، وأعرب لسعادته عن شكره بلسان بليغ. وقال صاحب السعادة: إنك لم تعرف الظروف كلها، لقد تراكمت على مكتبي التوصيات من الوزير والوكيل والشيوخ والنواب ..
ونظر إليه مليا ثم استطرد: قلت لكم ما تشاءون إلا درجة واحدة لرجل وساطته هي مقدرته وخلقه.
فلهج بالشكر لسانه وكتم في القلب أحزانه فعاد صاحب السعادة يقول: لا خفاء بيننا في أن إسماعيل فائق ضعيف وجاهل.
فقال بامتعاض: لا خلاف على ذلك يا صاحب السعادة .. - فالثقل سيقع عليك وحدك بالرغم من أنك الوكيل الثاني. - إني في الخدمة دائما ..
فقال بهجت نور متأسفا: ماذا كان في وسعي أن أفعل؟ .. إنه كما تعلم من أقرباء الوكيل. - لا لوم عليك يا صاحب السعادة .. - على أي حال مبارك ومصيرك أن تنال حقك كاملا غير منقوص ..
ورجع راضيا بعض الشيء ولكن امتعاضه مضى يتصاعد فنسي فرحة الترقية. ولعن الجميع بغير استثناء. وقال جزعا: العمر أسرع من جميع حركات الترقيات!
وودع موظفي الأرشيف فصافحهم وهو يتلقى تهانيهم، وعندما جاءت أنسية لمصافحته لاحظ - في دوامة من الانفعالات المتضاربة - أن بطنها يتخلق بصورة جديدة وسعيدة! زوجة وحبلى ولا شك أن حسين سيسعد سعادة خاصة بنقله إلى الإدارة. وجلس في الإدارة كوكيل ثان ولكنه شعر باستعلاء على من حوله، وبأنه أهل الثقة الأولى، وبأنه الحجة في الإدارة واللوائح والميزانية فضلا عن دراسته للقانون والاقتصاد وثقافته العامة وتفوقه الراسخ في اللغات. وتساءل: ما قيمة هذه المزايا حيال سرعة العمر أو أمام مرض مباغت؟!
وتوكد لديه أن الوكيل الأول والمدير أصغر منه في السن، وأن الدرجات لن تخلو إلا بمعجزة مجهولة، أو بوفاة عاجلة، أو بحادث يقع في الطريق! - أستغفرك اللهم لأفكاري وتمنياتي ..
وكان كلاهما يتمتع بصحة جيدة وطبع بهيج وجهل مطبق وعقل مغلق. وإن أي درجة سوى الدرجة المرموقة لا يمكن أن تبرر التضحيات الجسيمة التي بذلها من عمره وسعادته وراحة باله. ولعله لم يشعر في أي وقت مضى بما يشعر به الآن من حاجته إلى زوجة قوية رافعة، قبل أن تنقضي مدة خدمته أو يفاجئه مرض أو يدهمه الموت؛ لذلك طلب من أم حسني أن تخاطب أم زينب بشأنه من جديد بعد أن رفعه الله إلى الدرجة الثالثة كوكيل للإدارة. وفي تلك الأيام ضاعف من حذره وهو ذاهب إلى قدرية بالدرب. تراءى له أن يتنكر في ملابس بلدية حتى لا تعرفه عين، ومضى إليها بجلباب فضفاض وعباءة ولاسة فلم تعرفه حتى سمعت صوته. ولما عرفته ضحكت كما لم تضحك من قبل وسألته: رفتوك من الحكومة؟
وكان العمر ينحدر بها رويدا رويدا، فتمادت في الضخامة والانطباع بطابع الفحش والشهوانية، ولكن العلاقة بينهما توثقت وداخلتها ألفة إنسانية. وقد مر معها بجميع الأطوار من الرغبة إلى الملل ثم إلى العادة التي لا يسهل الاستغناء عنها. وباتت هي والحجرة العارية والنبيذ الجهنمي عناصر متكاملة وحميمة وأليفة، تهبه الراحة والتأمل والأسى، وتدفعه إلى مواجهة الحياة في بدائيتها القاسية، غير مبال بسلوك صاحبته الحيادي وتصرفاتها المهينة، مما لم يحرمه - وهو معها - من وحدته المقدسة. وكان يقول لنفسه: عجيب أنني لم أمارس الحب مع امرأة عادية إلا مرة واحدة رغم هذا التقدم في العمر!
وتذكر أصيلة، فتذكر بالتالي أنها كانت جريمة وليست ممارسة للحب. وقال أيضا: توجد معاشرة صحية إنسانية.
ثم وهو يتنهد: كما يوجد المجد.
ثم وهو يتنهد بعمق أكثر: وكما يوجد الله وهو أصل كل شيء ..
ثم وهو يتنهد بعمق أكثر وأكثر: ونحن نتذكره بالخير ونتذكره أيضا بالشر!
30
ظهرت أمارات العجز على أم حسني رغم صمودها للزمن فضعف بصرها حتى الحضيض، وأصابها عرج، فلا تمشي إلا متوكئة على عصا هي يد مكنسة قديمة. ويئس هو تماما من أم زينب حتى قال لنفسه حانقا: إن الذين يثرثرون حول صراع الطبقات لهم عذرهم!
ولم تعد أم حسني تصلح لعملها الجليل؛ أصابها ما يشبه الخرف، وعرضت عليه يوما عروسا ناسية أنها انتقلت إلى رحمة الله منذ أعوام. ومرة - عقب صلاة الجمعة - وكان يجلس في الكلوب المصري رأى أصيلة وهي تسير بصحبة سيدة أخرى. عرفها من أول نظرة، رغم أنها تغيرت لدرجة أزعجته. تهدلت ككرة مثقوبة، وجف ينبوع الأنوثة من وجهها، وحل محله خيال غامض لا هو أنثى ولا هو ذكر. مضت بخطوات فظة مثالا للتعاسة والتدهور. وشيء قال له إن الموت يطاردها، وإنه يقترب من زمانه ومكانه، وأن زمانه الذي تقدس بالخلود يوما مضت تنقشع عنه الأوهام العذبة، وتتجلى له الحقيقة الأبدية المتعالية بجلال قسوتها. ألا زالت تذكره أصيلة؟ لا يمكن أن تنساه، لقد نفذ إلى أعماقها بثقله وغدره وأنانيته مخلفا وراءه الكراهية واللعنة . أما أقران صباه فهم يحترفون الحقارة ويتكاثرون بالذرية، ويملئون الجو بقهقهاتهم. وضاعت تماما عواطف الطفولة البريئة وخيالاتها الجامحة، طمرت تحت طبقات كثيفة من التراب، مثل حارة الحسيني، التي تغير جلدها، ربوع كثيرة تهدمت وقامت مكانها عمائر صغيرة، وشيدت زاوية مكان موقف الحمير، وكثيرون من أهل الحي هاجروا إلى المذبح، كل شيء يتغير، النور والمياه دخلت البيوت، والراديو يصخب ليل نهار، والملاءة اللف تتوارى، حتى الخير والشر يتجددان ويتنوعان. كل ذلك يحدث وهو ما زال في الدرجة الثالثة، مع عمره المتقدم، أهذا جزاء الجهد الخارق والتفاني الجليل؟ ألم يعلموا بأنه إنسان تلخص في خبرة مؤيدة بالعلم والعمل؟ وأن مذكراته الرسمية وبياناته الخاصة بالميزانية وفتاواه الرائدة في الإدارة والمخازن والمشتريات لو جمعت في كتاب لكانت دائرة معارف في الشئون الحكومية؟ خبرة نيرة منزوية في وظيفة وكيل ثان للإدارة كأنها مصباح كهربائي قوة خمسمائة شمعة ثبتت في جدار مرحاض زاوية بقرية! وقال لنفسه أيضا إن الموظف مضمون غامض لم يفهم على وجهه الصحيح بعد. الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو رجل صناعة أو بحارا فهو في مصر الموظف. وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا معينا من قبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية. ووادينا وادي فلاحين طيبين يحنون الهامات نحو أرض طيبة ولكن رءوسهم ترتفع لدى انتظامهم في سلك الوظائف، حينذاك يتطلعون إلى فوق، إلى سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة في السماء. الوظيفة خدمة الناس وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية وعبادة لله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء.
ومضى ذات يوم للتفتيش في المحفوظات. وهناك رأى أنسية وقد انتقلت إلى طور النضج الأنثوي والوظيفي أيضا فأصبحت مراجعة في الوظيفة التي خلت بانتقال زوجها إلى وزارة المعارف. ولم يتمالك أن قال لها وهو يصافحها: أيام ..
فابتسمت في حياء صادق فقال: سعيدة إن شاء الله؟ - الحمد لله. - فقال بعد تردد وبإغراء لم يستطع مقاومته: من حسن الحظ أننا ننسى.
فقالت ببساطة ومودة: لا شيء ينسى ولا شيء يبقى!
وتفكر في قولها طويلا. وغادر المحفوظات وهو يقول لنفسه: يا أنسية أحببتك كثيرا في الأيام الخالية.
وعاد إلى مكتبه فوجد نشرة مرسلة من إدارة العلاقات العامة عرف من شكلها أنها تحمل نعي موظف أو قريب له. قرأ: «انتقل صباح اليوم إلى رحمة الله المغفور له إسماعيل بك فائق مدير الإدارة، وستشيع الجنازة ..» إلخ.
أعاد القراءة. قرأ الاسم مرات. مستحيل. كان حتى الأمس يباشر عمله وهو في غاية من الصحة والنشاط. وقد شرب قهوة الصباح معه في مكتبه، وكان الرجل يقول مرددا اهتماماته المعروفة: البلد يموج بالأفكار المتضاربة ..
فابتسم عثمان ولم ينبس فقال إسماعيل: كل واحد يعتقد أنه رسول العناية الإلهية.
