مقدمة الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
خاتمة وعبرة
مقدمة الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
خاتمة وعبرة
هذا التاج
هذا التاج
تأليف
واصف البارودي
مقدمة الكتاب
نحن الأساطير والتاريخ حكاية
لست من الذين تهون في نظرهم وتصغر في نفوسهم كلما تقدمت بهم الحياة أهمية تلك الحكايات، حكايات العجائز؛ وهي كانت تغذي نفوسنا، وتساعد في نمو شعورنا وتفكيرنا في الصغر، ولست من أولئك الذين يستخفون بالأساطير ويهزءون بها، والواقع يثبت أننا لا نزال نحيا في أجوائها، وسنظل ما دمنا نجهل الكثير من حقائق هذا الوجود، وما دمنا نخشى مواجهة الحياة في حقيقة واقعها، وفي اكتناه أسرارها، واكتشاف الخفايا في زوايا التكوين.
فتلك الحكايات - حكايات العجائز - إنما هي وديعة الأجيال، تحملهن إياها الحياة أمانة إلى النشء النامي في صغره؛ ليتمتع بها أولا ويسر، ثم لتتبلور مغازيها في نفوس أولئك الأبناء الأحباء مع تطورهم ونموهم، حكما خالدة تندمج في كيانات أفئدة الشباب، فتهز قلوبهم، وتسير سلوكهم، وتهيئ رشد الكهولة في الأفراد وفي الأمم.
وما الأساطير سوى تعبير دقيق مغلف عن حقائق الوجود، وعن تطورات الحياة وأحوالها، وعن تصور الإنسان لتلك الحقائق والتطورات، وعن تفهمه لبواعثها ولما ترمي إليه بأسلوب رمزي خاص، تداركت به اللغة عجزها عن التعبير عنها بأسلوب واضح صريح.
ففي هذه الأساطير وفي تلك الحكايات أعمق ما في معاني الحياة من فلسفة وتفكير وحكمة، وأبلغ ما في اللغة المعبرة عن تلك المعاني من أدب وتعبير، فهي متعة الصغار والكبار معا، مهما اختلفت درجات التفكير وميادين التأمل، ومهما تنوع التأثير، فإذا كانت تؤثر في الصغار كنوع من السلوى، تجتذبهم وتستهويهم، فإنها كثيرا وكثيرا جدا ما تدعو الكبار، ولا سيما الواعين المثقفين إلى كثير من التأمل الهادئ والتفكير العميق في وحدة الحياة، على تعدد ظواهرها، وتنوع مراميها، وتبدل مظاهرها!
فهي الحياة، تدرك النفس أسرارها بفاعلية خبرتها الذاتية بشكل أشد وأعمق مما قد تمنحها إياها العلوم وكتبها، وهذه لا تزيد عن أن تكون محتويات، تستمد النفس منها غذاء لفاعليتها وقوة، كما يستمد الجسم غذاءه وقوته من الأطعمة والأشربة والعلاج، وأروع تعبير عن فاعلية الخبرة في الشعوب إنما تجده في تلك الأساطير وهذه الحكايات، فلا جرم إذا عادت الشعوب إليها كلما زحمتهم الحياة؛ لأنها إرث تكمن فيه عناصر الانبعاث وبواعث انبثاق ما هو إنساني من القيم التي يتميز بها الإنسان.
فإذا وجدت في حكايات العجائز وسيلة من أقوى وسائل التعبير عن أسرار الحياة؛ فلأنني أعتبرها أبسط سلك موصل، تبلغ به الحقائق أعماق الأفئدة دون جدل ولا تعقيد، ولعل اعتماد الحضارة على القصة كتعبير في الآداب الرفيعة مستمد من هذا الواقع الحيوي في تكامل الثقافة والحياة.
ولعلك - يا قارئي العزيز - تفكر، وأنت تقرأ هذه النظرة في أهمية حكايات العجائز وأساطير الأقدمين، فيما تحويه الأسطورة من خرافة، ولعلك تتأمل فيما تتزين به الحكاية من تخيل وأكاذيب! فتستخف بهذه النظرة، مستغربا أن تكون الخرافة وأن يكون التخيل والكذب من أسمى أنواع التعبير عن أسرار الحياة، ومن أنجع وسائل إيصال حقائق هذه الأسرار إلى الأفئدة! إنك على صواب في استغرابك، ومن حقك أن تشك، والشك عند العلماء المفكرين أصل اليقين، ولكن عليك في شكك هذا، ونحن نقرك عليه ما دام شكا علميا يستهدف الحقائق، والشك الهازئ سطحي لا قيمة له ، عليك أن تفكر في أمرين، وأن تتأمل في ملابساتهما: (1)
هل تلك الأسطورة أم هذه الحكاية هي خرافة أو تخيل أو كذب بالنسبة إلى ثقافتك وعصرك، أم بالنسبة إلى العصر الذي قيلت فيه؟ فإن تكن بالنسبة لعصرك، فأنت لا تدري ما هو حكم المستقبل على ما سينقل عن عصرك من حكايات وأحاديث ومن صور وتعبير! فلطبيعة التعبير في تلك الأساطير والقصص أهميتها الخاصة في عصرنا هذا، وهو عصر انتبه لسوء تأثير التصنع، فلذا ينادي بالعودة إلى طبيعة الأشياء. وإن تكن بالنسبة إلى تلك العصور، فعندئذ تكون هي تصنعا، ولا يجوز أن نعيرها هذه الأهمية. (2)
هل في هذا العالم حقيقة مطلقة وخير لا تشوبه فاعليات الشرور؟ الخير والشر متلازمان، والحق والباطل لا يفترقان، والإنسان بفاعليته الذاتية هو الذي يميز ويختار، وهو الذي يخدع أو ينخدع، ولولا تلازم الخير والشر واتصال الحق بالباطل، لما كان للحياة معناها ولما كان للإنسان أي مطمح في كفاح، ولا أي افتخار في ظفر، وهل الإنسان في هذه الحياة سوى مجاهد يكافح الخير والشر معا؛ ليستقر ما يختار منهما في نفسه على الشكل الذي يتخيله والصورة التي يرسمها؟! وهل هو سوى عامل تائه يجد ويكد، سائرا في طلب الحق؟ فإذا هو في نزاع عنيف مع الحق والباطل معا، إلى أن يستسلم لأحدهما فيكون سعيدا أو شقيا، عظيما أو حقيرا، سيدا أو مسودا.
وما تلك الأساطير وهذه الحكايات مع ما ينضم إليها من وقائع وحوادث يتكون بها التاريخ، ومن تعابير وأساليب ينبثق عنها الأدب، سوى مثيرات ومحفزات تثير النفس وتحفزها؛ لتستمر في كفاحها المتصل بكفاح الإنسان منذ حاول أن يحقق إنسانيته، فتتحقق بذلك الصلة بين الأجيال في تقدم الثقافة والحضارات.
فلا ضير علينا إذن، إذا عدنا إلى بعض تلك الحكايات والأساطير، مع الاعتماد على الحوادث الراهنة والوقائع المشاهدة الملموسة - تصريحا أو تلميحا - في أحاديثنا في هذه «الجريدة» الغراء، ومن أهدافها وأهداف كل صحيفة تدرك حقيقة رسالتها أن تصل بالحقائق إلى أعماق النفوس، وهذا هو هدف الأهداف في انبثاقات المدرسة الحديثة التي ندعو إليها، وفي تطورات مفهوم التربية فيها في تجليات روح المجتمع وثقافته.
المؤلف
الفصل الأول
يحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عادل، كان ملكا عظيما مسيطرا في الأرض، ولا أذكر أن جدتي - رحمها الله - ذكرت لي اسمه، على كثرة ما رددت علي هذه الحكاية، ولا البلاد التي كان يحكمها، ولا الزمن الذي أظله بوقائعه. زمنه قديم، وسيطرته على جميع ممالك الأرض، وهو ملك عظيم تعنو له الرقاب، وتخضع لهيبته جميع الآفاق، هكذا كانت تصوره لي بعباراتها الفخمة ولهجتها القوية، وكانت عباراتها تزداد وضوحا بوضعها الذي تتخذه منسجما مع معاني القصة، ومتفقا مع حركة اليدين وبنظراتها المشعة، وكأني بها كانت ترسل تلك الأشعة لتنير لكلماتها طريقها إلى الفؤاد، فقد كان لكلماتها تأثيرها القوي في نفسي؛ ولذلك تراني أذكر الكثير منها، ومما كانت تقص علي من قصص، وأعترف بما كان لها في نمو ذاتي من أثر كبير.
ولعل في إهمال ذكر اسم الملك، وفي ترك تعيين بلاده وزمنه، مغزى بعيدا أراد واضع القصة أن يجعل منه صورة رمزية لكل ملك عادل، في أي قطر من الأقطار وفي أي زمن، ولو أن جدتي كانت تعرف كلمة الإمبراطور وتدرك معانيها لقالت - ولا ريب - إنه كان إمبراطورا عظيما؛ لأنه كان عادلا.
وعلى كل، فقد كان هذا الملك العظيم محبا لرعيته، يريد لكل فرد منهم الخير والطمأنينة والسعادة، وكان يؤلمه كل الألم أن يظلم أحد من الناس، فلم يكن يترك وسيلة لدفع الظلم، وما كان ليتساهل في الانتقام من الظالمين، اعتقد أن العدل أساس الملك، فاتجه لتحقيق العدالة بكل شعوره وبكل تفكيره، فالضعيف المظلوم هو القوي في نظره حتى يأخذ له حقه من ظالمه، والكبير صغير عنده إذا ما اعتدى على صغير أو احتقره. أحبته الرعية وتعلق به الناس، حتى كادوا يعبدونه من دون الله، كما عبدوا نمرود وفرعون، ولكن، وآه من ولكن.
ولكن أمرا ضاقت به نفوس الناس على الرغم من وجود مستلزمات الراحة والطمأنينة، بفضل نعمة العدالة التي يتصف بها الملك ! وقد ضاقت نفس الملك ذاته بهذا الأمر، على الرغم من كرم أخلاقه وحكمته، هي فكرة سيطرت على عقله حتى أصبحت عقيدة ملأت نفسه، فهو يدين بها لدرجة الوسوسة، فلا مناص من أن يتحمل هو، ومن أن يحمل الناس ما تستدعيه محاولة تحقيقها من تدابير تتجاوز أحيانا الحدود التي يطيقها البشر.
قد استقر في ضمير ذلك الملك أن العدل يأبى أن يكون شيمة لأبناء الحرام، فابن الحلال وحده هو الجدير بأن يتصف بالعدالة، وأن التبعة لا تقع عليه وحده في تحقيق العدالة، بل هناك الحكام والقضاة والموظفون، ولا قيمة لحبه للعدل، ولمحاولاته في تحقيقه إن لم يكن هؤلاء جميعهم عادلين، وما كانت فكرة مساهمة هؤلاء في تحمل تبعة تحقيق العدالة في المملكة لتخفف ما يجد من حرج في نفسه، بل زادت في قلقه؛ لأنه يدرك أن التبعة تعود كلها عليه ما دام هو الذي يعينهم ويوافق على اختيارهم، ولعله كان يردد في نفسه هذه المعاني التي قصدها الشاعر في قوله:
ومن يربط الكلب العقور ببابه
فكل بلاء الناس من رابط الكلب
فلا مندوحة له إذن من أن يختار موظفيه من أبناء الحلال! فلا يقبل بتعيين من لا يكون من ظهر أبيه زوج أمه! ولما كان يأخذ الفكرة على معناها الحقيقي الحسي، شرع يفكر بالحصول على الأدلة الحسية في ولادة الأبناء، وهل لتحري ولادة الأبناء من وسيلة غير التجسس على خفايا الحياة الداخلية في البيوت وفي خارجها؛ أي في كل ما يتصل بالحياة العائلية الصميمة بسبب؟!
وهكذا فقد ضاق الناس ذرعا بنوع من التجسس، اعتمد عليه ذلك الملك في اختيار الأكفاء العادلين من القضاة والحكام والموظفين، فعيونه التي كان يبثها في جميع أنحاء المملكة لتتجسس أمور العائلات في صميم حياتها الداخلية، ولا سيما في تصرفات الزوجات ليتحقق ولادة أبناء الحلال، فيدون أسماءهم في سجل خاص يرجع إليه عند الاختيار، أقلق الناس وأزعجهم، وشوش عليهم راحتهم واطمئنانهم، وقد أدرك الملك أنه يزعج رعيته من حيث يريد راحتها، فارتبك واضطرب، وأخذ باستشارة المقربين إليه .
وما أن انتشرت أخبار الملك وأحواله في تشوشه واضطرابه بين خاصة الناس، حتى وصلت إلى دجال مشعوذ من السحرة كان يسكن في أطراف المملكة، وكانت له شهرته في جميع الأرجاء. وجد الدجال في هذه الجهة من ضعف الملك فرصة مؤاتية لإشباع شهواته، وبلوغ أغراضه من مال وجاه وتحكم؛ فشد الرحال وقصد العاصمة، معتمدا على ما كان للسحرة من مكانة عظيمة وشأن كبير في تلك العصور، ولا سيما إذا كانوا ممن يتقنون فنون التغطية والتدليس، ويحسنون القيام بأنواع المهارات في الدعاية والتمويه والتلبيس.
لم يصل الساحر إلى العاصمة حتى أثار حول اسمه ضجة مفتعلة، استعان على إثارتها بالمال وبأتباع موعودين، إنه ذكي فطن، يعلم أن كل معروض مهان، فأراد أن يكون مطلوبا، يطلبه الملك فيصطفيه، لا طالبا يعرض نفسه فيتهم ولا يثق به أحد، وقد حصل له ما أراد، فما وصل اسمه إلى الملك مقرونا بضجة الدعاية والتمجيد، حتى استدعاه إليه يستنير بعلمه، ويستعين بقدرة اطلاعه على الغيب، والتكهن بما يخبئ المستقبل له ولرعيته من حوادث وتقلبات؛ عله يجد لديه وسيلة تنقذه وتنقذ الشعب من ذلك المأزق، وقد أوقعته فيه عقيدته المستقرة في أعماق فؤاده.
دهش الملك مما وجد عند ذلك الساحر من علوم وفنون ومهارات تحير الأذهان والعقول، ومن بيان يزخر كالبحر، وطلاقة لسان تسابق الرياح في أعصارها، ولا غرو، فالسحرة لا يكونون من البلداء المغفلين، ولا تجد المشعوذ بين الجهلة الأغبياء الأعياء، وطلاقة اللسان عند المشعوذ وسهولة البيان عند الساحر مضرب مثل عند الناس.
فلم يكن من الغريب إذن، وقد أدهش الملك الطيب أن يؤخذ بسحر الشعوذة، وأن يثق بمن يمثل هذا السحر بين يديه، فيفضي إليه بذات نفسه وبما يجد من حرج وضيق.
الفصل الثاني
قال الراوي: لم يكد الملك الطيب القلب يفضي بما في نفسه، حتى بدت على وجه ذلك الدجال المشعوذ أمارات الارتياح والاهتمام، ارتاح ارتياح الظافر الداهية، بعد أن استسلم إليه الملك وأطلعه على كثير من أسراره الخاصة ومن أسرار الدولة، فأصبح بين يديه كالطفل يطلب العون من والده، أو كالتلميذ يلتجئ إلى أستاذه؛ ليساعده على إزالة ما في نفسه من قلق، وليرشده لما يصلح شئون الدولة لتنقذ مما هي فيه من اضطراب، وكثيرا ما كان ضعف العظماء أمام بيان مثل هذا المشعوذ من السحرة الدجالين سببا لمصائب ونكبات منيت بها الأمم في مجموع كياناتها وفي أفرادها.
نجح الدجال المشعوذ وقد بلغ ما أمل، فأصبح مطلوبا، وزاد في أهمية نجاحه استسلام الملك إليه، استسلاما كان فوق ما أمل وانتظر، فلا غرو إذا أظهر التواضع والخضوع والتذلل، وأبدى كثيرا من اهتمام من يفاجأ بالمشكلة، فلا يستطيع أن يرتجل طريقة حلها؛ فيطرق متأملا مفكرا، يثبت نظره في الأرض حينا، ويغمض عينيه إغماضة تامة، أو نصفها حينا آخر؛ حتى تتقد القريحة فترسل شعاعا من نور نورها يضيء له الطريق ليجد الحل الملائم.
