نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
أن أحلى ما تنطق به ألسنة الأقلام، وأولى ما تتحلى به أسماع ذووي الأفهام، حمد الله سبحانه على نعمه المتوافرة، وشكر واهب المنن على آلائه المتوالية المتواترة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالكرامة، وعلى آله ومن صحبه في السفر والإقامة، والتابعين لهم بأحسن سبيل وأقوم طريق، ومن تبعهم بإحسان وتصديق، ما حن غريب إلى أوطانه، وجذبته دواعي أشواقه إلى أحبابه وإخوانه آمين.
وبعد: فقد قصدت أن أثبت في هذه الاوراق رحلتي إلى الديار المصرية، صحبة قاضي قضاتها صاحب النفس القدسية، والخصال الملكية، شيخ مشايخ الغسلام، وملك العلماء الأعلام، فخر الموالي المدققين، وصدر الأفاضل المحققين، شمس الملة والدنيا والدين، الشهير بجوي زاده أعطاه الله تعالى في الدارين مراده، ولا زال بابه الشريف محط رحال الأفاضل، وعتبتع ملتثم شفاه الأماثل. وذلك أني لما امتزجت بخدمته الشريفة امتزاج الماء بالراح، وتقويت بعنايته تقوي الأشباح بالأرواح، وما ذلك إلا أن لحمة الأدب لما ألفت شملي ألفه النسب، تعلقت برفيع جنابه لخصائص آدابه وتشرفت بصحبته وخدمة أعتابه، مع علمي بما قيل: ان السفر ينتج الظفر، ومعاقرة الوطن تعقر الفطن، وتحقر من قطن، فما خبر كنه حالي كان يمينًا لشمالي، وصحبني معه إلى المحمية القاهرة، وأسدى إلي ما أعجز عن شكره من نعمه المتوافرة:
أذاقني العيش الذي أبتغي ... وبلغني الحظ الذي أتمناه
وعلمني كيف المدائح فعله ... وما كنت أدري ما المدائح لولاه
وشاركني في المرتع والمربع، وأحلني محل الأنملة من الأصبع
وحقق آمالي وقرب مجلسي ... وأرشفني كأس النوال مروقا
وقيدني بالمكرمات، أما ترى ... لساني له بالشكر أصبح مطلقا
وكان في ذلك الأثناء قد اتصل بالمسامع الشريفة، وأنهي إلى المواقف العالية المنيفة، أن طائفة النصارى قد جددوا شيئًا في الكنيسة الكائنة بالقدس الشريف، ووردت الأوامر الكريمة لمولانا يتوجها للنظر في ذلك بنفسهما الكريمة، ويفتشا على الكنيسة المذكورة وما زاده الكفار على أبنيتها القديمة. فاقتضى الحال أيضًا توجه مولانا المفتي المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، للتفتيش على الكنيسة المذكورة والكشف عليها، امتثالًا للأوامر الشريفة إليها.
وكان ابتداء سفرنا المبارك من دمشق الشام، يوم الأثنين ثامن عشر شهر شعبان سنة ثمان وسبعين وتسعمائة أحسن الله تعالى لها الختام. وفارقنا تلك الأوطان، ولكن بالأبدان، وخلفنا القلب مرتهنًا عند من فارقناه فيها من أفاضل الأخوان، ولله در القائل:
لي في الشام بقية خلفتها ... أودعتها يوم الفراق مودعي
وأظنها لا بل يقينا أنها ... قلبي فأني لا أرى قلبي معي
ثم سرنا في ظل هذا المولى المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، منشرحي الصدور مصادفين من بره ولطفه ما يوجب غاية السرور، مع أصحاب كالنجوم الزواهر، بل أحباب كالبدور الأزاهر، منتظمين كنجوم الجوزاء، والجملة المتناسبة الأجزاء:
ما في الصحاب وقد بانت حمولهم ... إلا محب له في الركب محبوب
كأنما يوسف في كل مرحلة ... والحي في كل بيت فيهيعقوب
وما كنا نقطع واديًا، ولا نشهد ناديًا، إلا ونتجاذب طرف الأناشيد، ونتوارد أطراف الأناشيد:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالتبأعناق المطي الأباطح
وكان مولانا بلغه الله تعالى غاية الآمال، يجل حضرة المفتي المشار إليه غاية الإجلال، وفي غالب الطريق يجلسه في المحفة مكانه، وكان له عنده من زيادة التعظيم مكانة، على مقتضى ما جبله الله تعالى من لطف الأخلاق، وسلامة الطبع التي والله ما أتصف بها أحدٌ سواه على الإطلاق، وتهذيب نفس شريفة ولكن أي تهذيب، وإفراط تواضع وخلق عجيب:
زادوه تعظيمًا فزاد تواضعًا ... الله أكبر هكذا البشر السوي
ولعمري هو المعني بقول الشاعر:
إمام رست للعلم في أرض صدره ... جبال جبال الأرض في جنبها قف
تفكره علم ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظرف
1 / 1
وكان قائمًا بلوازم المشار إليه ومحمله وكلفه، وخرجه في الذهاب والإياب وسائر مصرفه، حتى أرسل إليه عند إيابه إلى دمشق من العين قدرًا جزيلًا، وكان له في هذه السفرة نعم الخليل وأكرم به خليلًا.
ثم لما كان خامس عشري الشهر المذكور وصلنا إلى المنزل المعروف بلوبية فصادفنا فخر الموالي معلول زاده أفندي دامت معاليه، وصل إلى المكان المذكور ونزل فيه، فاستقبل مولانا قاضي القضاة المشار إليه، ولما تلاقيا حيا كل صاحبه بالسلام عرض قصة الشوق عليه. وكانت سوابق الركب تقدمت إلى المنزل المعروف بعيون التجار مع الأحمال والخيام المتعلقة بمولانا ذي القدر الأجل، واقتضى الحال النزول في هذا المكان وقلنا لأمر ما قال الشاعر:
عرف المحل فبات دون المنزل
وكان تأخر صحبة مولانا من قسم الخيام بيت التركمان الذي اصطنعه في دمشق لنفسه، فنزل تلك الليلة فيه وأتى المولى المشار إليه لأغتنام مصاحبته ولذيذ أنسه، وكان ثالثهما حضرة المفتي حفظ الله تعالى جناب الخطير، ورابعهم خادمهم الحقير. ومضت تلك الليلة بلطيف المحادثة والمسامرة، وكان الغالب في المحل ذكر أحوال علماء الشام والقاهرة.
ثم أوصى مولانا المولى المشار إليه، في شأن أربعة انفار من طلبة العلم بمصر وأكد في ذلك عليه، بحيث أمر العبد بكتابة أسمائهم لئلا ينساهم، فعجبنا من تخصيصهم بالذكر دون من عداهم. وصار عندنا تلفت إلى المذكورين لنعلم المزية التي استحقوا بها هذا التخصيص، واستوجبوا بسببها الأفراد بالذكر والتنصيص، حتى طابقنا مسمياتهم على اسمائهم الأعلام، وعرفناهم بالكنة فّذا هم متساوو الأقدام.
ثم لما بدت غرة الفجر ولاح، وأسفر ضوء الصباح، تأهب كل لمقدمات الرحيل وتلافيها فقصد السير إلى الجهة التي هو موليها، فسار مولانا قاضي القضاة أسبغ الله تعالى نعمه عليه، لتوديع ذلك المولى إلى المكان الذي استقبله إليه. فلما أنقضى التوديع وعزما على الترحال، انطلقنا ذات اليمين وانطلق ذات الشمال. وفي آخر نهار السبت سلخ شهر شعبان بدت لنا لد، فلما قاربنا وصولها، ووافينا دخولها، ونحن سائرون في خدمة المشار إليه مشاهدون وجهة الأغر، إذ شاهدنا أيضًا هلال شهر رمضان المعظم فصدق ما قيل:
فكانا هلالين عند النظر
فعند ذلك نوينا للرحمن صومًا، وأقمنا بها يومًا ويومًا، قضاء لحق ما وجب، من مظنة المشقة والتعب.
ثم ان مولانا كان يعتني في هذا الشهر الشريف لمد الموائد، ويجريها على ما هو المعهود منه من أجمل العوائد، مشتملة من النفائس على ما تعجز عن وصفه اللسن، وفيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين:
لجودك يا قاضي القضاة مزيةٌ ... على السحب لا تخفى على من له لب
فأول جود الغيث قطر مبددٌ ... وغيث نداك الجم أوله سكب
ومن حينئذ توارد طلبة العلم المصريون لاستقبال مولانا، وأتوا إلى خدمته الشريفة رجالًا وركبانًا، وصاروا من بعد ذلك يتعاقبون، وأقبلوا " من كل حدب ينسلون ".
ثم لما كان اليوم المسفر فجره، عن ثالث رمضان المعظم قدره، قصدنا مشهد سيدنا زكريا ويحيى ﵉ بنية الزيارة، ومشهد معاذ وبقية الأماكن المشهورة الأنارة، ودعونا الله تعالى بأدعية مقبولة، وبالإجابة أن شاء الله تعالى موصولة. ثم وجهنا الوجه إلى القدس الشريف لاستباق الخيرات، وللقيام بحق ما يتعين في تلك الأماكن الشريفة من الزيارات. فلما أكدنا بلا استدراك أن المزار قريب، انفرد العبد مع حضرة مولانا المفتي من غير رقيب، وسرنا مصاحبي السرور والاستبشار، متمثلين بقول القائل:
وأبرحُ ما يكون الشوق يومًا ... إذا دنت الديار من الديار
1 / 2
فبينما نحن نتوارد طرف الأخبار، ونتطارحُ ملحَ الاسمار، اذ تطفل شخص من طلبة العلم المصرين راكب حماره يلقبُ بالجمل، وادخل نفسه في البين واعترض اعتراض الجعلَ، قصد ان يدلي دلوه في هذه الحياض، ويفصلَ بين وَصْلِ ما نتطارحه بجملِ الاعتراض، وكنّا نستثقل ظلَّه، ونستبرد طله، لانه اذل اورد كلامًا غير مستقيم، ما نراه الاّ في ليلِ الوهم يهيم فمسنا من شكاسة مصاحبته ما اورث العناء، وكاد لسانُ الحال بل اسانهُ المقال ان يقولَ له ارحلْ لا تقيمن عندنا. فاستطرد الكلام الى مدح دمشق الشام فاوردنا شيئًا من الشواهدِ على لطفها وتفصيلها على سائر الامطار، وادرنا في ذلك ما بيننا مُدامَ رائقِ الاشعار. فاورد الفقير في اثناء المصاحبة، وانشد في ذلك المقام بالمناسبة، الابيات المشهورة في مدحها ومدح جامعها، والمقاطيعَ الواردةَ في معنى ذلك المطربةَ لسامعها، الى ان انتهى الى قول ابن نباته:
ارى الحسنِ مجموعًا بجامع جلقِ ... وفي صدره معنى الملاحةِ مشروحُ
فان يتغالى بالجوامعمعشر ... فقل لهم باب الزيارة مفتوح
فتعرض الرجل المصري للاعتراض ونصب نفسه غرضًا للسهام، وقال يا مولانا ما جلق الا بضمخّ الجيم وفتح اللام. فقلت له: ليس الامر كما وهت، والصوابُ خلاف ما فهمت، لان علماء اللغة قرروا، ونقلوا في كتبهم وحرروا، ان في مادة الجيم واللام مكسورتين بلا خلاف. فكان يتكلمّ بما لا يشفي الغليل، وطلب من الفقير بعد نقلة كلامَ اهلِ اللغةِالدليل، وقال: هذا خلافُ المشهور في ألسنةِ الانام، فقلت له: نعم هومن اغلاط مثلك من العوام. ثم أنه نزل عن حماره وساقة امامه، وحاول ان يصحح بالغلط كلامه، فقصد مولانا المفتي الى الهزء به والتبكيت، واراد الزامه باللطف الى حمارك، فانّ ماذرة مولانا كلامٌ مسلم ليس عليه غبار، وما مثل غلطك الا كمثل الحمار، فان العوام تضم الحاء منه وهي مكسورة، وامثال ذلك كثير من الاغلاط المشهورة، فاستحسن الفقير منه هذا المثال، وقال له: لله درك يا مولاي من مفضال، وفهم والمح اليه من قصد الازدواج، وطفح علينا السرور والابتهاج، فلما لاحظنا تاثر المذكور من ضرب مولانا له بهذا المثل، وانحرف مزاجه من ايراده وانفعل، طفقنا نخاطبه المثلا، وقلنا له تسليةً: ان الله لا يستحي ان يضرب مثلا واكنت اخذت مناّ السرى فلوينا الاعنة لقصد الاستراحية، وتلطفنا مع المذكور وعاملناه معاملة اهل السماحة، واوينا الى اشجار ذات ظل ظليل، وتلونا عسى ان يهدينا ربنا الى سواء السبيل، واستمر بنا الحال مع المذكور برهة من الزمان قعودًا، وشرعنا في التئام ما حصل من جراحات تلك السهام خشبية ان يكون حقودًا، وتبينا الكلام عما كنا فيه من المصاحبة، وقصدنا الى تلوين الخطاب إرادة للملاطفة والمداعبة، إذ بمثل ذلك تطوى شقة الأسفار، وتزول موجبات الأتعاب والأكدار. ثم إلتفتنا إلى صاحبنا الشيخ الفاضل مجموع الفضائل الشيخ علي المالكي بلطف خطاب وتنبيه، وقلنا له أن هذا الشيخ بلديك وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. فبين لنا البتة مناسبة وضع هذا القلب، وقص علينا في وقتنا هذا ما نقضي منه بالعجب، فقال: يا موالينا لا تحكموا علي بالتزام ما لا يلزم، ولا تكلفوني إلى أن أخبر بما لا أعلم، على أن بعض الأعلام قد يغفل حال الوضع عن مناسباتها وينبغي أن تلحق هذه القضية بأخواتها، وما هذه بأول قارورة كسرت في الإسلام، فإن لهذا الأسم مسمى أيضًا بدمشق الشام، فقلنا له: يا مولانا أن ما ذكرته كلام محقق، ولكن قد يفرق بينهما بأن ذاك مقيد وهذا مطلق، فلما رأينا في لفظ المقيد من حسن التوجيه، ما لا يخفى على الفاضل النبيه، كتب الفقير في معنى ذلك حسب ما أقتضاه الحال، ثلاثة أبيات فقال:
قسم علي الجمل الذي في جلق ... جملًا بمصر وفي الحقيقة يفرق
إن الذي في الشام جاء مقيدا ... بالطبل إذ يدعى وهذا مطلق
واللفظ أقوى ما يكون إذا أتى ... فيه الخصوص لنكتة تتحقق
ولعل هذا الحال، وقع في المحل حيث وجب له عدم الإنتقال، وهذا هو الحال المقيد لصاحبه بلا إشكال، سبحان الله، والشيء بالشيء يذكر.
