كل شيء هدأ وسكت ما عدا جعجعة عم ضرغام التي لم يكن يحفل بها إلا واحد فقط، عبدون أبو غريب، الذي كان قد أخذ طريقه إلى الجرن وقد رفع ذيل جلبابه من الخلف آملا أن يتحدث إلى عم ضرغام لينفس عن نفسه ويلعن فاطمة وابنه وأهل العزبة لكائن من حتى لو كان عم ضرغام.
وفجأة انطلقت زغرودة من الحجرة الداخلية، ترددت على أثرها الزغاريد في المنزل، ثم في الخارج والألسنة تردد: «سليمة، إن شاء الله، سليمة والشرف منصان.»
ولحظتها فقط، رفع فرج رأسه المنكس، ولأول مرة كان يجري فيها الدم، ولأول مرة نطق وقال: «هاتوها.»
وبعد لحظات، ومع أن عم ضرغام كان قد كف عن جعجعته إلا أنه ما كاد يكف حتى كانت العزبة تشهد أعظم جعجعة قامت فيها، عند بئر الساقية القديمة العميق الذي يزيد عمقه عن أطوال ثلاثة رجال يقفون فوق رءوس بعضهم، عند البئر كان عبدون يمسك ابنه غريب من زمارة رقبته ويحاول بكل قوته العجوزة أن يجذبه ليدفعه ويغرقه في البئر، بينما عشرات الرجال يمنعونه ويحاولون تهدئة خواطره، وكان عبدون كلما جذب ابنه ووجد نفسه عاجزا عن تحريكه من مكانه ازداد هياجه وغضبه وانصبت اللعنات من فمه كالحمم، وكل من كان يرى عبدون في موقفه ذاك كان لا بد أن يؤمن أنه حقيقة يريد إغراق غريب في البئر، وأنه جاد في تنفيذ ما يريد، ولكن كان هناك شيء ما، لعله في طريقة زعيقه، لعله في نوع الكلمات التي كان ينتقيها ليشتم بها ابنه، كان هناك شيء ما لا بد تلمحه وتحس معه أنه في أعماق نفسه غير خجل من ابنه، بل أكثر من هذا، ممكن أن يكون فخورا أن ابنه هو الذكر وأنه هو المتهم بالفتك.
أما في بيت فرج فقد كانت هناك مذبحة، كان فرج يضرب فاطمة بالتقصيرة التي يصحن بها البن، وكانت فاطمة تصرخ، وزوجته تصرخ خوفا عليه أن يقتلها، ونساء الجيران يصرخن، والرجال كثيرون داخل البيت وخارجه يحاولون منعه بلا فائدة، وفرج كالوحش الهائج يريد حقيقة أن يخلص على أخته.
ولكن، ربما في ضبط قوة الضربات التي ينهال بها على فاطمة وربما في البريق الذي يملأ عينيه والذي لم يكن بريق غضب خاص أو فرحة خاصة، كنت تلمح شيئا، فصحيح أن فاطمة لم تخطئ وشرفه منصان، ولكنه لا بد أن يقوم بعمل ضخم كبير قاس يرد به على آلاف الخواطر التي لا بد قد دارت في الرءوس وعلى كلام الناس، وكلام الناس كثير.
وطبعا لم يغرق عبدون ابنه، ولم يقتل فرج أخته، مالت الشمس للمغيب كما تعودت أن تميل، وعاد السارحون في الغيطان يسحبون البهائم ويحملون عشاءها فوق الحمير، وبدأت الأدخنة ترتفع من أسطح البيوت الطين وشقوقها، وهبت روائح التقلية والزيت المقدوح تفتح الأنفس للعشاء، وصلى الرجال المغرب، وانتهى صعود النساء وهبوطهن إلى السطوح، وفرغن من تبييت الدجاج وعلف البهائم، وما كاد العشاء يؤذن حتى كان الهدوء الهائل الخالد قد خيم على العزبة من جديد، وحتى كان كل ما يتعلق بما حدث قد نوقش وأعيد نقاشه حتى فرغت الجعاب، وثقلت الرءوس، وبدأت ذبالات المصابيح تخفت وتتوارى، وبدأ النوم يزحف مع الظلام، وبدأت الأجساد تتمدد تعبة لا حراك بها.
وحين أصبحت فاطمة وحدها، حين نام الجميع وبقيت هي محطمة مستيقظة بدأت تبكي، لم تكن تريد، ولكن الدموع بدأت تسيل رغما عنها صانعة قناتين لامعتين يصلان ما بين عينيها وأرض «البحراية» التي كان فرج قد حكم عليها أن تنام فيها بلا حصيرة أو غطاء، ثم بدأت تنشج، وبدأ جسمها يهتز، بل بدأ قفص الفراخ الموضوع بجوارها يهتز ويهز الفرن والبيت والعزبة كلها ويكاد يوقظ النائمين، كانت تبكي بكاء من يتألم ألما لا قبل له به، بكاء الذي جرح جرحا عميقا وجاء الليل عليه فبدأ يحس بالألم، الألم الكاوي الذي لا يرحم. •••
وحاول أولاد الحلال فيما تلا هذا من أيام أن يقنعوا فرج بقبول غريب عريسا لأخته، ولكن فرج رفض رفضا مانعا باتا ملأهم باليأس، أما غريب، فقد كف حديثه عن فاطمة تماما، بل كف من يومها حديثه عن كل النساء، وحلق قصته، وأصبح يصلي، ولكنه كان يضبط أحيانا وهو يحوم حول العزبة، ويتوقف عند النافذة المفتوحة على بيت فرج.
أما فاطمة فقد حبسها فرج في البيت ومنع خروجها وشغلها رغم حاجته الشديدة إلى يوميتها، ولم يقلق فاطمة هذا في شيء، كانت عازفة عن الدنيا لا تريد الخروج، والحيوية المتدفقة التي كانت تبرق في عينيها وخدودها ولفتاتها كأنها نضبت فجأة، ولم يبق لها أثر، وتحولت إلى حيوان بليد كخروف الضحية، لا تبتسم وتكاد لا تتحرك، وكانت إذا تحدثت خرج حديثها ذليلا قد فقد كبرياءه وحلاوته والأنوثة التي تقطر منه.
Unknown page