أتقن مشعوذنا تمثيل دوره هذا، وقد سبق وهيأ في نفسه كل شيء قبل أن اجتمع بالملك، وقبل أن فاز باستسلامه، فلا حاجة به للتفكير ولا للإطراق، ولكن الشعوذة فن كله تغطية، وكله تدليس وتلبيس، وكله تصنع وافتعال. أطرق الساحر طويلا وإنه ليطيل زمن إطراقه مسترقا النظر إلى وجه الملك؛ حتى إذا ما ظهرت على هذا الوجه أمارات نفاد الصبر تشوقا إلى استماع درر الحكم، وإلى التأمل فيما ينبثق عن ذلك العقل العبقري في صفاء تفكيره من نصائح وتعاليم وإرشاد، تحرك برأسه وبأعلى جزعه حركات خفيفة، رفع على إثرها رأسه، وعيناه ذابلتان كمن يستفيق من نوم عميق أرهقه بأحلامه، فتنهد ثم التفت إلى الملك وقال: يا صاحب الجلالة، أتسمح لعبدك الذليل الحقير أن يكون صريحا في حديثه وعليه الأمان؟ فاضطرب الملك وقدر لهذا الحديث أهمية عظيمة، وقال له: أنت أمين مهما كان في قولك من تجاوز. - أنحن في نجوة من آذان الناس وأعينهم حتى من أقرب المقربين؟
ما سمع الملك همسه هذا حتى أصدر أوامره بأن توصد أبواب القاعة، وألا يؤذن لأحد بالاقتراب منها مهما كان شأنه.
أظهر الساحر ارتياحه لاهتمام الملك بحديثه، فعدل جلسته وأخذ يحدد نظراته في وجه صاحب الجلالة، ويثبتها بعد أن كانت تائهة مضطربة حائرة، وما لبث أن أصبح في وضع أشبه ما يكون بمن يتحفز للاقتناص، وقد كان هدفه في الحقيقة اقتناص قلب الملك وعقله، ثم أخذ يهدر متمتما مهمهما مدمدما، كالغضب الخائف الذي يتردد بين الإقدام والإحجام؛ ليوهم مراقب أوضاعه أن الأمر خطير، وما شعر بأنه لم يبق في صدر الملك للصبر مجال - وهو الوضع الذي يستدرج إليه المشعوذ فريسته؛ لتصبح في أقصى حدود الاستعداد لقبول ما يقول وما يطلب - حتى أنهى همهماته ودمدماته بقوله: لن يبلغوا مقاصدهم الخبيثة، الله موجود، وهو الإله الحق الذي يكلأ العادلين، ويحفظهم من الأشرار، يا ملك الزمان! إن الله قد منحك العقل والحكمة، وأنعم عليك بأعظم ما ينعم به على الملوك، إذ تطيب نفسك بإقامة العدل بين الناس، ولكن بطانة السوء وأشرار المشيرين سيعود كيدهم إلى نحرهم، لم يرد بك ولا بالمملكة خيرا من أشار بالتجسس على الناس، وإذا أحب الناس العدل فإنما يحبونه لما يحقق من حريات، وما كانوا يرغبون في العدل لولا أنه يردع الناس عن أن يتعرض بعضهم لحرية بعض. لا شيء أثمن من الحرية على الإنسان؛ إنها هي ذاته، فلا يكون إنسانا إلا بها، والحرية يا صاحب الجلالة هي ميزان العدل، فكل عمل يحجز على الناس حرية من حرياتهم، دون مسوغ إنساني يقضي به المجتمع في حرصه على حرية الجميع، هو ظلم تنتج عنه أوخم العواقب، ويكفي الناس أن يشعروا بأنهم مراقبون ولا سيما في أعراضهم؛ حتى يجدوا لفقد الحرية في نفوسهم لوعة من يفارقه حبيبه، وألم من تبتر أعضاؤه عضوا عضوا، ماذا أراد من أشار بإيقاع هذا الحيف بالرعية؟ أراد أن يخدم بذلك أجنبيا رشاه؟ أم أراد أن يساعد أحد الطامعين بالعرش، وقد غره بوعوده؟
ما بلغ الساحر في حديثه حدود هذا الاتهام الغامض، حتى افتر ثغر الملك عن ابتسامة رضى، ثم أخذ يتأمل في نفسه تأمل المعجب بما سمع، فتوقف الساحر عن الكلام مبتهجا ببوادر الصيد، ولا تخدعن يا عزيزي القارئ كما خدع الملك؛ فساحرنا عالم خبير، لا يبدأ إلا بما هو معقول، تشع منه أمارات التكهن والإخلاص، شأن كل مشعوذ محنك، فانتظر.
سكت الساحر احتراما لتأملات الملك، ولكن هذا لم يلبث أن استفاق من تأملاته هذه، وأجاب على الأسئلة بقوله: بل للسببين معا؛ فهناك سر لم أبح لك به؛ لما هو عليه من خطر أولا، ثم لأنني لم أستكمل الأدلة كلها بعد، فشداد ملك البلاد المجاورة هو ممن وفقني الله لإخضاعهم من الملوك، بعد أن كان يسيطر على سياسة مملكتي ويسيرها كما يشاء، فهو يعمل على استرجاع سيطرته، وعلى الانتقام ممن انتصر عليه، ولم يجد وسيلة إلا في إفساد ضمائر بعض الخاصة من وزراء ومشيرين، وفي إطماع ابن أخي في العرش، وهو شاب مستهتر مسرف ضيق التفكير، فهؤلاء الخاصة في دفعهم لي لاتخاذ هذا التجسس على الرعية، إنما كانوا يعملون للأجنبي وللطامع في العرش معا، فهم أبناء حرام ولا شك، والتجسس ذاته خدعني حين سجلهم في سجل أبناء الحلال، فالأمر خطير، واعتمادي على عملك وبعد نظرك، وقدرتك على الاطلاع على الغيب في تدارك هذه الأمور، ففكر مليا، فإنني أثق باطلاعك كما أثق بنفسي، وإلى الغد، وقد حان موعد اجتماعي بمن وعدني باستكمال الأدلة الجرمية اليوم.
الفصل الثالث
قال الراوي: خرج الساحر من خلوته بالملك وهو يكاد يشعر أنه يطير في الهواء ولا يسير على الأرض؛ لشدة ما أثر في نفسه فرح النجاح، وقد زاد في انبساط نفسه وابتهاجه، ما لاحظه من التملق البارز في تحيات رجال القصر، وفي انحناءات الأتباع والخدم، حتى أوشك أن يرى نفسه وقد أصبح صولجان الملك في يده يقلب به قلوب الناس. سار من باب القاعة وقد أحاط به بعض رجال البلاط وموظفيه، يشيعونه بقلوبهم وعيونهم وجميع جوارحهم، حتى بلغ رتاج القصر، فوجد مركوبه حاضرا، وكان حصانا أصهب فارها، عليه مظاهر خيلاء الخيول العربية الأصيلة ونفورها، وله مرحها وصهيلها ونشاطها، وما كاد يدنو من ذلك الحصان حتى وجده يضرب الأرض بقوائمه ضربا موقعا، له لحن خاص يعبر به عن زهو الخيول الأصيلة وتيهها، وعن تمردها على الحياة، فهي ترى أنها إنما تسام خسفا في سيرها على الأرض، وهي الجديرة بأن يكون ميدان جريها أجواء السماء.
امتطى الساحر ذلك الجواد الكريم بعد أن أعانه بعض الأتباع، شأن المزيفين من العظماء متى أرادوا الركوب، فبعض الناس يمسكون بالركاب تذللا، والآخر يقبض على اللجام تملقا، وآخرون يحيطون بهم تمويها في زيادة الاحتياط، والعظماء العظماء يأبون هذه المظاهر الكاذبة، ويخجلون منها ما دامت قد تدل على الكسل والعجز، واسترخاء الترف أو كبرياء الصلف! وهذه الصفات وما يماثلها لا تليق بالعظيم الأصيل في عظمته المعتد برجولته، ولم يشعر ذلك المشعوذ بأنه أصبح على متن ذلك الحصان الجواد مالكا لقياده، حتى انتقلت إليه عدوى الخيلاء زيفا، فكان مظهرها غطرسة ممقوتة، كما كان زيف النفور والمرح والنشاط والصهيل، وهي كلها صفات محببة في الخيول، وفي غيرها ما دامت طبيعية أصيلة، سماجة وكبرياء، وزهوا وتصنعا، وهديرا يشبه هدير البعير.
أما الشعب، ذلك الشعب الساذج المغفل الغارق في أحلام أوهامه، ولا سيما أوهام السلطة والعزة والنفوذ، والمأخوذ ببريق مظاهر التمويه والزركشة، وبأكاذيب سراب العز ووهم الأمجاد، وبخداع التدجيل بشكلياتها وظواهرها، إن ذلك الشعب المسكين ما كاد يسترق السمع، بباعث حب الاستطلاع، أو أنه سرق سمعه بفعل الدعاية والتغرير، فعلم بما كان للساحر عند الملك من حظوة ورعاية، حتى أخذ يبث العيون مستطلعا عن موعد انتهاء هذه الزيارة؛ ليتمتع بنفحة الملك والسلطان تتصل بأحد الرعايا السوقة العاديين، فكأن الإنسان يكفيه في نظرهم أن يتصل بالملك وبذوي السلطان ليخلق خلقا جديدا، ويكفيه أن يستقبل في تلك القصور ليستعير قبس نور المجد ويلبس رداءه، وهل للإنسان أية قيمة ذاتية إذا لم يتصل بظل الله على الأرض، أو بمن والاه واتصلت به نفحة من نفحاته؟ إنها صوفية الشعوب الجاهلة كيانها، الذاهلة عن ذاتها والمستسلمة لظواهر الحياة، ولمظاهرها وشكلياتها، ماذا تريد من شعب يغفل عن ذاته، وينسى أنه هو مصدر السلطة والعظمة والمجد، وأنه هو الذي يرفع ويخفض ، وهو الذي يعز ويذل، وهو الذي يسدد الخطى أو يضل، بفعل ما أودعه الله في كيانيه الفردي والاجتماعي من قوى وإرادة وتفكير؟
لم يعلم ذلك الشعب المضلل المستسلم بخروج الساحر من قصر الملك على الشكل الذي وصفناه، حتى ترك أعماله ووقف صفوفا متراصة على جانبي الطريق، فمن الناس من كان يحيي المشعوذ عند مروره بالانحناء، ومنهم من حياه بالهتاف والصراخ، ومنهم من اكتفى بذهول غيبوبة التأمل والإعجاب، مأخوذا بصوفية عبادة المظاهر والشكليات، وما كانت هذه الحفاوة إلا لتزيد في غرور الخيلاء، إذا ما بعثها في نفس المغرور استسلام الشعب إليه، إنها تنقلب لاستخفاف يحتقر معه بغروره ذلك الشعب المنعم، وهذا ما ظهر على وجه ذلك المشعوذ، وقد كانت ابتسامته الصفراء الهازئة تنم عن احتقاره لهؤلاء السوقة السذج، وتعبر عن استخفافه بهم، وقد عبر عن سخريته هذه لمن بجانبه من الأتباع بقوله: إنهم حقا طيبو القلوب هؤلاء الناس.
وكان في هذه الصفوف شاب تطل الحياة جديدة من عينيه، وهل الشباب في حقيقة معناه سوى إطلالة جديدة للحياة على الوجود، تريده مستمرا في تجدده؟ وكان هذا الشاب - ولم يكد يبلغ الموكب نصف طريقه - قد شعر بما يرتسم على وجه ذلك الساحر المشعوذ المغرور من استخفاف وهزء واحتقار، وبما تفتر عنه شفتاه من سخرية وخبث ولؤم، فالتفت إلى ذلك الجمع، وصرخ قائلا: ما هذا الحمق الساذج الأبله؟ مر بكم هذا الرجل على أتانه قبل ساعات فلم تأبهوا له ولم تكترثوا لمروره، وأعلم أن كثيرين منكم كانوا يرمونه بالكذب والدجل والتمويه، فما بالكم وقد فتنتم به الآن؟! هل للسلطة عصا سحرية لا تلمس أحدا إلا ويصبح أهلا لأن يفتتن به الناس سواء أعمل أم لم يعمل؟! وسواء لديكم أكان ضارا أم نافعا؟ شريرا أم خيرا؟ ماذا عمل هذا الرجل؟ أفتح لكم بلادا جديدة أم أمنكم من خوف؟! أأنقذكم من مجاعة أم حفظ لكم أرواحكم وأموالكم وأخصب أرضكم؟! أية نهضة حققها في ميادين العلم والسياسة والاقتصاد؟! ما هو أثره في المجتمع حتى يفتتن به المجتمع ؟! يا مغفلون! إن عملكم هذا سخف وحمق إن لم أقل نفاق وجنون! إنها الشعوذة تفتك بالمجتمع.
وما كاد يصل الشاب في حديثه الصارخ إلى ذكر الحمق والنفاق والجنون والشعوذة، حتى انتفخت أوداج الساحر، واصفر وجهه من الغضب، فثار الناس على ذلك الشاب، وأخذوا يكيلون له الشتائم، فبعضهم أخذ يقول: إنه وقح قليل التهذيب، وآخرون كانوا ينعتونه بالحمق والسفه، وجميعهم قرروا أنه مجنون يجب أن يعالج في مستشفى المجانين، ولم تهدأ ثائرة الناس، ولم تسكن ضجتهم إلا عندما أخذ الجند هذا الشاب، وقد امتنع عليهم فجروه على الأرض جرا دون رحمة ولا شفقة، وكانوا يضربونه بهراوتهم ويركلونه بأرجلهم بعنف وقسوة وجفاء افتر لها ثغر الساحر عن ابتسامة عريضة وزفرة عميقة، عبرتا عن الرضا والقبول وعن التشفي والانتقام، وقد زادت ابتسامته عرضا وطولا وعمقا في مبناها وفي معناها، عندما ألقى الجند القبض على شاب آخر أراد أن يدافع عن رفيقه متمردا على الدجل والشعوذة والنفاق، ومنددا بجهل الشعب وحمقه وانهيار أخلاقه وحقارته.
هذا هو جو الموكب بعد أن اعتقل الشابان، ولا أدري، أكان السبب عدم وجود شبان آخرين، أم أن الخوف والذعر أسكتهم؟ لم يذكر راوي الحكاية شيئا عن هذا، ولكن باستطاعتنا أن نفترض أن الكهول والشيوخ، وهم من تتجسم فيهم روح المحافظة على التقاليد ولو كانت فتاكة، ومهما كانت سخيفة، وهم الذين تأخذهم شعوذة صوفية في عبادة الشكليات والمظاهر وإن كانت سببا للتذلل والانحطاط وقبول الاستعباد، نعم، باستطاعتنا أن نفترض أن هؤلاء وربما انضم إليهم كثير من الأولاد كانوا وحدهم المتظاهرين، وأن وجود هذين الشابين كان صدفة عارضة، كما يمكننا أن نفترض أنه كان هناك شباب من نوع آخر، فسدت تربيته وبكرت شيخوخته، فلم تتحقق فيه معاني الشباب، ولم تتفتح في نفسه أزاهره، مالي أشتط؟ فعفوا يا قارئي العزيز، كان الأجدر أن أقول: ربما كان سائر الشباب في تلك المظاهرة من الشباب الهادئ العاقل الرصين، ومن الذين لم يتذوقوا طعم الجنون، جنون الشباب، وربما كان من الشباب المكبوت أو ممن أرعبه الذعر من تصرفات الجنود.
ومن يدري؟!