1 / 3
وقد ذكرتنا هذه الواقعة إن بعض المصريين المترددين إلى القسطنطينية كان يجيء لمصاحبة الفقير في الديار المصرية فانجر الكلام يومًا وأستطرد القول إلى المقيد المذكور، فذكر لنا أن بعض الظرفاء المصريين لقيه هناك فلقبه بأبي الهول. فتعجبت من مناسبة هذه النكتة غاية العجب، وقلت: ما أشبه مناسبتها له بمناسبة ذلك اللقب. ووجدت مطابقة هذا اللفظ للموضوع له أوضح من الفلق، وموافقًا له موافقة الشن للطبق، فكتب الفقير في هذا المعنى مقطوعين في الحال، أحب العبد أن يتصلا بهذا المقال، وهما:
رآه البعض من ظرفاء مصر ... وهال القوم منظره الغريب
وقالوا أنه شكل مهول ... فكنوه أبو الهول العجيب
ثم أشرفنا على القدس الشريف آخر ذلك النهار، ودخلنا بعد غروب شمسه. وأستقر منزل مولانا قاضي القضاة متع الله تعالى بوجوده الشريف، وآنسه بالمدرسة المعمورة، وبالقايتبائية مشهورة، أسكن الله بانيها في الجنان أعلى القصور، وشكر سعيه وضاعف له اجور. ولعمري لم تشهد العين أحسن من بنائها ولا أعلى، ولم يتمتع النظر بألطف من رونقها ولا أحلى، فكأنها من حسنها وبهائها بنيت قواعدها على الأفلاك، لا سيما إذا وافتها الشمس بحسن المقابلة من المشرق يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار وفي الحقيقة من نظر حق النظر علم أن هذا الحسن إنما أكتسبته من عطف الجوار.
ثم بيتنا ليلة الوصول مع حضرة المفتي في أرض الحرم الشريف ورحبته الفسيحة، لنتدارك أماكن للنزول في الصبيحة، فعند ذلك كتب الفقير لمولانا شيخ الإسلام الشيخ عبد النبي بن جماعة، بعض أبيات يلتمس منه منزلا في تلك الساعة، صورتها:
يا شيخ الإسلام من عمت فضائله ... كل الأنام وخصتهم فواضله
من فاق في العلم أهل العصر قاطبة ... فليس يوجد فيهم من يطاوله
أتى المحب إلى عالي مقامكم ال ... سامي المكان الذي ما خاب آمله
وليس يدري به يا سيدي سكنًا ... كلا ولا مسكنا يؤويه داخله
وصار كالحوت في البيدا فهل سبب لا ... في مسكن فخيار البر عاجله
زال بابكم السامي محط رحا ... ل العلم بالسعد معمورًا منازله
ثم أن الشيخ المشار إليه أعلى الله تعالى رفيع مقداره، هيأ لمولانا المفتي دارًا تجاه داره، وأنزل الفقير في مكان داخل منزله الرفيع المقام، وعاملنا بأنواع الكرم وصنوف الإحترام، وأغتنمنا لذيذ مصاحبته مدة الإقامة، فجزاه الله تعالى خيرًا وشكر إنعامه. وكان الشيخ المشار إليه كثير التردد إلى خدمة قاضي القضاة مولانا، ويكثر مصاحبته والتحدث معه أحيانًا، وكانت تتسع دائرة الكلام في حضرته العلية فينجر الكلام إلى المصاحبة العلمية، فكان مولانا الشيخ المشار إليه إذا سئل أو أجاب، يبدي العجب العجاب، وإذا تكلم بالأوليات من بعض الفنون يوردها على وجه التفهيم، ويلقيها إلقاء معتقد أن المخاطب خالي البال عنها بقلب سليم وكان في وادٍ ةنحن في واد، وشتان بين مريد ومراد.
1 / 4
وكان إذا أنشد بيتًا من الشعر يخلع أوتاده، ويورده كيف ما أتفق حسبما أقتضاه طبعه وأراده، وما كان مولانا الأفندي يحمل ذلك منه إلا على صفاء المزاج، ويحصل لنا من ذلك غاية الحظ والإبتهاج. فأتفق في غضون بعض المصاحبات، وخلال جمل من المخاطبات، أن مولانا الأفندي أسبغ الله تعالى نعمه عليه، تلطف بحسن إلتفات من مقام التكلم إلى خطاب هذا العبد وأسر إليه، أن مولانا الشيخ كان حلف يمينًا، لا ينشد شعرًا موزونًا، ولا يتكلم كلامًا إلا ملحونًا، ثم أستشعر منه أن لمح أطراف الكلام، فأحجمنا عنه إحجام المرتاب، ونقلنا الخطاب من باب إلى باب. وكنا نقضي غالب الليالي مع مولانا الشيخ ومصاحبته، ونحصل على كمال الإنشراح من صفاء مزاجه وحسن ملاطفته. وكان مولانا المفتي - عامله الله تعالى بلطفه السماوي - عرض عليه في بعض اليالي ما حرره على أماكن من تفسير البيضاوي، في محل درسه العام، الذي كان أقرأه في دمشق الشام، وحضر فيه علماؤها الفخام لينظر تحريره وصنيعه، ويطلع على ما أودعه فيه من النكات البديعة. وكان المشار إليه يترقب أن ينتقل من تصور كلامه، إلى التصديق ورفعة مقامه، فيبدي ما يقتضيه الحال من الثناء اللائق بمثله، ويمدحه بمدح هو من أهله، وينعت فضائله الجسام، بنعوت تليق بالمقام، فلم بمدحه بما يناسبه من جلالة القدر ورفعة الشأن، بل كان ما أعرب عنه من أفعال المدح من باب كان، حيث لم يزد على أن قال له: والله ما كان في ظن الفقير، أنكم تحررونه مثل هذا التحرير، وما هذا إلا كلام صحيح، وما ذلك منك يا مفتي إلا فهم مليح، ثم تحول الكلام من مقام إلى مقام، فجرى في المجلس ذكر شخص ينتسب إلى العلم في دمشق الشام، فبالغ مولانا الشيخ في الثناء عليه، وأسند إليه من الفضل ما يكثر على أمثاله إسناده إليه، فقلنا له: والله يا مولانا لقد أستسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم، فعند ذلك أنشدنا قصيدة قال أن المذكور بهذه القصيدة أمتدحه، فألفيناها عن بلاغة زائدة مفصحة. فقلنا: والله يا مولانا لقد حملتم المذكور حملا فوق ما يطيق، وأن كنتم بنيتم فضله على هذه القصيدة فهو بناء على خلاف التحقيق، فيمينًا بالبراعة وما نصعت، وبالبراعة وما صنعت، أنا قط لم نعهد المذكور يدعي شعرًا ولا يذكر، ولا نعرفه إلا يحدث من فيه ولا يشعر. فيا ضيعة الأدب، ومن أين هذا الإخاء والنسب؟ والحاصل يا مولانا أن سرقة هذه القصيدة ظاهرة، كالشمس في الشهرة والإنارة. ومثل هذه القصيدة لا تسرق إلا أن سرقت المنارة. وليت شعري، أين هذا من قول الشاعر:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس أن كيسا وأن حمقا
وأن أصدق بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
على أن القرائن متوفرة على سرقتها: منها بلاغتها، وفصاحة ابياتها، ومنها اأن المذكور لم يعهد له قصيدة غيرها حتى تشفع بأخواتها. وقد قضينا يا مولانا العجب ممن له هذه الفصاحة الزائدة، كيف لم يتفق له في عمره إلا نظم هذه القصيدة الواحدة، وقد ذكرتنا هذه القضية قضية جرت بين ابن أبي حفصة وعلي ابن الجهم وهي قضية مشهورة، وعند أرباب الادب غير منكورة، وقول ابن ابي حفصة:
لعمرك ان الجهم ما كان شاعرًا ... وهذا علي ابنه يدعي الشعرا
ولكن أبي قد كان جارًا لأمه ... فلما ادعى في الشعر أوهمني أمرا
هذا ثم أن مولانا الشيخ عرض ما عنده من الاسفار، على مولانا المفتي رفع الله تعالى له المقدار، فأختار من بينها كتاب الأتقان، وطلبه ليطالعه برهة من الزمان، فوقع عنده الموقع واعجبه، وأسر في نفسه أن يستوهبه، فعرض بذلك لمولانا الشيخ في بعض المجالس فلم، وعجبا حيث سبيل إلىعوده بسبب من الاسباب، بحكم:
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
1 / 5
وقال لي: غاية القصد أن تسلي خاطره عنه بوجه جميل، وتكون في باب هبته نعم الكفيل. فرتبت لذلك المقدمات حسب الاستطاعة، فسمح خاطره الشريف به ووهبه هبة لا يملك بعدها استرجاعه، فشكره على هذا الإحسان، وعده له من جملة الامتنان، ثم أن الفقير أرسل مولانا المفتي بعد أيام مكاتبة، ولمح في اثنائها إلى هذه القضية بأدنى مناسبة، حيث قال له في معرض عرض المحبة، ووصف المودة والإخاء والصحبة. وبالجملة: فالعبد لم يحتج في اثبات عبوديته ومحبته إلى حجة وبرهان، كيف لا وهي مبنية على اتقان وأي اتقان.