وهز رأسه ثم تساءل: بأي عقل نشرع في إعداد الحساب الختامي؟
فأجاب عثمان بهدوء ساخر: بعقلي أنا!
فضحك الرجل ضحكة عالية. وكان يسلم بكفاءة مرءوسه وأنه العمود الفقري للإدارة. لم تكن بينهما مودة ولا عداء. رباه كيف مات الرجل! وذهب إلى الوكيل الأول المعروف بصلته الحميمة بالراحل وسأله: هل عندك علم عن هذه المصيبة؟
فأجاب الوكيل الأول بذهول: شرع في تناول الإفطار، ثم شعر بتعب مفاجئ فقام ليستلقي على ديوان، ولما لحقت به حرمه لترى ما به وجدته جثة هامدة!
إن ما يوفر لنا بعض الطمأنينة هو اعتقادنا بأن الموت منطقي، يمارس وظيفته من خلال مقدمات ونتائج. ولكنه كثيرا ما يدهمنا بلا نذير كزلزال. تمتع إسماعيل حتى آخر لحظة بكامل حيويته. وما حدث له قد يحدث لأي إنسان، أليس كذلك؟ وهكذا فلا ضمان ألبتة لصحة أو لخبرة أو لعلم. وهزه الخوف من أعماقه. - خير تعريف للحياة أنها لا شيء ..
ولكن هل وقع جديد لم يكن له به علم؟ كلا غير أنه ليس من سمع كمن رأى. وسيستمر خوفه يوما أو يوما وبعض يوم. وفي تلك الساعات تتساوى المكاسب والخسائر، والمسرات والأحزان، وتتوارى معاني الأشياء. - ما قيمة ما بذلت طيلة العمر من جهد وتفان؟!
ولازمته وساوسه في الجنازة، والمأتم، وحتى أحاديث الموظفين المتنوعة في المأتم لم تلغ وساوسه، ولكنه شعر بامتنان لأنه ما زال حيا. - ما البطولة الحقة؟ .. هي أننا نعمل بلا هوادة رغم علمنا بكل ذلك.
وسرعان ما طرد التفكير في درجة مدير الإدارة ما عداه. إن الوكيل الأول مرشح لوظيفة في القضاء، والطريق واضح بعد ذلك، وهو أن يرقى إلى الثانية ويندب مديرا للإدارة فيستحق الترقية إليها بعد مضي عام على شغلها.
تجسد له الأمل حقيقة ملموسة.
ولكنه بوغت بقرار تعيين مدير إدارة جديد نقلا من وزارة المواصلات ..
31
لا .. لا .. لا ..
ذاك ما لم يخطر له ببال. وحقد على حضرة صاحب السعادة بهجت نور ولعنه ألف لعنة. هو من كان ينبغي أن يدافع عنه. عليهم اللعنة .. هل يتصورون أن يعمل لحساب غيره طول عمره؟ ومن هو المدير الجديد، من يكون عبد الله وجدي هذا؟ كيف يقدم له نفسه كمرءوس؟ إنه لشيء مخجل. الخجل يطارده في أروقة الوزارة، وما أكثر الشامتين.
ودعاه بهجت نور إلى مقابلته وقال له: إني آسف جدا يا أستاذ عثمان ..
فقال له صراحة: إنه اليأس من الحياة الفاضلة .. - لا .. لا، إنه قريب الوزير! - إني أحسد الموظفين الكسالى. - أكرر الأسف، وأخبرك بأن سعادة وكيل الوزارة آسف أيضا ..
وتمهل دقيقة ثم قال: لا تيأس، فالرأي متفق على ترقيتك وكيلا أول عقب نقل شاغلها مباشرة في هذا الشهر ..
لا فائدة. الدرجات لا تهمه إلا باعتبارها وسيلة لأمله المنشود الذي كرس له العمر. والمدير الجديد في الأربعين من عمره. شاب أو أكثر من ذلك بقليل. وإذا سارت الأمور سيرها الطبيعي فسوف يحال على المعاش وهو وكيل للإدارة أو وهو مديرها على الأكثر إذا وقعت معجزة. تبدد حلم الحياة وبات مستحيلا. ومات الماضي بعد أن تمخض عن وهم أسود. ولعله كان خيرا له لو أقام حياته كأبيه فوق الكارو. ولأول مرة في حياته يدهمه اليأس، فقد بدت نهاية العمر أقرب كثيرا من جوهرة الأمل. وفكرة جديدة تسلطت عليه بقوة قاهرة لم يعهدها من قبل هي الزواج. لا يجوز تأجيلها بعد اليوم ولا فائدة ترجى من تأجيلها. وبحسبه أن ضاعت أطيب فترات العمر الصالحة للحب والزواج. ما أشد حاجته إلى شريكة، إلى عاطفة صادقة، إلى مشاركة أمينة، إلى دفء البيت، إلى الذرية، إلى علاقة إنسانية، إلى قلب ويد ولسان، إلى ملجأ من العذاب، إلى درع ضد الموت، إلى منقذ من الضياع، إلى محراب مناسب للإيمان، إلى محطة راحة من الأحلام الخرقاء، إلى هدنة مع الحرص والحرمان والوحشة. - المرأة هي الحياة، الموت نفسه يكلل بجلاله الحق بين يديها ..
ولن يلجأ إلى أم زينب، ولا فائدة ترجى اليوم من أم حسني بعد أن أقعدها العجز، ولكن ثمة فتاة جديدة في الإدارة تدعى إحسان إبراهيم، لم يتردد في إظهار تودده إليها. ذلك أنه يريد أن يتزوج اليوم إن أمكن. وكلما بات ليلة وحيدا اشتد جزعه. كأن الرغبة في الزواج كانت تبدو في داخله وهو لا يدري حتى انفجرت كبركان. ولم تفهم إحسان تودده على الوجه الصحيح، ولعلها استبعدت أن يغازلها رجل في سنه! وما حيلته ولم يعد يوجد حب كأيام سيدة وأنسية، ولا رغبة جامحة كأيام سنية وأصيلة.
وانتهز فرصة وجودها - إحسان - يوما في حجرته لعمل فسألها: تسمحين لي بسؤال غريب بعض الشيء يا آنسة إحسان؟ - طبعا يا سعادة البك.
فتردد قليلا ثم سأل: أأنت مخطوبة؟
تورد وجهها ورمقته لأول مرة بنظرة أنثى لا موظفة وأجابت: نعم يا سيدي.
شعر بخيبة أمل ولكنه قال: معذرة فإني لم أر خاتما في إصبعك. - أعني في حكم المخطوبة.
تفكر مليا ثم قال: لدي رجاء ولكن يجب أن يبقى سرا بيننا؟ - أفندم؟ - هل أطمع في أن تدليني على عروس؟
فتفكرت في ارتباك ثم قالت في حذر: جميع من أعرف من قريبات وصديقات يقاربنني في السن فهن لا يلقن بك!
يا لها من ترجمة مهذبة ل «لا تليق بهن»، وتمادى من شدة يأسه فسألها: ألا يمكن أن يتزوج إنسان في مثل سني؟ - لم لا؟ توجد عروس مناسبة لكل سن! - شكرا ومعذرة عن مضايقتك. - أرجو أن أوفق لخدمتك ..
وعند ذهابها استشاط غضبا. تصور أنها كان يجب أن ترحب به لنفسها أو لإحدى القريبات أو الصديقات. إذن قد صار كهنة مثل فضلات المخازن التي يعرضها للبيع عند الجرد السنوي. والظاهر أنه لن يكون أسعد حظا في مسألة الزواج. ولو نال أمله المنشود وحلم العمر في حجرة صاحب السعادة. ها هو الزمن يلهبه بسياطه على حين أنه لم يعد يقوى على العدو. وبمرور كل يوم اشتد تسلط فكرة الزواج عليه حتى كادت تزاحم هوس الدرجة. ولم ترجع إليه إحسان بجواب. ومن جنونه راح يحاول مغازلة النسوان في الطرقات والباصات بلا خبرة وبلا نجاح حتى اضطر إلى الكف عن ذلك وهو يقول متأوها: ما أضيع العمر!
وتساءل بامتعاض عما يجعل زواجه متعسرا بهذه الصورة حتى بعد أن نزل عن شروطه المعوقة الأولى. السن بلا شك مثبطة ولكنها ليست كل شيء. إنهم يتحرون عنه وسرعان ما يعرفون كل شيء عن أصله وفصله، هذه هي الحقيقة الأخرى المخزية. إنه في الحقيقة كهل ذو منبت حقير، والله أعلم بما يقال عنه بالإضافة إلى ذلك، فإن رجلا متفوقا مثله خليق بإثارة عواطف الحسد في النفوس، وطالما شعر بأنه بلا صديق حقيقي في هذه الدنيا، وبأنه وحيد متعال عن الضعف البشري!
وحمله الليل - كالعادة الرتيبة - إلى الحجرة العارية، إلى قدرية. وقال لنفسه بمرارة ما أجمل أن يكون نصيبي من الدنيا درجة وكيل إدارة وبغيا نصف زنجية! وكانت تقول له ضاحكة: لأول مرة تشرب قدحين من النبيذ، هل قامت القيامة؟
أما القيامة فقد قامت وها هو يشعر بدوار غريب في رأسه. قال لها بلا مناسبة: اعلمي يا قدرية أني رجل مؤمن.
فلفت شعرها الخشن بمنديل أحمر وقالت: الحمد لله .. - ولولا إيماني بأن الدنيا مقدسة بما هي من صنع الله لرضيت بحياة البهائم ..
فنظرت إليه نظرة بلهاء وقالت: قرروا إلغاءنا عليهم اللعنة ..
فواصل بلا انتباه إلى قولها: والله سبحانه ...