وكيفما كان الأمر، فإن الموكب استمر بهدوء وسكون، وعادت له روعته بعد أن ارتاح الناس من جنون الشباب وطيشه، حتى وصل إلى دار الساحر، فترجل هذا وحيا الناس مبتسما ابتسامة الظافر، وحيا الأتباع الذين رافقوه وكانوا في ركابه، وأرسل إلى الملك العظيم تحية الشكر والعبودية والخضوع والتذلل، ودخل داره مطمئنا آمنا.
الفصل الرابع
قال الراوي: لم يتجاوز الساحر عتبة باب الدار حتى بادره الخادم بقوله: القاعة مزدحمة بالزائرين يا سيدي، ويظهر أنهم من الكبار الكبار، وكان الخادم يقول ذلك والدهشة تعقد لسانه.
إنه تعود أن يرى في دار سيده أناسا من السوقة، وأكثرهم من الفقراء، يأتون لمعرفة بختهم أو لكشف الغيب أو المستقبل، وقد يقصدونه لمحاولة استهواء حبيب أو للإيقاع بعدو إذا لزم الأمر، أو للحصول على رقيات وتمائم وتعاويذ وأحراز، يعتقدون أنها تقيهم من العين أو المرض، أو تشفيهم من الأدواء والعلل، أو تحفظهم من السحر ومن تعديات الناس، ومن الأحراز ما يكون للمحبة، فيصبح حاملها محبوبا لدى الآخرين، إلى غير ذلك من أغراض ومطامع قد تواجهها بعض المصاقبات أو تلائمها بعض المصادفات في بعض الحوادث، أو في وهم بعض الناس ممن في نفوسهم ضعف ومرض، وممن في تفكيرهم التواء، فيبنون من الحبة قبة، ويصلون لخوارق العادات بخوارق الانحراف في الفكر وفي الشعور، فتستقر في نفوسهم صور الشعوذة حقائق راهنة يؤمنون بها، ولا يقبلون فيها أي تأويل، والغريب أنهم ينسون أو يتناسون في إيمانهم هذا العدد الكبير، وهو الأكثر حكما، مما لم تواجهه مصاقبة أو تلائمه مصادفة أو وهم من الرقى والتعاويذ والأحراز، وقد أعمى المشعوذون قلوب الناس بإلقاء هذه العبارة الساحرة ونفثها في الصدور: من لا يؤمن لا يشهد. فإذا لم تواجهك مصاقبة أو صدفة اتهموك في إيمانك، وكفى الله المؤمنين القتال، فأنت في حلقة مفرغة ليس لها أول ولا آخر.
وكان إذا ما جاء الكبار فإنهم كانوا يأتونه فرادى ومتنكرين في أكثر الأحيان، أما الكبار الكبار فإنهم كانوا إذا أثر سخف الشعوذة في نفوسهم، يستقدمونه خفية إلى قصورهم أو دورهم، وفي الانخداع بالشعوذة صغار، وفي الاعتقاد بها عار وأي عار، وقد لا يشعر بذل ذلك الصغار وبحقارة هذا العار إلا من ارتفع مستواه عن السوقة من الناس وجاهة أو علما أو خبرة، فإذا ما انطلى سحر الشعوذة على أحد هؤلاء التجأ إلى التغطية والتلبيس، وإلى التنكر والتدليس، وفي ذلك كله، سواء كان ذلك في السوقة أم في الكبار أو الكبار الكبار، دلالة واضحة على ضعف في النفس وخئور في العزيمة، وجبن عن مواجهة الحوادث بتفكير ذاتي واستقلال في التأمل.
ولا تكون هذه الظاهرة إلا في عصور الانحطاط في الأمم، وهي من أولى أمارات التأخر والانهيار.
فلا تستغربن - أيها القارئ الفطن - دهشة الخادم، وقد رأى الكبار والكبار الكبار يغشون الدار بهذه الكثرة دون تنكر ولا استخفاء.
ولم يسر الساحر بضع خطوات حتى هرع إليه تلميذه، وقد كان في القاعة يؤانس الزائرين، وأسر في أذنه أن بعضا من رجال الدولة ومن الوجهاء والحكام أتوا للسلام عليه، وهم في انتظاره منذ وقت طويل، فابتسم الساحر ابتسامة خبيثة ماكرة وخاطب تلميذه بقوله: أي منذ شرفني جلالة الملك بالخلوة معه، أيوه، إن هؤلاء هم الشمامون، فاستغرب التلميذ الكلمة، وسأله: ما معنى كلمة «الشمامون»؟ وردت في كلامه، فابتسم الساحر وقال: سأعلمك عن معناها في جلسة السهرة، أما الآن فقل لهم: إن الأستاذ قد دخل غرفته ليؤدي صلاة الشكر لله تعالى، ثم يعود إليكم. وانتبه لكل ما يقول هؤلاء لتنبئني خبرهم بالتفصيل، فإنك ستشاهد العجب العجاب، فلا تعلق أنت على كلامهم بشيء مطلقا.
عاد التلميذ إلى مقعده في القاعة، وأبلغ من كان من رجال الدولة ووجهاء العاصمة وحكام المملكة بأن الأستاذ سيجتمع بهم بعد أن يؤدي صلاة الشكر لربه، فما سمع هؤلاء هذه العبارة، حتى اهتز المجلس وجدا وإعجابا، وقالوا بصوت واحد: الله الله! نفعنا الله ببركته، ومتعنا بطول حياته، ثم استولت على المجلس لحظات صمت وقور قطعه أحدهم ويظهر أنه كان أعظمهم مكانة بقوله: إن رجال الله يشغلون بربهم فلا يقدمون على عبادته أي عمل، فأكد آخر بأنهم مشغولون بالله عن الناس، فثبت من بجانبه هذا الرأي بقوله: إنهم أحباب الله يا أخي، وهل يشغل قلب الحبيب بسوى حبيبه؟ فإذا في آخر القاعة رجل يتواجد فيهتز طربا ذات اليمين وذات الشمال ويردد ما عناه الشاعر بقوله:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
ولكن الجالس في الزاوية المقابلة رد عليه بقوله: ما لك وللدنيا الآن؟ فهل لرجال الله بها أي مأرب؟ إن أستاذنا الجليل أعظم من أن يفكر فيها، أو أن يخدع بسراب مظاهرها، فوالله لولا وجود هؤلاء ينصرفون لعبادة الله أمثال أستاذنا الجليل لما رزقنا الله في هذه الحياة، فنحن إنما نرزق ببركتهم. نعم نعم، أحسنت والله يا أخي. بهذا عبر الجار عن استحسانه لقول جاره وهو يهز رأسه هزات متزنة متوالية إشارة للتصديق على كل ما قيل مع الإعجاب الشديد، فانبرى لهم رجل كان يتصدر القاعة بجانب ذاك الذي افتتح الحديث، وأخذ يتكلم بصوت أجش عريض، ودون أن يفارقه سمت الوقار قال: إن أهل التقى والورع هم السعداء وحدهم، وإنما يسعد غيرهم بتقربه إليهم، فوجود أستاذنا الجليل التقي الورع القديس في هذه العاصمة سيكون، ولا شك مصدر سعادة للجميع.
وهنا تطور أحد الحاضرين تطورا صوفيا، فأخذه الحال وأنشد يقول بعد تنهد عميق، وكأنه في حالة الغيبوبة ما معناه:
لي سادة من عزهم
أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي
في حبهم عز وجاه
وما بلغ الحديث هذا الحد مع ما فيه من انجذاب وغيبوبة وتواجد، حتى أوشك التلميذ وهو من الشبان الواعين أن يختنق من الغيظ والغضب، وقد اشتد حنقه لدرجة انقلب معها في نفسه سخرية حانقة كادت تتفجر ضحكا هازئا صاخبا، لولا أن دخل الأستاذ على سمت خاص ووضع مفتعل، فأنقذ الموقف وأوقع الرهبة والوقار في نفوس الجميع، فوقف الجميع إجلالا وكادت انحناءات بعضهم تبلغ الركوع أو السجود، وما أشد ما يتقن هؤلاء المراسيم الملكية، وما أعظم مهارتهم في تحقيق شكلياتها على أتم وجه.
أما التلميذ الحانق فقد اغتنمها فرصة خرج فيها لوقت قصير فثأ فيه عن نفسه حدتها، وعاد ليقدم إلى أستاذه هؤلاء الذوات بأسمائهم يعاونه بذلك أكبرهم منصبا، مبينا رتبة كل منهم وعمله.
كان هذا التلميذ شابا لم يتجاوز العشرين، وكان ذكيا واعيا وفطنا، صحب الساحر منذ سنوات بأمر والده، وقد كان مأخوذا بعلم الأستاذ وفضله، فأراد أن يفيد ولده من مهارته وخبرته وقوة عارضته. اطلع هذا التلميذ النشيط بفطنته ووعيه على أسرار المشعوذ ومآسيه، وأدرك أساليب الشعوذة وأضرارها، وكاد يترك أستاذه حانقا ثائرا لولا أن هذا قرر الانتقال إلى العاصمة ليتصل بالملك، فأراد الشاب أن يشاهد أدوار هذه المأساة الجديدة علها تكون مصدر ثورة للإصلاح.
إن هذا التلميذ يعرف إذن حقيقة أستاذه، وهو يعلم أن مزج الشعوذة بمظاهر الدين وشكلياته، وهي الطريقة التي يستخدمها هذا الساحر، هو من أشد أنواع الشعوذات ضررا وخطرا، إنه واثق أن أستاذه لا يصلي ولا يتعبد الله إلا رياء ونفاقا أمام الناس، فهو إذن لم يدخل غرفته للصلاة كما ادعى، بل لاستكمال عناصر طريقته في شعوذته؛ لتتخذ شكلها الديني ذا الأثر العميق في نفوس السذج من الناس وغيرهم على ما شهدنا في الفترات السابقة، ولكن هل تأثر هؤلاء الكبار والكبار الكبار بشعوذة هذا الدجال؟! أم هم شعوذوا عليه بدورهم؟! هذا ما ستظهر لنا حقيقته في ما سيأتي.
أما الآن، فإن الراوي يؤكد أن الساحر حين دخل إلى غرفته لم يقم بأي واجب في عبادة الله، إنما انتقل منها إلى غرفة صغيرة أخرى بجانبها، وهي غرفة خاصة حرام، لا يدخلها غيره حتى ولا تلميذه، وقد اصطنع فيها وسائل تمكنه من مشاهدة ما يجري في القاعة ومن سماع ما يقال، وإنه كان يود أن يستمر الحديث لولا ما لاحظه من تميز تلميذه من غيظه، فوجد من الحكمة أن ينقذ الموقف، ففعل.
الفصل الخامس
قال الراوي: وقف الجميع إجلالا عند دخول الأستاذ الجليل - هذا هو اللقب الذي أطلقه عليه الشمامون من الأعيان فلا مرجع عنه بعد الآن - وسبحته الطويلة في يده، ثم حيوه بالطريقة المألوفة في مراسم ذلك الزمن، ولا سيما في تحية الرجال العظام، وهو قد أصبح في نظرهم من هؤلاء، فأسدل كل منهم يده اليمنى إلى الأرض، وهي منفرجة الأصابع انفراجا طبيعيا بارتخاء وأناة، مفتوحة إلى فوق مع شيء من التقعير ومع انحناءات تختلف باختلاف مكانة المنحني وحاجته؛ فمنهم من اكتفى بإحناء الرأس، ومنهم من ضم في انحنائه أعلى الجذع، ومنهم من بلغ درجة الركوع أو السجود، ومنهم من أسدل مع انحنائه اليدين معا، أما الأستاذ الجليل فرد عليهم التحية شأن العظماء، وقد أبدع في تمثيل الدور برفع يده قليلا مبسوطة إلى جهة الصدر نوعا، ومضمومة الأصابع ما عدا الإبهام مع إمالة رأسه إمالة خفيفة كادت ألا يشعر بها أحد، وأنعم عليهم - مع تحية العظمة - بابتسامة ناعمة هي علامة الرضى عن دهشة الإجلال والإعجاب، وقد أخذوا بها في تحيتهم له حين دخل على تلك الهيئة المهيبة الرصينة.
جلس الأستاذ الجليل، فجلس الجميع، وساد المجلس سكون رهيب بانتظار التحية الثانية تحية الجلوس، يبدأ بها الأستاذ الجليل، لتكون بعد الرد عليها مفتاحا للحديث، فكأنها كناية فعلية عن الإذن بإدارة الحديث في حضرته، فسبحان ربي الحكيم ما أكرمه وما أحلمه! فقد أراد لحكمة خفية عنا أن يمر البشر بهذه الترهات من الشكليات في تقدم الحياة، وكأني بنا لا نزال ننخدع بها أو نحاول أن نخدع، وسيستمر البشر على الاهتمام بمثل هذه الترهات ما دامت التربية عاجزة عن استئصال جراثيم السخف والحمق من النفوس، فإن هذه الترهات ليست أصيلة في طبيعة الإنسان وفطرته، وإنما هي من مستحدثات المجتمع وبدعه، تدخل في النفوس على الشكل الذي تتسرب به إلى الجسم جراثيم الأوبئة والأمراض، اللهم احفظ شبابنا واحمهم من جراثيم الترهات، آمين آمين.
وأخيرا، وبعد صمت عميق وقور استمر بضع لحظات، التفت الأستاذ الجليل رافعا رأسه وابتسامته الماكرة تتغامز فيها عيناه بارزة على ثغره، ورحب بهم رافعا يده على الصورة التي سبق وصفها، وقال: أهلا بكم، شرفتم. فتهللت الوجوه ، وانطلقت الألسنة تردد: تشرفنا يا سيدي الأستاذ الجليل، زدتنا عزا وشرفا يا مولانا، أهلا بكم أيها الولي القديس، أهلا بالتقي الورع، أطال الله عمر مولانا صاحب الفضل والمنة، أهلا بالعلم والدين يجتمعان، متع الله الأمة بحكمتكم وحسن تصرفكم في الأمور، نفعنا الله بمكانتكم السامية وببركة قداستكم، ولعل هذا كان أصدق الداعين لما في قوله من صراحة الرغبة في الانتفاع، فكان أقل تغطية من غيره، ولكن، أكان ذلك لسذاجته أم لذكائه وخبثه؟! لم يستطع الراوي التحقق من واقعية إحدى الحالتين، فكلتاهما تصلحان سببا لمثل هذه التورية القريبة من التصريح.
وعلى كل فما استنفد الحاضرون هذه العبارات في تزلفهم وتملقهم، حتى تضرع الأستاذ الجليل إلى الله العلي القدير أن يحفظ الملك العظيم العادل، ويكلأه بعين عنايته وينصره على أعدائه أجمعين، وقد عبر عن ذلك بدعاء طويل، ألقاه بخشوع خادع بعد أن نهض قائما، ووقف الجميع، وما استقر بهم الجلوس ثانية حتى بدءوا يستفسرون عن راحته وعن حصوله على جميع حاجاته، وكل يعرض نفسه لخدمته مظهرا استعداده القوي للتضحية بوقته وبما يملك في سبيل رفاهية الأستاذ الجليل وراحته؛ لأن رجال الله جديرون بأن يضحى في سبيلهم بكل غال ونفيس، وهنا أتم العبارة أحدهم، ويظهر أنه كان من الخبثاء الأذكياء بقوله: لا سيما إذا شملتهم بالعناية والرعاية عين المليك الساهرة، فشكرهم الأستاذ جميعا مؤكدا لهم بأن رعاية جلالة الملك وعنايته لم تتركا مجالا لأية حاجة لأي شيء، فكرروا جميعا الدعاء بطول حياة الملك العظيم، وباستمرار إقبال الخير عليه، فإنه خير للجميع.
