فهل تعلمون يا قوم أنه يقوم مقام هذه الكلمة في جلب النفوس وجذب القلوب إلى النصح، والولاء في الخدمة إنعام بضياع أو إحسان بأموال أو تقليد لرتبة أو نشان، وانظروا إلى ذلك الرجل العظيم كيف أتقن صناعة الألفة في تربية رجاله وما للمملوك صناعة غيرها، فإذا أتقنها أحدهم فاز بالتسلط على النفوس، واحتكر مودات القلوب، فيصفوا له الملك ويطيب له الحكم.
الشيخ العالم :
أصبت وصدقت وقد اطلعت في التاريخ القديم على واحدة في هذا الباب للمنصور العباسي، تدل على براعته ودقته في صناعة الملك، وهي أنه كان يأكل ذات يوم وبجانبه ابناه مع شيخ من قواد جيشه ذهبت أسنانه لكبر سنه، فكان يسقط من فمه بعض الفتات وهو يأكل والأميران يتغامزان عليه، فالتفت إليهما الخليفة فرأى ما بينهما، فمد يده فجمع ما سقط من ذلك الفتات فأكله، فقام القائد يقول له: «لم يبق إلا ديني أقدمه لك يا أمير المؤمنين فأمرني بما تريد.»
المدير السابق :
وأنا أقص عليكم واحدة أخرى للمغفور له محمد علي تشهد بلطف سياسته وحسن عطفه على الأهالي وشفقته على الرعية، وهي أن أحد المديرين أراد أن يفوق إخوانه في الخدمة لينال مكانة عالية من أميره، فجد في تحصيل الأموال، وتغالى في طريقته، فأخذ ما عند الأهالي من المال جملة واحدة، فضج ضجيجهم واشتد صياحهم حتى بلغ مسامع ولي النعم، فأمر بإحضار المدير، فلما وقف في حضرته قال له: ادن مني، فلما دنا منه أخذ بعنقه في قبضة يده وصار ينتزع من رأسه شعرة ومن قفاه شعرة ومن عارضه شعرة ومن حاجبه شعرة؛ حتى جمع في قبضته خصلة من الشعر والمدير لا يجد لذلك من الألم إلا أثرا خفيفا، ثم إن الأمير انتقل إلى لحية الرجل، فانتزع منها خصلة دفعة واحدة من جهة واحدة بمقدار تلك الخصلة المتفرقة، فنبع من تحتها الدم وصرخ المدير من شدة الألم، فقال له محمد علي: «هكذا تختلف المعاملة مع الرعية في جباية الأموال، إذا أنت أخذت من هاهنا درهما ومن هاهنا درهما آنا بعد آن خف الوقع على الأهالي ولم يدركوا الألم، وحصلت منهم على مثل المقدار الذي تأخذه جملة واحدة في وقت واحد مع شدة الألم، كما رأيت الفرق بين انتزاع الشعرات متفرقات وبين انتزاعها مجتمعات، والكمية واحدة والألم بينهما مختلف، فإياك أن تعامل الناس بعد اليوم بما يلجئهم إلى الشكوى ويبعثهم إلى الاستغاثة.»
الشيخ العالم (منشدا) :
فلا تكثروا ذكر الزمان الذي مضى
فذلك عصر قد تقضى وذا عصر
ورحم الله الماضي وأعاذنا من الحاضر وأجارنا من المستقبل، وإني لأراكم أيها الأمراء مهما أسهبتم في محاسن المغفور له وأفضاله، وأطنبتم في حميد أخلاقه وخصاله، فلستم ببالغي حق الشكر، ولا موفين بجميل الذكر، ويكفيه من الحسنات التي يغني ذكرها عن الإجمال والتفصيل، وتحكم له بالسبق في باب التمييز والتفضيل، أنه كان يقرب العلماء ويعظمهم، ويدنيهم منه ويكرمهم، ثم يقضي حاجاتهم، ويتبرك بدعواتهم، ولقد رأيت له رؤيا صالحة تحكم له في أخراه، بأن له جانبا مع الله، وأنه نال جزاء الإحسان، بسكنى فراديس الجنان.
قال عيسى بن هشام: وأقبل في أثناء هذا الحديث رجل من أهل مكة المعروفين بالمطوفين أو المزورين فتقدم إلى رب الدار فقبل يده، وإلى الشيخ العالم فلثم ذيله، ثم وضع عن يده صرة فأخرج منها قطعة من الحرير الأخضر وجزءا من التمر ومشطا ومكحلة وسبحة وشيئا من الحناء، ثم قرأ الفاتحة وخاطب الأمير بقوله:
Unknown page