ثم لما كان سابع شهر رمضان المذكور قصد حضرة مولانا قاضي القضاة، بلغه الله تعالى في الدارين ما يتمناه، ما هو بصدده من التفتيش على الكنيسة المذكورة، وما أحدث فيها طائفة الكفار من الأوضاع المنكورة، فتوجه هو ومولانا المفتي المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، وحضر العلماء ومشايخ الإسلام، وجمع كثير من الخاص والعام، وكشفوا على الكنيسة المذكورة، فإذا بقربها مسجد قديم هدم الكفار حيطانه، وحولوا وضعه القديم إلى وضع آخر جددوا بنيانه فعند ذلك أمر سيدنا قاضي القضاة بهدم ما جدده طائفة الكفار من ذلك البنيان، وإعادة المسجد إلى وضعه القديم كما كان، فهدمه المسلمون في الوقت والساعة، وعامل طائفة الكفار بأنواع الخزي والنكال جزاء هذه الشناعة، وقابلهم - قاتلهم - الله تعالى أشد المقابلة، وعزرهم بأنواع التعزير، واعلن المسلمون عند ذلك بالتهليل والتكبير، فضربت الذلة على الكفار وتولوا صاغرين، وأقيمت فيه في الحال الصلوات وشعائر الدين، وكان دخل وقت العصر فتسور مولانا المحراب وصلى بالناس إماما، وأقتدى به المسلمون وذكروا الله قيامًا، وصار ذلك يومًا مشهوداص شهيرا " وكان يومًاعلى الكافرين عسيرا " ثم لما أتممنا زيارة تلك الأماكن الشريفة، ورفعنا أيدي الضراعة والإبتهال في تلك المواقف المنيفة، توجهنا لزيارة سيدنا موسى ﵊، وختمنا ذلك بزيارة من تشرفت به تلك البقاع من الرسل الكرام. فعندما قضينا الزيارات وتمت، وحصل إنشاء الله تعالى ثوابها وبركاتها بالخيرات وعمت، حمدنا الله تعالى على هذه النعمة الشاملة، وتمت مدة الإقامة عشرة كاملة. وصلينا جمعة بالصخرة الشريفة وجمعة بالاقصى، وشاهدنا من الانس والبركة ما لا يحصى، وأنشدنا:
شكرًا لمن بلجود سر قلوبنا ... في منزل الإسرا وضاعف طوله
مولى قطوف نواله أبدى لنا ... في المسجد الأقصى المبارك حوله
ثم في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان عزم مولانا المفتي - حفظ الله تعالى ذاته العلية - على العود إلى دمشق المحمية. فركبنا في خدمة قاضي القضاة لتوديعه، والقلب من فراقه على شفا نار مشغول بتقطيعه، ومدينا الأكف لوداعه:
ولوعة البين تأبى أن تمد يدا
ذكرنا عند ذلك قول القائل:
من لم يمت يوم بين لم يمت أبدا
ثم أنه أوصى الحقير أن لا يقطع مكاتباته عن جنابه السعيد، وأكد ذلك بأنواع التأكيد، ووعد أن يكتب له جوابًا عن كل مراسلة ويكون ذلك على سبيل الجبرو المقابلة. فقلت له: والله يا مولانا أن هذا الصب لمغرم في رسائل إخوان الصفا، فقال: إذن المؤمن إذا وعد وفى، ثم أنشدنا تيمنًا هنالك، ما ينسب إلى الإمام الغزالي في معنى ذلك:
يا من يريد الرحيل عنا ... كان لك الله في أرتحالك
كان لك الله خير واقٍ ... أمنك الله في المسالك
ثم عزم مولانا المفتي على المسير، وسألنا الله تعالى حسن الإجتماع، " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " وقضيناها سفرة لم يتفق مثلها في الأسفار، وقطعنا الطريق معه بالمواصلة بمقاطيع الأشعار، وحصلنا من حسن مرافقته، ولطف مفاكهته على الحظ الوافر، وأجتنينا من زهرات مصاحبته ما يغني عن الربيع الزاهر.
1 / 6
وفي اليوم الرابع عشر من شهر رمضان، عزمنا على التوجه بقصد زيارة خليل الرحمن، فوافينا دخوله آخر ذلك النهار، وشاهدنا ما تحير فيه العقول من باهر تلك النوار. وأتينا إلى زيارة ذلك المقام الشريف بقلب سليم، وتلونا دعائه " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " وزرنا ما جاور مقامه الشريف من قبور أولاده الأنبياء الكرام، وجميع آله عليهم الصلاة والسلام، وأقمنا في جواره يومين وفي وسط صبيحة الثالث عزمنا نحو غزة قاصدين وتلونا قوله تعالى " فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " وودعنا من كان جاء في خدمة مولانا رفع الله تعالى مناره، وصحبه من علماء القدس الشريف للزيارة. وخرجنا في يوم مطر، وفتحت فيه أبواب السماء بماءٍ منهمر. ثم وافينا غزة المحمية في ثمان عشر شهر الصوم، وأقمنا بها يومًا بعد يوم، وتشرفنا بملاقاة عالمها فخر العلماء المدققين، شمس الملة والدنيا والدين. وكنا في غاية التشوف إلى مشاهدة ذاته، والتشوق إلى الإجتماع به وملاقاته فدعانا إلى منزله ثاني ليلة الوصول ومد لنا الموائد، وأغتنمنا تلك الليلة مصاحبته العلمية وحصلنا منها على كثيرٍ من الفوائد. وذكر لنا أن معرفة الفضائل صارت منكورة وعفت معالمها من البلدة المذكورة، وشكا لنا كثيرًا من عدم فاضل في البلد يباحثه ويناظره، بل طالب يحادثه في العلم ويسامره:
ما في البلاد أخو وجدٍ نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وتألم أيضًا من عدم معرفة اهلها بقيمة العلم والعلماء، وما يقاسيه بسبب ذلك من الشدة، وأنشدنا:
كفى حزنًا أني مقيم ببلدة
فقلت له يا مولانا حيث كان الأمر كذلك فما الداعي لتحمل موجبات السآمة، وأنشدناه قول الطغرائي: فيم الإقامة.
وتلونا عليه آية المهاجرة وما فيها من وجدان المراغم الكثير والسعة، وموجبات الحبور والدعة، وقلنا: عجبًا للقلب المصاحب للهموم، كيف يبدي الفضائل والفهوم، فإن الشمس لا تبدو إذ يحول غيم، ولا يخفاكم: " يقيم على ضيم "، وبالجملة:
إذا كنت في أرضٍ يسوءك حالها ... ولم تك محبوسًا بها فتغرب
فإن رسول الله لم يستقم له ... بمكة حال وأستقامبيثربٍ
فذكر لنا حديث حب الوطن، وتنفس الصعداء وأنشد من شدة الكمد والحزن:
بلاد ألفناها على كل حالة ... وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هواؤها ... ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
ثم أتسعت معه دائرة المخاطبة، وأستطرد القول بطريق المناسبة، إلى ذكر رحلته إلى بلدتنا حماة المحمية المحروسة، وتغزل لنا بوصف ما فيها من تلك الأماكن المأنوسة، فتحرك ما عندنا من السواكن، والأشواق إلى تلك المعاهد والأماكن، فعند ذلك تأوه هذا الصب عند ذكر الحمى، وتذكر قول ابن خطيب داريا:
تذكر بالأوطان عيشًا تصرما ... ففاضت على خديه أدمعه دما
وحن إلى أحبابه فتصاعدت ... له زفرات لا تسل عن جهنما
كيف لا وهو كما قيل:
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها
ثم سألني عمن يعهده فيها من أفاضل الأصحاب فكان سائل دمع مقلتي الجواب، وأنشدت:
إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها
هوىً تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفسٍ أين حل حبيبها
وقال: والله يا مولانا أن رونقها في الحقيقة يشرح الصدور ويبهج نفوس، ويعجز عن حصر محاسنها سطور الطروس. ولكن لله درك حيث وفيت حب الوطن حقه، وأديته واجبه ومستحقه، ولعمري لم تشهد العين محبا للأوطان مثلك ولا أشواق، ولم نعهد من قيده الغرام نحوك فيجري الدموع عند ذكر الربوع كالماء المطلق، ولا شاهدنا بأضيع من عينيك للدمع كلما تذكرت ربعًا أو توهمت منزلا فقلت له: يا مولانا كيف لا أكون كذلك وهو:
بلد صحبت له الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العز وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير وجدته ... وعليه أغصان الشباب تميد
1 / 7
ثم حدثنا الشيخ المشار إليه بكثير من حسن المحاضرات، ولطيف المحاورات، التي مانت تصدر بينه وبين فاضلها المرحوم سيدي الشيخ محمد بن ولي الله المرحوم الشيخ علوان، وكان يتعجب من فصاحته وبلاغته التي حارت فيها العقول والأذهان، ويمدح فضائله وفواضله الغزار، ويذكر صفاء العيش الذي قضاه صحبته في تلك الديار، ويشكر ما أسدى إليهمن الفضل والإنعام، وينشد في ذلك المقام:
نزلت على آل المهلب شاتيًا ... غريبًا عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إحسانهم وأفتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
فمن أجل ذلك طاب لي فيها المقيل، وآويت لها إلالى ظل ظليل:
رأيت بها ما يملأ العين قرة ... ويسلي عن الأوطان كل غريب
وقص علينا أحاديث ما شاهده من لطفها ومياهها وجناتها، ودهشتها الغناء وميدانها وبساتينها ومتنزهاتها وما يطرب من تغريد طيورها في السحر، على أعاليالشجر، بفصيح لغاتها، فعند ذلك أنشدته:
لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعليّ أن أبكي بدمعٍ قانِ
ثم أوردنا شيئًا مما تغزل به في محاسنها أهل الدب، وما أطرب من التشبيب فيها بأعين القصب، إلى أن أنتهينا إلى قول القائل:
ما بين صرح وسرحٍ منظر عجب ... تنأى همومك عنه وهومقترب
عاصٍ تتم به الطاعات حيث صفا ... يكاد من رقة باللحظ ينتهب
أنسيت اهلي وكم قد أنسأت رجلا ... قبلي إذا كان للذات يغترب
تشاجر الطير في أشجارها سحرًا ... والماء حيث أجال الطرف ينسكب
يسلي الغريب عن الأوطان رونقه ... في لذة بلداها اللهو والطرب
وافى بنا رجب طيب المقام بها ... فحبذا حبذا شهر التقى رجب
فيا حماة حماك الله فزت بما ... عيا دمشق ولا تحطى به حلب
فالحمد لله حمدًا لا أنتهاء له ... في كل وقت وهذا بعض ما يجب
ثم سألني عن لطفها ولطف الأماكن التي يعهدها فيها الزمن الأول، كقصر أبن حجة ومعاهده التي يمتدح بها في أشعاره ويتغزل، فأنشدته:
وهل عند رسم دارس من معول
وقلت له: يا مولانا أن تلم المنازل والأوطان قد تعرضت لها أيدي الحدثان، ودخلتها في خبر كان، وغيرت منها ما تعهدونه من ذلك الوضع وكاد لسان الحال ينشد عند أطلالها:
فديناك من ربع
ثم أن المشار إليه أطنب في مدح هذه البلدة الغنا، وترنم بلطائف الأشعار وتغنى.
