ومن العجيب أني التفت إلى جانبي فلم أر «إبليس»، ثم نظرت إلى مكان الأركستر، فإذا هو دليل العازفين، ورئيسهم، وقائدهم. وقد أخبرني بعد ذلك أنه هو الذي وضع النغمات التي ترقص على أوزانها الضمائر. وكانت الرقصة الأولى رقصة الكبر والتيه، ولكن الضمائر كانت تسميها رقصة عزة النفس والإباء، ثم بعد ذلك كانت رقصة الجبن والذل التي كانت تسميها الضمائر رقصة الحزم والتؤدة والصبر، ثم بعد ذلك كانت رقصة النفاق التي تسميها الضمائر رقصة الكياسة والذكاء، ثم رقصة الظلم والاستبداد التي كانت تسميها الضمائر رقصة العدل والحرية ... إلى آخر ما رأيت وسمعت من الرقص والأنغام، فعلمت أن ضمائر الناس تدين لإبليس، وتشرب من كأسه، وتسكر من خمره، وترقص على نغمه، وتحسب الكبر إباء، والتيه عزة، والجبن حزما، والذل صبرا، والنفاق كياسة وذكاء ... والظلم عدلا.
ورأيت ضمائر من كنت أظن فيهم الخلق الحميد، فإذا هي سوداء قبيحة مثل أوجه القرود، ورأيت بينها ضميري، فوالله ما عرفته حتى ناداني وعرفني نفسه، وأنا أنكره وهو يتشبث بي، ويقول: أنا صاحبك فلا تخجل مني، فأقول له: اذهب عني فإنك لست ضميري. إن ضميري نقي طاهر، وأنت قذر، فيضحك الملعون ضحك الساخر. فمن لم يرضنا من أصحابنا وصفنا له ضميره، وبينا مواضع قبحه، فقد رأيناها موضعا موضعا.
وبعد ذلك مررنا بفتيان سكارى، كل ينظر إلى وجه أخيه، ثم يضحك من غير سبب. فسألت «إبليس» عن الضحك وأصله، وكيف كان اختراعه؟ قال «إبليس»: إن الرجال الوحشيين الذين لا يعرفون الحضارة والمدنية مثل رجال نيام نيام الذين يستطيبون لحم الإنسان ويأكلونه، لا يضحكون، بل عليهم من وحشيتهم وقار كثيف، حتى إذا سكروا استفزهم السكر، فيضحكون من غير ما سبب. وكذلك أجدادهم الوحشيون في أول الخليقة الذين كانوا يستطيبون أيضا لحم الإنسان ويأكلوه، فإنهم كانوا لا يضحكون، ولا يمرحون حتى عرفوا كيف يصنعون الخمر، فعلمهم شربها الضحك.
وأما أنتم فإن ضحككم عادة ورثتموها عن أجدادكم، فهو بقية من بقايا تأثير الخمر فيهم، قلت: ولكنا نجد الفرد منا يجيد الضحك وهو لا يشرب الخمر؟ قال «إبليس»: إنما سبب ذلك أن أجداده الأولين كانوا يدمنون شرب الخمر، ولولا إدمان أجدادكم معاقرة الكأس لما استطعتم أن تضحكوا. ثم جعل «إبليس» يضحك ، فقلت: أما والله إنك لساخر فظيع، وهذا صوت ضحكك مثل صوت تصادم الأفلاك، فأي شيء كان يستفز أجدادك إلى الضحك، أعني: إذا كان لك أجداد؟ ولكني أعرف أنك لست عريقا في النسب.
الإنسان والبهائم
حدثني «إبليس» قال: إني أرى في الحيوانات العجم خصالا هي في الإنسان ضئيلة خافية. فللكلب من الوفاء والأمانة ما ليس للإنسان، وللخيل من الود والولاء ما لا يبلغ بعضه الإنسان، وللبغال والحمير من الصبر والحزم ما ليس له، وللقرود من الذكاء والفطنة، وحب التقليد ما ليس له، ولو فطنتم يا بني آدم لرأيتم أن تزوجوا بناتكم من ذكور البغال والحمير والكلاب والقرود؛ لكي يكتسب بالوراثة نسلهن من حميد صفات هذه الحيوانات - انظر أيها القارئ إلى سخر اللعين «إبليس»، واحذر أن تصدق قوله، فإنه كاذب لئيم.
قال «إبليس»: ولا مراء أن هذا يرفع من شأن الإنسان، ولا تحسب أن النساء ينزعجن من هذا الزواج، فإنهن قد ألهمن فضائل الحيوانات، وهذا تفسير ميلهن إلى صغار الكلاب والقرود، ولقد بلغني أنكم فطنتم إلى ما يعود عليكم من الفوائد فتزوجتم من إناث الحيوانات العجم، وزوجتم نساءكم من ذكورها. فإنك إذا مشيت في الأسواق، ورأيت أحد الناس حكمت عليه أنه من نسل القرود، لما يبدو لك من ذكائه وفطنته وحبه التقليد. وإذا رأيت رجلا آخر حكمت عليه أنه من نسل الكلاب لما يبدو لك من أمانته ووفائه، ولقد قيل إنكم عرفتم بالذكاء والفطنة، فما سبب هذا الذكاء، وأين مصدره؟ إلا أن تكونوا من نسل القرود فاكتسبتم هذا الذكاء من أجدادكم القرود.
على أنه ليس في ذلك عار عليكم، إذا صح ما يقوله «داروين»
1
الفيلسوف الإنكليزي عن أصل الخليفة، فإن قوله يجعلكم وغيركم سواء في النسب، ولكنكم تكثر في بلادكم الجثث المحنطة التي تدعى الممياء من صنع القدماء، على أن الأحياء منكم جثث محنطة، فأنتم اثنا عشرة جثة محنطة، وهذا سبب أنك إذا رأيت مصريا رأيت في عينيه خيال الموت ، وشممت منه ريح الموت.
Unknown page