وكان يقول في عظمة بلهاء: كامل ونصف.
يظهر أن الشعور بالكمال تسرب إليه جميعا ونحن في بطن أمنا، ولم يبق لي منه شيء.
وأكدت الحياة معنى هذا النقص في نفسي؛ لم أتفرد بشيء أبدا؛ كنا إذا أكلنا تقاسمت أنا وأخي الطعام، وإذا ما اشترى أبي لي شيئا كان لا بد أن يشتري نفس الشيء لأخي. كنت أخشى أن ينسى يوما ويحضر لي فردة حذاء ولأخي فردة حذاء. وذهبنا إلى المدرسة، وكان أخي ذكيا يحسن المذاكرة، ويحسن الإجابة على المدرس، ويحسن الاستماع، ويحسن أن يجعلهم يقولون عنه إنه تلميذ ممتاز. وكنت في أول عهدي بالمدرسة مثله، ولكن حين تقدمت بي السن والدراسة بعض الشيء، نبتت في رأسي فكرة لا أدري مأتاها؛ جميع الأفكار تأتي من حيث لا ندري، ولكنها تؤثر في حياتنا حتى نهاية الحياة. مصاير الإنسان يا سيدي مرتبطة بفكرة كهذه الفكرة التي نبتت في رأسي ونفذتها ... تصور يا سيدي مجرد فكرة طيف من ظن، لمحة من أوهام، ظل من رأي، مجرد فكرة فإذا أنا الذي تراني اليوم، وإذا أخي - والعقبى لآمالك - مدير خطير يحرك بسبابته عشرات من الكيانات البشرية من أمثالي. كانت فكرة يا سيدي. لا، لا أريد أن أكون مثل أخي، أريد أن أكون أنا، أنا، أنا؛ فقد بحثت عن أنا هذه كثيرا، وقررت - ما دمت لم أجدها - أن أخلقها أنا، وخلقتها يا سيدي، فإذا هي هذا المخلوق الشائه الذي تراه الآن أمامك. جزء من عشرة من إنسان، أو جزء من عشرين، أو جزء من ثلاثين. كانت فكرة، مجرد فكرة. كثيرا ما تطوف بأذهان أقوام لكنهم لم ينفذوها، وإنما، أنا، أنا، نفذتها. قلت في نفسي لن أكون صورة لأخي، لا لن أكون. سأكون أنا منفردا في كياني لا أماثل هذا الأخ فيما يسعى إليه من آمال، ولا فيما يسير فيه من طريق. إني شبيه له في الخلقة، ولكني لن أكون شبيها له في الآمال والأحلام. كنت قد مللت أن أكون نسخة كربون من أخي. كانت فكرة، لو تركتها تذوب مع الأفكار الأخرى التي تراود عقلي، لو أني لم أتمسك. لو، بغيضة «لو» هذه يا سيدي الشاعر أليس كذلك؟ أتعجبك «لو» هذه يا سيدي؟ إنها لفظ الحسرة على ما فات، والألم على الماضي. لفظة لا تحمل إلا اليأس. لعلك تحبها في شعرك؛ لأنها تعطيك الفرص للظهور بمظهر الحزين الآسي، هذا المظهر الذي يحب الشعراء دائما أن يتخذوه. أكره أنا «لو» هذه يا سيدي، لو كنت تركتها تذوب لكان شأني غير شأني. المهم أني نفذتها؛ أهملت المذاكرة وكنت أجاهد ألا ألتفت في الحصة، وأجاهد أن أجعلهم يقولون عني تلميذ فاشل. أتعرف يا سيدي أنني لم ألاق النجاح إلا نادرا في حياتي؟ أقول نادرا لأخادع نفسي؛ الحقيقة أنني لم ألاق النجاح إلا في هذه المرة. نجحت يا سيدي في أن أكون تلميذا فاشلا، نجحت في ذلك نجاحا جعل أبي ينتهي إلى اليأس الكامل من أن أكمل دراستي، وأخرجني.