عندئذ تحرك الرجل الذي في الزاوية، ولم يكن قد نطق ببنت شفة، ولعله كان من الأذكياء الخبثاء، فأراد تغيير مجرى الحديث فقال: نرجو ألا يكون حادث الشابين قد أزعج مولانا، ولم يتم كلامه هذا حتى انبرى من كان أمامه، وأظهر استخفافه بذلك الحادث بقوله: ومن هما هذان المأفونان حتى يكترث لهما مولانا الأستاذ؟! إنهما من السوقة، وسينالان جزاءهما بقسوة لا تعرف هوادة، يجب أن ننقذ المملكة من هؤلاء الغوغاء ومن شرورهم، فرد عليه ثالث قائلا: علمت أنهما أرسلا إلى مستشفى المجانين لاعتقاد الناس أنهما مجنونان، إذ لا يقدم على ما أقدما عليه عاقل، فتنحنح الأستاذ وقال: إن في الأمر سرا، فما تعودنا أن نسمع من صبية الغوغاء ولا من غيرهم مثل هذه العبارات، إنها لقضية حرية بالاهتمام والدرس، نعم، إنها ظاهرة جديدة في هذه المملكة، وهي جديرة بالانتباه والدرس والتفكير، بهذا صدق كبير الحاضرين على رأي الأستاذ، وطلب إلى الجالس إلى جانبه أن يوضح لهم الأمر، وكان هذا عينا من عيون وزير الميمنة، والكبير رئيس ديوانه وأمين سره.
فالتفت العين (أي الجاسوس) إلى الأستاذ، ووضح الأمر على الوجه الآتي: بلينا منذ بضع سنوات برجل من السوقة يدعي أنه يعرف العلوم، ويتظاهر بالفلسفة والزهد والتقشف، ومنذ سنتين بدأ الشبان يلتفون حوله ويتأثرون بأقواله، وقد اتصل بي أن بعض الشابات أيضا يجتمعن إليه سرا، ويتلقن منه مع الشبان آراء سخيفة ما سمعنا بها، ولا طرقت على آذان أبنائنا ولا أجدادنا الأولين، منها: أن الناس متساوون في الحقوق، ولا يحق لأحد أن يستعبد أحدا، والشعب في نظره هو السيد، ولا يجوز أن يحكم إلا بإرادته ولمصلحته، وهناك كلمة كثيرا ما يرددها وهي جديدة علينا، آه مالي قد نسيتها؟! إنها ... إنها على رأس لساني، إنها الديمو ... قرا ... طية، ويقول: هي حكم الشعب بإرادة الشعب لمصلحة الشعب، وهو يتوسع في أحاديثه في بيان معانيها وأهميتها وعلاقتها بكرامة الإنسان، لدرجة يدوخ بها سامعيه، فتدور رءوسهم ويفقدون حواسهم، فما قولكم بالشباب حين يسمعون هذه الأفكار المدوخة؟ ألا يكفيهم ما فيهم من دوخة الشباب ودواره؟ سمعته مرة يتكلم فدار بي رأسي، وما عدت أعرف إذا كنت على الأرض أم في السماء أم بينهما، إنه خطيب قوي العارضة، فصيح اللسان، جريء الجنان، صريح لدرجة الجنون، ولا أنكر عليكم أنني كدت أفتتن به، ولكن حبي للمليك ولوزير ميمنته حفظاني، والشكر لله ولحبهما من هذا السخف الذي يؤدي - ولا شك - إلى الجنون، فهذان الشابان هما دون ريب ممن فتنهم رجل السوء وأفسدهم، أما أنا فلم أعد إليه بعدها أبدا، وصرت أستقي أخباره من الناس ولا سيما من الشباب.
وما انتهى الجاسوس من حديثه حتى شهق الجالس أمامه، وكان يستمع إليه بدهشة وجزع، وهو فاغر فاه، واستعاذ بالله من هذا الضلال المبين، وإذا الأستاذ الجليل قد انقبض وجهه، وتربد لونه، وأخذ يتمتم بعبارات وكلمات لم تفهم، ثم أفصح غاضبا حانقا فقال: إنها الشعوذة المضللة والدجل المجرم، أسيادة الشعب يريد هذا الكذاب الجاهل؟ وهل يعني هذا سوى سيادة السوقة والغوغاء؟ وهل بلغ الغرور في الشباب حد الانهيار حتى يسقط في هوة هذه المفاسد وهذا الضلال؟ سيادة الشعب! سيادة الرعاع! وهل من سيادة صحيحة لغير صاحب الجلالة، وهو إنما يحكم بالحق الإلهي، ويستمد القوة من ربه، ولا فضل عليه لأحد، ولا يسود بعده من الناس إلا من يريد هو له هذه الرتبة من الأشراف والحكام، وهو ينزعها عنهم متى شاء، إن للكون إلها يدبره، وهو ملك الملوك ورب الأرباب، ولكل مملكة ملك يدبر شئونها، وهو ربها بإرادة الله لا بإرادة الناس، وهذا هو ولي النعم، ومالك رقاب العباد. الشعب، السوقة، الرعاع، الغوغاء، متى كان لهؤلاء حق الكلام؟ إنهم جميعا عبيد الملك ورعيته، وليس لهم إلا ما يمنحون من قبله من خير وحقوق، والله لولا التقى لقلت بما قال به الأقدمون: إن الملوك من أبناء الآلهة، بل هم آلهة بالفعل، أستغفر الله العظيم.
وهنا وقف الأستاذ الجليل، والغيظ آخذ منه مأخذه، والتفت إلى الحاضرين متكلفا الابتسام والهدوء وقال: اطمئنوا، فلن يطول أمر هذا الدجل، وسيكون لهذه الشعوذة الضالة نتائجها المخزية، نعم، يجب أن نتعاون جميعا للقضاء على الدجالين المشعوذين، حفظا لنظام الدولة، وصونا لهيبة السلطة والحكم، فانفرجت الأسارير، وكان وقوف الأستاذ إشارة إلى انتهاء المجلس، فودعوه على الشكل الذي به استقبلوه، وأخذوا يسيرون القهقرى، إذ لا يليق أن يديروا ظهورهم لهذا الجليل، إلى أن بلغوا باب القاعة، ومنه انصرفوا مأخوذين وفي نفوسهم أشياء وأشياء، بعد أن انقلبت الشعوذة حقا والحق شعوذة، وتبدل الكفر إيمانا والإيمان كفرا، فسبحان محير العقول!
الفصل السادس
قال الراوي: خرج الناس سكارى من لدن ذلك الأستاذ الجليل وما هم بسكارى، ولكن تضارب المتناقضات واصطدام الحق بالباطل والحقيقة بالشعوذة، ثم انتصار الباطل على الحق وفوز الشعوذة، كل هذا بالحقيقة في تلك الجلسة، جلسة الإفك والرياء والنفاق، أضاع صوابهم، فشعروا بخلل توازن التفكير في نفوسهم، وضاقت بهم بؤرة الشعور.
فالإنسان مهما بلغ به السخف والحمق والجهل، ومهما بعدت في منازعه الغايات والمآرب والأهواء، يظل أمينا على نزعة الخير في إنسانيته ولو في سر فؤاده، وإلا كان استمراره على السير بغرائزه الحيوانية أقرب لواقعه من سير إنساني يدفعه لبناء الحضارات والمدنيات، ولولا هذه الخميرة في فطرة الإنسان لما اختمر في ثورة الحق على الباطل أي عجين.
والإنسان كائن عجيب، إنه غامض في نموه وفي تكوناته، وحياته في تعقد يستمر تزايد العقد به، وفيه باستمرار تقدم الحضارة في مناحيه، فإن لم تتداركه الثقافة في أدق معانيها رجع القهقرى، وانحرف في كل أموره وفي توازنه، فقد يتوازن في ذاته مع مجتمعه، وهذا هو التوازن المستقيم المنقذ، وقد يتوازن في ذاته لذاته فيكون توازنه منحرفا، وهذا ما وقع للخارجين سكارى مضطربين من دار الأستاذ الجليل، فإنهم في حين شعروا بخلل التوازن في تفكيرهم، لم يحاولوا بلوغ التوازن المستقيم مع المجتمع الذي يحيون به وفيه، بل استقروا على توازن منحرف، وهم لو حاولوا الاستقامة في توازنهم لاجتمعوا إخوانا يتعاونون على نصرة الحق والحقيقة وخذلان الباطل والشعوذة، ولكنهم توازنوا مع فردية أنانيتهم، فتفرقوا زمرا متباعدة الأهداف ومختلفة المنازع والغايات، فكان رئيس ديوان وزير الميمنة وجاسوسه زمرة انفصلت عن سائر الصحب، بعد أن أجريت مراسم التوديع حسب الأصول، وكون المشدوه الذي شهق واستعاذ بالله زمرة ثانية مع بعض الرفاق سارت في زقاق يتفرع عن تلك الطريق، ولم يكن رجل الزاوية وحيدا عندما انصرف ورفاق له من زقاق آخر، وهكذا تعددت الزمر، وافترق الأصحاب وفي نفوسهم أشياء وأشياء، عبروا عن بعضها في سيرهم، وهاك مقتطفات من تلك الأحاديث: لم يعلق أي منهم بكلمة على ذلك المجلس عندما خرجوا مجتمعين، بل اكتفوا بابتسامات لها معانيها، وبتحيات تنم أوضاعها عن الحذر، فلم يكونوا يثقون بعضهم ببعض لاختلاف المآرب والغايات، ولكن لم ينفرد الرفاق المتحدة أهدافهم نوعا، حتى ظهر كثير مما تكنه هذه النفوس.
التفت رئيس الديوان عندما أحس بخلو الطريق، وسأل رفيقه عن رأيه بالأستاذ الجليل. - إنه ذكي ولا شك، ولكني لا أستطيع تقدير درجة علمه، لأنني لست من العلماء، ولست من الأتقياء الورعين ليتيسر لي الحكم على تقاه وورعه، فمثلنا ينخدع بهذه المظاهر، وبها قد تؤخذ الشعوب، ولا سيما عامة الناس فيها. - ليس هذا ما أردت يا غافل، أنسيت المهمة التي جئنا من أجلها؟ - عفوا، إنك تقصد ما أوصانا به مولانا الوزير، إن الرجل ولا شك مشعوذ ذكي ودجال خطر، يمكن استخدامه لمصلحة الوزير ولكن على حذر، ويجب أن نتصل حالا بمولانا الوزير لنعلمه بكل شيء حتى يهيئ نفسه للاجتماع به صباح الغد، ولعلك أبلغته عن نية الوزير بزيارته؟ - نعم، همست في أذنه بما أمر به مولاي الوزير.
وقد استمر حديثهما التحليلي الناقد حتى بلغا قصر وزير الميمنة، وسيكون له شأنه.
أما المشدوه الذي شهق فقد كان مأخوذا بتقى الرجل، وبحسن سمعته وبرصانته وبجهورية صوته، وكان بعض رفاقه يوافقه ساخرا والبعض يبكته حانقا، ولم يكن بينهم من مخدوع غيره على ما ظهر، ولكن الراوي يؤكد: إن اشتداد المناقشة كشف عن أن هذا المشدوه كان أخبثهم، وكان يحاول أن يخدع رفاقه، حتى يتهيبوا الرجل فلا يطمعوا فيه، ليحتكر وحده نفوذ الأستاذ في مصالحه، إن هؤلاء الرفاق كانوا جميعا من رجال الأعمال، وقد أثروا عن طريق تملق رجال الدولة وأتباعهم وبإفسادهم، فهم يعرفون كيف تؤكل الكتف، وقد أسر كل من هؤلاء في نفسه خطة يستغل بها نفوذ ذلك الأستاذ الجليل عند سنوح الفرص.
ولم يكن رجل الزاوية أقل خبثا من المشدوه، فإنه ما كاد ينفرد برفاقه في الزقاق الثاني حتى قهقه طويلا قهقهات مختلفة الجرس، أتبعها بقوله: أتعرفون قصة الحق مع الباطل؟ فقالوا: وهل للحق مع الباطل قصة؟ فأجاب: نعم، هي قصة لا يفتأ الناس يشقون بتمثيل أدوارها المفجعة ما داموا في غفلتهم تائهين، وفي ضلالهم يعمهون، فاسمعوا إذا كانت لكم آذان البشر: كان الحق تائها في البيداء، فخطر له أن يقصد مدينة من المدن العامرة عله يستقر فيها، فامتطى حصانه الأبيض، وهو حصان مضمر لا شبيه له في الخيل قوة ونشاطا وجمالا، وبينما كان في الطريق صادف إنسانا أغبر أشعث ذا طمرين، يوشك الضعف أن يقعده، ويكاد البؤس أن يتمثل به، فرق قلب الحق لذلك الرجل العاجز الذليل المسكين، فسأله عن الجهة التي يقصدها، فإذا هي المدينة ذاتها التي يتجه إليها الحق، فنزل عن حصانه وساعد الرجل على امتطائه شارطا عليه، ولم يبق للوصول إلى المدينة سوى ساعتين، أن يركب ساعة واحدة، يترك بعدها الحصان لصاحبه، فشكره الرجل ووعده بإنجاز ما اشترط.
مرت الساعة، لم يشأ الرجل النزول عن متن الحصان مدعيا أنه حصانه، وأنه ورثه عن أبيه، واستغرب الحق أن يرى ذلك الرجل العاجز المسكين قد أصبح على ظهر الحصان قويا نشيطا متمردا، وقد آلمه أن يسمع منه كلمات جارحة، يتهمه بها بالبغي والعدوان، وأوجع الحق في صميم فؤاده أن ينهره الرجل طالبا إليه أن يرتدع عن محاولة اغتصاب ما ليس له.
تحير الحق في أمره، وسأل الرجل عن اسمه وعن حقيقته، فأجابه بزهو وكبرياء وصفاقة: أنا الباطل، أعيش في كنف إبليس وبحمايته ورعايته، وليس للحق أن يدعي ما دمت حاضرا أي وجود بله التملك، فما لك يا هذا تدعي أن هذا حصانك؟! إن الحصان لمن يمتطيه، خدعة حصل عليه أم اختلاسا، وعلى كل، ألا ترى هؤلاء الناس الجالسين تحت الشجرة عند مدخل المدينة؟ فمد الحق بصره وأومأ بالإيجاب، فصاح الباطل آنئذ: إنني رضيت بهؤلاء حكما بيني وبينك، فهل تقبل؟ ارتاح قلب الحق لهذا العرض آملا في الناس إنصافا وخيرا، فأعلن القبول، وما كادا يبلغان مجلس جماعة الناس حتى نادى الباطل بأعلى صوته: أفتونا أيها الناس المنصفون دون مواربة ولا محاباة، وما سمع الناس كلامه حتى رفعوا إليه رءوسهم بآذانها وعيونها منتظرين النص، فقال: من الذي يجب أن يمشي بين الناس؟ أهو الحق أم الباطل؟ فأجابوا جميعا دون تلكؤ ولا تمهل: الحق هو الذي يجب أن يمشي. - وهل يجوز أن يمشي الباطل؟
فأجابوا بلهجة قوية جازمة: لا يجوز للباطل أن يمشي مطلقا. فالتفت الباطل إلى الحق، وقال: أسمعت فتوى العادلين؟ لم يجد الحق للجواب مجالا، فصمت شاكيا إلى الله ظلم الناس، وتقصيرهم في البحث عن حقائق الأمور واستهتارهم بالحق أينما وجد، فابتسمت الحياة، وطيبت خاطره بقولها: سأنتقم لك فلا تحزن.
وهنا التفت رجل الزاوية إلى رفاقه وقال: أكنا في مجلسنا الأخير سوى ممثلين لوقائع هذه القصة الفاجعة؟ ألم نؤخذ باللعب على الكلمات حين حكمنا على ذينك الشابين بالجنون، وعلى ذلك العالم الناهض الباذل ذاته بالشعوذة والدجل تبعا لأستاذنا الجليل، صورة الباطل المجسمة؟
فاغتاظ الرفاق، وقالوا له: إنك تعلم أننا موظفون من أرباب المناصب، لا نستطيع إغضاب من ينتمي للسلطان، ونحن إنما جئنا نزور الأستاذ الجليل لنتملقه طمعا باستغلال نفوذه، ولكنك أنت أيها الواعظ العبقري ما لك سكت ولست من الموظفين؟ فابتسم ابتسامة صفراء وقال: إنني أحاول أن أجد منصبا أعين فيه أحد المقربين.
