إنه يجري في أحزانه كالماء يتدافع في مسبله، وتراه يطرد وينعطف ويتمعج لأنه ينساب بالحياة فكأنه يبحث في جهات نفسه وأنحائها عن كل عاطفة ميتة فلا يترك على جانبي الحياة إلا ما ترك الماء على عطفيه من خضرة ونضرة وبرد وسلام، فيخوض المرء فتن الدنيا ويرتكس فيها وهو مطمئن يحمل في باطنه سلام الله، ومهما تكفأت عليه النوائب وعصفت به الحوادث فإنها لا تجد منه إلا ظاهرا أمسكه باطنه وباطنا استمسك بيد الله، كالسفينة في البحر تكتب لها السلامة فلا تجري إلا على قبرها ولا تنبعث خطوة إلا كانت لها فرارا أو ما يشبه الفرار من الموت وكأنها في ذلك البحر اللجي إنما هي روح الأرض أنشأت تهتز وتضطرب.
فلتكن أيها المحزون أكبر من همومك وأحزانك بالغة ما بلغت، وإذا كان الموت يعد شرفا لمن مات مدافعا عن الحقيقة مهما كان وفي أي صورة تمثلت، فإن البقاء في الحياة يكون أحيانا أعظم شرفا منه لمن يدافع مصائب هذه الحياة عن ضميره فلا تستبيحه ولا تزعج الفضائل الإنسانية التي اعتصمت به.
وإذا اشتبكت أيها المحزون بهذه الآلام فكن قويا على مصارعتها، وقد تصرعك مرة إذا بدرت منك غفلة، فلا تكن حينئذ جبانا في النهوض كما كنت جبانا في الوقوع، وليست فضيلتك في أن تنزل على حكم كل ضرورة، فإنك عند حكمها طوعا وكرها ولكن الفضيلة أن تعرف في نزولك من جهة كيف تصعد من جهة أخرى؛ وما دمت حركة من حركات الفلك فلا تحاول أن تقف به عن مسيرة لهوى يعترضك أو تحرفه إلى جهة تعن لك فتتلاشى ويستمر الفلك سائرا، وإني رأيت دوامة الماء لا تلتوي عن تيار النهر إلا لتفتح لنفسها قبرا فيه، وإذا لم تكن قادرا أن تنال ما تطمع فيه فلتكن قادرا أن لا تطمع فيما قطعت عنك أسباب نيله، فإن غاية القدرة في الحالتين الرضى، وأنت في أكثر ما تعاني إنما تتألم بأوجاع الناس من حيث تؤذي نفسك ولا تغني عنهم من شيء، فإنك لا تملك إلا نفسك ولا تملك نفسك إلا فضائلها، وأنت على ذلك تجاري بآمالك أقواما من الأغنياء هم أصابع الدنيا في كفيها وقدميها ... لا يعرفون إلا فلسفة الحس ولا فلسفة لهم إلا أن كل حقائق الدنيا لو حللتها الفلسفة أو العلوم أو الأديان لألفتها على كل حالة حقائق ذهبية ... هكذا اصطلح الناس كأن الله لا يعطي ولا يمنع إلا بعد أن يتواضعوا فيما بينهم على ما يسمونه إعطاء وحظا مما يسمونه منعا وحرمانا، وكأن ليس في الأرض غني عقيم بلغ من الدنيا ومن الكبر ومن العقم جميعا، ثم نظر إلى كنوزه العريضة ونظر معها إلى طفل يلعب في بيت رجل فقير ويملؤه بالضحك فعرف من هذه الحقيقة الحية مقدار ذلك الوهم الميت الذي يسميه الغنى، وكأن ليس في الأرض رجل ذكي عبقري لا يملك إلا عقله وهمة نفسه وهو مع ذلك لا يسره أن تكون له بهما كنوز فدم غبي له من المال وبلادة العقل وصغر النفس مقادير يوازن بعضها بعضا، وكأن ليس في الأرض محب دنف يهوى غادة فاتنة وقد عرف ما هو الغنى في اصطلاح القلب كما عرفه الذكي في اصطلاح العقل وكما عرفه العقيم في اصطلاح النفس.