كان يومي الأول مع الفراغ وزملائي في المدرسة يوما عجيبا بالنسبة لي يا سيدي، حتى لقد خطر لي أن أعدل عن فكرتي وأعود إلى مدرستي، ولكن هذه الفكرة، فكرة العدول يا سيدي سرعان ما ذابت وتلاشت ورحلت إلى حيث لا أدري ولا يدري أحد. أتعرف أين تذهب الأفكار يا سيدي؟ لا، ما أظنك تعرف، بل ما أظن أن أحدا يعرف. قضيت اليوم وحيدا، ولكني كنت فردا. شعرت بالتوحد. لم أجد نفسي بين صفوف التلاميذ، ولا وجدت نفسي جزءا من جماعة، بل وجدت نفسي فردا كاملا، ولكن لسبب لا أدريه لم أشعر بهذه الانفرادية، وإنما شعرت بالضياع. كم هو مر مذاق هذا الضياع يا سيدي! حتى لقد أضاع علي شعوري بالتفرد.
وكان لي زميل سبقني إلى الطريق فذهبت إليه، فوجدته قد حقق آماله في كمنجة يحملها وتخرج له أنغاما، وكان سعيدا، وأصبحت في أيام إفلاسي وأنا لا عمل لي إلا أن أستمع للموسيقى التي ترسلها كمنجة صديقي الذي سبقني إلى الطريق. لا لم أكن حينذاك أقدر النغمة الحلوة ولا النغمة الرديئة، وإنما كنت أستمع، أتشرب فنجان قهوة؟ يسعدني أن أقدمه لك. أتشربها مضبوطة؟ يا كوشة، فنجان قهوة مضبوطة. لا، لا تشكرني؛ فإنه يسعدني أن أقول، خيل إلي بعد حين أنني أستطيع أن أفهم النغمات، ورحت أستحسن موسيقى صديقي، وشيئا فشيئا واتتني الجرأة أن أدندن، وما لبثت أن غنيت. نعم كنت أغني مع موسيقى صديقي، وقال صديقي الله، وحين سمعتها وجدت «أنا» التي كنت أبحث عنها، وجدت نفسي أحس بالتفرد يا سيدي، أصبحت أغني وأجد من يقول الله.
وتمسكت بلفظة الاستحسان هذه واسترسلت، غنيت. وكان صديقي يدعو بعضا ممن يعرفهم ويعزف هو وأغني أنا. والعجيب يا سيدي أنهم كانوا يقولون الله! لا أدري أي دافع كان يبعثهم إلى قولها؟ أصبحت الآن لا أدري، أما في ذلك الحين فقد كنت واثقا أن صوتي رخيم. كنت واثقا يا سيدي. ولا أدري كيف استطاع صديقي أن يدبر لنا ليلة نغني فيها في فرح. فرح كامل يجلس فيه المدعوون والعريس والعروس، وأغني أنا ويعزف هو على كمنجة، ويعزف آخر على عود، ويدق ثالث على طبلة، وأغني. وغنيت يا سيدي وقال الناس الله. لا لم يكونوا ساخرين، قالوا الله ولكن ما أقل ما قالوها! إن هي إلا دقيقة أو اثنتان وإذا بالكراسي تقذف إلينا، وإذا الفرح يصبح ميدانا للمصارعة، وإذا نحن وأهل المغنى والموسيقى نتلمس مخبأ نحتمي فيه، ولكن كأنما كان المدعوون لا يريدون أن يضربوا أحدا إلا العازفين.