وأنتقلنا إلى مدح دمشق الشام، وأتسعت دائرة بسيط مدحها حيث أقتضاه المقام، فقلنا له: يا مولانا رفقًا أذبت حشاشة المشتاق، وأسلتها دمعًا من الآماق، وبالله عليك إلا ما خففت على هذا المغرم وسليت هذا المروع عنها بالنوى والمتيم، فإن عند هذا الصب حنينا إلى الأوطان ليس يزول، ويكفي في هذا المقام ناهيا قول من يقول:
ولا تذكريني الواديين ولا تري ... لعيني أطلال الربوع فتدمعا
فلولاك ما حن المشوق إلى الحمى ... ولا شام برق الشام من سفح لعلعا
فلما شاهد شدة شوق هذا الصب إلى أحبابه، وان جلده قد وهى، قال راثيًا له:
واهًا له ذكر الحمى فتأوها ... ودع به داع الصبا فتولها
وأنشدنا عند ذلك:
سلام على تلك المعاهد أنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي
ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصالي
فقد صرت ارضى من سوالم أرضها ... بخلب برق أو طروق خيال
وحصل لنا تلك الليلة من مسامرة ذلك الفاضل ما سرينا وابهجنا، وتوجهنا في الصبيحة إلى المنزل لننظر:
أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا ... إن يظعنوا فعجيب أمر من قطنا
فألفيناهم عزموا على المسير من البلدة المذكورة، فتوجهنا لوداع مولانا الشيخ وألتمسنا دعواته المأثورة، فدعا لنا متضرعًا بأدعية صادرة عن صميم الفؤاد، وتلا متيمنًا " أن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ".
1 / 8
ثم لما كان بتاريخ العشرين من شهر رمضان وصلنا إلى المنزل المعروف بقطية من عمل بلبيس الشرقية فاستقبلنا قاضيها وصحبته جماعة من قضاة الديار المصرية وهو مولانا فخر القضاة والمدققين، عمدة الأفاضل والمحققين، تقي الدين ابن المحروم من بالفضائل والكمالات موصوف، عمدة القضاة القاضي معروف، فحصل لنا غاية السرور بملاقاته، وكنا بفرط الأشواق إلى مشاهدة ذاته. وكان مولانا قاضي القضاة عامله الله تعالى بألطافه الخفية، لما جاءه الخبر بتوليه القاهرة المحمية، أرسل لحضرة الباشا بمصر يستخلف المشار إليه مكانه، لتميزه بالفضائل التي فاق بها اقرانه، فسأله عن بعض ما وقع في البين من الأحوال، واستخبر عنها بالتفصيل والإجمال، فأنهى إليه بعض الأمور بطريق العرض، وعرفه ببعضها وأعرض عن بعض. وبتنا بذلك المنزل ليلة واحدة، وعندنا إلى مصر أشواق متزايدة. ثم في ثاني يوم قوضنا الخيام، ورحلنا عن ذلك المقام، فأتينا محمية الخانقاه في خامس عشري رمضان، وخرج لإستقبال مولانا قاضيها فخر القضاة شهاب الملة والدين أحمد بن شعبان، وتواتر المستقبلون في ذلك اليوم أفواجًا، وتواردوا للقاء مولانا فرادى وازواجا. فلما كان نهار الأربعاء سادس عشري شهر رمضان أشرفنا على المحمية القاهرة، ولاحت لنا قصورها العالية العامرة، وخرج لاستقبال مولانا - أدام الله تعالى مدده وطوله - جميع القضاة والعلماء وارباب الدولة، ودخل في أبهة عظيمة، ومهابة جسيمة، وكأن الله تعالى ألقى محبة مولانا في قلوب جميع الخليقة، فأستبشروا بمعدلته التي سار بها في دمشق على أحسن طريقة:
وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبة تجري من الأنفاس
وإذا أحب الله يومًا عبده ... ألقى عليه محبة للناس
وخرج جميع أهل البلدة لاستقباله فرحًا، ووافينا دخولها ذلك النهار ضحى، فدخلناها فرحين مستبشرين، وتلونا قوله تعالى " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ".
ثم لما كان السبب الأعظم في هذه الرحلة مشاهدة من ذاته أضحت للمعارف قبلة: علامة الزمان، وواحد الدهر والأوان، أو الأعلم الأفضل الأفخم، والحبر الذي من خصاصه أن تصغي الفصحاء إذا تكلم، والفصيح الذي إذا قال لم يترك مقالا لقائل، والبليغ الذي إذا أنشا أنسى سحبان وائل:
لو أدرك الفصحاء العرب أفحمها ... وقصرت عن معانيه معانيها
ولو جرى عند أهل السبق في طلق ... من البلاغة جلى عن مجليها
ما سيرت حكمة في الناس مذ نشأت ... تجلو صدى القلب إلا وهو منشيها
أعني به سيدنا ومولانا شمس الملة والدنيا والدين، الاستاذ الأعظم والعارف الأفخم سيدي محمد البدري لا زال بيت البلاغة بدعائم بدائعه معمورًا، ولواء الأدب على ملوك براعته منشورًا. فأن هذا العبد مذ أميطت عنه التمائم، ونيطت به العمائم، وتشرف بالعلم الشريف وخدمة أهله أئمة الأقتداء، كان كما لمع من سنا نجده بارق آنست من جانب طوره هدى، وإذا نقلت الرواة أحاديث علومه المعنعنة المسلسلة، وتلت الأفاضل آيات فضله المرتلة، ينشق من تلك الروايات نفحات أنسية، ويجد نفس الرحمن من جهة يمانية. ولم يزل يأنس بتلك الأخبار آونة وأزمانا. والأذن تعشق قبل العين أحيانًا. حتى كلف بها الفؤاد، لكن بنار أوقد فيه جمره، وعلق بالقلب علوق الهوى ببني عذرة:
ألا أن أهوائي بليلى قديمة ... واقتل أهواء الرجال قديمها
1 / 9
فقصدنا الآن الدخول إلى القاهرة، التوجه للسلام عليه ومشاهدة أنوار طلعته الباهرة، وإذا بجنابه الشريف - أطال الله تعالى بقائه وأدام فضله - جاء للسلام على مولانا قاضي القضاة على حين غفلة. فشاهدنا تلك الذات السامية المقام، ولزم مفاجآته ذلك الوقت بالسلام، وقلت له: يا مولانا أن هذا سلام إتفاقي إضافي، ويتلوه إن شاء الله تعالى السلام الحقيقي الشافي. وتوجهنا ثاني يوم للسلام عليه في منزله السعيد، لا برحت ربوعه عالية الذرى، فشاهدنا منه سماء الفضل بدرا مسفرا. وشهدنا من وافر فضله ومزيد لطفه، ما يعجز اللسان عن بعض وصفه. وكان ابتداء مخاطبته ان قال ملاطفا، ونطق عاطفا: وهذا السلام الحقيقي، تلميحا الى قول ابي العلاء ومن بالعراق، وابدى لنا من معارفه ما يعجز عنه نطاق النطاق، وكنا في السابق نظن الناس يطنبون في المسند اليه من المدح، ويقولون: ان كلامه لا يكاند ان يكون من قوة البشر بل من قبيل الفتح. حتى شاهدنا ذلك راي العين فوجدناه يعجز عن وصفه الكيف والاين. وراينا اطنانهم في مدحه في غاية الايجاز، ومطول وصفهم مختصرًا بالنسبة الى ما قامت عليه " دلائل الاعجاز " فعند ذلك تمثلنا بقول القائل:
لقد كنت في الاخبار اسمع عنكم ... حديثا كنشر المسك اذ يتضوعد
فلما تلاقينا وجدت محاسنا ... من اللطف اضعاف الذي كنت اسمع
وبالجملة فجميع من في القاهرة - وهي ام الدنيا - من العلماء اذا نسب اليه يكون هباء منثورًا، واذا قيس عليه لم يكن شيئًا مذكورًا. وفي الحقيقة فما علماء هذه الديار، الا كالنجوم وهو كالشمس في رابعة النهار، مشى في كل فن سويا على سراط مستقيم، وتلا لسان الكون على من قصر عن رتبته " وفوق كل ذي علم عليم " حاز قصبات السبق في علم التفسير، وفاق الاوائل والاواخر بحسن التحرير فيه والتحبير، لا يهتدي احدهم لسلوك طرائقه، وغوامض دقائقه، ولا يغوص على شيء مما يبرزه في تقرير من درر حقائقه:
إذا عد أهل الفضل يومًا فكلهم ... على فضله لو ينشرون عيال
ترى عنده ما عندهم من فضيلةٍ ... وفيه خلال فوقها وخلال
أُجِلُّ معانيه البديعة أن يحصرها بياني، أو يسطرها بنان قلمي وقلم بناني:
وكيف أطيق البحث عن بعض فضله ... وقد كل فيه السن الفضلاء
أقر بعجزي حين أحصي خصاله ... فما لي سوى ختم بخير دعاء
أبقاه الله تعالى إمامًا اصطفت خلفه صفوف البلغاء، فأمهم بنوافل بره، فرأوا شكر ذلك فرضًا مؤبدا، وأطنبوا في حمد أوصافه، ولا غرو أن أصبح بها محمدًا. وقد حصل بين العبد وبين حضرته السعيدة، مودة خالصة ومحبة أكيدة، مؤسسة على قواعد الإخلاص، ومؤكدة من توابع الود بمزيد الاختصاص.
هذا ومما كتبته لحضرته العلية، صحبة شيء من قلب الفستق أهدي لنا من الديار الحموية، ما صورته:
لما تملك قلبي حبكم فغدا ... مجردًا منه قلبًا رقّ واستعرا
حررته فغدا طوعًا لخدمتكم ... محررًا خادمًا وأفاك معتذرا
فقابلوه بجبر حيث داءكم ... مجردا بمزيد الحب منكسرا
يقبل اليد الشريفة، ويلثم الراحة اللطيفة، وينهي إلى الحضرة العلية، عظم الله شأنها، وصانها عما شأنها، أنه اهدى غليه من تلك الديار ما يناسب اهداؤه لأرباب القلوب، ويلائم غرساله لاصحاب الغيوب، فقدم العبد رجلًا وأخر أخرى، في أن يهدي إلى جنابكم الشريف منه قدرًا، علماص بأنه شيء حقير، لا يوازي مقامكم الخطير، وقد توارى بالحجاب حيث وافاكم وهو حسير وما مثل من يهدي مثله إلى ذلك الجناب، إلا كالبحر يمطره السحاب، ثم أنه تهجم باهداء هذا القدر اليسير، فان وقع في حيز القبول انجبر القلب الكسير. ولا يعزب عن علم مولانا بلغه الله أملا، النمل يعذر في مقدار ما حملا، والسلام.
ثم اجتمعت بعد ذلك بجنابه الشريف، فكان من خطابه المنيف، أنه قال: ما يقول اللسان في هدية كلها قلب، وانشدني بديها في معنى ذلك بيتًا جمع فيه المحاسن وهو مفرد، واشتمل من اللطف على مزيد وهو مجرد، وهو:
بحاميم اقسم أني فتى ... صديق حميم بقلبي محب
ثم صار مجلسه الشريف إذ ذاك غاصًا بأفاضل الأنام، واعترض في أثناء الخطاب مع حضرته جمل من الكلام، فقال معتذرا: إن هذا من نظم الوقت، وأن لم يكن هذا وقت النظم.
1 / 10
هذا وقد شرف العبد من جنابه الشريف ببعض المكاتبات، قصد الفقير أن يكون لها في هذه الرحلة اثبات، فمن ذلك ما كتب لي حفظ الله تعالى جنابه، وكنت قاضيا بتزمنت، مكتوبًا يتضمن الشفاعة لشخص في النيابة، صورته: ان أنضر زهر فتحت يد النسيم كمائمه، وازهر ناضرًا حب باعطر من لطائف المسك نسائمه، وأورق عود أصدح الشوق على أفنانه حمائمه، وأرقى منبر سجع عليه خطيب بلاغة فاستنزل من الأفق نعائمه، وأفصح منطق ترك سحبان في أرض البلاغة باقلا أو ذاهلًا يتطلب تمائمه، حمدًا لله تعالى الذي جعل محبه مترقيًا مصاعد المجد، وأيد به الدين فأصبح له كالأب رافلا في حلل الجد. هذا وانبسطة القول في بث الشوق، يضيق عنها الطوق، ولو استعان ذو البث بذوات الطوق، وبعد بُعْدِ المدى وأن كان لابعد، فالجنان بكم في أنضر من جنان الخلد، ثم إن ممن له إلى هذا الجناب انتساب، وعراقة في الاتصال بهذا الداعي لذلك الجناب، الماثل لديكم بهذه الصبابة، والناقل لخبر هاتيك الصبابة، الولد الاعز عبد الفتاح، فالمسئول ان لا يزال مريش الجناح، محفوفًا بيمن نظركم السعيد، محفوظًا بعنايتكم في الطريف والتليد، متشرفًا بخدمة عتبتكم في تنفيذ الأحكام، مامورا من جنابكم العالي برعاية أمر الله تعالى في النقض والإبرام، بعد الدعاء ثانيًا والسلام على الدوام.