فقاطعته: قرروا إلغاءنا .. - أفندم؟ - ألم يبلغك ما يقال عن إلغاء البغاء؟
كلا. إنه لا يقرأ في الصحف إلا الوفيات وشئون الدولة والدواوين. فتساءل بانزعاج: حقا؟ - نبهوا علينا بالفعل. - خبر غريب .. - وعدونا بعمل لمن تريد عملا، أي عمل؟ عليهم لعنات الدنيا والآخرة، هل أصلحوا كل شيء فلم يبق إلا نحن؟! - لعله كلام، ما أكثر الكلام في هذا البلد .. - يا سيدنا لقد أبلغنا رسميا بالأمر ..
فسأل بجزع ورعب: ومتى يتم ذلك؟ - قبل نهاية هذا العام ..
وساد صمت حتى ضجت الحجرة بأصوات المعربدين في الحارة. كم من مصائب توقعها! أما هذه المصيبة فلم تجر له على خاطر. وقال بأسى: ستنتشر بيوت الدعارة في كل مكان .. - والأمراض كذلك. - وآلاف من بنات الناس سيتعرضن للفساد. - ماذا نقول لمن لا عمل لهم؟
وتنهد ثم سألها: وعلام نويت؟ - على أي حال لن أقبل أن أعمل غسالة في مستشفى. - هل يمكن أن أعرف عنوان بيتك؟ - سنكون تحت رقابة مشددة.
وشعر بيأس لا يطاق وسألها: ألم تكوني فكرة عن المستقبل؟
فقالت بثقة: سأتزوج. لم يبق لي إلا الزواج ..
ولطمه قولها فملأ القدح الثالث، وسألها: عندك عريس؟ - ما أسهل أن يوجد! - ولكن كيف؟
فقالت في مباهاة: عندي خمسمائة جنيه، ممكن أجهز شقة بمائة وخمسين، وأحتفظ بالباقي كاحتياطي، ألا يرحب كثيرون بالزواج مني في تلك الحال؟ - معقول جدا ..
فقالت وهي تضحك: إن وجدت عريسا مناسبا فأخبرني ..
وعند منتصف الليل وهو يتسلل تحت البواكي صادف سكران يتقيأ فتقزز لدرجة غير محتملة. وشعر بوحدته وضياعه ويأسه وبرغبة في الانتحار. وغير طريقه بلا تفكير. رجع إلى الدرب مترنحا فصادف قدرية تهبط السلم في طريقها إلى مأواها. أوقفها بيده وقال لها: قدرية. وجدت لك الزوج المناسب ..
لم ير وجهها في الظلام، ولكن خمن تأثير قوله فقال: لنتزوج في الحال!
32
وتم الزواج في اليوم التالي مباشرة. ولم تذهل المرأة لقراره كما توقع. رمقته بنظرة متفحصة لتتوكد من صدقه، فلما تبين لها صدقه أحنت رأسها بالقبول. وقال لنفسه: لعلها تعده الطرف الرابح في الصفقة بسبب الخمسمائة جنيه! وقال لها بعجلة: لنذهب إلى المأذون توا.
فقالت وهي تضحك في سعادة: أفق أولا وانتظر طلوع النهار.
وبات الليل في شقتها الصغيرة بعطفة الشماشرجي. وفي الصباح قال لها: نعد بيتنا الجديد ثم نتزوج.
ولكنها قالت بإصرار نهائي: بل نتزوج ثم نعد بيتنا.
وجيء بالمأذون إلى البيت. واقتضت الإجراءات شاهدين فلم تجد إلا قوادين ممن كانوا يعملون معها. وجرت المراسم البسيطة وهو يتابعها بذهول. ما هذا الذي يجري؟ واجتاحه شعور ممزق بالقلق بلغ حد الرعب فتمنى لو يقع حادث من عالم الغيب فيبدد سحابات الكابوس الذي يعاني. ثم اجتاحته موجة من الاستسلام بلغت حد الاستهتار. ولما أدلى باسمه وعمله وقع ذلك من المرأة والقوادين موقع الذهول. قال لنفسه إنهم سيتهمونه بالجنون كما يتهمه الآخرون. ولعله من الإنصاف أن يعترف - بدءا من اليوم - بأنه مجنون مجنون. كهلة نصف سوداء في ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش. هكذا تحققت الأمنية التي تاق إلى تحقيقها بجنون، فأصبح زوجا، كما أصبحت قدرية - رفيقة شبابه - زوجة له. ترى ماذا فعل بنفسه؟! وقال: علي أن أبدأ حياة جديدة ..
ولإعجابه بروض الفرج - الذي رآه وهو يعود حمزة السويفي - استأجر به شقة من ثلاث حجرات وصالة، ومضيا يؤثثانها معا بعد أن ألزمها بالحجاب، باسم الحشمة في الظاهر، وفي الحقيقة خوفا من أن تقع عليها عين زبون قديم أو حديث. ابتاعا حجرة للنوم وثانية للسفرة وثالثة للمكتبة والجلوس والاستقبال، وثيابا لها وله، وراديو وغير ذلك. وقد أسهمت في التجهيز بمائة جنيه ورصد هو لها بمثلها. وبدافع من الاستهتار الذي ركبه مال إلى تغيير سياسته نحو «النقود» فأنفق - كلما دعا الداعي - باستسلام يائس غطى على الألم المعتاد في مثل تلك الأحوال، وتملكته رغبة قوية في الاستمتاع بطيبات الحياة التي طالما حرم نفسه منها. وودع أم حسني وداعا مؤثرا. فذهلت العجوز لقراره وبكت قائلة: لا تهجر منبتك فليس في ذلك خير.
ولكنه هجره بلا أسف، ولم يكن مما يصح التفكير فيه أن يجيء بقدرية إلى حارة الحسيني، ونظر إليه بصفة عامة كرمز للبلى والحرمان والضياع والذكريات المحزنة. أغرق آلامه الظاهرة والخفية في المتع المتاحة، وأصر على تذكير نفسه - وإقناعها - بأن قدرية هي المرأة الوحيدة التي أحبها حبا حقيقيا، وإلا فكيف عاشرها ذلك العمر الطويل كله؟! وها هي لا تألو جهدا في لعب دور ست البيت في الوسط الجديد «الراقي» الذي يعد الانتقال إليه من «الدرب» وثبة خيالية. ودعا الله ألا تراها العيون التي عرفتها. ونصحها قائلا: تجنبي الاختلاط بالجيران. - فسألته: لم؟ - الناس أخلاقها لا تسر!
وكان يخشى أن يقع خلاف بينها وبين إحدى الجارات فتنسى تحفظها وتنفجر براكين الفحش الكامنة في أعماقها. عدا ذلك فإنه لا يجحد اجتهادها الصادق في إسعاده وحرصها على النجاح في حياتها الجديدة. وبمضي الأيام اطمأن إلى الحياة الجديدة، سلم بواقعها، ونعم بما وفرته له من أنس وراحة ونظام ونظافة، وها هو يصلي بلا قلق ولا حرج، بل ها هو يتقرب إلى ربه بما أنقذ من روح ضائعة، ولعلهما روحان لا روح واحدة.
واعتقد أن حياته الدنيا قد كملت بالمقسوم له وأنه آن له أن يفكر في آخرته. قال: واجب علي أن أشيد لي مدفنا!
واستشار أهل الخبرة، وبفضلهم اشترى أرضا في الخفير، وشرع في بناء قبر مناسب. وكثيرا ما تفقد العمل بصحبة مهندس من الإدارة الهندسية بالوزارة. وسأله المهندس: أليس للأسرة مقبرة قديمة؟
فأجاب بثبات: قديمة جدا، واكتظت بالآباء والأجداد، فدعت الضرورة إلى بناء هذه المقبرة ..
فقال المهندس: شتان بين الجديد والقديم في القبور، القبر الجديد بناء عصري جميل .. - أنا لا أهتم بتملك بيت في الدنيا فشقة مستأجرة تفي بالغرض ولكن لا مناص من تملك قبر وإلا ضاعت كرامة الإنسان ..
فضحك المهندس وقال: في الهند يحرقون الجثث ..
فقال متأففا: أعوذ بالله ..
فضحك المهندس كرة أخرى وقال: أتريد رأيي؟ النار أحفظ لكرامة الجثة من التراب، أليس لديك فكرة من أطوار تحلل الجثة في القبر؟
فقال بضيق: كلا ولا داعي ألبتة لهذه المعرفة!
وتفكر قليلا ثم سأل المهندس: ألا يحسن بناء دورة مياه؟ - ستستعمل في غيابك، وبطريقة مقززة! - ولكن لا بأس من زراعة شجرة أو لبلابة .. - ليكن، ويمكن ريها من الخارج ..
وتم البناء فذهب لتسلمه ودفع باقي الأتعاب. وتفحص القبر بإعجاب. كان بابه مفتوحا، والسلم يرى في تدرجه نحو المنامة متألقا بنور الشمس. وانحنى قليلا ليلقي نظرة على أرضه المنبسطة الجديدة المكللة بالضوء والنقاء والنظافة وشعر باطمئنان غريب غير متوقع. فها هو البيت الباقي قد أعد، ولن تضيع عظامه في زحمة العظام كوالديه. وبخلاف المتوقع أيضا انبجس من أعماقه شعور ناعم غريب يدعوه بهمس كالغزال إلى الرقاد فوق الأرض النظيفة المضيئة، ليتذوق راحة لم تقسم له في حياته، وليستمتع بهدوء لم يعرفه وسط انفعالاته المتلاطمة الحارقة، نداء مجهول ود لحظتها لو يطيعه منفضا يديه من الدنيا بكل همومها وآمالها. ولم يفق من غمرة مشاعره المجهولة حتى غادر القرافة راجعا إلى المدينة. كم يود أن ينقل والديه إلى القبر الجديد ليكمل اطمئنانه إليه ولكنه علم باستحالة ذلك منذ زمن غير قصير. أجل فإن قبر الصدقة يكتظ بالجثث بحيث يستحيل التمييز بينها. وقال متسولا الاقتناع بحكمة تصرفه: ليس من شك في أن حياتي اليوم خير من حياتي أمس ..