نجونا بحياتنا ولكن لم ننج من الجروح والكدمات. ضع القهوة هنا يا كوشة. هل الماء بارد؟ شكرا يا كوشة. العجيب يا سيدي أن هذه الحادثة كانت تتكرر في الأفراح التي ندعى إليها بطريقة منتظمة لا تخطئ. لم نكمل حفلا أبدا. يئست يا سيدي، وكفرت بالتفرد، وكفرت بنفسي، وكفرت بكل شيء إلا السماء. أتعرف يا سيدي أن فكرة الكفر بالسماء لم تخالجني أبدا؟ إن عقلي لا يتصور أن السماء تتركنا، كما لا يتصور عقلي أن تكون هذه الدنيا هي نهاية القصة. أنا مؤمن بالله وبالحياة الأخرى، ولم أفقد إيماني هذا في أشد الأوقات حلكة وسوادا. مات أبي يا سيدي وأنا أقطع طريقي في الفشل، وازدادت الدنيا سوادا أمام عيني، ولكني لم أكفر بالله. وفجأة قال صديقي صاحب الكمنجة إنه تعرف على شخص يستطيع أن يجعلني أغني، وحين سألته: «ولا يضربني المستمعون؟» قال: «ولا يضربك المستمعون.» قلت: «كيف؟» قال: «ستغني في كورس.» كورس؟ وأعود شخصا غير كامل مرة أخرى. طلبت إليه ألا يذكر هذا العرض أمامي، طلبت منه ذلك في صلف وكبرياء، ولكن قليلا ما دام هذا الصلف وذلك الكبرياء. كان أبي موظفا، وكان يعولني وهو حي، ولكنه حين مات لم يترك لي شيئا إلا خوفي أن أشعر بأنني إنسان لا يكتمل إلا بغيره. جعت يا سيدي فذهبت إلى صديقي ولم ينتظر أن أطلب، يبدو أن منظري وحده كان كافيا، وأصبحت أحد أفراد الكورس أغني مع غيري ولا يتبين أحد صوتي، إنما صدى بين الأصداء ظل يختلط بظلال جزء على عشرة أو عشرين أو ثلاثين من إنسان، إنسان لا يعرف جنسه فهو خليط من رجال ونساء وأطفال أحيانا. ولكني لم أعد جائعا وإن عدت إلى شعوري بعدم الاكتمال. لا يا سيدي إن قصتي لم تكتمل. كنت يا سيدي ملزما أن أشتري بدلة سهرة. كنت أبدو فيها أنيقا؛ فحين كنت أغادر منزلي وأنا لابسها تسارع بنات الحارة إلى النظر من الشبابيك، وكنت أحس بالزهو في داخلي، زهو سرعان ما يزاملني حين أجد نفسي أكمل الإنسان الظل في الحفل، ولكن فتاة من بين أولئك الفتيات أعجبتني وخطبتها وتزوجتها وعشنا معا سعداء أول الأمر. لم تكن تعرف معنى أنني كورس، لم تكن تتصور أنني جزء من ظل إنسان، حتى جاء التليفزيون فكانت تراني فيه. أجل اشتريت جهازا فيمن اشترى، فلعلك لا تعرف يا سيدي أن مهنتي تدر علي ربحا لا بأس به. أترى السيارة التي هناك؟ هي قديمة نعم، ولكني أملكها. رأتني زوجتي في التليفزيون، رأت المهنة التي أمتهنها. سيدي عدت يوما من إحدى الحفلات فوجدت زوجتي قد غادرت البيت، وحين ذهبت إليها أحاول إرجاعها، قالت أريد شخصا موجودا لا ضائعا خافيا لا يبين، أريد إنسانا لا جزءا من إنسان. ما حزنت يا سيدي، لقد تركت أنا فترة الحزن من زمن بعيد. إنما أقص عليك لأني لم أعد أجد حزنا فيما أقص. لا يا سيدي أنا لست سعيدا وإنما أنا قانع. لا تصدق يا سيدي أن السعادة هي القناعة، وإنما القناعة هي الشقاء، هي ركود يا سيدي ولكني أرتضيه، أرتضيه لأني لا أملك له دفعا ولا عنه حولا. ماذا يا سيدي؟ ألا تنتظر عبد المنعم قاصد؟ لا بد أنه قادم الآن. لا بأس يا سيدي، أمرك، سأخبره بقدومك، مع السلامة يا سيدي، مع السلامة. يا كوشة، يا كوشة كم تريد؟ نعم كازوزة وقهوة. وهذه خمسة قروش لك يا كوشة، شكرا يا كوشة.