الفصل السابع
قال الراوي: كانت هذه الزمرة - زمرة الموظفين وأرباب المناصب - أوفر الزمر عددا؛ لأن أصحاب المصالح من الناس يدورون في فلك الموظف، ويتملقونه نفاقا ورياء ما دامت لهم مصالح ترتبط به، أو ما داموا يتوهمون إمكان الاحتياج إليه يوما، إنهم شمامون بارعون، لا تفوتهم الروائح مهما لطفت، فيتجهون إلى حيث تقودهم روائح تلك المصالح، لا يلوون على شيء، ولا يراعون للحياة ناموسا ولا للمجتمع حقوقا، إنهم يهزءون بالحقوق وبالنواميس وبالمثل وبالقيم، فلا غرابة إذا ما كثر العدد في هذه الزمرة.
وقد كان بين هؤلاء رجل كهل ممن تعودوا الدوران في فلك الموظفين، ظل هذا الكهل صامتا كل الوقت في مجلس الأستاذ الجليل، وفي أثناء المناقشة في الشارع، ولكنه لم يسمع تعليل رجل الزاوية لسكوته باهتمامه بتعيين أحد المقربين، حتى ظهرت عليه بوادر الحدة، وقال: إنك تشبه في موقفك هذا أبا حمشو، ذلك المرائي المداهن لا يفتأ محاولا استغلال سذاجة الناس، هنا حملق الجميع بالرجل الكهل وقالوا: من هذا الأبو حمشو؟ فاستدرك أحدهم قائلا: يظهر أن لهذا الرجل قصة، تشبه قصة الحق والباطل، فليروها لنا الصديق العزيز إذا شئتم وأراد، فأنصت الجميع واقفين، وبدأ الرجل الكهل يروي القصة عن ابنه الشاب، عن أستاذه الحكيم، وهو الفيلسوف العالم الذي ألصق به الأستاذ الجليل نعت الشعوذة وصفة التدجيل على الوجه الآتي: يحكى - والله أعلم - أنه كان في إحدى القرى فلاح اشتهر بالتحمس والشهامة، وبالشجاعة والكرم، وبالغيرة والنجدة، لكثرة ما يروي عن نفسه من حوادث غريبة ومن أفعال عجيبة، وكان يفتعل أوضاع الفتيان (القبضايات) وطرق أحاديثهم، ويصطنع لهجاتهم وحركاتهم برشاقة ومهارة وعنفوان، فهاب أهل تلك القرية، وكلهم من السذج البسطاء، الذين يصدقون كل شيء، ويؤمنون بكل شيء، أبا حمشو هذا، وخشوا سطوته، ورجوا نجدته وكرمه، فاختاروه شيخا للضيعة، لم يكن أبو حمشو غنيا ولكن الاعتقاد السائد في القرية هو أنه لو كان غنيا لكان أكرم الناس.
قصد القرية جماعة، انتدبتهم إحدى الجمعيات الوطنية الخيرية لجمع التبرعات باسمها؛ لتحقيق مشروع وطني جليل، فكان من الطبيعي أن يقصدوا دار الشيخ أبي حمشو، وقد أصبح مشهورا في المنطقة؛ ليجمعوا فيها وجوه الضيعة وأغنياءها، وهكذا كان.
اجتمع الأهلون في تلك الدار المتواضعة، وأراد أحد المندوبين ممن يعرفون أبا حمشو، أن يحمسهم بإثارة حماسة شيخهم ونجدته؛ فوجه إليه الحديث سائلا: عرفت - أيها الشيخ أبا حمشو - بالكرم والنجدة والشهامة وبالغيرة على المصالح الوطنية، فلو كنت تملك ألف ليرة ذهبية، وكان هناك مشروع وطني جليل، أفلا تتبرع لهذا المشروع بنصفها؟
لم يسمع أبو حمشو كلام السائل حتى تواجد متمايلا والدموع تكاد تطفر من عينيه رقة وحنوا، ثم قال: بل أتبرع بها كلها، ألسنا للوطن؟ وأي خير ننتظر إذا لم يكن الوطن بخير؟! وما فائدة المال إذا كان الوطن متأخرا؟! حياتنا للوطن، يحيا الوطن.
صفق الجميع لأبي حمشو، وأخذوا يهزون رءوسهم، وشفاهم تفتر عن ابتسامة الإعجاب، وكأنهم يقولون متباهين: لم يخب ظننا بالشيخ.
أثر جواب أبي حمشو بالمندوبين فتحمس مندوب آخر، وسأل أبا حمشو بقوة وشدة: ولو ملكت قصرين عظيمين واحتاج الوطن لأحدهما فماذا تفعل أيها الوطني الغيور؟ - أقدم القصرين، وهل لنا عز إلا بعز الوطن؟! ومن يقدم حياته لوطنه لا يبخل بالقصور.
فازداد الإعجاب، وازداد التصفيق، واشتد الهتاف بحياة أبي حمشو الشهم الجواد.
وما زالت الأسئلة المماثلة تتوالى، وأجوبة أبي حمشو لا تتبدل بل تزداد قوة بنسبة ازدياد الإعجاب والتصفيق والهتاف، إلى أن خطر لأحدهم، ويظهر أنه لم يكن من المؤمنين بما يبذل الشيخ، ولعله كان خبيثا من الأذكياء، فسأله: ولو كنت تملك عشر دجاجات سمان، واحتاج الوطن لدجاجة منها، فهل تمتنع عن العطاء؟
هنا وقف الشيخ أبو حمشو حانقا، وقال: والله لا أتبرع ولا ببيضة من بيضها، يا هؤلاء، أرى أنكم لصوص تحاولون سرقة أموال الناس، فتعجب الحاضرون لا سيما عندما رأوا أبا حمشو يزداد انفعالا وغضبا، وسأله أحدهم قائلا: كيف تبرعت بالليرات الذهبية وبالقصور والضيع والكروم، ولا تتبرع ببيضة دجاجة من عشر دجاجات؟
ابتسم الشيخ أبو حمشو ابتسامة صفراء مرة، وأجاب: إنني لا أملك الليرات ولا القصور ولا الكروم ولا الضيع، فأتبرع لكم منها بقدر ما تشاءون، أما الدجاجات العشر فإنني أملكها وأستفيد منها، فهل أنا مجنون حتى أتبرع ببيضة من بيضها؟
لم يصل الكهل إلى موقف أبي حمشو على الوجه المبين آنفا حتى التفت إلى رفيقه الواعظ قائلا: وهل من فرق بينك وبين أبي حمشو هذا في موقفك منا؟! إنك تتألم لانخذال الحق وانتصار الباطل، ثم لا تتورع عن السير في ركاب الباطل عند أول بادرة تتعلق بفائدة ترجوها لأحد المقربين؟ وأبو حمشو تبرع بكل ما لا يملك على وفرته، ثم تراجع تراجعا مخزيا عندما توهم إمكان التبرع بما يملك على ضآلته، فما هو الفرق بينكما؟
فاندفع آخر من الرفاق، وقال: لا تختلفا فيما بينكما، ولنكن منصفين، فكلنا أبو حمشو، نتاجر بالكلمات، ويخدع بعضنا بعضا بسحر الألفاظ والحروف، وكل يفتش عن صيده.
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات
هذه هي الحياة، وهذا هو الإنسان الحي.
فلم يقبل الكهل الصامت كلام هذا الأخير على علاته، فأوضح المشكلة بقوله: صدقت في قولك: «كلنا أبو حمشو»، ولكنك أخطأت في اعتقادك أن هذه الحالة هي ناموس الحياة على إطلاقها، وأنها هي التي تعبر عن إنسانية الإنسان في مطلق وجوده؛ إن للحياة نواميس، بها تتم النهضات، ونواميس بها يتحقق الانهيار، ونحن الآن في دور انهيار مخيف، مظهره هذه السجايا والصفات، والخطر محدق بنا إذا استمرت هذه الحالات مسيطرة، نتلهى بتعليلها لنجد مبررا لها، وشداد على الأبواب.
ما لك لا تذكر حالنا عندما نزعنا عن أعناقنا نير هذا الملك؟ أكنا نتاجر بالكلام، ونخدع الناس بتزويقه، ونأخذهم بسحر ألفاظه وحروفه؟ والله، لو كان أمر الأمة في ذلك الدور كما تقول لما نزع عنا نير، والآن نحن مهددون بعودة هذا النير إذا لم نعد لسجايا النهضة وأخلاقها، ولا منفذ لشداد إلينا إلا بسجايا أدوار الانهيار.
لم يخلق الإنسان عبثا، وللحياة فينا أهداف، لا تطمئن نفوسنا إلا بها، إنها تستهدف مثلا عليا وقيما سامية ما خلق الإنسان إلا لتحقيقها في تفاعله مع مجتمعه؛ لسعادة ذلك المجتمع، فتتحقق سعادته بسعادة الآخرين، هذه هي غاية الغايات في تطورات الحياة، وهذا هو الهدف الذي يجب أن يرمي إليه الإنسان في استكمال إنسانيته وحضارته، فإذا ما انحرف عنهما، انتقمت منه الحياة، فيبتلى بالاضطراب والبلبلة في تفكيره وشعوره، وتتكون في نفسه وفي مجتمعه أزمات يختل معها التوازن، ولا ينقذه منها سوى اختمار نفسه الإنسانية بخميرة مجتمعه ليستعيد توازنه، وإلا اضطر لإعلان إفلاسه، فيكون كالساعي إلى حتفه بظلفه.
وإنني أرى أننا بين تيارين: تيار صالح باستطاعته إنقاذنا، وهو التيار الذي يدفعنا به ذلك الأستاذ الحكيم لننهض، وتيار فاسد نخشى أن يعيد النير إلى أعناقنا، هو تيار الشعوذة، ينضم لتأييدها وتقويتها هذا المشعوذ الذي تلقبونه بالأستاذ الجليل، وما هو إلا دجال مكار، أنقذنا الله من شره وبلائه!
وهكذا تفرق الرفاق كل إلى منزله بعد نقاش وحوار وجدال، لم تسفر نتائجها عن أية خطة مشتركة أو تصميم جدي، سوى ما قرره كل فرد في نفسه ولنفسه.
فسبحان من أودع في كل قلب ما أشغله!
الفصل الثامن
قال الراوي: لم يخرج المجتمعون من دار الأستاذ الجليل حتى تنفس التلميذ الشاب الصعداء بتنهد عميق، قهقه له الأستاذ قهقهة طويلة داوية، ثم التفت إلى تلميذه قائلا: ما لك تتخذ وضع من ألقى حمله الثقيل عن عاتقه؟ ألهذه الدرجة ثقلت على نفسك هذه الأحاديث؟ فما أشد ما أزعجك مجلس هؤلاء الوجهاء الكبار! قال الأستاذ ذلك، وأثر القهقهة لا يزال مشعا على وجهه بابتسامة عريضة شجعت التلميذ على أن يلقي عليه هذا السؤال: قل لي بربك: أي باب من أبواب السحر ألقيت اليوم على هؤلاء الناس، حتى تبدلت السماء غير السماء والأرض غير الأرض؟! عهدي بك قبل اليوم تبذل الجهود الجبارة، وتستخدم وسائلك السحرية على اختلافها؛ لتتصل بواحد من هؤلاء، وقد تنجح وقد لا تنجح، وإذا نجحت فكنت تتملقه أكثر مما يتملقك حتى تستولي عليه بعد طول زمن، فتستبد به، وتبتز ماله وقلبه وضميره، فماذا حدث في أقل من نهار فارقتني فيه، حتى جاء كل هؤلاء يتسكعون على أعتابك، ويحرقون لك بخور التذلل والإعجاب والإكبار دون حساب؟
هنا أرسل الأستاذ الجليل قهقهة ثانية كانت أشد دويا من الأولى، ثم جلس على مقعده المتواضع مفرشخا رجليه، مسترخيا في وضع جسمه ويديه، شأن من يستريح استراحة الظافرين بعد الجهاد والكفاح والعناء، ثم التفت إلى تلميذه المشدوه وقال له: يا لك من غر جاهل! أنسيت مقدرة أستاذك وخبرته الواسعة في العلوم الروحانية، وما يستخدمه من جنود العالم التحتاني وملوكهم؟ ما لك! ألا تذكر عوالم الأفلاك، وقد حدثتك أنها تساعدني بما أستحضره من أرواحها؟ أتتناسى شمشريخة وشمشروخ، وبخبخانة وبخبخون، والزوبعانة والزوبعون، والزعزعانة والزعزعون، وتلك الداهية الحيزبون، والمارد المأفون وشياطين الجنون؟ ما لك تتباله؟ هل تستعظم ما رأيت على من يسيطر بسحره على ملوك الجان جميعا من أحمر وأصفر وأبيض وأسود وأزرق وأخضر ومن سائر الألوان؟ ألم أسمعك يوما صوت الملك الأصفر وحديثه، واعدا إياك بأن أجمعك يوما بكل هؤلاء؟
ارتبك التلميذ واضطرب، وأكد لأستاذه أنه لم ينس شيئا من كل تلك الدروس التي تلقاها، وأنه على أحر من الجمر، في انتظار اتصاله بعوالم الأفلاك والجان والمردة والشياطين والأرواح، ولكنه مدهوش من تلك السرعة؛ سحر بها هؤلاء الناس، فهو يتساءل عن أبواب السحر التي ألقاها ليستفيد ويتعلم، ولا ينكر على أستاذه قدرته وسلطانه.
ولم يتم التلميذ حديثه هذا حتى ظهرت عليه بوادر الخوف، وأمارات الاضطراب خشية من غضب الأستاذ، وهو لا يريد إغضابه لأمر يخفيه، فليس من مصلحته إذن أن يقوم بما يجافيه، على الرغم من شدة معرفته بسوء مآتيه، وستبدو الحقيقة في سياق هذه الحكاية لمن يلقي سمعه، ويفكر بتأمل وشعور، لذلك كله أخذ التلميذ يعتذر، والأستاذ يزور عنه حينا ويلين حينا آخر، ثم يتجهم ويزبد ليبتسم ابتسامة صفراء يعقبها بتأمل مريب، وهي أحوال تعودها التلميذ، وتبدو من الأستاذ كلما توهم في تلميذه ترددا أو ارتيابا، إنه يريد منه إيمانا صادقا لا شائبة فيه، وهذا ما أكده الشاب مقسما الأيمان على إيمانه بمآتي أستاذه، وأنه إنما يريد الإفادة من علومه بأسرع ما يمكن، فإن الشوق لمعرفة تلك الحقائق يكاد يحرقه ويضنيه.
فافتر ثغر الأستاذ الجليل عن ابتسامة اطمئنان ورضى. وربت على كتف تلميذه مشجعا، وأنبأه عن تلك الأبواب التي سأل عنها بما يأتي: قلت لك: إن أبواب السحر كثيرة، نستعمل منها ما يقتضيه الحال، وقد ألقيت اليوم على الناس وعلى مليكهم أبواب الدهشة والغفلة والانجذاب، فأصبحوا على ما سمعت ورأيت يصفقون ويهتفون، ولا يعلمون شيئا عما تنطلق له حناجرهم، ويجهلون كل شيء عما يستخدم في العوالم الخفية لتحريك أيديهم وتوجيه عيونهم وقلوبهم، إنها الغفلة، وهم تائهون لا يستطيعون لحماستهم هذه دفعا، وهم بذلك كله وبأبواب غيرها من السحر أستعملها بعد حين، يهيئون للباب الأعظم في سحرنا وهو باب الصرعة،
1
باب يغيبهم عن ذاتهم، فيستسلمون به لإرادة الساحر استسلاما كليا، فلا يخالفون له أمرا، ولو أدى بهم ذلك إلى الهلاك، وسأرسل للملك في هذه الليلة شياطين الوهم؛ فيصبح في خلوة الغد أطوع من بناني برفق وحكمة، إذ يتعذر صرع الملوك لهيبة السلطان، ولكن الوهم أشد فعلا في نفوسهم، وأقوى تأثيرا في قلوبهم من باب الصرع في السوقة، إلا أنه يتطلب كثيرا من الحنكة والذكاء، وسترى إذا صبرت وتريثت العجب العجاب.