وكان اهالي ذلك الإقليم شكوا من ذلك النائب شكاية كلية، وتحقق العبد أن مولانا الشيخ حفظ الله تعالى حضرته العلية، لم يبلغه ما حدث من المذكور من التعدي على أهل الإقليم، ولم يكتب له ذلك إلا بناء على طبعه السليم. فاحب العبد أن يعرض على المولى المشار غليه، أحوال المذكور وما أنطوى عليه، علماص بأن حضرته الشريفة حفظها الله تعالى ووقاها، إذا بلغها أحوال المذكور ينكرها ولا يرضاها، فسطر له هذا الجواب، وأرسله بضاعة مزجاة لذلك الجناب. صورته " يقبل الأرض بعد دعائه الذي ترصعت في تيجان الإجابة درره، وتضرعت في ديوان الأخلاص فقره، ويصف الحب الصحيح السالم، والثناء الذي هو للود جازم. وينهي أن السبب في تسطيرها، والباعث على تحريرها، محبة اضرم نارها في الفؤاد، وأشواق لو تجسمت لملأت ألف واد، وان تفضل الوالي بالسؤال عن احوال العبد فهو باق على محبته القلبية القبلية، وملازم على مقام العبودية.
وقد وصل المثال العديم المثال، مشتملًا على الدرر التي فاقت اللآل، فقام له المخلص تعظيمًا وإجلالًا، وسجد سجدة صادس راى من معانيه زلالا. ورقي على منبر الثناء معلمًا بشكره، وانشد:
ولقد سما العبد الحقير إلى السها ... لما تفوهت الاسود بذكره
هذا والذي ينهيه العبد من خصوص عبد الفتاح، وما اشتمل عليه من الامور القباح، فأنه كثر في هذا الإقليم شاكوه، وانعدم فيه شاكروه. وان من البدع المحدثة على هذه البلاد ما يسمى بالمشاق، وقد شكا منه أهل الإقليم وذكروا أنه حملهم فيه غاية المشاق. وأما ما أثبته في السجل بطريق العادة. وقد ذكر لي جماعة من الصلحاء ليس لهم غرض دنياوي، منهم رجل من ذرية الشيخ الشعراوي، أن المذكور إن تولى سعى في الأرض بالفساد، وتعدى من ظلم نفسه القاصرة إلى ظلم العباد، كل ذلك ما خلا أفعالا لو تمت بالأخبار، لأضحت ناقصة عن درجة الاعتبار، في مقام الخطاب، وأحوالا مقررة ليست من أفعال الشك بل اليقين، لو بحث عنها لخرجت عن طريق الآداب. لكن من طرق البلاغة استعمال الاضمار في موضع الإظهار، كما نستفيده، وصيغة المضارع لاستمرار، من بحر فيضكم المدرار. ولو فصلت لحضرتكم الشريفة أمور لأوجبت له أن يطرد ويبعد، ويتمثل له بقول القائل وينشد:
أيها المدعي سليمى سفاهًا ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواوٍ ... الحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو
والحاصل أن المملوك ما يحيل التفرس في عدم استقامة المذكور إلا على سلامة مزاح وسرعة حدسه، وحاشا لمقامه الشريف أن يرضى لعبده الحشر مع غير أبناء جنسه. وعلى كل حال فمن حمل أعباء القضاء شاهد أحوالًا تشيب النواصي، وعاين اهوالًا تذيب الرواسي، ولكن:
إلهي ظلمت النفس مذ صرت قاضيًا ... وعوضتها بالضيق عن ذلك الفضا
وحملتها ما لا تكاد تطيقه ... فأسالك التوفيق واللطف في القضا
1 / 11
ووالله أن العبد ما سطر هذا الجواب، إلا وهو من الخجالة قد توارى بالحجاب، لاشتماله على هذه الالفاظ السقيمة، وقبائح المذكور وأفعاله الذميمة. ولكن صح كما صح في علمكم الكريم العبد يناجي ربه، وشاع ان الكلفة ترتفع إذا صحت المحبة. على أنه لا يغرب عن شريف علمكم أن بسط الكلام يحسن إذا كان الاصغاء مطلوبًا، والخطاب محبوبًا ومرغوبًا، وما تلك قضية منكورة، بل قصة معروفة مشهورة، بعد تكرير الأدعية على الدوام، والسلام إلى قيام الساعة وساعة القيام.
فلما وصلت إلى جنابه الشريف تلقاها بحسن القبول، وأرسل جوابًا عنها هذه المشرفة التي تكاد من رقة ألفاظها تسحر العقول، صورتها:
يا نسمة البان بل يا نفحة الريح ... أن رحت يومًا إلى من عندهم روحي
خذي لهم من ثنائي عنبرًا عبقًا ... وأوقديه بنار من تباريحي
شيد الله تعالى معالم الحق التي دثرت، ورفع سمك سماء الدين التي انفطرت، واتاح الذكر الجميل الأعذب، وأفاح الثناء العاطر الأطيب، ببقاء من طنَّ في مسمع العاقل حديث فضله المحقق، واستمسك الناس منه بحبلِ استقامةٍ طال ما رثَّ في ذلك الإقليم وتمزق، وأقبل على الدين اقبال محب صادق، وقال عن الله تعالى وعن رسوله بأعذب لسان ناطق، وقال في وارف الثقة بالله واليه بالصدق انتمى، وقلا اهل الباطل ولكن بجمرٍ إلى وجوههم به رمى، الحبيب الذي أجله القلب فأحله خلال الشراسيف والضلوع، بل سواء السويداء والشغاف وهاتيك الربوع، لا زال الله تعالى يقذف به على الباطل فيدمغه، ويصدع فود فؤاد الشيطان ويزل قدمه ويفدغه ويؤيد به الشريعة على أنها المنهل الفرات لكل وارد، ويروض منازه منازلها المريعة على انها رياض المعارف والعوارف والفوائد، في نعمة ترف بنسائم العناية نضارةً، ونعيم يتقاطر غضارة، آمين. يحيط علمكم الكريم، بعد أشرف تحية وأعطر تسليم، ان الفقير ورد عليه مكتوب ولكن بقلم هو انبوبة بالفضائل راعفة، ولكن مثمر بكل عارفة، وطائر ولكن بأجنحة الانامل إلى فضاء بلاغةٍ لم يزل لديكم منفسحًا، صادح ولكن أعرب فأغرب، فما الورقاء هاتفه بالضحى في طرس هو بياض نهار الاعياد، ومداد هو سواد ليل الإسراء، وكم وجنة ودت نقطةٌ من ذلك السواد، وإنشاء هو سحر العقول ولكن الحلال، وعذوبة ألفاظ يودها الخصرُ الزلال، ومعان ما ذلت لمعان، بل لمعان نشأت من لمعان فكر صقيل، ومبان تذكرنا ببناء الخليل لبيت الجليل. ثم ما اشرتم إليه من تلك القضية القصية، فلا والله لولا كتابكم الكريم ما أنا بالذي عالم لا خفية منها ولا جلية، ولا ارضى إلا بما يرضي الله تعالى ورسوله ﵊، وأنتم في فسيح العذر بل في اعلى محل طبقات الشكر على خلاص الفقير من عهدة الآثام. ثم أن سألتم عن مولانا شيخ مشايخ الإسلام، نعمة الله تعالى التي أرسلها الغيداقة على الخاص والعام، فحال ثابتة المجد، منتقلة في معارج السعد، فما كان حال كاملة سواها إلا فضله، ومبتدا خبره ثناء أملاك السماء واقطاب الأرض على من افاض الله تعالى عليه فضله. بلغ الله تعالى بدولته المبتغي، والجملة خبرية، وأقام باحكامه الصغى وأطرد القياس في القضية، عالمٌ ولكنه عالم كمالاتٍ باهرة، ومرتق رتبةً سماء سموه يخضع لها ابناء الدنيا ويدعو بمزيد تعاليها ابناء الآخرة. فعين الله تعالى على زمان أحياه الله تعالى بعد زمانه وبلا، وعلامة ان شئل معروفًا فالسيل فوق الربى، أفعم فعم، فجوابه نعم، وحاشاه ان يجيب بلا، وما رقم الفقير هذه الصبابة غلا ليزيدكم علمًا بما للقلب به من صبابة. وانتم في أمان الله تعالى وحفظه والسلام على الدوام.