رحلة
كان مكانها في الطائرة بجانبه ولم تعره التفاتا؛ فقد كانت المرة الأولى التي تركب فيها طائرة، وكان كل ما يسعى إليه ذهنها أن تقرأ ما تحفظه من القرآن. قليلا ما كانت تلجأ إلى القرآن، وهكذا كان محصولها فيه يقل كلما لجأت إليه، فهي تجهد ذهنها بحثا عن السور القصار، ويخونها ذهنها الخائف المذعور، فلا تذكر إلا «قل هو الله أحد»، وتكمل السورة وتبحث عن غيرها، فلا يقودها ذهنها إلى غير «قل هو الله أحد»، فتعيدها وتعيدها ولا تقول غيرها، وهو بجانبها ينظر إليها وطيف ابتسامة يطيف بفمه، وتظل هي تقرأ «قل هو الله أحد» حتى تجد نفسها آخر الأمر قد اطمأنت إلى تحليق الطائرة في الهواء، وتفيق إلى نفسها من ذعرها وتنظر حواليها، وتراه وترى الابتسامة وتوشك أن تلاقيها بابتسامة. وتتفرس فيه، فتى أسمر الوجه سمرة غير مصرية، حلو الملامح، ذلي العينين، حليق الشعر أسوده، في وجهه سماحة وطيبة وحب، حب للحياة ولكل شيء في الحياة، وينتهز فرصة نظرها إليه فيقول في إنجليزية نقية: أخائفة أنت إلى هذا الحد؟
وتدهش أنه عرف بخوفها على رغم جهله بالعربية فتقول: كيف عرفت أني خائفة؟ - لكل دين تعاويذه. - نعم إني خائفة. الحقيقة أنني كنت خائفة، ولكنني الآن أشعر بالطمأنينة. - أترى كان لما تتمتمين به أثر في هذه الطمأنينة؟ - لا أدري، ولكني الآن غير خائفة. - أنت مصرية؟ - نعم. - ما هذا الذي كنت تقولينه؟ - كلام من كتابنا. - مسلمة أنت؟ - نعم. - أهذا هو القرآن؟ - كلمات قليلة منه. - أنا أيضا أقول كلاما حين أكون خائفا. - من الإنجيل؟ - لست مسيحيا. - إذن؟ - أنا بوذي. - من الهند أنت؟ - نعم. - وهل كنت خائفا؟ - في هذه المرة لا ... إنها ليست المرة الأولى التي أركب فيها الطائرة. - هل خفت في المرة الأولى؟ - المشاعر الإنسانية واحدة في جميع أنحاء العالم ومهما تختلف الأديان. - أنت مسافر إلى لندن؟ - نعم، وأنت؟ - إلى لندن أيضا. - للدراسة؟ - نعم، وأنت؟ - للدراسة. كنت في إجازة وها أنا ذا عائدة منها. - ألا تشعر بالغربة في لندن؟ - إنني أشعر بالغربة بمجرد بعدي عن بيتي. - أخاف من الغربة. - هي المرة الأولى التي تفارقين فيها أهلك؟ - لم أبت ليلة خارج منزلي، بل لم أبت ليلة بعيدة عن أختي. - أظنها غير سعيدة بسفرك؟ - مسكينة، كانت تحاول أن تخفي الدموع حتى لا أراها. - لم تحاول أسرتك أن تمنعك من السفر؟ - حاولت أمي ولكن أبي متحرر التفكير، ورأى أنني متقدمة في دراستي، فلم يشأ أن يحرمني هذه الفرصة.
Unknown page