وكان لإعدام شيخ البلد دوي شديد في شطانوف والبلاد التي حولها، وسرت إشاعة تقول إن حامد الفلاح أقسم أنه سوف يقتل بيلو انتقاما للشيخ.
ولكن بيلو لم يكن بالرجل الذي يخيفه التهديد، فقد استمر يخرج على رأس الدوريات التي تبحث عن حامد، ولكنه خرج مرة وعاد محمولا على حصانه وجسده ممزق بالثقوب.
ولم ينم الجنرال ليلتها وأمر بتسيير القوات التي كانت تعسكر في شبراخيت إلى شطانوف، وعهد بالقيادة إلى الجنرال كليبر نفسه، وكانت مهمة القائد الجديد هي التنقيب في منطقة شطانوف وما حولها بحثا عن حامد هذا، الفلاح ذي الإصبع البنصر المبتور، والعصفورتين الموشومتين على وجنتيه.
ولم يكن الهدف من القبض على حامد هو إعدامه لرد اعتبار جيشنا فقط، ولكن كان الهدف هو القضاء عليه نفسه؛ إذ إن قتله لبيلو أكسبه شعبية هائلة في القرى المجاورة، وشعور الفلاحين لنا باعتبارنا كفارا وأجانب وأعداء قد بدأ يتبلور حول شخص حامد هذا، خاصة وقواتنا كانت لا تراعي المجاملة في الاستيلاء على الأطعمة وعلى الخيول بلا مقابل.
وضع كليبر خطة دقيقة حاصر بها منطقة وسط الدلتا كلها حتى أصبح وقوع حامد متوقعا بين يوم وآخر، ولكنا يا صديقي كنا نواجه قوما غريبين لا نعرفهم، فقد وجد كليبر نفسه هو المحاصر وسط السحنات المتشابهة المتفاهمة التي لا تستطيع أن تعرف ما يدور خلف جبهاتها أبدا.
وكانت العلامات المميزة لحامد معروفة بالوشم على وجنتيه وإصبعه البنصر المبتور، فانظر ماذا حدث!
جميع حقول الذرة تركت بلا حصاد، وانتزعت منها ثمراتها وهي واقفة، ففي أرض مصر المستوية لا يمكن الاختفاء والاحتماء إلا في حقول الذرة، تلك الحقول التي يمكن أن يكون بينك وبين الشخص أمتار قليلة ولا تراه، وعرف كليبر عن طريق العيون الكثيرة التي يستخدمها أن كل قرية في الدلتا قد أعدت لحامد بيتا وزوجة! وكانت الأنباء تجيء أن حامد سيكون في قرية كذا في يوم كذا وتهاجم القوة الفرنسية القرية وتحاصرها حصارا لا تفر منه إبرة، ومع هذا تجد حامد ينزلق من بيت إلى بيت حتى يصل إلى حافة القرية ويبتلعه حقل ذرة قريب، وكان كل من يعثر عليه وعلى وجنتيه وشم العصفورتين أو بنصره مقطوع يقبض عليه فورا، ولكن لوحظ أن عدد المقبوض عليهم يزداد بكثرة شديدة، وبعد البحث اتضح أن الفلاحين - لكي يخفوا حامد بعلاماته المميزة، رأوا أن يرسم أكبر عدد منهم وشم العصافير على وجناته ويقوم ببتر بنصره الأيسر، حتى لا يصبح ممكنا أن تميز حامد من بينهم، وبعد أن كان وشم العصافير على الوجنات علاجا لتقوية البصر، أصبح عادة شعبية، وبتر الإصبع البنصر أصبح مجال تنافس بين رجال القرى وشبانها ومرتبة من مراتب الشجاعة والبطولة، وكان لا بد أن يحدث ما حدث يا صديقي، فشيئا شيئا بدأت عصابات صغيرة تتكون من مبتوري البناصر وواشمي العصافير، وتهاجم وتقطع الطريق على قواتنا، وتغتال أفرادها، وكان أفراد