1 / 12
ثم أن العبد كان في تلك الغضون، كتب لمولانا قدوة الاعالي والمدققين، وخلاصة الافاضل المتبحرين المحققين الشيخ اسماعيل النابلسي - أسبغ الله تعالى عليه سوابغ الأنعام - مكتوبًا تضمن نوعًا من ذم مصر ومدح دمشق الشام، فيه ما عبارته: وان سال مولانا - أدام الله تعالى أيامه الزاهرة - عن أحوال المحمية القاهرة، فقد وجد الفقير ما كانوا يصفونه من محاسنها إنما هو من طريق المبالغة بل من قبيل القول الكاذب، او من قبيل: " وللناس فيما يعشقون مذاهب " يعد من متنزهاتها المكان المسمى ببولاق، ولكن لطول الفصل بينه وبين مصر يعسر في كل آن غليه الذهاب والإنطلاق، وربما يكون طريقه مخوفًا فيحجم الإنسان عن السير ويحصل له الامتناع، ويستحضر قضية " مررت على وادي السباع ". على انّ المكان المذكور وأن اشتمل على الماء إلا انه عديمُ الخضرة، وليس به أنيس مكتس ملبسض النضرة. ومع ذلك لا يوجد فيه غير السمك لكن ترى الفلك فيه مواخر، وإذا افتخر فإنه مفتخر تقول له: " إذا ما تميمي اتاك يفاخر ". فقل لمن يقايس متنزهاتها بدمشق: هذا قياسٌ باطل، وانى يلحق الناقص بالكامل. واما حضرة الافندي - حفظ الله تعالى طلعته العلية - مغرم بمدح دمشق المحمية، دائماص يتذاكر ما مضى له فيها من الحضور في تلك الأيام الخالية، ويتاسف على ما مرَّ له من حلاوة العيش في هاتيك الاوقات الماضية، وينشد:
لله أيام تقضت لنا ... ما كان احلاها وأهناها
مرت فلم يبق لنا بعدها ... شيء سوى أن نتمناها
والفقير كثيرًا ما يستحسن دمشق على مصر فيوافقني على هذا الكلام ويقول للمخالفة:
فكيف إذا مررت بدارِ قومِ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرام
واماهذا العبد فطالما تحركه إلى جهتها سواكن الاشواق، وتكاد تجذبه إذا تقاعس بالأطواق، لا يصغي إلى تفنيد في حبها ولا ملام، وإذا مزج دمعه بدم يقال تذكر عهدًا بالشآم. وبالجملة فأن شطت بنا الدار وكان بيننا وبينها " كما حكم البين المشتُّ فراسخ " ولكن:
وأما الذي في القلب منها فراسخ
إذ تذكر تلك المعاهد يفيض دمعه من العيون، وان ذهب عنها كل مذهب ففي قلبه من قاسيون، نار شوق إلى الالمام بتلك الأماكن لا يملك القلب دفاعه، " ولو لم يكن إلا معرج ساعة "، وعلى كل حال فان اتهم القلب او انجد، وحيثما كان من الارض قرب أو أبعد، فلست عن حبكم ابدا ساليا، وغن ملت إلى جهة الجنوب " ينازعني الهوى عن شماليا " فالسلو عن عبوديتكم ومحبتكم من قبيل المحال، كيف لا " والقلب من جهة الشمال ". فنسأل الله تعالى ان يقرب ايام التلاق، بطي شقة البين والفراق، لنكون تحت نظركم السعيد، وظلكم المديد، لا " برح في الاقطار مخيمًا "، وقد يجمع الله الشتيتين بعدما والسلام إلى ساعة القيام. فاتفق أن مولانا الشيخ المشار إليه، وقف على ما تضمنه المكتوب واشتمل عليه، وحصل مع حضرته حالتئذ مباسطة في الكلام، وذكرنا طرفًا مما قاله ظرفاء الشعراء في مدح مصر والشام. وبعد ذلك بتنا عنده ليلة في بيته الذي على بركة القرع، وكانت ليلة مقمرة، وبوجوده الشريف مزهرة، اختلسناها من بين الليالي بايدي الفرص، فقص علينا من نفائس اشعاره البليغة أحسن القصص، وجلا علينا من أبكار معارفه عرائس أفكار حيرت الشعراء، ونثر علينا من لآليء معانيه البديعة دررا. ثم قال للعبد في أثناء المصاحبة: وهل يوجد في دمشق مثل هذا المكان؟ فقلت، وقد عرفت مراده: لا والله يا مولانا من حيث تشريفه بطلعتكم الرفيعة الشان. وقلت مخاطبًا لحضرته الشريفة رفع الله تعالى محلها:
وتستعذب الارض التي أنت حلها
فقال: مع قطع النظر عن الحيثيات والأغيار فانشدته: " وما حبّ الديار ". ثم إنه أورد شيئًا يتضمن مدح مصر بالمناسبة، وقصد الملاطفة والمصاحبة فانجز الكلام إلى ابن سناء الملك وجلالة قدره، واورد في المجلس شيء من شعره، فقال مولانا الشيخ حفظ الله تعالى حضرته العلية، وما احسن قوله كذا، وذكر شعرا يتضمن نوعا من ذم دمشق المحمية. فقلت له يا مولانا:
ولو كان شعرًا واحدًا لاتقيته ... ولكنه شعر وثان وثالث
1 / 13
ثم ضحك كثيرًا وألتفت إلى الشيخ نور الدين العيسلي وقال له: يا مولانا وفاضل عصرنا، أن الشيخ محب الدين من اكبر المتعصبين على مصرنا، ولو رأيتم المكتوب الذي كتبه سابقًا إلى دمشق يتشوق إلى اخوانه، ويتشوف إلى أوطانه، ومدحته لدمشق المدحة الوافرة، وتفضيله لها على المحمية القاهرة، لرايتم العجب العجاب، إلى غير ذلك من الملاطفة في الخطاب. والتقطنا تلك الليلة من فوائده الشريفة ما يفوق الدرر، وشاهدنا من حسن محاضرته لطفًا ارق من نسيم السحر، وقضيناها ليلة كاد يسبق آخرها أولها آخرها، ولم يكن عيبها إلاّ تقاصرها. ثم إن عوامل المودة بيننا تأكدت بحيث صار الفؤاد مشغوفًا بمحبته، وكان العبد دائمًا يعطر مجالس قاضي القضاة بمدحته. فاتفق أنه جاء في بعض الليالي لزيارة مولانا قاضي القضاة فأبدى من نكته ولطائفه العجب العجاب، واملى من فوائده وفرائده ما حير العقول والألباب. فعرض عليه مولانا قاضي القضاة هذا الفقير وقال له: هذا الشيخ محب الدين ما هو غلا عبد جنابكم الخطير، فو الله لقد وقع هذا الكلام عند العبد ألطف موقع، وحل من قلبه أحسن موضع، وانشدت عند ذلك:
مذ صح عندي أنني عبدٌ لكم ... صغر الوجود بعينه في همتي
ولقد أتيه على الوجود تعززًا ... لما نسبت لكم وصحت نسبتي
ثم تشرفت بعد ذلك المجلس بمشاهدة ذات المحمية، وعرضت عليه قصة المحبة والعبودية، وقلت له: يا مولانا ان عبودية هذا المخلص لكم مبينة لا تحتاج في غثباتها إلى بينة، كيف لا وقد حكم بموجبها قاضي المحبة، وشافهكم بذلك مرة في أثناء الصحبة. ولله دره قاضيًا أحسن في أداء هذه الشهادة الحسنة الحسبة، فأني والله لم أزل اثني على مقاصده المستجادة، وأشكره ولا كشكري على هذه الشهادة. هذا ولو ذكرنا بعض فضائل مولانا وماسحنه، لعجز عن حصرها القلم وكل لسانه، وضاق صدر الطرس وأن كان متسعًا ميدانه:
وليس يزيد المرء قدراص ورفعة ... إطالة وصاف وإكثار مادح
وقد تعين أن نذكر حينئذ شيئًا من تراجم المشهورين من علماء الديار المصرية بطريق الإيجاز والإختصار، واما ترجمتهم بالاطناب فذاك شيء لا تحويه الاسفار.
محمد الرملي، فأما الإمام العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، شمس الملة والدين، الشيخ محمد الرملي الشافعي - فسح الله تعالى في أجله، ونفع المسلمين بعلمه وعمله - فأنه هذب المذهب وحرره، وتكاد غالب مسائل الفقه في حفظه مصورة. انتهت إليه معرفة الفقه في هذه الديار، واشتهر بذلك غاية الاشتهار، بحيث لا يختلف في ذلك اثنان، ولا يحتاج فيه إلى غثبات حجة وإقامة برهان، وإنه بلغ فيه إلى الدرجة القصوى، وصار المعول عليه في هذا العصر في الفتوى. وصل في ذلك إلى أسنى محل وارفع مقام، حتى يقال عندما يتكلم " إذا قالت حذام ".
نجم الدين الغيطي، وأما حافظ الوقت وحيد دهره، ومحدث عصره، الرحلة الغمام والعمدة الهمام، الشيخ نجم الدين الغيطي فأنه محدث هذه الديار على الإطلاق، جامع للكمالات الجمة ومحاسن الاخلاق، حاز أنواع الفضائل والعلوم، واحتوى على بدائع المنثور والمنظوم. إذا تكلم في الحديث بلفظه الجاري، أقرّ كل مسلم بانه البخاري. أجمعت على صدارته في علم الحديث علماء البلاد، واتفقت على ترجيحه بعلو الإسناد.
الطبلاوي، وأما الفاضل العلامة، والمدقق الفهامة، الشيخ ابو النصر ابن الطبلاوي المدقق الكامل، فأنه مشتمل على أنواع من الفضائل، فاق بعدة فنون على أقرانه، وتميز بذلك على ابناء زمانه، أقرت له الفضلاء بالاعتراف، واتفقت على انه فاضل وقته بلا خلاف.
يوسف الشامي، وأما جمال الملة والدين الشيخ يوسف الشامي، ذو التحقيق والفضل السامي فهو في العلوم الغريبة والفنون الدقيقة، افضل من في مصر على الحقيقة. مشغول دائمًا بإقراء التفسير والمطول والعضد والرضي والمواقف والمطالع. وأن عز مشكل أو غريب فإليه يشار بالأصابع. وأما تواضعه وخفض جناحه فلا يتأتى من صاحب نفس بشرية، والعجب أنه مع اشتماله على هذه الفضائل والكمالات ليس له من الجهات في مصر إلا نحو أربعة عثمانية. وقد عجبت حيث كان نصيب هذا الفاضل نصيبًا محقرًا، وفي الحقيقة لا عجب فأن من عادة الدهر أن يمشي بمثله القهقرى:
والأحمق المرزوق أعجب من أرى ... في دهرنا والعاقل المحروم
وبالجملة:
1 / 14
ولو كانت الارزاق تجري على الحجى ... اذن هلكت من جهلهن البهائم
ثم ان المذكور قليل التردد الى القضاة ولكن الزمه العبد مرة بالاجتماع بمولانا قاضي القضاة - أدام الله تعالى أيامه - وقلت له، ان من المتعين في ايام سعادتكم اكرام الفاضل واحترامه. فوعد بان يكرم مثواه ويبلغه مناه، فاتفق في تلك الايام انحلال شيء من الجوالي، فانعم عليه بذلك اغتنامًا لدعائه المتوالي.
أحمد بن القاسم، واما الفاضل المحقق، والعلامة المدقق، الشيخ شهاب الدين احمد بن قاسم الفاضل المشهور، فانه في انواع الفضائل مساو للشيخ يوسف المذكور، وهما في الفضل فرسا رهان، ورضيعا لبان، وممارسا فصاحه وبيان، بل هما في التساوي والتشابك، والتشاكل والتشارك، كما قال البحتري:
كالفرقدين اذا تامل ناظر ... لم يعل موضوع فرقد عن فرقد
وقد تفضل مولانا قاضي القضاة - عامله الله تعالى إليه - ورتب للفاضل المذكور شيئًا من الجوالي علي المقدسي: واما مولانا المحقق العلامة، والامام الكامل المدقق الفهامة، الشيخ على المقدسي الحنفي - عامله الله بلطفه الخفي - فالمعول في الفتوى الان عليه في الديار المصرية، والمرجع اليه من بين السادة الحنفية. وهو في الحقيقة جامع لكمالات عديدة، ومالك لفنون غريبة مفيدة، وله اطلاع على علوم كثيرة، ووقوف على معارف غزيرة، فاق بها على فضلاء هذا الزمان، وتميز بها على علماء هذا الاوان، مع ما جبل عليه من دمائة الاخلاق، وسلامة طبع فاق بها على الاطلاق.
الذيب، واما الشيخ الملقب بالذيب فكنا لما نسمع باسمه نتصور من مفهومه اغتيال النفوس كتصور الشاة معنى في الذيب، وحسبك ما يقال لكل مسمى من اسمه نصيب. حتى برز هذا التصور الى التصديق، ووقع له واقعة يوم دخول قاضي القضاة بالتحقيق. وذلك من عجيب ما اتفق في ذلك النهار. ومن غريب ما حدث فيه حسبما سبقت به الأقدار. وما ذاك إلا ان رجلًا مسنًا عمره نحو تسعين سنة أتى ليطالبه باربعة أنصاف كانت له في ذمته، فتشاجر معه، قيل أن الشيخ وكزه فقضى عليه من ساعته، وذلك ليلة القدر في المدرسة التي هي بالاشرفية مشهورة، وسئل عن خصوصية المكان فقيل ان الشيخ مع كونه مدرس الشيخونية بخمسين عثمانيًا، بواب هذه المدرسة المذكورة. وكان ذلك أمرا قضى الناس منه العجب وحصل على المذكور غاية الإنكار بهذا السبب.