قريبا وقريبا جدا ستتبدل هذه المقاعد الخشبية القاسية المتواضعة، فتصبح وثيرة من الأبنوس والذهب، وسترى عليها وعلى أرض الدار والغرف مساند الديباج وطنافس الحرير الموشاة بالفضة والذهب، شأن الملوك العظام، نعم، سأصبح الملك غير المتوج في هذه البلاد، وهنا تحرك صدره بتنهد الجشع الطماع، ينتظر لمآربه الفوز والنجاح، وغرق في تأمل عميق تهيبه التلميذ، ثم رفع رأسه بتؤدة ووقار، وثبت عينيه في عيني تلميذه وقال: نعم، سأكون ملكا غير متوج، وستكون إذا صبرت وصدقت من وارثي مغانم هذا الملك، وستنتقل أمجاده فيك وفي أولادي وسائر تلاميذي إلى الأحفاد إلى الأبد، إنني لا أرغب في التاج، فسأتركه للملوك وأبنائهم، سأتركه على رءوسهم وسيلة أتلاعب بها بعقولهم، وأسيطر بها على قلوبهم، إنهم يتعشقون التيجان، فليهنئوا بها، ولتظل قلوبهم متعلقة بها؛ لتشعل نفوسهم بها، فنتمتع نحن بالخيرات، وننعم نحن باللذات والمسرات، نجمع الثروات والأعوان، ونخضع الناس، ونسخرهم لمتاعنا على حساب خوف الملوك على تيجانهم، إنهم يحبون التيجان حبا جما، فليحتكروها، فإنها من أشد القوى التي تستخدمها شياطين الوهم، وبها تهيئ الملوك لسائر أبواب السحر، ولباب الصرعة في كثير من الملابسات، إنني لن أزاحم الملك على تاجه، ولعلي أقدم له تاجا آخر أرسله مع الوهم، لم تكن التيجان تتعلق بها قلوب الملوك سوى وسيلة قوية من وسائل نجاح أمثالنا، ممن يعرفون كيف يغتصبون متع الحياة اغتصابا على رفاة المغفلين من الناس والمغرورين المخدوعين من الملوك، اصبر وآمن، واصدقني الخدمة تكن أسعد الناس، فكن مطمئنا. قامت في نفس التلميذ هواجس وهواجس، ولكنه التفت إلى أستاذه، وقال: آمنت وصدقت بجميع ما تقول، ولكن لم تنبئني عن شأنك مع شداد، ذلك الملك الجبار الواقف على الأبواب، والمتربص شرا بالملك، وبما في مملكته من رعية وعبيد؟ فقهقه الساحر قهقهات متقطعة قوية، قه، قه، قه، قه، ثم قال لتلميذه: إنك لغبي مغفل، وهل لمن له طموحي ومآربي أن يفكر في من يملك على البلد؟
ما الفرق عندي بين ملكنا وبين شداد؟! ليحكم البلد من شاء وكيف شاء، فالمهم أن أتسلط على قلوب الناس، ومتى أصبحت قائدا لعقولهم موجها لقلوبهم، يحتاج إلي صاحب التاج سواء أكان ملكنا هذا أم شداد أو غيره، لا تخش من الملوك من يتعلق بالتاج، ما دمت ذكيا تعرف كيف تتلاعب بالألفاظ، وكيف تلقي في السحر أبوابه، وتخضع السوقة من الناس بصرعهم، إنما يخشى أمثالنا الملوك الزاهدين ببريق جواهر التيجان المحبين لرعيتهم العاملين على مصالحهم بالعدل والإنصاف، فإذا ما ارتبطت الرعية بملكها بروابط تبادل الحب واحترام المصلحة العامة، وتحقيق الحرية والعدل بطل السحر والساحر، ولم يعد لأرباب المطامع والمآرب منا أي ميدان للجولان.
دهش الشاب، فلم يستطع صبرا، فسأل أستاذه عن السبب الذي يمنعه من إصلاح حال الملك، ومن العمل على إعادته لما كان عليه من عدل وتحرر، بإنقاذه من آفة تلك الوسوسة؛ فيرتاح وترتاح رعيته، ويعود لسابق عهد زاهر، يمكنه من الظفر على خصمه ومن إسعاد رعيته، ألا تذكر يا مولاي، كيف كان الناس في ذلك العهد؟ فإن آباءنا يخبروننا بما سعد به آنئذ الناس، ونحن الشباب لا نزال نتذوق تلك الغبطة والطمأنينة التي كانوا يتمتعون بها في تلك العهود، فلم لا تعود؟ أتعجز عن القضاء على الفساد لإصلاح العباد، وأنت العالم النحرير، والخطيب القدير، والمعلم الخبير، أليس للعلوم الروحانية اتجاه لخير الناس؟ ولما لمح بوادر الغضب على وجه أستاذه، تدارك الأمر حالا، وقال: اعذرني، فإنني طالب علم، يحاول أن يفهم دون أن يكون لهذه المحاولة أي أثر في إيمانه بأستاذه، وأي تأثير في خضوعه لسلطانه، فابتسم الأستاذ دون أن يتبدل اربداد لونه، وأجاب تلميذه بقوله: ألهذا جئنا يا أحمق؟ إنك أبله مغفل حقا. فلم يجد التلميذ مهربا من أن يؤيد أستاذه في قوله، فاعترف بحمقه وغفلته، وأنه إنما هو بمعيته ليكشف له عن بصيرته.
فارتاح الأستاذ الجليل لقوله، وأمره بأن يساعد الخادم بتحضير العشاء؛ لأن الجوع أخذ منه مأخذه، فلا يستطيع إكمال الحديث، فلينتظر إلى ما بعد العشاء.
الفصل التاسع
قال الراوي: لم يكن في منزل الأستاذ الجليل غرفة خاصة للطعام، فأحضر إليه طعامه وهو في القاعة على طبق من قش، وضع الخادم الطبق على أرض القاعة وفي وسطها، ثم نظر إلى الأستاذ نظرة المتسائل عما يأمره به بعد، فأومأ إليه بالانصراف بعد أن تحقق بنظرة ألقاها على الطبق، بأن كل ما يحتاج إليه لعشائه حاضر أمامه، انصرف الخادم بعد أن رد الباب وأحكم إقفاله؛ إن الأستاذ يتأذى من أن يراه أحد حين يأكل، فهو شره نهم يتناول الأكل بعينيه وبفمه ويديه، ويكاد يأكل بحواسه جميعا وبكل جسمه، ليتك كنت تراه يمضغ الطعام ويتلمظه ساهبا، يوشك أن يغفو على الطبق، لولا أن يوقظه فراغ فمه ... أطنب الراوي في وصف إفراطه في شهواته وملذاته، في أكله وشربه، وفي أطماعه واستشراف نفسه لدرجة تجعلني أذكره كلما ذكر راسبوتين، وكلما فكرت في أمر الكثيرين من ذوي الأطماع المتكالبين، أولئك هم الذين لا يحللون ولا يحرمون في محاولات سعيهم لتحقيق موضوع الطمع في نفوسهم، إنهم لا يأبهون لما يلحق الآخرين بجريرتهم من أذى، ولا يكترثون لما تمنى به الأمة من نكبات بسبب ما يعملون على تحقيقه من مآرب ذاتية وأطماع، ومن أهداف شخصية وشهوات، إنهم أشرار مجرمون، يتمثلهم عامة الناس عندنا، وقد ابتلاهم بهم الزمن، بمن لا يتورع عن أن يلهب البلد ليشعل سيكارته، والشره في الجاه كالشره في الأكل والشراب، بل هو أشد فتكا في الأمم، ونهم المال والمناصب أدعى إلى النكبات في المجتمع من نهم البطن وشهواته.
وكأني بالحياة في نقمتها على المجتمع الغافل عن ذاته، وعلى الأمة الغائبة عن حقيقتها، وعلى الإنسان الهازئ بإنسانيته وبمثلها تنتقم، فتسلط على الغافلين والغائبين والهازئين شرورا، تتمثل بالشره والنهم على أنواعها وفي مختلف الأشكال، ولعلها اجتمعت كلها في هذا الأستاذ الجليل.
بهذه المعاني وبما يشابهها كان التلميذ يناجي نفسه وهو في انتظار أستاذه، بعد أن تناول طعام العشاء مع خادم المنزل، إنه شاب متوثب، ديمقراطي الروح، وعميق التأمل، يؤمن بآراء ذلك الرجل الحكيم وأقواله، وقد تغذت بها نفسه، حتى أصبحت في صميم فاعليته تفكيرا وشعورا وسلوكا، وهو إذا ما دارى الأستاذ الساحر وواربه؛ فلأنه صمم على أن يرد كيده إلى نحره، آمن بدهاء أستاذه وبسعة اطلاعه وذكائه، كما آمن بخبثه وفساد طويته ونواياه؛ فأصبح يخشى على الأمة من مناوراته الخائنة، ومداوراته الماكرة، ومؤامراته الدنيئة، وما علم بعزمه على الاتصال بالملك في عاصمة ملكه، حتى أدرك كل شيء، فتوسل إليه أن يصطحبه، آملا أن يرد عن الأمة تلك النكبات، وقد يبيتها لها ذلك المشعوذ إشباعا لشرهه وتحقيقا لمأربه وجشعه. وللشباب وثبات، كثيرا ما أنقذت المجتمع من ويلات، ونجت الأمم من مهالك، وكم كان لهذه الوثبات من فضل في إنقاذ الأمم من مزالق الانهيار، وفي إعادتها إلى ميادين التقدم، لتستمر في ارتقاء سلم الحياة، ناهضة مستبشرة، لا تخشى الدجل، ولا تخاف الشعوذة، فهنيئا لأمة تتحقق فيها وثبات شبابها، وتعسا لمجتمع تكبت فيه تلك الوثبات الخيرة.
غاب الشاب في تأملاته عما حوله حتى أيقظه دفع الأستاذ لباب القاعة، وخروجه خروج الظافر، يتلمظ بقية طعام في فمه، ويسرع إلى غسل يديه، عاد الساحر بعد ذلك كله إلى مقعده الأول، ونادى تلميذه، وابتسم ابتسامة من يتذكر استخفافا يريد أن يدفعه فقال: سألتني عن أبواب استخدمتها اليوم، ولم أكن لأستخدمها في استمالة أفراد أتملقهم، وهل التملق سوى باب من أبواب السحر، يستخدم في استمالة السذج؟ وهم ليسوا جديرين بتلك الأبواب القوية لأنهم سخفاء. إن استحضار الجن والأرواح والشياطين وإلقاء ما اشتد وقوي من الأبواب، إنما يكون في هذه الأحوال المعقدة والأطماع الكبيرة، وإلا فتجارة الساحر خاسرة، وليس من السهل أن يجمع الساحر كل قواه في جميع الأوقات.
هنا تنهد الشاب، وقال: ومتى تفي بوعدك، فأرى تلك الأرواح والعفاريت وأكلمها؟ فأجابه الأستاذ: لم يكتمل إيمانك بعد، ومتى اكتمل ترى العجائب، وتخضع لك القوى. وليتخلص الأستاذ من إلحاح تلميذه وإحراجه حول حديثه إلى موضوع آخر، فسأله عما لديه من أخبار ذلك الفيلسوف وأحاديثه وأحواله؟ - إنني ما زلت أواظب على حضور دروس هذا الأستاذ كما أمرتني، وهو لا يزال يتوسع في مباحث المساواة بين البشر مفضلا مناقشة الشباب بإثارة المواضيع لينمي فيهم أصالة التفكير.
الأستاذ :
ألا يزال ينشر فكرة مساواة السوقة بالأكابر وبالملوك؟ يا له من وقح يجب تأديبه! ويريد فوق ذلك أن يجعل للغوغاء تفكيرا أصيلا، وشعورا ينبثق عن الذات، وسلوكا يختاره عامة الناس، فلا يوجهون ولا يقيدون بتقاليد وعادات، فرضها علينا التاريخ، وأوجبها ما بين طبقات الناس من فروق وامتيازات، إنه لمجرم خطر، يستحق أقسى أنواع العقاب، وسيكون لي معه شأن وأي شأن. قل لي، أيكثر مريدوه أم يقلون؟
التلميذ :
إنهم يزدادون باطراد.
س :
هل هم من الجيل الطالع الجديد؟ أم من الجيل السابق القديم؟
ت :
ليس بينهم شيوخ، وقلتهم من الكهول، وكثرتهم من الشباب، شابات وشبانا.
س :
وهل لا يزال يجمع بين الجنسين؟ يا ويله من عذاب أليم! إنه يفسد على الأمة شبابها، وسيناله جزاء المفسدين، الآن وجدت نقطة الضعف في دعوته، وسأضرب فيه موضع الضعف، ولن تقوم له قائمة. قل لي، أترى أن للشابين الوقحين صلة به وبتعاليمه؟
ت :
إن يكونا من انصرف إليهما ذهني في أثناء البحث في شأنهما في جلسة من عبرتم عنهم بالشمامين، فهما من ألمع شباب حلقة الفيلسوف ولا شك.
س :
تفاقم الشر إذن، واستفحل الفساد، وسينالهما أقسى العقاب.
وهنا أخذ التلميذ يداور أستاذه؛ لينقذ الشابين، وهما من أعز أصدقائه، ينسجم معهم ومع رفاق لهما في التفكير والأهداف، فقال:
ت :
أمن الحكمة يا مولاي أن تعرض أهدافك لخطر الإيقاع بهما، وهما من ينتصر لهما عدد كبير من شباب يؤمنون بما يؤمنان؟
س :
كأني بك قد انحرفت يا أهبل!
ت :
كلا، بل مصلحتك أريد، أليس من الخير أن نربح هذين الشابين، فنربح بذلك الكثيرين، ممن يعجب بهما من الناس؟ لم لا يكونان عتيقي فضلك؟
س :
أدركت ما تريد، وسأتأمل مليا في الأمر، إنك - ولا شك - من أخلص التلاميذ، فمرحى لتفكيرك المستقيم.
امتلأت نفس التلميذ سرورا، وقد نجح في محاولة إنقاذ رفيقيه، فاتسع أمله في إمكان إنقاذ الأمة من شرور الدجل والشعوذة، وأراد أن يختبر أستاذه أو أن يعجزه، فوجه إليه بهيئة المؤمن المعجب هذا السؤال: ولم لا تخلصنا من دجل ذلك الفيلسوف ومن شعوذته بإلقاء بعض أبواب سحرك العظيم؟ أرسل جندك من الجن والشياطين، أرسل هامان ومامان، وجهبورا وسنهار، وسلط عليهم شمشريخا وهيدرون ومن لف لفهم من المردة والعفاريت، فينقذوننا منه ومن أتباعه وتنجي من شروره الناس أجمعين.
س :
آه آه! إن هؤلاء المفكرين إذا أخلصوا في تفكيرهم، يبطلون أفاعيل السحر، وتهابهم الجن والشياطين، وقد جربت فرأيتهم يفرون منه حتى خفت على نفسي من أن ينقلبوا علي، ويفتكوا بي لما أصابهم من رعب وذعر، سألقاه بذاتي رجلا لرجل، وسأعتمد عليك كل الاعتماد.
ت :
حسنا تفعل، وأنا على استعداد تام للعمل، ولكني ما كنت أظن أن يكون للعلم كل هذا التأثير.
س :
ليس التأثير للعلم في ذاته، فإنه بذاته قد يكون وسيلة من وسائل السحر، وعبدا لشياطين الجان، ولكنه الفكر، لا قوة فوقه، إذا ما غذاه العلم والتأمل.
وهنا وقف الأستاذ وقال لتلميذه: أرى أن نكتفي الآن، وأن نريح الجسم من عناء اليوم بالنوم، وانتبه صباح الغد لموعد مجيء وزير الميمنة، ذلك الشمام الكبير.
ت :
ولكنك لم توضح لي صفات هؤلاء الشمامين.
س :
إلى سهرة الغد تصبحون على خير.
