69

Hadit ʿIsa b. Hisam

حديث عيسى بن هشام

Genres

لا أنكر اليوم أن العدل موجود ولكنه بطيء، لا يتحمل أعباء بطئه البريء، وكان الأولى في هذه المحاكمات أن تكون النهاية في البداية، فلا يلحق من كان مثلي هذا الهوان والصغار، ويقع به ما وقع من الحبس والعار، بعد أن يقف موقف التهمة والإجرام، ويحل به ما يحل من التعذيب والإيلام.

المحامي :

إني أهنئك بهذه البراءة وأسأل لك دوام العافية من مصائب الاتهام، ولا زلت تخرج من كل قضية خروج السهم من قوسه، والسيف من غمده، وقد مضى مني الدفاع وبقي عليك الدفع.

قال عيسى بن هشام: وما زال المحامي عاكفا علينا يطالبنا بالأجر، والباشا يعده لآخر الشهر، حتى يأتيه بعض خدمه وأتباعه، بمال من عقاره وضياعه، والمحامي يأبى التسويف والإمهال، وإلا الدفع في الحال.

المحامي (للباشا) :

أتظن أن هذه الوعود، تقوم لدينا مقام النقود، في بلد كثر فيه الإنفاق وزادت الضرورات، وقل فيه الربح كما قلت المروءات، وصار الدرهم أعز عند الأب من بنيه، وعند الابن من أبيه، ولقد تعبت في القضية تعبين باللسان وبالجنان، ولا أستريح منهما إلا بنقد الأصفر الرنان، وإنك لا تصرفني - وإن كنت محمود الخلق - بالوعد، ولكنك تصرفني - وأنا أحمد - بالنقد، وإني لا أريد أن أسكن في بيت المتنبي: أنا الغني وأموالي المواعيد.

فلا تجعل الخلاص من قضية بقضية، والفكاك من بلية ببلية، فذلك ما لا يأتيه العقلاء، ولا يرتضيه الأمراء.

قال عيسى بن هشام: ولما رأيت الباشا لم يقدر على التلفظ، من شدة الحنق والتغيظ، وقفت بينهما وقفة الأريب، وتوسطت توسط اللبيب، فنلت بلطف الالتماس والرجاء، رضاء المحامي بالمهلة والإرجاء، إلى أن ينتقل الباشا من العوز والعسر، إلى الغنى واليسر، وقلت له ما يقال له في باب المروءة والهمة، من وجوب الحنو على من يقع في مصيبة أو ملمة، وأن من تذكر الدهر وغيره، والزمان وعبره؛ لانت عريكته، وطاوعت شكيمته، وليس بين صعود المرء ونزوله، وإشراق سعده وأفوله، وبين غناه وفقره، وصفوه وكدره، إلا مسافة انقضاض القضاء، من رب السماء، فنظر إلي الباشا نظرة الاحتقار والازدراء، وخاطبني بالأنفة والكبرياء:

الباشا :

لبئس الخدين أنت والقرين، كيف تسمني بسمة الفقراء، وتستعطف علي قلوب الضعفاء، وأنا الأمير السري والغني المثري، وأين ما ادخرته في عمري، واكتنزته في عصري، من مال وعقار، وفضة ونضار، وقصور وضياع، وزخرف ومتاع، ولقد كان يضرب بغناي المثل، فإن كنت جاهلا بي فسل، اذهب فأتني بخبر ما خلفت وأبقيت، وأثر ما جمعت واقتنيت، وكيف يخفى عليك وعلى المحامي ما لي من الأموال والعقار، وما قضيت فيه العمر من الجمع والادخار؟ فإني يشهد الله ما تركت حيلة، ولا أغفلت وسيلة، في الحصول على الإثراء والغنى، حتى جمعت منه كثيرا مما تفرق على الورى، فجعلته عدة لشد أزري، وأمانا لي من مصائب دهري، وتركته ذخيرة لأبنائي وحفدتي، وميراثا لأعقابي وذريتي؛ ليكونوا من ذل الحاجة في جنة،

Unknown page