بدر الدين القرافي: واما مولانا العلامة، والعمدة الفهامة، المتصف بالفضائل والفواضل في جمع المسالك، الحائز لرق الآداب فهو للفتوة متمم وللفتاوي مالك، بدر الملة والدنيا والدين، القاضي بدر الدين القرافي المالكي فإنه أتقن مذهبه غاية الإتقان، واحتوى على انواع الفضائل ونباهة الشأن، وله جامكية حسنة، وحسن انشاء وإشعار مستحسنة. دائمًا يواصلنا بمكاتباته، ولا يقطع عنا حيث كنا ترسلاته، وكان عرض له بترق في مدرسة السلطان حسن الفقهية المالكية، وأرسلنا العرض مع مندوبنا الذي وجهناه في مصالحنا إلى الابواب العلية، فأتانا منه مكتوب يتضمن أنه تم للمشار إليه الترقي المذكور، فكتبنا له ابياتًا نعلمه بما تضمنه المكتوب المسطور، صورتها:
أسعد الله طلعة البدر قاضي ال ... فضل والعلم والفنون الشهيره
بصنوف من السعادات والاح ... سان والمجد والهبات الغزيره
جاءنا من دار العدالة مكتو ... ب وانباءٌ عن واقعات كثيره
فيه ان المراد وهو الرتقي ... لكم تمَّ خمسة مسطوره
لا برحتم في رفعةٍ وترق ... وكمال وطلعة مستنيره
فكتب لي جوابًا عن ذلك، صورته:
دمت للفضل والفواضل كنزًا ... وهمامًا حوى من العلم خيره
من حديث كذاك تفسير آي ... آية الله للأنام شهيره
وفروع كذاك حسن بيان ... وكلام تراه حقًا أميره
وقريض يفوق درًا بديعًا ... وغليه الآداب أضحت مشيره
قد أتاني المديح يبدي سرورًا ... استوى فيه ظاهرٌ وسريره
صحب المجد والبشارة فضلا ... يا لها منه بأحسن سيره
هكذا الفضل من إمام محبٍ ... قد رعى عبده فكان بشيره
أسأل الله ذا الجلال ارتقاءً ... لمقام به الأماني الأثيره
ليرى بارعٌ نفاذَ قضاء ... ويرى الخصم حكمه بالبصيره
وصلاة لافضل الخلق جمعًا ... مظهر الحق جهرة ونصيره
1 / 15
محمد الفارضي: وأما شاعر مصر الفارضي فهو مع فصاحة شعره وبلاغة نظمه ونثره، حاز قصب السبق بالعربية، وتميز على أهل العصر بنكته الأدبية. كتب لي وأنا قاض فوة مكاتبة لطيفة مختصرة، ستقف عليها أن شاء الله تعالى في محلها مسطرة. سأله يومًا بعض طلبة العلم أن ينظم له ترتيب التوابع فنظمها في بيت جامع وهو:
إذا اجتمعت فالنعت قدم به اعتلق ... بيانٌ وتوكيدٌ وجا بدلٌ نسق
ونظمها الفقير في ذلك الحال، في بيتين فقال:
إذا اجتمعت يومًا لديك توابع ... ورمت لها الترتيب في ذكر اتسق
فنعت بيان ثم توكيد بعده ... إلى بدل ثم اختم الكل بالنسق
سري الدين ابن الصائغ: وأما الرئيس الفاضل، والمحقق الكامل، الشيخ سري الدين ابن الصائغ، والشهاب الذي في سماء الفضل بازغ، فقد انتهت غليه الرئاسة الطبية في الديار المصرية. ومع ذلك فكم له من غنشاء رق وراق، وبراعة تميز بها على البلغاء وفاق. وكان حصل للفقير دمل توعك منه المزاج، واحتاج في بنائه على الفتح إلى نوع علاج. فأرسلت إلى ذلك الفاضل الهمام، وكتبت إليه بعد فواتح السلام: أيها الرئيس البارع، والبدر الذي في أفق البلاغة طالع، ذو الحكمة التي أعيا بها جالينوس، والحذاقة التي حار فيها بقراط وبطليموس، أشكو إليك دملًا أبطأ فجره، وألم ضره، وأضمر عامله لا على شريطة التفسير، حصل منه ألم كثير، فتفضلوا بما يبرز ما استكنّ فيه على عجل، وبما ركب علاجًا لتنازع ما فيه من العمل، بحيث يصير هذا المضمر مبنيًا على الفتح، لتنطق الألسنة بالدعاء، ونعرب عن أفعال المدح، والسلام على الدوام.
فأرسل المشار إليه شيئًا يلائم ذلك، وكتب عن ذلك جوابًا صورته: هل لك أيها الممتزج بالروح امتزاج المكاء بالراح، المهدي إلى النواظر النزه وإلى النفوس الارتياح، الداعي برسالته المعجزة الألفاظ إلى جنة ناضرة، المبرز بدلالته وجوه المعاني الناضرة، إلى عيون البيان الناظرة، لا زالت أزمة الرغباء منقادة منا إليك، ونواصي البلغاء معقودة أعنتها بيديك، والفصاحة لا تمد سرادقاتها ولا تقصر مقصوراتها إلا عليك:
ودمت إلى كل القلوب محببًا ... وفي كل عين شاهدتك حبيبها
في بناء ذلك الدمل العاصي عن الاندمال على الفتح، ونصب ثناء العامل من الادوية على المدح، والدخول على جمع مادته بصورة التكسير، وتصريفها بالتحويل إلى وضعيات التغيير، وإرخاء الشدّ كي لا يكف الدواء ولا يلغى عامله، وتقوية المعمول بالتجلد على التأثير الذي ارتفع فاعله، فبذلك أن شاء الله تعالى تفتر ثغوره، وينبسط على جلد الجلد غروره. والله تعالى يديم معاهد الفضل بك آهلة، والفضلاء من مناهلك ناهلة، والنبلاء في ظلال ظلك قائلة، لتكون ألسنتهم بأحمد المحامد فيك قائلة، آمين.
وأما بقية الأفاضل بمصر فإنهم لرثاثة حالهم ليسوا بمشتهرين، وإذا مشى أحدهم بين الناس لا يكاد يبين، مطروحون في زوايا الخمول، ولا يترفل في المناصب إلاّ الجهول:
أرى الدهر من سوءِ التصرف مائلًا ... إلى كل ذي جهلٍ كأن به جهلا
فتذكرات عند ذلك قول القائل:
عتبتث على الدنيا لتقديم جاهلٍ ... وتأخير ذي فضل فابدت ليَ العذرا
بنوا الجهل ابناءٌ لذاك أحبهم ... وأهل النهى ابناءُ ضَرَّتِيَ الأخرى
ثم ذكرت حال هؤلاء الفضلاء، لمولانا قاضي القضاة اسبغ الله تعالى عليه مواهب الافضال، وبلَّغْتُهُ ما اشتمل المذكورون عليه من الفضل والكمال. فوعد - أدام الله تعالى أيامه وزاد علاه - ان يبلّغ كُلًا منهم مناه.
هذا ثم قصد مولانا قاضي القضاة ثاني يوم دخوله للاقتداء بوالده المرحوم شيخ الاسلام، وتوجَّهَ الى زيارةِ مَنْ القاهرة من الصحابةِ والائمةِ والاولياءِ الكرام، فزرنا تلك الاماكن الشريفة ومن فيها من الصحابون كقير عقبة وشهدنا ما حواه مقامه الشريف من الجلالة والمهاربة، ومقام امام الائمة محمد بن ادريس الشافعي ﵁، وما جاوره من قبر علي بن الحسن بن زين العابدين. وقبور العلماء العالمين: كالقاضي زكريا وملاّ مغوش المترجم بعالم الربع المعمور، وحصلنا على كمال البركة والاجور. وتمثَّلنا عند قبر هذا الفاضل، بما قاله فيه رثاءً ذلك القائل:
ألا يا مالكَ العلماءِ يا مَنْ ... به في الأرضِ أثمر كلُّ مَغْرِسْ
1 / 16
لئن أوحشت تونسَ بعد بُعْدٍ ... فأنت لمصرَ ملكَ الحُسْنِ تُؤْنِسْ
ثم انعطفنا الى مقام الليث بن سعد، ومقام السيدة نفيسة، وما امتنف تلك البقاع من الاماكن الانيسة. ثم زرنا مقام سيدي عمر بن الفارض، وشاهدنا في مقامة الانس اللائح والنور الفائض. ثم بعد ذلك توجهنا للجيز لزيارة كعب الاحبار، وما في تلك البقاع من قبور الصالحين الاخيار. ولم يكن دأب مولانا الاّ قصد الزيارات واستباق الخيرات.
ثم لما قضى تلك الزيارات تصدى لفصل الأحكام الشرعية بين الانام، متمسكًا من تقوى الله تعالى بالسبب الاقوى، محافظًا على العمل بالأوامر الشرعية في السر والنجوى، فسار - أدام الله تعالى أيامه - في الناس سيرة حسنة، ونطقت بالدعاء له من الخواص والعوام جميع الألسنة. وسلك - أسبغ اللع تعالى نعمه عليه - مسلكا لم يسبقه أحد من القضلة إليه.
وكان يجلُّ العلماء غايةَ الاجلال والاعظام، ويعاملهم بانواع التبجيل والاحترام. واتبع حذوَ والده المرحوم في جميع مقاصده، ولا غرو أن يحذوَ الفتى حذو والده. وأحاط بأحوالِ مصر علمًا حتى بلغ أقصاها، ولم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة غلاّ احصاها. ووجه إلى إزالة المنكرات همةً عالية عظيمة، حتى قطع أصل أمّ الخبائث من مصر فكانت عقيمة، ولم يدعْ بيتَ خمرٍ ألاّ كسرَ دنانه، وخلع أوتاده وقطع ايبابهُ وهدم اركانه، ولم يبقِ حانًا في مصر العتيقة وبولاق غلاّ جعلها " خاوية على عروشها " ولخمرها أراق، حتلا سلا الناس عن ارتضاع كاس المدام:
سلو رضيعٍ قد علاهُ فطامُ
ولقد شاهدنا كسر دنان خمرفي مصر العتيقة على طرف النيل، فخالطته بحيث غيرت لونه الأول، وذكرنا ذلك قول القائل:
فما زالت القتلى تمجُّ دماءها ... بدجلةَ حتى ماءُ دجلة أشكلُ
وأما المساجد والأوقاف فقد عمر كثيرًا منها بعد أن آل أمرها إلى الاضمحلال، وصارت بحيث يذكر فيها اسم الله ويسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال. ومن جملة ما ازاله من المنكرات، وقطع اصله من البدع المحدثات: استيلاء طائفة الكفار على الإماء المسلمات. فصرف إلى ذلك عزمه الشريف وسعى فيه سعيًا جميلًا، وأجبر الكفار على بيعهن للمسلمين عملا بقوله تعالى: " ولن يجعلَ اللهُ للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
وكان يبذل الجهد في نصرة الحقّ ويجادل عنه ويباحث، ولعمري ليس له في القضاء ثان بل لعمري أنه الثالث. وبالجملة فصفات هذا المولى الجليل تجلّ عن أن تحصر، أو تكتب في الدفاتر وتسطَّر:
فوا عجبا مني أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيسُ والصحفُ
أقاضينا هذا الذي أنت أهلعه ... غلطت ولا الثلثان منه ولا النصف
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعفِ الضعفِ بل مثله ضعفُ
ثم أن مولانا - أدام الله تعالى رفيع جنابه - وجه همته في منصب القضاء لعبد بابه، وكان يعرفه كثيرًا عند حضرة اسكندر باشا بكمال التعريف، ويذكره عنده بما يليق بوصفه الشريف. فكان العبد يتردد إلى حضرته العلية، وهو يميل إلى المباحثة مع اهل الفضل ويحبهم محبةً كلية. وكنت اقابل له بعضَ كتب التفسير، وأصححها غاية التصحيح والتحرير. فاتفق في ذلك الاثناء وفاة قاضي التزمنتية، ففوّض قضاءها للعبد وعرض الأمر إلى السدة السنية العلية. وتوجه الفقير إلى القضاء المذكور لتنفيذ الأحكام، وأرسل العرض مع مندوبه فسبقه خبر وفاة قاضيها ببعض ايام، فاعطي القضاء المذكور لقاض من القضاة، وكانت عدد ايام اقامتي بها كعدد ايام الميقات.
ثم توجهت بعد ذلك إلى المحمية القاهرة، فألفيت الخبر جاء من دمشق بوفاة المرحوم فوري أفندي المفتي المشار إليه أعلاه وانتقاله إلى الدار الآخرة. فكان خبرًا أظلم الوجود لوصوله، وحل الهم المبرح بحلوله، وأجرى الدمع من العيون، وأوجع القلوب وقرح الجفون. فعاين العبد من هذا الخبر أن سماء قلبه انفطرت، ونجومها انكدرت، وتفتت منه الأحشاء وتقطع الفؤاد، وذكره فقده، وما كان ناسيا، أن الموت نقادٌ، فياله مولى أظلمت الدنيا لفقده، وخلت ربوع الفضائل من بعده:
فلكل معدوم سواه مشبه ... ولكل مفقود سواه نظير
وبالجملة:
ولو كان غير الموت شيء اصابهم ... عتبت ولكن ما على الموت معتبُ
1 / 17
على أنه إذا جاء الأجل المحتوم فلا حيلة في رده، ولكل شيء حد فإذا تم وقف عند حده.
