ثم سمعت الحفيد يجاوبها والعرق يتساقط من جبينه والوجد يقطع أنفاسه: «تالله ما اشتريت شيئا، ولكن بعت أشياء لأشتري لك العقد بثمنها، ولا يغرنك ما يقال لك عن ثروة هذا الصاحب الدنيء الخائن وعن قلة أموالي ورهن أطياني، فأنت تعلمين بمقدار الأموال التي ستأتيني من اكتساب القضايا المعلقة لي في المحاكم كما ينبئك به المحامي في كل حين.»
وما سمع ذلك الصحاب سبه بهذين النعتين حتى اضطرم واضطرب، وثارت به سورة الغضب، فتقدم فلعنه وشتمه، ودفعه ولطمه، فوعده الملعون الملطوم، بالمبارزة في يوم معلوم.
ثم علا هنا صياح أيضا في مجلس القمار بين صديق وصديق، أحدهما في يسر والآخر في ضيق، وأخ يبغي الاقتراض من أخيه، ومفلس يطالب ميسرا بدين لا يؤديه، وانكشف الجدال كذلك عن الضرب واللكم. وانتهى النزاع بالصفح واللطم.
واشتبك خصام آخر في ركن المكان، بين أهل السبق والرهان؛ هذا يقول: فرسي سابق، وفرسك لاحق، وذاك يقول: «ركبداري» حاذق وابن حاذق، وجوادك قصير وجوادي شاهق، وأنت الآن مقر معترف، بأن الوزن بينهما مختلف، واشتدت المنافسة والمنابزة، وجرى بينهم حديث للمبارزة، كل هذا والمرأة تتسحب من حلقة إلى أخرى، تسحب الحية والأفعى، فتطفئ نار الجدال مرة على حسب بغيتها، وتشعلها طورا لخبث نيتها.
ورأيت الأجدر بنا أن نتركهم على هذه الحال، فجذبت بضبع الباشا وخرجنا من ذلك المكان، وأسرعت به منحدرا إلى الطريق، فسألني عن تفصيل ما كان وجرى، فترجمت له شرح الحال والمآل، فاحتدم غيظه واضطرم حنقه فلم يطفئه إلا ما قلته له في آخر الحديث من عزم القوم على المبارزة فيما بينهم بالسلاح، فقال وهو يتابع زفراته: لعل القدرة تكشف عني هذا المصاب، وتريحني المبارزة من الأبناء والأعقاب، فقلت في نفسي: إن أبناءكم لم يرثوا منكم أخلاقكم، كما ورثوا عنكم أموالكم، وليس عندهم من الشهامة ما يدفعون به عن الأعراض والأحساب، ولا من الشجاعة ما يؤنسهم بالطعان وبالضراب، ولا يأبهون لكشف العار، وأخذ الثأر، والمبارزة عندهم كلمة تقال بالليل وتمحى بالنهار.
وتذكر الباشا في طريقه شدة حاجته إلى وفاء ما عليه من الأجر للمحامي، فالتفت إلى البيطار يسأله:
الباشا :
هل بقي أحد مما كانوا حولي من الخلطاء والأقران أهل النجدة والفتوة وأصحاب الهمة والمروة؟
البيطار :
لم يبق منهم إلا فلان وفلان وفلان.
Unknown page