وهي لا تعني بحال أنه حاد عن طريق الله وكلمته الأبدية، وإن اعتراه فتور ملحوظ ..
33
لتمض الأيام.
مهما يكن من أمر فقد أصبح صاحب أسرة ومالك قبر، وعرف من الطعام ألوانا جديدة غير المعهود من لحمة الرأس والكشري والفول والطعمية والعدس والبصارة، كما عرف للنقود وظيفة غير التحنيط في صندوق البريد.
ولكن ألا تمضي الأيام في رتابة ووخامة؟
وهل فقد الأمل بصفة نهائية؟!
وانبثقت من تيار الأيام موجة عالية وعاتية غير متوقعة بتاتا، غيرت المصائر والحظوظ، وأعادت خلق العالم من جديد. فقد أصبحت الوزارة ذات يوم على قرار بتعيين بهجت نور المدير العام وكيلا للوزارة فخلت وظيفة المدير العام لأول مرة منذ عهد مديد، وعاشت قلوب كثيرة في خفقان متواصل مقدار أسبوعين حتى صدر قرار بترقية عبد الله وجدي مدير الإدارة إلى وظيفة المدير العام فبات «صاحب سعادة» بالطول والعرض. وانبعث الخفقان في قلب كان قد استنام إلى الهمود زمنا غير قصير. فقال عثمان: إني المرشح الوحيد «رسميا» و«طبيعيا» فماذا تراهم يفعلون؟!
ومضت أسابيع فلم يقصر في حق نفسه. حادث المدير كما حادث وكيل الوزارة.
وسمع بعضهم يقول: إن وظيفة مدير الإدارة من الوظائف الحساسة.
فسأله عما يعني فأجاب: لا تراعى الشهادة والكفاءة وحدها عند الاختيار لها ولكن يضاف إليهما المكانة الاجتماعية ..
فصاح بغضب: ذلك كلام يصدق على الوكيل أو الوزير أما مدير الإدارة بل المدير العام فلا يحرم منها أبناء الشعب، بذلك جرى العرف منذ تنحى عنها الموظفون البريطانيون ..
ولم يطل به العذاب فقد صدر قرار ترقيته إلى درجة مدير الإدارة في نفس الشهر. وفيما بعد تذكر ذلك اليوم بوجد وكان يقول: وقعت المعجزة في غمضة عين!
وقال أيضا: لم يعد يفصل بيني وبين المدير العام فاصل من الكادر!
ولكن كيف وقعت المعجزة؟ جرى في تقديره يوما أنه سيحال على المعاش قبل أن يتحرك أحد في الطابور أمامه، ولكن حدث تعديل وزاري اختير فيه وكيل الوزارة وزيرا، ثم أعقب ذلك التغييرات السعيدة المفاجئة. وقال له بهجت نور وكيل الوزارة: رقيتك رغم الاعتراضات الكثيرة ..
فشكر له فضله ولكنه تساءل بأسف: ولماذا الاعتراضات؟
فقال الوكيل: إنك فوق قمة عمرك الحكومي فلا يمكن أن تجهل سببا مما تسأل عنه ..
وعلى أي حال انفتحت نفسه للعمل كحاله الأول، وتعهد أمام ربه بأن يسجل في رياسته الإدارة تاريخا فذا حافلا بالعلم والذكاء والفتاوى الخالدة، وأن يثبت للجميع أن الوظيفة عمل مقدس وخدمة إنسانية وعبادة بكل معنى الكلمة. ومن أول يوم قرر أن يتعاون مع عبد الله وجدي بصدق، لأن التعاون مع المدير العام طقس من طقوس العبادة في العمل، ولأنه لم يخن واجب الوظيفة أبدا، بل قرر أن يغطي ضعفه بخبرته، يقدم له من الخدمات الخاصة ما هو في حاجة إليه أسوة بوكيل الوزارة نفسه، ولعله يجني يوما ثمرة ما يزرع. وجعل يقول لنفسه : عبد الله وجدي في حكم الشباب حقا ولكن عصر المعجزات قد عاد!
ولكنه في الحقيقة لم يعتمد على المعجزة وحدها! كان يرمق بدانة عبد الله وجدي باهتمام ويتابع ما يقال عن نهمه في الطعام والشراب بارتياح خفي، ويردد فيما بينه وبين نفسه: ما أكثر الأمراض التي يتعرض لها أمثاله!
وهو حق وعدل. لم لا؟ إنه برغم الهفوات رجل مؤمن، من رجال الله، ومن مريدي الحسين، والله لن يتخلى عنه. قال: هل يستطيع الإنسان في يوم الحساب أن يقدم خيرا من طموحه النبيل وعمله المقدس وتقدمه الثابت وسجلا بالخدمات التي أداها للدولة والناس؟!
وقال أيضا: إن الدولة هي معبد الله على الأرض، وبقدر اجتهادنا فيها تتقرر مكانتنا في الدنيا والآخرة ..
أما حياته الزوجية فلم تنعم بالهدوء والازدهار طويلا. ومتاعبها كانت متوقعة رغم مغالطة النفس والتعلق بالآمال. وقال لها: قدرية، إنك تفرطين في شرب الخمر.
فرمقته بدهشة وقالت: هذا واضح، وهو قديم ..
فقال برجاء: يوجد أمل دائما في أن نتغلب على عاداتنا السيئة .. - لا ضرورة لهذا التعب ..
فقال برجاء أيضا: بل إني آمل أن تصومي وأن تصلي فنحن في حاجة إلى رضى الله عنا:
فقالت بامتعاض: إني مؤمنة بالله وأعلم أنه غفور رحيم .. - إنك سيدة محترمة، والسيدة المحترمة لا تسكر كل ليلة .. - إذن كيف تسكر السيدة المحترمة؟! - يجب ألا تسكر على الإطلاق.
فضحكت بصوت مزعج ولكنها سرعان ما قطبت وقالت بأسى: لا أمل! - ماذا تعنين؟ - لا أمل في بنت أو ولد، فات أوان ذلك.
وشعر بأنه يشاركها في الحزن على ذلك ولكنه قال: أمامنا على أي حال فرص طيبة للحياة الهانئة.
وبذلت محاولة غير جادة للامتناع عن الشرب ولكنها استمرت فيما هي فيه. وربما ضاعفت من إدمانها بعد رجوع عثمان إلى الاستغراق في عمله ومعاناتها لفراغ مخيف بلا أنيس. ولمحها مرة وهي تتناول قطعة من الأفيون ففزع الرجل وصاح: لا ..
فصاحت بحدة: لا تتعرض لهذا!
فسألها بلهفة: منذ متى؟ - من أيام سيدنا نوح. - ولكن .. - إلا هذا، إنه أقوى من الموت .. - ولكنه والموت شيء واحد.
فقالت باستهتار: ليكن ..
تملكه الفزع. ماذا فعل بنفسه؟ أي طلاء سعادة خدعه؟ بأي ثمن عليه أن يقاوم. لا جدوى من التفكير في الطلاق لأنه يعني الدخول في معركة حامية ربما انتهت بالقضاء عليه. وسألها: كيف تحصلين عليه؟
فلم تجب. فقال: تذهبين إلى الحثالة القديمة المشبوهة وفي ذلك ما فيه من الخطر البين .. - لا تبالغ .. - قدرية، فكري، إن لم تغيري حياتك حل الخراب بنا ..
وشحذ إرادته للدفاع عن سمعته ومستقبله. ومن خلال ما يشبه المعركة حملها إلى مصحة نفسية وعصبية بحلوان فمكثت بها أشهرا حتى شفيت من الإدمان. خيل إليه أنها عادت امرأة جديدة. ولم تجد من سلوى في حياتها إلا الطعام فأقبلت عليه بشراهة وإفراط، وسرعان ما ظهر أثر ذلك في الدهن الذي اكتنز به جسدها فزاد بدانة على بدانة حتى تبدت في صورة تدعو إلى الرثاء والسخرية معا. ولم يفارقه القلق من ناحيتها فكان يعمل بعين ويراقبها بعين، ويقول بحزن: فقدت الميزة الوحيدة التي كنت أستمتع بها في الليالي البهيمية، وها هي تتعرى كاشفة عن بدائية تعيسة بلا خلق ولا دين ولا عقل ولا ذوق ..
وتذكر الآراء التي يعلل بها بعض الزملاء - المولعين بالسياسة والأفكار - هذه الظاهرة وأمثالها من خلال حملاتهم على المجتمع والطبقات ولكنه تذكر أيضا «حالته»، ألم ينشأ مثل قدرية فقيرا وعاجزا ومحروما من كل سلاح؟ بلى، ولكنه اكتشف في الوقت المناسب السر المقدس في ذاته الضعيفة، كما اكتشف حكمة الله الخالدة، فشق طريقه بجلال وعذاب جديرين بالإنسان مخلوق الله العظيم؛ ولذلك لم يكد يعطف عليها، ورجع يتساءل: ماذا فعلت بنفسي؟
أجل، ما معنى حياة زوجية بدائية بلا حب حقيقي أو علاقة روحية أو أمل في ذرية أو مجرد زمالة إنسانية؟! على أنه قال لنفسه محذرا: هون من أحزانك، لم تعد تتحمل كالزمان الأول، أجل يوجد تغير جديد، خفيف كالنسيم ولكنه ماكر كالثعلب، إنه السن، وإنه الزمن ..
وتفكر قليلا ثم قال: بفضله نحقق كل شيء، وبسببه نخسر كل شيء، ولا يبقى إلا وجه ذي الجلال !