الفصل العاشر
قال الراوي: هذا ما كان من الساحر المشعوذ الأستاذ الجليل في تلك العشية الحافلة، وأما ما كان من أمر الملك - وقد تركناه على موعد مع رجال دولته، وهم من خلص أتباعه؛ ليستقصي أعمال أولئك الخاصة الخونة، يعملون لشداد، الملك الجبار المقهور، ويثيرون أطماع ابن أخيه بالعرش، وهو شاب مسرف مستهتر؛ فإنه لم يكد الساحر يغادر القصر، وقد راقبه الملك من شرفة القاعة يسير سيره الوئيد إلى أن بلغ الرتاج، حتى استدعى رئيس الحجاب، فسأله عمن في قاعة الانتظار، فأعلمه بوجود أعضاء المجلس من وزراء وأمراء وحكام ومستشارين، يختارهم من بين الخلص من رجاله وأرباب دولته، بعد أن يتحقق أنهم من أبناء الحلال، فأمر بإدخالهم، فدخل هؤلاء العظماء متتابعين حسب المراسم المتبعة، وقد حياه كل منهم بالتحية الملكية واضعا يديه على صدره بشكل متقاطع؛ اليد اليمنى إلى اليسار واليسرى إلى اليمين، مع انحناء طويل قد يبلغ السجود، ثم وقفوا جميعا برهة، أمرهم الملك بعدها بالجلوس، فجلس كل واحد في مقعده، وساد سكون عميق رهيب، وهم متهيئون لاستماع ما يقوله الملك.
طال صمت الملك، فأخذوا يتخالسون النظرات، وكأنهم يتساءلون عن الأمر الخطير الذي شغل الملك، واستولى على تفكيره وتأمله، ولا أحد من هؤلاء العظام تجاسر على تعكير هدوء هذا الصمت المخيف بكلمة، إنه الملك وكلهم عبيد، هكذا كانت روح ذلك الزمن، وما زالت رءوسهم مخفوضة إلى الأرض، حتى سمعوا أخيرا صوت الملك يقول: أسعدتم مساء، فأجابوا جميعا بصوت واحد أشبه ما يكون بالهتاف: أسعد الله مساء مولانا صاحب الجلالة، فسعادتنا بسعادته. ثم عاد الصمت قليلا، فتح بعده الملك الحديث بقوله: هل من جديد؟ وكان على وزير الميمنة أن يجيب أولا حسب تقاليد الزمن، سواء أكان على علم بالحقيقة أم لم يكن، فقال: لا جديد إلا ازدياد تعلق الشعب بمليكه، وتشدد الأمة في إخلاصها لعرش جلالتكم المفدى، فنحن - حكومة وشعبا - ندعو دائما وأبدا بدوام ولي النعم ومالك الرقاب في عزه ورفاهه ومجده.
الملك :
وهل الناس مطمئنون إلى حقوقهم، مرتاحون لأعمال الحكام والقضاة؟
وزير الميمنة :
كل الاطمئنان وكل الراحة، وهل يكون غير ذلك وجلالة ولي النعم لا يفتأ يعنى عناية خارقة في اختيار الحكام والقضاة وسائر العمال من أبناء الحلال.
م :
وما هي أخبار شداد؟ وإلى أي حد وصل طموح ذلك الشاب المسرف على نفسه بالعرش؟
و :
ليس لشداد أية أهمية بعد أن قهر، وذاق من سيف النقمة ما ذاق، وهو يعلم أن المملكة لا تزال على سطوتها، وأن أي تمرد منه يقمع بالقوة دون تردد، أما ابن أخيك فهو شاب شغلته ملذاته وشهواته عن كل طموح، فلا خوف منه مطلقا، وما يتخذه صاحب الجلالة في رده إلى الصراط المستقيم وفي إعادته إلى أخلاق آبائه وأجداده من وسائل، إنما هي في طريق النجاح، وإني ساهر عليه تنفيذا لأوامر جلالتكم السامية.
ولم يكد يبلغ وزير الميمنة في حديثه هذا الحد، حتى كان صبر وزير الميسرة قد نفد، ولا سيما حين رأى هزات رءوس أكثر الأعضاء تشير بالموافقة، فوقف واستأذن الملك طالبا الكلام فأذن له.
و. الميسرة :
إنني أرى أن أخي وزير الميمنة مسرف في تفاؤله، وقد فقد الناس اطمئنانهم وراحتهم، وأطماع شداد تزداد يقظة، وابن أخيكم يزداد طمعا بالعرش، ولا أدري من وراءه؛ لأنه كما ألمح أخي وزير الميمنة أصغر شأنا وأضعف نفسا من أن يطمح إلى المعالي، ومن أن يفكر في الاغتصاب، وليسمح لي صاحب الجلالة المفدى بأن أكون صريحا، وهو يعلم إخلاصي وبلائي، والصراحة أصل الإصلاح، فأقول: إن العرش في خطر.
وما سمع الملك كلمات الإنذار بانهيار العرش تصدر عن وزير الميسرة، حتى اربد وجهه، وظهر عليه غضب الارتباك والاضطراب، وضج المجلس بين مؤيد ومعارض، ولكن المؤيدين كانوا القلة، وكان منهم قائد الجيش، وإلا لما كان رأس هذا الوزير الوقح يظل على جسده، فبين شفتي الملوك كانت كلمة الحياة والموت دون محاكمة ولا دفاع، وما عرفنا في عهود الطغيان والاستبداد قديما ملكا يجلس إلا وسيافه وراءه والنطع بجانبه.
هدأت بعد هنيهة ثائرة الملك، وقوة الجيش تخيف الملوك فتسكن أعصابهم، والتفت إلى وزير الميسرة يسأله عن الأدلة، فأجاب: لا يزال الشعور يسبق الأدلة، وهذه ليست متوفرة اليوم لأخذ المجرم بجرمه وإلقاء القبض عليه في الجرم المشهود، وإنني على رأي مليكي في عدم الأخذ بالشبهة، ولكن تقارير الجواسيس تدل على اضطراب نفوس الشعب وعلى تألمه من هذا النوع من التجسس أولا، ثم إن الناس يجدون أنه لم ينقذهم من الظلم؛ فأكثر المختارين للحكم على الرغم مما يلقيه الجواسيس من أخبار، ومع العناية التامة التي تصرف لاختيار الجواسيس والحكام، لا يعدلون في الرعية، فأنا لا أزال أصر على رأيي في أن أبناء الحلال لا تتحقق بنوتهم هذه بالولادة الأولى، إنما هي تتحقق في ولادتهم الثانية، في تفاعلهم مع المجتمع؛ أي بالتربية، فعلينا أن نعنى بتربية الناس، وأن نستقصي البحث عن أبناء الحلال في أعمالهم، وأن ننقذهم من نكبات التجسس وويلاته، فالحكم الصالح لا يتجسس خفايا أعمال الناس، ولا يتدخل في حياتهم الخاصة، بل يساعدهم على السمو بنفوسهم بفضل ما يكون بينه وبين الرعية من تبادل الثقة، يجب أن يشعر الناس أنهم أحرار ليأمن الملوك والحكام شرهم، يجب أن يشعر الناس بتكافؤ الفرص وعدم التمييز بين الطبقات؛ ليشغلوا عن الشرور بانصرافهم للعمل المنتج، لم يترك وزير الميمنة لوزير الميسرة مجال إتمام الحديث، بل قاطعه والتفت إلى الملك وقال: يا مولاي! إنها الثورة يقودها وزير الميسرة، فرد وزير الميسرة وقال: بل هو يا مولاي، انهيار العرش وخراب المملكة يدبرهما وزير الميمنة، إنها الثورة، أقودها بفخر للملك لا عليه، ولحفظ المملكة لا لخرابها، إنها الثورة على الطامعين الجشعين، وعلى من يعمل لانهيار الأمة، وقد ضحت بالغالي والنفيس، وأهرقت دماءها في سبيل تحقيق أمجاد الملك العادل العظيم، رمز حياة المملكة.
وزير الميمنة :
إنها تعاليم ذلك الفيلسوف يا مولاي، وهو القائد الخفي لهذه الثورة على جلالتكم.
وزير الميسرة :
لتكن تعاليم ذلك الفيلسوف أو تعاليم غيره، وربما كانت في النفوس ثورة، ولكنها ثورة عليكم، أنتم الذين أرهقتم الشعب، وليست على جلالة مليك البلاد، إنها ثورة الشعب، فاحذروها واتقوها، وهي للملك وللمملكة لا عليهما، إن الشعب لا يزال يحب مليكه، ونحن جميعا نفتديه بأرواحنا ومهجنا، فلا تفسدوا ما بين الملك ورعيته، اتقوا الله، وارحموا هذه الأمة، ولا تفسدوا عليها أمرها يحفظكم الله، ويحفظ الملك وشعبه من غدرات الزمان، وما بلغ النقاش في مجلس الدولة هذا الحد حتى أبلغ المجتمعون خبر الشابين، فعاد للمجلس صمته الرهيب، فالخبر كان حجة قوية بجانب وزير الميسرة تؤيده في جميع أقواله .
دهش المجلس، وشده وزير الميمنة، فالمفاجأة كانت شديدة التأثير في النفوس، ولكن أنى لوزير الميمنة، وهو الذكي الحصيف أن يعدم تعليلا يقوي به حجته، فقال: إنهما مجنونان من أتباع ذلك الفيلسوف المشعوذ، فهل تسقطون من حسابكم هتاف ذلك الشعب الطيب الأمين لذلك الأستاذ الجليل، تذكر الملك كلمات الأستاذ الجليل عن الحرية في العدالة وعن المؤامرة، وتذكر شذبه لطريقة التجسس، فازدادت به ثقته ورأى أن يترك أمر البت في الأمر إلى أن يجتمع به في صبيحة الغد، وأعلن عن ذلك في قوله: إن الأستاذ الجليل يؤيد الحرية ويشذب التجسس، وهو يرى رأي وزير الميسرة من وجود مؤامرة على العرش والمملكة.
نزلت هذه الكلمات نزول الصاعقة على دماغ وزير الميمنة، فاصفر وجهه، وخاف عاقبة الأمر، وصدق فيه قول القائل: ... ... ... ...
كاد المريب أن يقول خذوني
أدرك الملك، ولم يكن بالغبي، وقد أيقظه الوضع وملابساته وأراد إنقاذ الموقف فقال: إنني أثق بكم جميعا، وأعتقد أن اختلافكم إنما هو في مصلحة المملكة، ويعبر عن حرصكم على كرامة العرش وقوته، والخطأ لا يعني الخيانة، سأدرس القضية، وأتدبر الأمر بحكمة وروية، وآمل أن تعاونوني بتفكيركم وإخلاصكم، ولا أرتاب فيهما، فإلى الغد في مثل هذا الوقت.
فوقفوا جميعا، وقالوا بصوت واحد: حفظ الله الملك العظيم وأدام توفيقه. ثم انصرفوا، وفي كل نفس هواجسها.
الفصل الحادي عشر
قال الراوي: «إن العرش في خطر.» كلمة ملأت أذني الملك ورأسه وقلبه، وكانت لا تزال تدوي في صماخي أذنيه، ويهتز لها جميع كيانه، ولشدة ما أصابه من اضطراب وهلع، تحمل كثيرا في إخفائها في المجلس، كان يشعر بأن صوت وزير الميسرة ما زال يسمعه هذه العبارة الرهيبة القاسية، إن رنين ذلك الصوت ما فتئ داويا في تلافيف دماغه يرافق هزات قلبه، وينسجم في دوي الصماخين مع جرس خفي، كان يشتد بروزه في بصيرته، حتى أصبحت عبارة الوزير: «إن العرش في خطر» تتردد وتتكرر في نفسه دون انقطاع، وبإيقاع النذير الحكيم، إنها الخلوة تسيطر فيها على المرء هواجسه، وما أطل الحاجب بعد انصراف الأعضاء من القصر، حتى أشار إليه بالانصراف آمرا بأن لا يستأذن لأحد، وأن لا يفتح الباب إلا إذا دعاه، إنه قوي الشكيمة، إنه ملك، فمن العار أن يستنجد بأحد.
اشتد ضغط هذا الشعور على نفس الملك، وكاد يتحول كابوسا يخنقه، فخارت قواه، وكاد يغشى عليه، لولا أن انتبه إلى أن ما هو فيه لا يليق بالملوك، فوقف ثم اتجه إلى النافذة، يتنشق الهواء بقوة عله يملأ رئتيه فيدفع عنه أثر ذلك الضغط الشديد.
إنه العرش يضيع صواب صاحبه، ويضربه على صماخه إذا ما تعرض للخطر، ولا يزال صاحب العرش على غروره وغطرسته وصلفه، معتمدا على جبروته وقوته حتى يسمع صوت الشعب داويا صاخبا؛ فترتعد فرائصه وتنحني هامته، ويكسر بأسه؛ لأنه يدرك أن مانح السلطة يستطيع أخذها، وأن مصدر القوة يستطيع سلبها. وقديما انتبه عقلاء الملوك لهذه الحقيقة، فأوصوا عمالهم بهذه الحكمة الخالدة: «لا تدع الرعية تقول؛ فإنها إذا قالت فعلت»، ولا شيء يجرئها على القول مثل الظلم، الوخيمة عواقبه، ولكن أنى للملوك أن ينتبهوا إذا لم يكن للشعب رأي عام، يعرف كيف يعيد الغافل إلى وعيه، والغائب إلى صحوه، والضال إلى رشده، ويعلم الملوك أن الرأي العام إذا ما تكون يعرف كيف ينتقم من الظالمين، فهو صوت الحق، ينصف المظلومين، وصدق من قال: لا تهن الضعيف، فعلك أن تركع يوما والدهر قد رفعه.
نبهت كلمة وزير الميسرة حواس الملك وعقله وشعوره، فتمثل له الواقع شبحا مخيفا، فأخذ يتأمل في ما في نفسه، فتذكر أباه الملك الطاغية، ونقله خياله إلى عهد مضى، كان فيه وليا للعهد، وكان في مطلع العقد الثالث من عمره.
في هذه الحديقة ذاتها، وهو يطل عليها الآن من النافذة، في ذلك العهد من عمره ذاك، منذ ثلاثين سنة جلس بين يدي أستاذه، وكان حكيم ذلك العصر وفيلسوفه، واستمع إلى حديث كان له أعمق الأثر في نفسه، وإنه ليذكره، ويهتز له قلبه، وكأنه بين يدي ذلك الوقور في لحظته هذه. قال له ذلك الحكيم: يا بني، إنك موضع ثقتي، وأنت أمل الرعية، فيجب عليك أن تتصل بواقع الحياة، وأن تحاول إدراك الحقائق مجردة عن كل تغطية وتمويه، لا تخش الحقيقة، مهما كانت مرة المذاق، فإنها لا يخشاها إلا الجبان، وليس الجبن من شيم الملوك، إنني أرى أن الواجب يقضي علي بأن أصارحك بأمر شديد الخطورة، ولا أريد منك سوى وعد صادق بأن تكتمه، أعجبك أم لم يعجبك، وأنك تتحمله مهما آذاك في نفسك دون أن تحقد علي.
فارتبك الشاب آنئذ ارتباكا شديدا، وللوعد عنده قيمة، ولم يكن يوما ناكثا للعهد، فشبابه كان شبابا منطلقا متفتحا، وأستاذه هذا قد غذى نفسه بأروع الفكرات وأسمى المبادئ، وهو ما زال يعنى به منذ عشر سنوات، وما علم أنه احتاط معه يوما كل هذا الاحتياط، وبعد تأمل قصير، التفت إلى أستاذه سائلا: وهل أكتمه عن والدي صاحب الجلالة، وعن والدتي صاحبة الجلالة، وقد تعودت ألا أكتم عنهما شيئا؟
الحكيم :
نعم، وأريد أن تكتمه حتى عن نفسك إذا لم يرق لك، فتحاول ألا تعيد ذكره مطلقا.
ولي العهد :
وهل هو سر يتعلق بك شخصيا تريد أن تفضي إلي به؟ أم هو أمر يتعلق بشئون المملكة، أو بالملك الوالد خاصة أو بالملكة الوالدة؟
ح :
بل هو أمر يتعلق بالمملكة وبالمسئولين عنها.