هذه العصابات يسمون أنفسهم أولاد حامد، وأطلقوا على حامد اسم حامد الأكبر، ثم سموه حامد السلطان (والسلطان هنا علامة للتبجيل الشديد)، وبدأ اسم حامد يزعج كليبر بشكل رهيب كلما مرت قواتنا في قرية صرخ وراءها الأطفال: «حامد حامد!» وكان المؤذنون الذين يستدعون الناس للصلاة في المساجد (أناس يقابلون أجراس الكنائس عندنا، ولكن بدلا من أن تدق يؤذن الشيخ) كانوا يقولون في آخر الأذان: «انصرني يا رب على أعدائي فإني لك حامد»، وكانت قواتنا حين تمسكهم يقولون: إننا فقط نردد كلام الله وكلام القرآن، وأصبحت عملية القبض على حامد مستحيلة، وعملية حصار وسط الدلتا لا فائدة منها، كان الرجل قد ذاب في الأجساد الخشنة التي تبدو ساذجة، وأصبح المهم هو ألا يقضى على شخص حامد، ولكن المهم هو القضاء على اسمه الذي أصبح كالتميمة والسحر، بل أصبح أخطر من كل بنادق جيشنا، فقد كان الفلاحون يطلقونه على قواتنا أنى رأواها، واسم كهذا إذا اتفق قوم كهؤلاء على ترديده وإطلاقه على آذان قواتنا كل يوم وكل لحظة وبشكل مستمر، يصبح أثره أقوى من الرصاص على معنوية قواتنا؛ ولهذا فكثيرا ما كانوا يفقدون أعصابهم ويبكون أو يقتلون من يكون أمامهم من المصريين، وكلما قتل واحد منهم قتلوا واحدا منا.
وغزا اسم السلطان حامد كل أنحاء الدلتا، ثم دخل القاهرة وانتشر بين أهلها انتشارا جنونيا حتى أصبحوا في حلقات الذكر يقولون بدل «يا سلطان حامد»: «مدد يا سلطان!» ثم غزا الاسم مصر العليا، وتكونت فرق أولاد السلطان حامد في كل مكان، وتلفت أعصابنا يا صديقي من هذا الاسم، كان العمال الذين أستخدمهم للحفر كلما تحدثوا لا يقولون إلا حامد، وأحيانا كانوا يتكلمون بغيرها ولكني لا أشك لحظة في أنهم يقولون شيئا آخر غير: حامد حامد حامد.
ووصلنا إلى مرحلة لم نعد نحتمل فيها سماع هذا الاسم بالمرة، وكم استسخفت إيمانهم بحامد هذا! كانوا في نظري كالأطفال حين يمسكون شيئا، وكلما حاولت أخذه ازدادوا استمساكا به.
ولكن مهما كان استخفافي بهم وبإيمانهم، فقد كنت أعجب بهم بيني وبين نفسي، فتصور، كلمة واحدة مثل حامد حين تبنوها، كلمة، مجرد كلمة، تحولت إلى قوة كبيرة مخيفة، يا صديقي لمجرد أنهم آمنوا بها ، إنهم عجيبون هؤلاء الناس، فإيمانهم ليس عن اعتقاد وتفكير، ولكنه عن حب، يحبون الشيء إلى درجة الإيمان، وإن لديهم طاقة حب هائلة يا صديقي، إنهم من كثرة حبهم لبعضهم (رغم الشتائم التي حدثتك عنها) لديهم أنواع غريبة من القرابات فمحمد ابن بنت خالة عمر، وإذا جاءت سيرة واحد أمام أحدهم وقال لك: إنه من نسائبنا، فلا تظن أنه أخو زوجته بل يمكن أن تكون كل القرابة بينهما أن أحد بلدياته متزوج من بلدة الرجل الآخر، إنهم ليسوا شعبا، إنهم كتلة، وكتلتهم كانت قد التفت تماما حول حامد حتى غدا الجنرال - مهما يكن الجنرال - قزما بجواره، وانظر ما حدث!
Unknown page