34
كالعادة نسي النجاح تماما. انجابت الأفراح وتراكمت سحب الهموم. أصبحت رياسة الإدارة عادة روتينية، عليه أن يتجاوزها، وأن يتجاوزها بسرعة تناسب القليل الباقي من العمر، وإلا انقضت مدة الخدمة وهو واقف كالمتسول أمام باب الحجرة الزرقاء. والطموح عنيف والزواج لم يعد بالمرفأ المواسي. - يا ربي إني أحاول هدايتها فهبني من لدنك قوة.
ولكن جهده يتبدد هباء، ودهمها بتعاسة لم تجر لها في خاطر. في الماضي كانت تعيش التعاسة ولا تكاد تشعر بها، وتجد في الخمر والأفيون ملاذا طيبا، أما اليوم فهي تتصدى للخواء في يقظة بغيضة بعينين محملقتين مذعورتين بلا عزاء ولا حب ولا ذرية. قال: كانت في الدرب عزاء لي ولذة أما في هذا البيت المريح فهي الجحيم.
وقال أيضا: لو ذهب كل منا إلى حاله لربما حدثت معجزة سعادة، أين وحدتي القديمة أين؟!
ورجع يوما فرأى في عينيها نظرة حمراء ذاهلة وضاحكة فقال برعب: عدت إلى الشراب؟
فأحنت رأسها باستسلام وقالت: نعم والحمد لله!
فتنهد وقال: وعما قريب سترجعين إلى الأفيون.
فقالت بنبرة ساخرة: حصل والشكر لله ..
فتساءل بحدة: والعمل؟
فقالت بهدوء: كل شيء طيب، ليلة أمس حلمت بأمي! - سأيأس منك نهائيا. - خير ما تفعل.
ووجدها تذوب في عالمها الوهمي وتعتزله كلية فارتاح بعض الشيء. ها هي تستقل بدنياها وها هو يعود إلى وحدته. وقرر - بضمير قلق - ألا يقاوم تدهورها هذه المرة. وقال يخاطب ربه: اغفر لي أفكاري يا رب، إنها قاسية مثل الحياة، وهي جزء منها ليس إلا ..
وهو يتلظى بذلك السعير تعينت راضية عبد الخالق سكرتيرة له. وكان مدير المستخدمين قد طلب منه اختيار الشخص الذي يجده مناسبا لسكرتيريته. قال له: من حقك أن تختار سكرتيرتك، بل من حقك أن تعين فيه قريبة من ذوي الثقة ..
أحقا لا يعرف الرجل شيئا عن أصله وفصله؟ عرف طيلة خدمته الطويلة عبقرية الموظفين في نبش المستور ونشر الفضائح، ولا شك أن المنبت «الكارو» لم يعد يخفى على أحد. وقال الرجل: أترك لك الاختيار.
فقال مدير المستخدمين مداهنا: إنك مثال النزاهة والترفع يا سيدي المدير.
وفي صباح اليوم التالي دخلت عليه راضية عبد الخالق فحيته وقالت: راضية عبد الخالق، سكرتير سعادتك إذا سمحت ووافقت ..
فقال وهو يتذوق انفعالا طيبا: أهلا بك، من أي قسم؟ - المستخدمين. - عظيم، وما مؤهلاتك؟ - ليسانس آداب قسم التاريخ .. - عظيم ..
هم بسؤالها عن سنها ولكنه أمسك، وقدره بخمسة وعشرين عاما. رشيقة القوام بصورة ملحوظة، ذات هالة من الشعر الفاحم سواها الحلاق في بساطة وانسياب فأحدقت بجانبي الوجه الأسمر الطويل صانعة له إطارا حانيا، وعيناها صغيرتان وواضحتان وذكيتان تومضان بجاذبية، وبروز ثنيتيها - وربما عد عيبا - أضفى على فيها شخصية حلوة. انفعل بجاذبيتها وقال في سره: لعنة الله على اختيار مدير المستخدمين الموفق ..
وقال لنفسه أيضا: إني في حاجة إلى مظلة في هذا الجحيم ..
ومن أول نظرة نزع قلبه إليها بارتياح وسرور ورغبة خفية في الاحتماء. وبمرور الأيام ازداد تعلقه بها وبخاصة عندما علم بأنها يتيمة وتعيش مع عمة عانس. وفضحته أمانيه العميقة أمام نفسه، فضحت أحلامه ورغباته، ولكنه كان أبعد ما يكون عن التفكير - مجرد التفكير - في ارتكاب أية حماقة. قال لنفسه: حسبي أن أصبح على وجهها كل يوم.
واستأسره أدبها ورقتها وعذوبة نظرتها الناعمة. وحلل ذلك بأنه السلوك الواجب من سكرتيرة نحو مدير، وهو واجب أكثر إذا كان المدير في سن والدها. ولكن ما بالها تشغله أكثر مما يجب، ما بالها تعبق حياته بشذا طيب ونفاذ. وقال لنفسه: في لحظة من لحظات الحياة يستوي من أخذها مأخذ الجد ومن لها بها لهو العبث والهزل.
وتوجه إلى ربه داعيا: اللهم عفوك ورحمتك.
وجعل يلاحظ عملها باهتمام حتى سألها يوما: أيشق عليك العمل في مكتبي؟
فأجابت بحرارة: كلا، إني أحب العمل! - كذلك كنت منذ نشأتي الأولى، وما زلت وأبشرك بأنه جهد غير ضائع .. - ولكن يقال ...
فقاطعها: أعرف ما يقال، ولا أنكره، الوساطة .. القرابة .. الحزبية كل أولئك وما هو أشنع، ولكن الكفاءة قيمة لا يمكن تجاهلها كذلك، حتى أصحاب المراكز من غير ذوي الكفاءة يجدون أنفسهم في حاجة إلى من يغطي عجزهم من الأكفاء الحقيقيين ..
وابتسم في افتتان خفي بجاذبيتها واستطرد: لقد شققت طريقي معتمدا على الله سبحانه وعلى عملي .. - يتردد ذلك في كل مكان.
ترى ماذا يتردد أيضا؟! ذلك الذي جعل أم زينب لا ترجع بجواب! ولكن لم تعد لذلك أهمية اليوم. وقال لها: من الإنصاف أن أصارحك بأنني راض عن عملك تماما!
فابتسمت قائلة بسرور: إني مدينة لنبلك بهذا التشجيع!
لا يوجد جو أصفى من ذلك. جو نقي مليء بالوعود. والقلب يستقطر منه مرحا مقدسا. من مثل هذا المنطلق يبدأ العاشق سيره، والزواج الموفق، والصداقة السعيدة. هكذا يصادف الحائرون احتمالات ثرية للسعادة في ظروف غير مناسبة. حين يتفق المكان مثلا ويختلف الزمان، أو العكس، مما يقطع بأن السعادة كائنة ولكن السبيل ليست ممهدة دائما، ومن اللعب بين هذا وذاك يجيء الحظ السعيد أو العبث. ولكن لا يجوز أن ننسى الأخطاء كذلك - أخطاء؟ - أن تنسى سيدة وأصيلة وأنسية.
وبمرور الأيام جعل يقول لنفسه: يا قلبي حاذر.
وكالعادة راح يخاف راضية بقدر ما يودها. وكالعادة ترك نفسه للتيار ليفصل في مصيره قدر مجهول ..
35
وتتابعت الأيام بين عمل في الإدارة وأحزان في البيت وأشواق تندلع في القلب. وبدا أن الكون قد توقف وأن عبد الله وجدي قد رسخ في وظيفة المدير العام مثل الهرم الأكبر. وقال بحزن: لا بارقة أمل.
أين تقع المعجزة هذه المرة؟! وها هو لم يبق من السواد في رأسه إلا شعيرات معدودات، وقد ضعف بصره فاستعان بنظارة، وفقد جهازه الهضمي نشاطه المعهود فعرف العقاقير لأول مرة في حياته، وعلاه احديداب لطول انكبابه على المكاتب ولعدم مزاولته أي نوع من أنواع الرياضة. وكان يقول لنفسه: ما زلت قويا والحمد لله ..
وعلى غير عادة كان ينظر طويلا في المرآة ويقول: ما زلت مقبولا!
وفي تلك الأثناء وضع كتابا في قوانين الموظفين مع تعليق شامل، وكان للكتاب دوي في أوساط الموظفين. ورغم تقدمه في السن ثابر على طاقته الخارقة في العمل والترجمة، حبا فيهما، وهربا من شبح حياته الزوجية وعواطفه المشبوبة المتسمة في نظره بالنزق والطيش وقال لنفسه: فلأعترف بأن ساعة عرض البريد في الصباح هي نصيبي من سعادة الدنيا!
تبادل تحيات، تراشق بسمات، تعليقات مصلحية، دعابات خفية، إشارات ثناء لبقة إلى التسريحة أو الحذاء أو البلوزة.
ومرة كان يثني على تسريحتها قالت: أفكر في تقصير شعري ..
فهتف محتجا: كلا.
وابتسمت لحرارة الاحتجاج على شأن لا علاقة له بشئون اللوائح. - ولكن ...
فقاطعها: اتركيه وشأنه. - ولكن الموضة .. - لا خبرة لي بالموضة ولكنني أحبه كما هو ..
وتورد وجهها. تفحصها بعناية فلم يعثر على أثر لاستياء. وأراد أن يستغل الدروس التي تلقاها في لحظاته السعيدة الماضية فانتهز فرصة وجودها ذات صباح وقدم لها علبة صغيرة أنيقة وذهلت راضية وتساءلت: ما هذا؟ - شيء بسيط لمناسبة كبيرة .. - ولكن .. ولكن كيف عرفت؟ - عقبى لمائة عام .. - إنه يوم ميلادي حقا. - طبعا .. - ولكن .. ما أنبلك! .. الحق أني لا أستحق. - الحق أنك لا تحسنين الكلام كما تحسنين التأثير .. - إني ممتنة. - وإني سعيد.
وتنهد. واستجمع إرادته. ثم أذعن لعواطفه كلية وبلا احتراس وفي اندفاع انفعالي خطير، قال: ما الحيلة؟ .. إنه الحب ..