إن الطبيب الحكيم لا يجاري العليل ولكنه ينظر إلى العلة، وإن الله سبحانه وله العزة لا يبالي باصطلاح الناس ولكنه ينظر مصلحتهم حين يعطي ويمنع، فليس في الأرض فقير قط إلا عند نفسه، ولو اطلع كل إنسان على الغيب لما اختار إلا ما هو فيه.
وكذلك لا تنسل أيها المسكين المحزون ريش جناحيك اللذين تطير بهما لتنظر لون ما تحته من الجلد فتترك نفسك بلا إيمان وتدع قلبك بلا توكل وتسقط آخر الأمر مع هؤلاء الذين لا يرتفعون عن الأرض في طيرانهم نحو السماء إلا مقدار ما يرتفع غبار الأرجل في طريق السابلة.
ويحي! كيف ترامت بي شجون الحديث أيها القمر الضاحك الطروب حتى جعلت غبار الأرض بيني وبينك، بل غبار الأرجل في طريق السابلة؟ لقد شبهت علي هموم الإنسان هذا المحو الأسود الذي يزين جبهتك حتى لحسبته عاطفة من عواطف الرحمة رسمتها بعض الغضون في تلك الجبهة المتهللة كأن السماء تجاوب بها نظرات المحزونين في الأرض، فاعترضت، هذه النظرات أراها وأخبرها لأعلم علمها فما ألقيت علي حتى صرت هما متجسما، وانتظمت تلك اللحاظ في قلبي فما هو إلا صفحة وما هي فيه إلا أبيات القصيدة الإلهية التي ترجمتها بلساني هذه الترجمة الضعيفة كما يعبر لسان المتألم عن أوجاعه بعض الأنين والزفرات.
وليت شعري أين أنا من مبلغ ذلك، وهل في الأرض من يستطيع أن يضع منطقا للغة القلب الإنساني فيترجم به قصيدة الآلام التي تسيل رقة لأن كلماتها كلها (عيون)، والتي تنسكب فيها كل قوى النفس المختلفة كما تتدفق الجراح على نمط واحد بدم واحد، ويكون ألم الحب أبلغ معنى فيها وتكون أنت أيها القمر بضيائك وجمالك وآمال العشاق فيك وابتسامات الحسان لك فلسفة الخيال لهذا المعنى اليتيم؟
أيها القمر! إن كان في الناس من يظن أن الفلسفة تكون دين المستقبل الراقي فإنما هي فلسفتك المؤمنة الجميلة التي تجمع الإيمان وهو الحب السماوي، وبين الحب الذي هو الإيمان الأرضي، وغاية الرقي لهذا المستقبل البعيد أن يكون أفق آماله أدنى إليك بطهارته وجماله، وما من رجل حكيم يحلم بهذه المعيشة السماوية على الأرض أو يفكر فيها إلا وهو يقرأ تاريخ أحلامه في سطور أشعتك، ويرى هذه الأشعة نفسها كأنها معاني ذلك المستقبل تهبط كل ليلة إلى الأرض لتعتاد الإقامة فيها، ثم لا تلبث أن ترى الناس قد هبوا من مضاجعهم حتى تفر إلى السماء مذعورة وتتوارى مع الأحلام كأن الناس تشابهوا عليها وهم نيام فلما رأتهم منبعثين رأت أكثرهم ليسوا من الناس ...
الفصل الثامن
وكم ناجاك أيها القمر من عاشق قبلي، فإنك ما انفصلت عن الأرض إلا ليجعل الله منك أفقا لآمال الإنسانية الجميلة، بل أنا لا أحسب عاشقا من لا يناجيك ومن لا يأتي بدموعه وأحزانه وهواجسه وآماله فينطرح في هذه اللجة التي ترسلها من شعاعك وينغمس فيها ساعة ثم يخرج وكأنه جسم من نور يخفق في جنبه قلب كالنجم ويترك في نورك بقايا ظلمات نفسه الحزينة تراها السماء فترى بها كيف يكون ظل هذا القلب الإنساني المتألم، ثم تجمع أنت هذه البقايا وتدرجها في قطعة من شفق الفجر تشابه الدم الذي كانت تغتدي به من الحياة وتدع الزهرة الحسناء ترسل عليها نظرة من نظراتها الفتانة لتعرف أي ثمن من الأنفس والقلوب تشترى به في الأرض ابتسامة كابتسامتها في السماء.
Unknown page