ومعلوم لك ما في هذه الصناعة، صناعة الولاية والحكم، من قلة ما يرفعه الصدر، وكثرة ما يضمه القبر، وكان الأولى بكم أن تكونوا كالناس في معايشهم لكل إنسان آلة بينة من صناعة أو حرفة أو مهنة يحسن بها التعيش والارتزاق حتى إذا أنتم نزلتم عن تلك العروش دخلتم في بقية الأحياء من أفراد الجمعية تنفعون وتنتفعون.
الباشا :
تالله إن ما قاسيته من الآلام أمام البوليس والنيابة والمحكمتين واللجنة كان أقل هما، وأدنى شجنا من مرارة هذا النصح والوعظ، وما الرأي عندكما وقد فات وقت التحصيل والطلب، ولم يبق وقت للصناعة والعمل، والموعظة صالحة نافعة ولكنها لمن يجيء لا لمن يمضي.
قال عيسى بن هشام: فأحزنتني حالة الرجل وأشفقت عليه ، فأخذت أتدبر له وأتفكر في طريقة يتعيش بها، وكلما خطر لي في ذلك خاطر خاب رجائي فيه، حتى كدت أيأس من الحيلة، والباشا ينظر إلي وأنا في تفكري تارة ويطرق للتفكير في نفسه تارة أخرى، ثم رأيته قد انتفض من مكانه وأخذ بيدي يقول لي:
الباشا :
قد وجدت والحمد لله بابا لسد العوز وكفاف العيش.
عيسى بن هشام :
ماذا وجدت؟
الباشا :
كان من عادة الحكام أمثالنا في الأزمان السالفة أن يأتوا فيما يأتونه من أعمال الخير التي تقربهم من الله وتعتق رقابهم من النار بعمل صالح اتفقوا عليه كافة، وهو إقامة بناء لجامع أو كتاب أو «سبيل» وكانوا يخصصون له أرضا أو ضيعة وقفا عليه للإنفاق من ريعها على طول الزمان، وقد سلكت مسلكهم واتبعت سنتهم وخلفت لذلك وقفا عظيما؛ لا تناله أيدي الأعقاب بالإتلاف والتبذير، فهلم معي نبحث على ما شيدته ووقفته.
Unknown page