وعلى كل حال فأن الموت كاسٌ لابد ان يردها الخاصُّ والعام، ولا يبقى إلاّ " وجه ربك ذو الجلال والأكرام " فالمتحتم حينئذ تلقي أمر الله تعالى بالقبول والرضى، " فإنا لله وإنا إليه راجعون " فيما قدر وقضى. ولعمري إنَّ هذا المولى حقيق بان تشق عليه القلوب قبل الجيوب، وأن تجري عليه العيون دمًا فضلًا عن الدمع المسكوب. غير أن الواجب اطاعة الله تعالى في الباطن والظاهر، والتأسي بقوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كانت يرجو الله واليوم الآخر " ولكن:
سأبكيه ما فاضت دموعي وأن تغض ... فيكفيه مني ما تجنُّ الجوانحُ
لئن حسنت فيه المراثي وذكرها ... فقد حسنت من قبل فيه المدائح
فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وبرد بمياه الرحمة والغفران مضاجعه، آمين. هذا، ثم في تلك الغضون عزل اسكندر باشا وقدم حضرة الوزير الأكرم سنان باشا متواليًا إلى المملكة المصرية. واتفق في تلك الايام خلوّ مدينة فوة من قاض ينظر في الأمور الشرعية، فاقتضى الحال بمشاورة مولانا حفظ الله تعالى جنابه الخطير، تقليد العبد قضاء البلدة المذكورة من حضرة الوزير. وأمره شفاها بالنظر في الاحكام، وفصل القضايا الشرعية بين الأنام. فتعين حالتئذ التوجه إلى البلدة المذكورة، وصحبت معي صاحبنا الفاضل الشيخ علي المالكي ذا الفضائل المأثورة، وودعت حضرة مولانا قاضي القضاة حفظ الله تعالى ذاته الشريفة ورعاها، وركبنا في السفينة قائلين " بسم الله مجراها ومرساها " فوافينا دخول البلد عشية نهار الأحد سابع عشر جمادي الأولى سنة تسع وسبعين وتسعمائة جعل الله تعالى عاقبتها إلى خير. وكان من لطيف الأتفاق أن رسولنا قدم في ذلك الوقت إلى مصر بتوليتنا قضاء قنا والقصير، فحصل لمولانا قاضي القضاة غاية البشر والسرور، وجهز صحبته مراسيم شريفة لضبط لقائنا المذكور. وكان صحب الرسول عروض تتضمن الرقي لصاحبنا الشيخ علي المذكور في المدرسة السرياقوسية وأخبرنا بحصول ذلك الترقي واتمام تلك القضية، فسررنا باتمام ذلك المرام، وتوجه بعد ذلك صاحبنا المذكور إلى القاهرة بعد أن أقام عندنا بعض أيام. ووجدنا لفراق أنسه وحشة كلية، وافتقدنا لطف مصاحبته العلمية.
1 / 18
ثم في خلال الايام ورد من حضرة الباشا - عامله الله تعالى بخفي الالطاف - للتفتيش في بعض الأمور مراسيم شريفة للفقير ولبعض قضاة تلك الأطراف. فلما اجتمعنا للتفتيش وقع للفقير مع بعض أولئك القضاة مباحثة في خصوص، وألزمته وبينت له خطاه بموجب النقول والنصوص. ثم اتسعت بيننا دائرة البحث والكلام، وانتقلنا من مقام إلى مقام. وقد كتبت القصة برمتها، وأودعت هذه القضية بجملتها، ضمن مكتوب ارسلته أذ ذاك لحضرة قاضي القضاة - أدام الله تعالى فضله وزاد علاه -، فأنه كان يؤكد في إرسال المكاتبات المطولة المفصلة، إلى خدمته الكريمة المفضلة، بحيث تكون مشتملة على مزيد الإطناب، حسبما يقتضيه مقام مخاطبة الأحباب. فقصدت إثبات المكتوب برمته في هذا المقام، لتضمنه تلك الماجريات بالتمام. صورته: شيد الله تعالى صدر الشريعة، بمشارق أنوار تلك الطلعة البديعة، ولا زال ثناؤها منصوبًا على المدح، وأكف الداعين ببقائها مبنية على الفتح. وبعد إهداء سلام فض الاخلاص ختامه، ونصب القبول في خفض العيش خيامه، فان تفضل المولى بالسؤال عن حال عبد بابه، اللائذ بشريف اعتابه، فهو ملازم على أدعيته، ومواظب على أثنيته. ونسأل الله تعالى أن تهب على هذه الدعوات نسمات القبول، وان يبلغكم في الدارين كل سول مما يعرضه المملوك على خدمتكم العية، وينيهيه إلى سدتكم السنية: أنه لما اتى إلى مدينة فوة وجد فيها نائبين في غاية الفضل والاستقامة، وآخرين في غاية الجهل أظهر الرعية منهما غاية التظلم والسآمة، وان القاضي السابق كان وليَّ احدهما بمصر والثاني برشيد، وكل منهما توليته غير صحيحة، ورأى العبد شكاية أهل البلد من ظلمهما وافعالهما القبيحة، واطلع على عدم استقامتهما وراى ذلك راي العين، عرض أمرهما إلى حضرة الوزير فبرز أمره الكريم برفعهما وابقاء النائبين المستقيمين، وكان أحدهما منسوبًا إلى قاضي رشيد، فأرسل يشفع عند الفقير في عوده ويسأل عن سبب عزله. فكتبت له في الجواب ما يعرض على المولى أسبغ الله تعالى على العلماء مديد ظله، صورته: بعد فواتح السلام، يحيط علمكم الكريم أن السبب في عزل النائب المذكور هو الصفة التي لو قدم منها ما أخر لذاق طعم مرها الوخيم، ولو أبصر بهذا المقدم عاقبة أمرها لكان ذا نظر سليم، ولو أبدل فاء فعله بقاف وعينه بنون، ولو لم تكن يده مبنية على الفتح لم يركن إلى السكون. والظاهر ان سيرة الفقير بفوة بلغت الخاص والعام، ومشيه بالاستقامة على أحسن نظام. ومن المعهود أن التابع بإعراب متبوعة، ولكن بعض الأفعال لا يتم بمرفوعه. والفقير ما لام أفعاله إلا بعد ان ظهرت لديه وهي عين، ولم يعول فيها على اخبار مخبر حتى ينسب لمين، ومع هذا فقد أظهرت الرعية منه ومن قرينه غاية التظلم، وأن اعددناه دونه يلزمنا قضية التحكم، والسلام. ثم أرسلتها له وما أخاله لمعاينها يفهم، ولكن " وما عليّ إذا لم ". وما أحراه بقول القائل:
ولقد ذكرت لك المراد فأن تكنْ ... فطنًا عرفت وما إخالك تعرف
1 / 19
ثم اتفق في تلك الغضون ان ورد أمر شريف للكشف على بلد في أوقاف الدشيشة من قضاء فوة المذكور، بالخطاب لقاضي فوة وقاضي اسكندرية وقاضي رشيد وقاضي دمنهور. فصار بيننا وبينهم مباحثة عظيمة عجيبة، وامور غريبة، ومذاكرة علمية، وشاهدنا من بعضهم قضايا بالقافية، عن للعبد أن يعرضها على مولاه لابرح مرفوع الجناب، ليقضي منها العجب العجاب، أما قاضي رشيد فلاستعماله الكيف بلا متى ولا أين، لا يرى دائمًا إلا وهو مفتوح الفم مضموم العين. فكان ابتداء مصاحبته معنا ان قال: لأي شيء عزلتم النائبين المذكورين فقلت له: هما أولا ليسا بنائبين شرعًا، وثانيًا إنهما مؤذيان طبعًا، وثالثا أن بلغ أرباب الدولة أننا نستخدم اربعة نواب، ربما ينسبوننا إلى السفه وعدم الصواب. على أن محكمة مصر المحمية ليس فيها أربعة نواب شافعية. ثم طال الكلام بيننا إلى أن اقتضى الحال في ذلك الوقت كتابة هذه الرسالة، المعروض بعضها على جناب مولانا مدّ الله تعالى ظلاله، صورتها، بعد البسملة: حمدًا لك يا من نصب القضاة للعدالة، ورفع مناصبهم حيث خفض أرباب الجهالة، والصلاة على سيدنا محمد المسدد في أقواله والمؤيد، وعلى اصحابه والآل، والتابعين لهم بأحسن منوال، ما سطع نور الحق وظهر برهانه، واضمحلت شبه الباطل وخمدت نيرانه. وبعد، فهذه مباحثة صدرت بين الفقير وبين قاضي رشيد - وفقه الله تعالى لكل أمر سديد - وذلك أن القاضي بفوة لما ذهب لأهلها مغاضبًا، ولوظيفة القضاء مجانبًا، وقيل بل تولى هربًا، أو ليبلغ في الارض سببًا، وقلد حضرة الوزير الاكرم، والمشير الأفخم حضرة سنان باشا - أعز الله تعالى انصاره - إذ هو وكيل الخليفة - أيد الله تعالى سلطنته وضاعف اقتداره - قضاء البلدة المذكورة لهذا العبد الفقير، الراجي رحمة ربه القدير. واذن له شفاهًا بالنظر في الأحكام الشرعية، وأحكام الامور الدينية، وجد فيها نائبين تكررت شكاية الرعية من أحوالهما، وعدم استقالتهما في اقوالهما وأفعالهما، وكان نصبهما القاضي في غير محل قضائه، ومكان توليته وامضائه، عرض الفقير أمرهما لحضرة الوزير، فبرز الأمر بعزلهما من جنابه الخطير، لاشتمالهما على ظلامات صريحة، ولكون تولية القاضي وهو في غير محل ولايته نائبًا غير صحيحة، لما قاله في بعض كتب الفتاوي: المولى لا يكون قاضيًا قبل الوصول إلى محل ولايته، فمقتضاه جواز قبول الهدية قبل الوصول وعدم جواز استنابته. فقال قاضي رشيد - أرشده الله تعالى للصواب -: بل توليته صحيحة لان عادتنا معاشر القضاة ارسال المكاتيب بنصب النواب. فقلت له: قد أخطات يا مولانا في الحكم والعلة، ولم تصب في التفضيل ولا في الجملة، وكلامك هذا في معرض الرد والغندفاع، وأن ما استدللت به استدلال بمحل النزاع. ثم بحث قاضي رشيد - ألهمه الله تعالى رشده - وزعم ان تولية الفقير من حضرة الباشا غير صحيحة. فغلطه في كلامه ورده وقال له: ليس الأمر كما تزعم وتقول، وقد نطقت بخلاف قولك النقول، وليس هذا الكلام منك غلا محض الغلط، ولو وفقت على ما ذكره في الملتقط حيث قال: يجوز قضاء الأمير الذي يولي القضاة، وكذا كتابه إلى القاضي إلا ان يكون القاضي من جهة الخليفة، لاحجمت عن مثل هذا الزعم والأقوال السخيفة. وقد افتى بعض المحققين من المتاخرين بان تولية باشا مصر قاضياص ليحكم في قضية بمصر مع وجود ثاضيها المولى من السلطان باطلة، لأنه لم يفوض له ذلك. ومفهوم هذا لا يخفى على من له أدنى عرفان، فلا يشك حينئذ من له في الفضل نوع قوة، في صحة تولية الباشا لهذا الفقير قضاء فوه، لعدم قاضيها كما يؤخذ من عبارة ما أفتاه هذا المفتي بطريق المفهوم، وكون الوزير وكيل الخليفة في مثل هذا الخصوص أمر معلوم. بل نقول على سبيل الترقي لو نصب العبد قاضيًا نيابة عن السلطان، جاز قضاء القاضي كما صرح به ائمة الاتقان فما بالك بوزيره، ومعتمد وظهيره؟! هذا ما نقله أكابر العلماء المدققين، ولا ينكر ذلك ألا جاهل او معاند، نعوذ بالله تعالى أن نكون من الجاهلين، والحمد لله وحده. ثم ارسلتها إليه وقلت له: لابد من إرسال هذه الرسالة مع عرض إلى حضرة الوزير ليطلع على ما ابديته من الجهل الشهير. ثم إنه في ثاني يوم أفاق بعض إفاقه، وأتى إلى منزل الفقير وأبدى الاعتذار بحسب الطاقة. وسألنا في عدم العرض فطوينا عنه صفحًا، وطلب الصلح فتلونا " فلا
1 / 20