فغضت بصرها متلقية اعترافه باستسلام قدري عذب. - آخر ما يجوز الحديث عنه، ولكن ما الحيلة؟
غمق وجهها الأسمر بالدم المتصاعد ولكنها لم تذهب، جلست مستسلمة كأنها تتطلع للمزيد. - لست شابا كما ترين.
وصمت مليا ثم استطرد: ثم إني متزوج ..
أجل ماذا يريد؟ لعله لا يريد أن يواجه الفشل المحتمل أو الموت في النهاية وحده، بلا حب دافئ وبلا ذرية! وعاد يقول: ولكن ما الحيلة؟ .. إنه الحب ..
وغلب الصمت مرة أخرى. لم يعد يبالي بشيء. سألها متصنعا الدعابة: ما رأيك في هذه الحالة؟
ابتسمت وغمغمت بصوت غير مسموع فقال: لعلك تتهمينني بالأنانية؟
فقالت همسا: كلا، لست كذلك .. - ولا بالخرف؟!
فضحكت ضحكة خافتة ناعمة وقالت: لا تلصق بنفسك ما ليس فيها. - إني سعيد برأيك ولكن ما العمل؟
وساد الصمت للمرة الثالثة فقال: أود جدا أن أسمع رأيك؟
فقالت بجدية: الموقف دقيق ومحير، ولا أحب أن أتجاهل العواطف الإنسانية والرحمة .. - لعلك تلمحين إلى زوجتي؟ - هو ما يجب أن تفكر فيه .. - دعي ذلك لي وحدي فأنا المسئول عنه .. - حسن. - ولكني أريد أن أسمع رأيك فيما عدا ذلك ..
وكانت تمالكت مشاعرها لدرجة لا بأس بها فقالت: ألم تدلك مناقشتي في الموضوع على شيء ما يخص المبدأ؟ - إني سعيد جدا يا راضية، هذا يعني أنك تباركين حبي لك؟
فقالت بشجاعة: نعم.
فهزته النشوة حتى سكر وقال باستهانة جليلة: ليكن ما يكون.
ثم بلهجة مستدرة للعطف: أعترف لك بأنني لم أعرف قط السعادة. - لم أتصور ذلك. - حياة شاقة وزواج تعيس! - لم أتصور ذلك حقا. - لماذا؟ - تبدو لي دائما حكيما وفكرتي عن الحكماء أنهم هم السعداء. - يا لها من فكرة! - إني آسفة .. - أما أنا فسعيد بحبك.
وآمن بأنه فاز بأكبر غنيمة في حياته، وآمن بأن الحب هو القوة التالية لله سبحانه ..
واقتضى سير الأمور أن يذهب معها إلى بيتها بالسيدة زينب. قدمته إلى عمتها العانس العجوز. ومن بادئ الأمر شعر بأن المرأة غير مرحبة وأن موقفها واضح وحاد. وكانت عصبية وصريحة. ونوقش الموضوع من جميع جوانبه. قالت له: طلق امرأتك أولا.
فرفض الفكرة وقال معتذرا: إنها مريضة ..
فقالت بحدة: أنت عجوز ولا وفاء لك ..
فتدخلت راضية للدفاع والاحتجاج وقالت له: لا تزعل من عمتي أبدا ..
وعادت العمة تسأله عما يريد فاقترح زواجا في السر لفترة قصيرة حتى يتاح له إعلانه، فصاحت العمة: الله .. الله ..
وسألت راضية عن رأيها فأجابت: يوجد اتفاق بيننا على ذلك، لم أسعد به ولكني لم أرفضه.
فصاحت بها: أنت حرة، ولكني أرى الأمر كله خطأ وحراما.
فهتفت الفتاة: عمتي!
فتحولت إليه وقالت بغضب: هل تستغل ضعفنا وفقرنا وألا أهل لنا؟
فقال عثمان غاضبا لأول مرة: إني أنموذج للفقر وانعدام الأهل.
فقالت العمة برجاء: إذن ليلتقط كل منكما رزقه في مكان غير مكان الآخر.
فقالت راضية بإصرار: اتفقنا على مكان واحد ..
فقالت العجوز: لا حيلة لي ولتكن إرادة الله.
وتم الزواج بعد شهر واحد في بيت العمة. وأعيد تأثيث الشقة لتصلح للحياة الجديدة. وقال عثمان إن حياته سلسلة من الأحلام والكوابيس وإن ذلك الحلم الأخير هو أسعدها جميعا. وكان يلبث في بيت راضية حتى حوالي منتصف الليل ثم يرجع إلى روض الفرج فلا تسأله قدرية، في ملكوتها، أين كان ولا ماذا يفعل. وعن حكمة قرر تأجيل الإنجاب حتى يعلن زواجه تفاديا من إحراجها - زوجته الجديدة - في الإدارة.
ونسي في سعادته الغامرة كبره وتجمده الأبدي أمام وظيفة المدير العام وقدرية وقال إن الحياة لم تخلق إلا لتكون مسرحا للعجائب تحت العناية الإلهية ..
36
لأول مرة يخطر في ملابس أنيقة. بدلة رمادية من الصوف الإنجليزي، وحذاء إنجليزي كذلك، أما القميص ورباط الرقبة فمن مختارات راضية بنفسها. ولأول مرة كذلك يستعمل الفيتامينات ويعنى بصحته ونظافته أكثر من أي وقت مضى. وقال لراضية: معك يا حبيبتي سأبدأ حياة جديدة بكل معنى الكلمة ..
وقبلها ثم استطرد: سيكون لنا بنين وبنات ..
وتفكر مليا ثم قال: الأعمار حقا بيد الله وحده ولكنني من أسرة معمرة، أسأل الله أن يمد في عمرنا.
فقبلته راضية وقالت: قلبي يحدثني بمستقبل سعيد .. - قلب المؤمن دليله، عندي من الإيمان ما يغفر لي العديد من الأخطاء، وخدمت الدولة بإخلاص يكفر عن كثير من السيئات، وعندما تستقر الأمور سأقوم بالحج تجديدا لروحي وجسدي.
أما قدرية فتمادت في التدهور، ولكنه تدهور أراحه منها تماما، ولم يخل قلبه من رثاء لها ولكنه ظل على خوفه من مصارحتها بزواجه الثاني.
ولم ينس أنه يمضي نحو نهاية خدمته بلا أمل حقيقي في جوهرة العمر، ولكن الأيام في جريانها السريع تمخضت عن حدث لم يكن في الحسبان؛ فقد عين عبد الله وجدي وكيلا لوزارة الخارجية، فجأة وبلا مقدمات وجد عثمان وظيفة المدير العام خالية. أغمض عينيه، توسل إلى قلبه أن يهدئ من خفقانه، أمسى كل شيء في دنياه - عروسه .. أفراحه .. آماله - لا شيء أمام الوظيفة الخالية. تفجر طموحه المكبوت وانقلب إلى العابد القديم في محراب الرقي المقدس.
وقالت له راضية: الجميع يتحدثون عنك بصفتك المرشح الوحيد ..
فابتهل قائلا: فليحقق الله الآمال.
ثم بحنان وامتنان : الحياة العجيبة تمسح في لحظة من الأحزان ما يعجز المحيط عن غسلها؛ فهي الأم الحنون رغم معاملتها أحيانا القاسية ..
ومضى من فوره إلى الخارجية ليهنئ عبد الله وجدي فاستقبله الرجل مرحبا وقال له مجاملا: أعترف لك يا عثمان بك بأنني سررت مرتين، مرة لتعييني وكيلا للخارجية ومرة ليقيني بأنك ستحل محلي في الوزارة.
وغادر عثمان الخارجية ثملا من السرور والأمل. وتساءل ترى هل يندب أولا للوظيفة تمهيدا للترقية أو يبقى حتى تتم الترقية؟ وكلما مضى يوم عذبه الانتظار. أجل تعذب رغم أن الوزير يقدره والوكيل يعتبر حاميه الأول. ولما نفد صبره ذهب لمقابلة بهجت نور الوكيل فاستقبله الرجل بحفاوة وبادره قائلا: كأني أقرأ فؤادك ..
فابتسم عثمان مرتبكا ولم يجد ما يقوله فقال الوكيل: ولكنك لا تقرأ ما في فؤادي!
فقال وهو يفكر: إني مدين لك بكل خير في حياتي ..
فابتسم الوكيل وقال: المطلوب منك شيء من الصبر، وسوف تسمع بإذن الله ما يسرك.
غادره ممتنا ومسرورا ولكنه تساءل لم يطالبني بالصبر؟ وقال لنفسه أن الجو يبشر بالخير ولكنه لا يشعر بالطمأنينة الكاملة. وتصبر وعانى العذاب. واستدعاه الوكيل مرة أخرى بعد مرور أسبوع. خيل إليه أن الرجل يعالج نظرة فاترة في عينيه فخفق قلبه خفقة شديدة. قال بهجت نور: لعلك تتساءل عما أخر ترقيتك؟! - فعلا يا صاحب السعادة. - حسن، أنت تعلم رأيي فيك، وأضيف إلى ذلك أن رأي الوزير فيك مثل رأيي .. - عظيم ..
وصمت الوكيل. تبادلا نظرة طويلة. قال صاحب السعادة متسائلا: ماذا فهمت؟
أجاب خامدا: ثمة اعتراضات من فوق! - بالصراحة يوجد شبه صراع .. - والنتيجة يا صاحب السعادة؟ - في اعتقادي أن وزيرنا لن يلين ..
سأل بحلق جاف: ما نسبة الأمل في تقدير سعادتك؟ - كبيرة جدا، ضع ثقتك في الله كما يجدر برجل مؤمن مثلك ..
ثقته بالله لا حد لها. لكن دور الشيطان في الإدارة راسخ منذ القدم. عليه دائما أن يعبر جسرا من المسامير. وتأوه قائلا: الفرص الباقية نادرة جدا.
