ثم سرنا بعد ذلك إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالسم فيسقون سما ملتهبا يقطع أحشاءهم، ويفتك بقلوبهم وأمعائهم ورئاتهم، فيتصبب العرق من أبدانهم، وهم يتلوون من الألم كما تتلوى الديدان. ثم تركناهم وسرنا إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالجنون، فيعطى الواحد منهم شربة يشربها فيجن، ثم يؤتى إليه بولده المعذب مثله، فيخنقه الأب المجنون ويأكل منه، ثم تعطى له شربة أخرى فيفيق من جنونه، ويرى ما فعل بابنه فيصيح كالمجنون، ويضرب رأسه بحيطان الجحيم، وينتف شعره، ويعض نفسه حتى يتهرى لحمه من العض، ودموعه تسيل على جسمه، ثم تعاد الحياة لابنه، ويسقى الابن شربة الجنون، فيفعل بأبيه ما فعل أبوه به.
فلما رأيت هذا العذاب اشتد بي الألم والوجل، وسقم قلبي منه، وكانت الزبانية كالوحوش المفترسة، يقطعون أجسام المعذبين، ويأكلون منها، ثم يقرضون أسنانهم، ويلحسون الدماء التي لوثت شفاههم، ثم يضحكون ضحكة الظفر والجذل، وكأن هذا الجحيم أربعة أشياء جمعت في مكان واحد، مارستان كبير، وميدان حرب، وحريق هائل، وحمام ساخن.
وكان في الجحيم أنواع كثيرة من العذاب غير ما ذكرت. منها العذاب بالصواعق الدائمة، والعذاب بالزلازل والبراكين؛ إذ يرمى بالمعذبين في جوف البركان. ومنها العذاب بالحيوانات المفترسة مثل الأسود وغيرها، إذ يجعل المعذبون فريسة لها. ومنها العذاب بالثلج والبرد الشديد. ومنها العذاب بالجوع والظمأ. ومنها تعذيب المعذب بأن يدفن حيا. ومنها التعذيب بالسهام المسمومة.
ولما أظهرت لإبليس اشمئزازي، وشدة امتعاضي من تفننه في أنواع العذاب، قال: أما علمت أن الجحيم مطهى يطبخ فيه طعام الأبالسة؟ فأنكرت على إبليس أن يكون ذلك صحيحا، فسار بي إلى تنور عظيم، ورأيت الزبانية يجيئون بفتيات وفتيان من المعذبين عراة، وهم أنعم الناس جلدا، وأرقهم لحما، وأجملهم جسما. فقلت: ماذا تصنعون بهؤلاء؟ قال: إننا نصنع غذاء. ثم نادى «إبليس» أحد الزبانية، وقال لي: هذا هو الطاهي، ثم سأله أي أجزاء هؤلاء الحسان نستلذ أكله؟ قال: الصدر لنعومته ولينه، ونحن نصنع منه أصنافا كثيرة. وهو غذاء المقربين من أهل النار، أما الرأس والأكارع فإنها غذاء الأصاغر.
فلما رأى إبليس تعجبي وإنكاري، قال: لم تتعجب؟ ألست ترى السواد الأعظم من الناس يعيشون في الدنيا تعساء، يعملون ويشقون نهارهم وليلهم، ثم يكاد أحدهم لا يصيب الكفاف، وإنما هم يسخرون كالحيوانات العجم، كي تسعد الأغنياء بثمار عملهم، فكما أن الأغنياء في الدنيا يأكلون لحوم الفقراء، ويشربون دماءهم، كذلك في الآخرة تنضج لحوم السواد الأعظم من الناس في الجحيم، كي يستلذ المقربون أكلها.
وأنت ماذا يروعك من أنواع العذاب التي رأيتها في الجحيم؟ إنها كلها مأخوذة من دنياكم، وكل فرد منكم معرض لأن يعذب في الدنيا بشيء منها. ألستم تعذبون بالسم والجنون والتقطيع والتمثيل وبالخوازيق وبالحيوانات المفترسة وبالزلازل والبراكين وبالنار والجليد وبالسهام والسيوف وبالقنابل وبالأمراض والحشرات وبالجوع والظمأ وغيرها من أنواع العذاب؟
وليست دنياكم إلا جحيما كبيرا، فلا يعيش في الدنيا إلا من أجرم وأفسد في حياة قبل الحياة الدنيا، وإنما عيشته في الدنيا تكفير عن سيئاته التي أتاها في حياته الأولى. أما من أحسن عملا في تلك الحياة الأولى، فإنه يعيش في عالم آخر غير عالمكم.
اختراع التقبيل1
يا رعى الله من اخترع التقبيل، فإنه قصيدة من قصائد النسيب، وآلة من آلاته، ونغمة من نغماته. حدثني فيلسوف قال : إن «آدم» هو أول من اخترع التقبيل. قال: زعموا أن آدم وحواء ذهبا إلى شجرة من شجر توت الجنة، وجعلا يأكلان من ثمرها، حتى سال رضابهما، وامتزج بماء الثمر الذي أكلاه، فأعطاه ماء الثمر من حلاوته، فبينما يأكلان لمست شفة «آدم» شفة «حواء» عن غير قصد، فراقتهما تلك اللمسة المعسولة بعصير الثمر، فكانا كلما أرادا أن يراجعا لذتها ذهبا إلى شجرة التوت - يا ليتهما لم يذهبا بعد ذلك إلى الشجرة المحرمة - وبللا شفتيهما بعصير ثمرها، ثم حك أحدهما بشفة الآخر.
وجاءت «حواء» إلى «آدم» يوما، وقالت له: يا «آدم» إنك قد اخترعت نوعا آخر من أنواعه، قال «آدم»: وما هو؟ قالت: هو التقبيل بإطباق الشفاه. قال «آدم» أجدت يا «حواء»، ولكن لا غرو، فأنت أم النساء. وزعموا أن الحلاوة التي نذوقها إذا قبل أحدنا عشيقته هي بقية جاءتنا من سبيل الوراثة، من حلاوة ثمر توت الجنة الذي بلل «آدم» و«حواء» شفتيهما بعصيره.
Unknown page