فيقول الابن: الجميع يحبون أخي أحمد، لا أهمية للحب، وبالقوة وحدها تصان الحقوق.
حتى قال عطا مرة: لقد أنجبت رجلا واحدا وامرأتين!
لم يبال محمود بكثرة الأعداء وتصاعد أعدادهم، وآثر دائما أن يكون مرهوبا على أن يكون محبوبا؛ سواء لدى الموظفين أم المتعاملين، ولا ضجر يوما من رفع القضايا والتردد على المحاكم بصحبة المحامين. ولما مات الأب عطا خلا محمود إلى أخيه أحمد بحضور أمهما وقال له: أصبح من حقك أن تدير نصف الأملاك.
فارتبك أحمد وبانت الحيرة في عينيه فقال محمود: إنه صراع في غابة من الوحوش، وحظ الطيب فيها الضياع!
فازداد أحمد حيرة وارتباكا؛ فقال الآخر: أتوافق على أن أقوم بالعمل وحدي؟ - بكل ارتياح، أنت أخي الأكبر وحبيبي وما عرفنا في حياتنا إلا الحب. - وأيضا فإني لم أهمل فريضة في حياتي، وأعمل وكأن الله يراني.
فقال أحمد وهو يتنهد في ارتياح: ما في ذلك شك عندي.
هكذا حل محمود محل عطا، وكان يوما أسود في حياة الموظفين والخفراء والمتعاملين، كان يمضي في الحقل أو الدائرة أو السوق مثل وابور الزلط، والأعين ترمقه بالحقد، والدعوات تنهال عليه من الرجال والنساء. وذات ليلة وهو راجع إلى السراي انقض عليه مجهولان بهراواتهم حتى تهاوى فاقد الوعي ثم قذفوه في مصرف وتلاشوا في الظلام. ومرت دورية على أثر ذلك فتهادى إلى مسامعها أنين من المصرف فهرعت إليه وأنقذته وهو على شفا الموت. ونقل إلى المستشفى، وكلما سمع سامع بالخبر ضرب جبينه غيظا ولعن سوء الحظ الذي بادر إلى إنقاذه في اللحظة الحرجة. وغادر المستشفى صحيحا معافى، بإضافات جديدة من الكدمات وآثار الجراحة في الجبين والخد والعنق ضاعفت من جهامة منظره ووحشية طلعته، ولكنها لم تغير من طبعه شيئا وإن زادته تسلحا وحذرا. وقال له ابن أخته عمرو أفندي - وكان أحب الناس إلى قلبه: لا بد من سياسة جديدة يا حبيبي!
فقال محمود: الناس لم يخلقوا إلا لسياسة واحدة، والويل للمتراجع!
وكان يزور بيت القاضي في حنطوره الفخيم محملا بالهدايا، ويطيب له الحديث مع عمرو وراضية، ثم يستغرقه الحديث عن قضاياه التي لا حصر لها. ومرة قال له عمرو ضاحكا: ستصبح من فقهاء القانون مثل عبد العظيم!
فيضحك - وكان يكثر من الضحك في بيت القاضي - ويقول: الموت أهون من التفريط في الحقوق.
Unknown page