فقالت راضية: لا تحزن، الدرجة ليست كل شيء في هذه الدنيا ..
ولكنه حزن، ورسب الحزن في أعماقه، وتقدم في العمر جيلا كاملا، وتحولت أحلام الدنيا إلى تراب. واقترحت راضية أن يمضيا يوم العطلة في القناطر. فاستجاب لاقتراحها العذب، وأعطاها قياده تجول به في الحدائق. وهي البسمة السعيدة الوحيدة في حياته. وقالت ضاحكة: حكمة قديمة أن ننسى متاعبنا في أحضان الطبيعة ..
تربعت فوق الحشائش ووهبت حواسها وروحها للماء والخضرة والسماء المنقوشة بالسحائب المبعثرة، وهو ينظر إليها بإعجاب وافتتان، وتحدثه عن سحر الطبيعة فيجاملها بالموافقة، ويجول بنظره في الآفاق فيرى مناظر لم تجذبه من قبل ولا يشعر نحوها بسحر ما، أجل إنه منغمس دواما في الداخل، في أفكار محدودة وخيالات تنفثها الغرائز، في الله ومجده الدنيوي المقدس وصراع الخير والشر والفساد، عدا ذلك فهو لا يرى من الدنيا شيئا. - أنت تحب الطبيعة ولا شك. - أنا أحبك .. - انظر إلى العشاق! - ما أكثرهم!
أنامت راحتها على يده وقالت: لننس همومنا في هذا الجو المنعش. - أجل لننس!
ولكنك في الواقع حزين ..
تنهد ولم ينبس، فقالت: إنك موظف كبير، في الدرجة الأولى، غيرك كثيرون يسعدون بما دون ذلك بكثير.
أوشك أن يقول لها أن الإيمان الحق نقيض السعادة التافهة ولكنه أمسك، ثم قال: لست كغيري من الموظفين، والحيلولة بيني وبين الوظيفة التي أستحقها عمل دنيء فيه اعتداء صارخ على النظام الأخلاقي للدولة .. - ألست تغالي في تقديرك للوظيفة؟ - الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض!
ورمقته بدهشة فأدرك أنها لا تدري مدى إيمانه ولا مضمونه. قالت: إنه لمعنى جديد بالقياس إلي، ولكني سمعت كثيرا أن روح الشعب من روح الله!
فابتسم بازدراء وقال: لا تحدثيني عن الصراعات السياسية .. - ولكنها الحياة الحقيقية .. - ما هي إلا صخب زائف .. - الدنيا من حولنا ...
فقاطعها بنفاد صبر: الدنيا الحقيقية في أعماق القلب ..
وغص قلبه في صدره عندما تصور إمكان أن تراه «مجنونا» كبعض الحمقى فقال لها متهربا ولائذا بأمل جديد: دعينا من الخلاف ..
فابتسمت في استسلام عذب فاستطرد: آن لنا أن نعلن زواجنا ..
فتورد وجهها وتساءلت: هل زالت العقبات؟ - علينا أن نواجه الحياة بشجاعة لنستحق سعادتنا .. - ما أجمل أن أسمع ذلك .. - سأصارح زوجتي بالحقيقة ..
وابتسم ابتسامة أشرق بها وجهه الحزين وقال: قوة مقدسة تدعوني لتجديد الحياة وإنجاب الذرية الصالحة ..
37
على مسمع من العمة كرر نواياه الطيبة فقالت العجوز: إنك تبدو لي «إنسانا» و«عاقلا» لأول مرة ..
فضحك وأغرقت راضية في الضحك، وقال: لا خير في حياتنا ولا معنى بدونك يا عمتي ..
فابتسمت العجوز معلنة عن رضاها فقال: لقد قضينا يوما طيبا في القناطر وآن لي أن أذهب ..
فسألته العمة: هل تخبر زوجتك الليلة؟
فقال وهو يقوم: خير البر عاجله.
وخطا خطوة واحدة ولكنه توقف وقد تغير وجهه بصورة ملحوظة فسألته راضية: ما لك؟
فأشار إلى صدره ولم ينبس .. - هل تشعر بتعب؟ اجلس ..
تمتم وهو يشير إلى صدره: ألم شديد هنا ..
هرعت إليه لتسنده ولكنه انحط فوق مقعده وراح في إغماء.
ولما أفاق وجد نفسه راقدا فوق الفراش لم ينزع من ملابسه إلا الحذاء ورباط الرقبة. ورأى في الحجرة شخصا جديدا أدرك من فوره - رغم وهنه - أنه الطبيب. وقرأ في وجه راضية شحوبا وحزنا، وحتى وجه العمة أعلن عن حزنه. نظر الطبيب في عينيه وسأله: كيف حالك؟
فسأله بدوره: ماذا جرى؟ - شيء طارئ لا خطر منه. - ولكن ... - ولكن الأمر يقتضي راحة طويلة بعض الشيء.
فقال بقلق: أشعر بأنني في حال طبيعية تماما وأنه بوسعي القيام ..
فقال الطبيب بحزم: ما دام الأمر كذلك فاعلم أن المسألة ليست لعبا، إنها بلغة الطب لا خطر منها، ولكن عدم الانصياع لكلامي يخلق منها شيئا آخر، يلزمك راحة تامة مثالية، شهر على الأقل.
هتف: شهر! - وأن تلتزم بدقة بالدواء والغذاء الموصوف، لا مناقشة في ذلك ألبتة، وسوف أزورك غدا ..
وجمع أدواته في حقيبته الصغيرة ومضى وهو يقول: احفظ كلامي عن ظهر قلب ..
وغادر الرجل الحجرة وهو يتبعه نظرة مغيظة يائسة. واقتربت راضية حتى التصقت بالفراش وهي ترنو إليه بنظرة باسمة مشجعة وهي تقول: بعض الصبر وسيمضي كل شيء بسلام ..
عكست عيناه نظرة قلقة فمست جبينه بأناملها بحنان وقالت: لا تشغل بالك ولا تحمل هما .. - ولكن توجد أمور كثيرة .. - سأقوم بالواجب في الوزارة .. - كيف؟ - لا مفر من إعلان الحقيقة، لا عيب في ذلك ألبتة .. - يا له من موقف! - ولا بد من إبلاغ زوجتك أيضا! - موقف أشد. - علينا أن نواجه الحقيقة وبأي ثمن ..
وقالت العمة: اخلد أنت للراحة.
ذلك حق، وعليه أن يقاوم. إرادة الحياة فيه ترفض اليأس والاستسلام. ليكن ما يكون، والأمر لا يخلو في النهاية مما يشبه المزاح.
وأغمض عينيه تاركا الأحداث تتشابك في الخارج بعيدا عنه رغم أنه محورها. وسرعان ما هرع الزملاء إلى البيت لعيادته، ولما كانت زيارته ممنوعة فقد حمل إليه طوفان من البطاقات. قرأ الأدعية والتمنيات الطيبة. وتذكر سعفان بسيوني وحمزة السويفي، وعاودته ذكريات لم يرتح لها، وتساءل كيف حال حمزة السويفي؟ هل ما زال على قيد الحياة؟ وثمة موظفون جدد يلحقون اليوم بالعمل لم يعرفوه وربما لن تتاح لهم معرفته، وفوق ذلك كله تجري السحب في السماء وتختفي وراء الأفق، وقد فهم الساعة فقط مغزى حركة الشمس.
وأغمض عينيه حينا ثم فتحهما فرأى قدرية جالسة على كثب من الفراش ترنو إليه. قرأ في عينيها الذهول الناعم المعتم غير المبالي بشيء كالقمر المجلل بسحابة شفافة. أدرك أنها تناجي الملكوت وأنه لا خوف منها. وبدا أنها - إلى ذلك - شحنت بتوصيات طبية إذ سألته بهدوء: كيف حالك؟
فابتسم مرتبكا وقال بامتنان: بخير، شكرا لك!
قالت تعاتب المجهول: قيل لي إن نقلك إلى بيتك «الأصلي» غير محمود العواقب، وكان بودي أن أسهر عليك! - أشكرك يا قدرية، خيرك سابق! - انعم بالراحة حتى يأخذ الله بيدك ..
وهزت رأسها بحكمة غير معهودة ثم استطردت: لك العذر، أنا فاهمة كل شيء، إنك تريد ولدا، ولك الحق، وربنا يحقق رغبتك .. - أنت طيبة وإنسانة يا قدرية ..
ولاذت بالصمت ثم راحت في ذهول معبق بشذا الفردوس. وشعر بارتياح عميق لانكشاف السر ولتجاوزه منطقة الحرج المليئة بالاحتمالات المتفجرة. ولكنه من ناحية أخرى أدرك معنى مرضه بكافة أبعاده. - أي أمل يبقى للدرجة؟!
أجل .. أجل .. - وأي أمل يبقى للإنجاب؟!
وقال لراضية: لم أشعر بنذير تعب ولو من بعيد! - الطبيب لم يعجب لذلك .. - وعرفت المعنى الحقيقي للمباغتة والغدر! - إنها سحابة سرعان ما تمر وتختفي .. - الحق أني آسف لك جدا .. - أنا؟! .. إن ما يهمني هو صحتك وسعادتك.
فنظر إليها بحب وعطف وقال: لا أمان في هذه الدنيا ..
أطرقت حتى أشفق من أنها تخفي دمعة فقال: إني ممتن لك، أنت نور في هذه الدنيا التي تمضي بلا منطق، ولا وجود حقيقي .. - املأ قلبك بالأفكار العذبة حرصا عليك وعلي ..
فتنهد وسأل: هل ذهبت قدرية بسلام؟ - نعم. - خيل إلي أن صوتها زمجر وأرعد، ماذا جرى؟ - لا شيء ألبتة، إنها امرأة مسكينة .. - أجل. الأخطاء ترتكب بعدد تردد الأنفاس. - عليك أن تنعم بالراحة الكاملة ..
فرقت نظرته بحنان وسألها: هل يقدر لنا أن نحقق أملا من آمالنا؟ - بمشيئة الله ..
فقال وهو يحدجها بحزن: في لحظة يأس رميت بالدرجة وراء ظهري وتركز أملي في حلم واحد هو الإنجاب .. - جميل، سيكون لنا ذلك .. - شكرا لك يا حبيبتي .. - اهدأ حتى تتم سعادتنا .. - ولكني أتساءل عن معنى ضياع أمل ذي طبيعة خالدة؟ .. إنه يعني أن فناء العالم ممكن، وأنه ربما وقع بكل بساطة .. - ألا تهب وقتا آخر للتفلسف؟ - حسن .. - ألا ترغب في شيء قبل النوم؟
فأجاب باسما: أرغب في معرفة حكمة الحياة ..
38
وأخيرا استقبل زواره. جاء الزملاء والمرءوسون والسعاة والفراشون. وانعقدت الجلسات بحجرة النوم وطالت وبشرت بالشفاء الكامل. ودار الحديث عن الصحة والمرض، ومعجزات الشفاء، ورحمة الله، ومهارة الأطباء، وأخبار الوزارة والإدارة، والبطاقة التي أرسلها الوزير، والأخرى التي أرسلها الوكيل. - لم لم يحضر الوكيل بنفسه؟ - إنه غائص في العمل حتى قمة رأسه ولكن عذره ضعيف .. - حسن وما أهمية ذلك؟
وسرعان ما خاضوا في الأحاديث العامة، حفلة الإذاعة الأخيرة، الأسعار، صراع الأجيال إلخ ..
وهو قد شارك في الحديث بقدر وتابعه بقدر أكبر، وما يدري إلا وهم يتكلمون في السياسة! صكت أذنيه مرة أخرى الصراعات المضطربة برموزها الرنانة: الحرية .. الديموقراطية .. الشعب .. الجماهير الكادحة .. المذاهب الثورية .. التنبؤات الراسخة عن ثورات الغد .. وقال لنفسه إن الفرد ينوء بآماله أفلا يكفيه ذلك؟! ولكنهم يؤمنون بأن آمال الفرد رهن بأحلامهم الثورية! حسن .. أي ثورة تضمن له الشفاء وإنجاب الذرية وتحقيق كلمة الله في الدولة المقدسة؟! ولكنه لم يعلن أفكاره ولم يبح بسره لأحد، إنهم قطيع تافه في مراعي التعاسة، يعلقون الأمل على الأحلام لضعف نفوسهم وتهافت إيمانهم وجهلهم أن الوحدة عبادة.
واستشعر دفء الشفاء الوشيك فرغب في أن يجرب قوته. وجد فرصة في خلو الحجرة فتزحزح ببطء إلى حافة الفراش، وأنزل ساقيه بحذر حتى مست قدماه الأرض. غمغم: توكلت على الله ..
ووقف مستندا إلى الفراش واطمأن إلى ثقته بنفسه فحرك قدميه بحذر كأنه طفل يمشي معتمدا على نفسه لأول مرة. بصعوبة حملته ساقاه من الضعف وطول الرقاد. وتقدم حتى بلغ الباب المغلق ففتحه وواصل السير نحو حجرة الجلوس مضمرا مفاجأة سارة. وباقترابه ترامى إليه صوت، حوار يدور بين العمة وراضية. تساءلت راضية بحدة: من؟ .. من؟ ..
فجاء صوت العمة خافتا على غير العادة: أنت الجانية على نفسك، طالما قلت لك ذلك. - ما الفائدة؟ - ما هي عقبى الطمع وسوء التصرف! - اصرخي حتى يسمع!
وساد الصمت.
عاد إلى الفراش ذاهلا. - فيم تتحاوران؟ .. أي جناية؟ .. أي طمع؟ .. أي سوء تصرف؟!
وأغمض عينيه وهو يعض على شفته: يا ربي المعبود، ماذا يعني ذلك، أهو ممكن؟
لم لا؟ طالما رغب في أن يلعب هذه اللعبة فلم ينجح. ومن شدة الشعور بالخيبة ذهل عن وجوده تماما. - يا لي من أحمق!
ودهمته نكسة. هصرته أزمة جديدة. مضت أيام وأيدي الحياة والموت تتنازعه فيما بينها. وبدا أنه مصمم على الاستمساك بالحياة رغم كل شيء، ورغم قوله لنفسه: معركة طويلة وخاسرة! - لتكن مشيئة الله ..
وقيل إنه اجتاز مرحلة الخطر ولكن كان من المسلم به من أول الأمر أن رقاده سيطول إلى أجل غير مسمى. ولم يبح بسره لأحد وكان يلقى راضية وهو مغمض العينين. ولم يحقد عليها ولم يغضب وقال لنفسه: لا يحق لي أن أكرهها إلا كما أكره نفسي ..
وقال أيضا: إذا تهيأ لي يوما أن أنجب منها فلن أتأخر حتى يتحقق للعبة وجهاها الأبيض والأسود ..
وتنهد قائلا: يا لي من أحمق! .. هكذا يكون سوء الختام وإلا فلا ..
فلم يغضب ولكنه فقد الثقة في المكان. •••
وذات مساء دخلت راضية بوجه مبتهج وقالت: وكيل الوزارة جاء لزيارتك.
ودخل بهجت نور بوقاره المعروف فصافحه ثم جلس وهو يقول: شد حيلك ..
فقال عثمان بتأثر: خطوة عزيزة يا صاحب السعادة .. - إنك تستحق تكريم ولا يمكن نسيان أفضالك.
فاغرورقت عيناه امتنانا فقال الوكيل: في مكانك فراغ لا يسده أحد سواك .. - إنه كرم أخلاقك الذي يتكلم، ليس إلا .. - عما قريب ستشفى وترجع إلينا وسوف تجدنا في انتظارك، ولقد حملت معي إليك نبأ سعيدا ..
وابتسم الرجل والآخر يرنو إليه بإعياء وذهول ثم قال: صدر اليوم قرار ترقيتك إلى وظيفة المدير العام ..
استمر ينظر إليه ولكن ببلاهة فقال الرجل: انتصر الحق والعدل ولو بعد حين ..
فتمتم عثمان: إنها لبركة من أفضالك. - العفو، وقد كلفني معالي الوزير بإبلاغك تحياته وتمنياته لك بالشفاء العاجل. - لمعاليه الشكر والدعاء ..
وذهب الرجل مخلفا وراءه فردوسا من المشاعر، كأنما كان رسول رحمة من الغيب. وتلقى تهاني راضية وعمتها وهو مغمض العينين. وعاوده شعوره بفقدان الثقة في المكان. وسمعها وهي تقول: كم أنني سعيدة ..
تذوق في هدوء نجاحه. إنه صاحب السعادة، مالك الحجرة الزرقاء، مرجع الفتاوى والأوامر الإدارية وملهم التوجيهات الرشيدة للإدارة الحكيمة وقضاء مصالح العباد، وعبد من عباد الله القادرين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال لنفسه: ستتم نعمتك علي يا ربي يوم تمكنني من القيام لممارسة السلطان وإعلاء شأنك في الأرض!
ولكن الطبيب قال له: ما يهمني هو صحتك لا وظيفتك!
وإنه لصارم وعنيد، ولو صح تقديره فستظل الترقية شكلا بلا مضمون. قال له: المؤمن الحقيقي لا يسعد بالصحة وحدها ..
فقال الطبيب: لم أسمع بذلك من قبل .. - وربما استنفدت إجازاتي في الرقاد فأحال إلى المعاش! - كل شيء قسمة ونصيب!
وقال لنفسه بوجوم: لعلهم وهبوني الترقية صدقة وهم يعلمون أن الوظيفة باقية لهم!
ونادى راضية فقال لها: لا أريد أن أثقل عليك أكثر من ذلك.
فسألته في حيرة: ماذا تعني؟ - تمريض مريض واجب ثقيل ..
فوضعت إصبعها على شفتيه محتجة فنحاه بلطف وقال: سأنتقل إلى قسم الطبيب المعالج بالمستشفى.
واحتجت راضية ولكنه أصر. وعرض فكرته على الطبيب فوافق عليها، ونقل إلى حجرة خاصة. ومهما يكن من شأن الزيارات فقد عاد إلى وحدته كالزمن الأول.
ومضت الأيام في مسارها الأبدي، وكاد أن ينقطع ما بينه وبين العالم الخارجي، وكفت قدرية عن زيارته بسبب التدهور والمرض، واستسلم لقدره فلم يعد يبالي بما كان ولا بما هو كائن ولا بما سوف يكون. وتحمل الساعات التي تقضيها راضية إلى جانبه بضيق شديد ولكنه احتفظ بأحزانه لنفسه، وآمن في الوقت نفسه بعدالتها. وظل على إيمانه الراسخ بمعتقداته المقدسة، بالحياة الشاقة المقدسة، بالجهاد والعذاب، بالأمل البعيد المتعالي. وقال إن العجز أحيانا عن بلوغه لا يزعزع الثقة به، ولا المرض ولا الموت نفسه، ما دام أن الإصرار على المضي نحوه هو المسئول عن وجود النبل والمعنى في الحياة.
وكره كلمات التشجيع الجوفاء، وسلم بأن تقلده للوظيفة الجديدة حلم، كما سلم بأن نهوضه لإنجاب ذرية حلم آخر، ومع ذلك فمن يعلم؟!
وما يحز في نفسه أن كل شيء يمضي في سبيله دون مبالاة به.
التعيين والترقي والإحالة إلى المعاش، الحب والزواج وحتى الطلاق، صراعات السياسة وشعاراتها المحمومة، تعاقب الليل والنهار ..
وها هي نداءات الباعة تنذر باقتراب الشتاء.
ولعله من محاسن الصدف أن القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس.
Unknown page