و :
عودتني الصدق، وربيتني على الوفاء بالعهود والوعود، ولا أدري لم أجد نفسي عاجزا عن تحمل سر أعد بكتمانه عن الملك والملكة؟ وماذا تبدل في نفسك وقد ربيتني على البر بهما والإخلاص لهما؟ إنني أحترمهما احتراما كليا، ولا أسمح لنفسي أن يختلج فيها ما يتصل بانتقاد أحدهما مهما ساءني منهما من تصرف، فإن يكن قد صدرت عن الملك إساءة نحوك، فإنني على استعداد لتدارك الأمر بينك وبين الملك، فلا تكون إلا راضيا.
ح :
ليس بيني وبين الملك أو الملكة أي فتور، ولم يصدر عنهما أو عن أحدهما نحوي أي تقصير، فأنا أحفظ لهما كل وفاء وحب واحترام، ولا يتعلق الأمر بي شخصيا مطلقا، فإني شيخ هرم، لم يعد لي مأرب في هذه الحياة ، الأمر يتعلق بمصلحة المملكة وبك أنت، ويجب أن تتذكر أنك لست ابن الملك وحسب، ولكنك ولي عهد سيكون ملكا يوما.
و :
ما لك تلتفت إلى الغائب وتقول: سيكون؟ لعلك تريد أن تقول ستكون؟
ح :
بل قلت، وأعود فأقول: سيكون؛ لأنك بصفتك وليا للعهد غيرك ابنا للملك، والولدان يختلفان، فالملك مع احترامي الكلي لأبوته لا يصلح أن يكون أباك بصفتك وليا للعهد، فأبوك بهذه الصفة هو مجتمع المملكة، وله عليك حق الوفاء أكثر مما لأبيك الملك إذا ما تعارضت الواجبات.
فأنت إذا لم تتفاعل مع مجتمع المملكة تفاعل أبوة وبنوة، وظللت لأبيك الذي كان سبب وجودك الأول وحده، لا تصلح وليا للعهد، ولن تكون الملك الصالح لخير رعية، وإنما تصبح إذا حصلت على الملك أنانيا طاغية، يستعبد الناس، ويترف على حسابهم، إنك تكون عندئذ فردا ظالما يطغو ويجور، لا ملكا يعدل في رعيته ويهتم بمصالحهم، عندئذ تهدد بالحرمان؛ لأن أطماع الملوك المجاورين تتحرك، وتستولي عليك وعلى بلادك.
إنني طلبت منك الكتمان، ولم أطلبه طمعا بالاحتفاظ بمكانة أو بثروة أو بمظهر، أو خوفا على حياتي، فأنا زاهد على ما تعلم، وحياتي أهون شيء لدي، وإنما مصلحة المملكة تقضي بالكتمان، وأنت بصفتك وليا للعهد يجوز لك - بل يجب عليك - أن تكتم أمورا كثيرة عن والدك الملك الأب الأول، فللأب الثاني وهو المجتمع حقوقه، وهي فوق حقوق أبيك الملك، والكيس من يكون برا بالوالدين، يعطي كلا منهما حقه.
شعر ولي العهد بأنه أصبح في عالم غير عالمه، وكاد يضيق بذاته، وفيما كان يهم بإلقاء سؤال جديد حضر حاجب الملك، ودعا الحكيم الفيلسوف إلى الاجتماع بجلالته على جناح السرعة.
قام الحكيم ملبيا الدعوة واعدا تلميذه بالعودة إليه، فوعده هذا بأنه لن يبرح مكانه.
وها هو الآن واقف أمام نافذة ردهة الاستقبال، ينظر إلى مكانه ذاك مع أستاذه، ويتأمل في الحديقة وفيما سمع آنذاك، إنه واقف أمام النافذة وكأنه في الحديقة لا يزال ينتظر عودة الحكيم.
الفصل الثاني عشر
قال الراوي: كان الملك واقفا بجسده أمام النافذة المطلة على الحديقة، ولكن روحه كانت في تلك الحديقة ذاتها جالسة على ذلك المقعد الرخامي - الشاهد العدل على تلك الحوادث والأحاديث - تنتظر عودة الحكيم الشيخ، وتتأمل فيما سمعته منه قبل تلبيته دعوة الملك، الأمر يتعلق بمصلحة المملكة وبك أنت، إنك ولي عهد ولست ابن الملك وحسب، أبوة الملك وأبوة المجتمع، وأبوة المجتمع فوق أبوة الملك، سر رهيب يجب أن أكتمه، وأن أتناساه إذا لزم الأمر، ما هذه الألغاز؟! ألا يكفينا ما أصابنا من استيلاء شداد - ذلك الملك الشاب الجبار - على بعض مدن الحدود، وفرضه الجزية يدفعها الملك صاغرا؟ هل انقلب هذا الأستاذ على ملك أحبه واحترمه واختاره مربيا لابنه وولي عهده؟! هل أصبح من اعتقدنا فيه الوفاء ناكرا للجميل، بتآمر على الملك مع الموتورين المتألبين المفسدين ويخون عهده؟ مسكين أنت يا أبي، وفيما كان ولي العهد غارقا في هذه التأملات شعر بيد تربت على كتفه، فإذا الشيخ يعود، وأمارات الاهتمام على وجهه.
جلس الشيخ في مقعده الأول، وقد أدرك من استقبال ولي العهد خفايا تأملاته، فابتسم، وبادره بقوله: علك أسأت بي الظن، وكان احمرار وجه الشاب في صمته جوابا.
ح :
أنا لا أعتب عليك سوء ظنك بي، ولكن ثق أنني كنت - ولا أزال - الوفي الأمين، ولولا خطورة الحال وأهمية الوضع لما أجزت لنفسي أن أستمر في الحديث، ملحا في أن أحصل منك على ذلك الوعد، وأنا الواثق بشرفك لطيب أرومتك ومروءتك.
و :
سأعدك ولكن بعد أن تعلمني عن سبب استدعاء جلالة الملك لك في هذا الوقت، وهو يعلم أنني معك، فهل كان الأمر يتعلق بي وليا للعهد أم ابنا للملك؟
ح :
لم يكن الأمر يتعلق بك يا بني، ويسرني أنك فرقت في سؤالك هذا بين ابن الملك وبين ولي العهد، فقد بدأنا نسير معا إذن في طريق التفاهم والتفكير.
و :
إنك قد هززت كياني كله، وأوقعتني في صراع نفسي عنيف، وقد أقلقتني هذه المقابلة، يستعجلها جلالته، فهل وقع فيها ما يستدعي الكتمان حتى عن ولي العهد؟
ح :
إن أحاديث الملوك الخاصة تستدعي الكتمان دائما، ولكني لن أكتمك بصفتك وليا للعهد ذلك الحديث لصلته بما ستكتمه، وكأني بك قد وعدت؟ فالحديث يتعلق بحلم مخيف، أراد جلالته تفسيرا له، إنه رأى - فيما يرى النائم - أنه في أرض قفر، وأن أسدا رهيبا هجم عليه يحاول افتراسه، ولكن يدين بشريتين امتدتا في الخلاء ولوت إحداهما عنق الأسد، وردت الأخرى الملك إلى الوراء، فوقع في حفرة عميقة، وكان سقوطه هذا سببا لإيقاظه من نومه مشدوها خائفا، يحمد الله على إنقاذه من الأسد، ولكنه لا يذكر أنه أنقذ من الحفرة.
و :
وبم فسرت ذلك الحلم؟
ح :
التفسير السطحي بسيط، فقد قلت له: إنه سيتعرض لتهلكة تنقذه منها يد تحبه وتخلص له، ولكن هذا الإنقاذ ذاته سيلقيه في نكبة أخف وطأة عليه ولا تفقده حياته.
و :
والتفسير العميق؟
ح :
إنه يتصل بما ستعدني بكتمانه، فروح جلالة الملك كانت حساسة جدا في رؤياها، وكأنها قد تنبأت عن المستقبل.
هنا اشتد اضطراب ولي العهد، واهتزت أعصابه، ووجد في قوة الصراع في نفسه حافزا لاكتشاف ذلك السر، لا سيما وهو غير مقيد بشرط قبول أيه فكرة يحتويها، فوقف ورفع يده؛ ليؤدي قسم الوعد على ما لقنه أستاذه الشيخ الحكيم وقال:
و :
إنني أقسم بالله وبشرفي وبما عاهدت عليه الأمة من إخلاص وتضحية في سبيل مصلحة المملكة، أن أكتم ما سيطلعني عليه أستاذي عن كل إنسان، وأن أتحمله مهما آذاني ولا أحقد على أحد، والله على ما أقول شهيد.
ح :
بورك فيك يا بني، فقد أنقذت المملكة والملك وأنقذت نفسك، إنك مدعو لإنقاذ العرش، فإن العرش في خطر.
وكان الأستاذ الحكيم بعد أن استمع إلى القسم واقفا يردد هذه العبارات وعيناه تذرفان الدموع، وقد قابلتهما عينا ولي العهد في هذا الموقف الرهيب بدموع حارة، التقت مع دموع الشيخ على رصيف الحديقة المرمري، فانبثق من امتزاج دموع الشيخوخة المتألمة بدموع الشباب المتوثب نور تلألأ في الأجواء ورسم العبارة التالية: ما أجمل هذا الالتقاء! وما أروع هذا الامتزاج في سبيل الإنقاذ!
وما هدأت نفس الشيخ نوعا، حتى أخذ يواصل حديثه بصوت متهدج، فأنشأ يقول:
ح :
تذكر يا بني كيف استذلنا شداد، وكيف يتحكم بالمملكة، إنه أصبح الحاكم وراء الستر والحجب، بعد أن استولى على قسم كبير من أراضي المملكة ومدنها، وتعلم - كما يعلم الواعون من الرعية ورجال الحل والعقد - أن السبب فيما وصلنا إليه من استسلام وخنوع، إنما هو تفكك في أوصال المجتمع، بدأ منذ أن زينت حاشية السوء لجلالة الملك سياسة جديدة؛ هي سياسة فرق تسد، إنها سياسة الطغاة، وهي هي سياسة الطامعين في الاستيلاء على مقدرات غيرهم من الأمم، ويؤسفني أن أقول: إن صاحب الجلالة والدك قد التقى في هذه السياسة الخرقاء مع شداد خصمه، وأصبحا يتعاونان على إذلال هذا الشعب المسكين بتفريق كلمته، وقد كانت واحدة في أوائل ملكه، وفي أيام أجدادك العظماء، ولا فرق عندي أن يكون ذلك مقصودا أو غير مقصود، فالشعب ينهار، ولعل شدادا هو الموحي بتلك السياسة بطريقة غير مباشرة، وما حاجته للإيحاء المباشر وفي خدمته من حول أبيك من جواسيس وأعوان، يخونون بلادهم، ويخدعون الملك ليترفوا وليثروا على حساب شعب مسكين، استمر طويلا يصفق لهم ويهلل، وهو لا يدري أنه يرقص على القبر الذي سيدفن فيه، وأنه يصفق لمن سيتولون أمر دفنه، ولكن الشعب مهما صبر فلصبره حد، ومهما تحمل فإنما يحتمل لأجل، ولا سيما متى استشرى الفساد وتفاقم أمره، وأبعد المخلصون من رجال الدولة والقديرون، لفائدة الأنصار والمحاسيب من جهلة وأغبياء، إلا في شئون الشغب والتدليس، عندئذ تكثر الرشوة، وينتشر البغي والجور، وتتفشى الأمراض الاجتماعية على ما ترانا عليه اليوم، فإذا قدر للأمة البقاء أوقظ روح الخير في رجالها الأحرار، فيقومون للعمل بالتؤدة والحلم والموعظة الحسنة أولا، وإلا فالثورة تصبح واجبة، وكل ثورة فكرية لا تبلغ الهدف تؤدي إلى ثورة الدم حكما حسب طبيعة الحياة، ونحن اليوم - وقد استنفد الأحرار كل ما لديهم من وسائل إعادة الأمور إلى نصابها - في دور ثورة الدم وهي تتهيأ، وأصبحت وشيكة الاشتعال، وأخشى عليك وعلى أبيك وعلى العرش ذاته من لهيب نارها، لذلك أردت مصارحتك لتكون أنت ولي العهد قائد هذه الثورة، فبذلك تحفظ على جلالة أبيك حياته، وعليك عرشك، وعلى الأمة كيانها، وتبعد عنا سيطرة شداد وتحكمه.
و :
أشيخ هرم يتكلم عن الثورة وإليها يدعو، وعلى أبي تريدني أن أثور؟
ح :
ليست الشيخوخة بالعمر، وليس الهرم هرم الجسم، وإنما الشيخوخة في خبل العقل، وما الهرم إلا في خمود نار الثورة في النفوس، لا حياة لأمة لا تستمر نار الثورة مشتعلة في نفوس رجالها، ولا خير في شعب لا يعرف كيف يثور، ولا أمل في ولي عهد يستسلم للدعة، ويطمئن للترف، ويتلهى بالوهم وخرافاته، وبالتقاليد البالية وآفاتها، فلا تجد نار الثورة إلى قلبه سبيلا.
و :
مهلا أيها الشيخ الوقور، والله إن نار الثورة تحرق كياني كله، إنني أرى ما يراه الناس من فساد وإفساد، ومن استغلال واستهتار، ومن بغي وجور، ولكنني ما كنت أدري أنه يجوز لابن أن يثور على أبيه، وما كنت أقدر أن نار الثورة ألهبت قلوب الشيوخ بشعلة الشباب.
ح :
روح الثورة بركة ويمن، إنها تحفظ في الأمة روح المقاومة، فلا تستكين ولا تذل، أما الشباب فيخدع من يعتقد أنه سن الشباب، إن ما يدعونه الشباب إنما هو الدور الذي تتكون فيه روح الشباب في الإنسان لتستمر مدى الحياة، ولا تخبو نار شباب حسن تكوينه، وأما ثورتك على أبيك ففيها رحمة به وبر، بعد أن تعذر إقناعه بالعدول عن الاستهتار بشئون الرعية وعن اتباع أقوال المغرورين من الخونة المتآمرين لمصلحة المسيطر الطامع اللئيم، وإليك الآن تفسير حلم أبيك؛ فالثورة قائمة ولا بد، وهذا ما رمز إليه الأسد، وإنك قائدها بلا ريب، ويداك وقد ظهرتا في الخلاء هما اللتان تحفظان على والدك حياته، فتكتفي الأمة بخلعه، وهذه هي الحفرة، وتكون أنت الملك، وهذا ما يعنيه ردك لأبيك باليد الأخرى، فكن برا بأبيك متى ظفرت، فتصبح البار بوطنه وبأبيه.
و :
ومن يكونون هؤلاء الذين يدبرون الثورة؟ وكيف ألتقي بهم؟
ح :
غدا أجمعك بهم، وفي مثل هذا الموعد، فإلى اللقاء.
الفصل الثالث عشر
قال الراوي: كاد الملك يتنبه لواقعه، وهو أمام نافذة القصر، وكاد يعود لذاته في اضطرابها مما حدث، لولا أن ذكرى عودة الشيخ الحكيم الوقور قد أبقته في مقعده في الحديقة، يتخيل نفسه بين يديه وليا للعهد، يستعجل لقاء من يدبرون الثورة على أبيه الملك.
كان وصول الشيخ قبل الموعد الذي سبق وقرر، فقطع على ولي العهد بهذه المفاجأة سلسلة تخيلاته وتصوراته، وبادره بقوله: كيف كانت ليلتك أمس يا صاحب السمو؟
و :
أراك تترسم في عبارتك معي اليوم، فلم لا تقول يا بني على عادتك؟
ح :
رأيت تبدلا في تلاميح وجهك ونظراتك، يدل على وضع جديد، فيه كل عزم وجد، وهيأة نفسية حازمة تتسامى إلى العلاء، فأخذتني هيبة الملك، وكدت أقول يا صاحب الجلالة.
و :
بالله عليك لا تسخر بي أيها الرجل الحكيم، بعد أن أحييت موات نفسي، وولدت فيها ذاتا جديدة، تشعر أنها من روح الشعب لا من روح ذلك الملك العنيد، وكأني قد ولدت ولادة ثانية بعد أن سمعت وبعد أن رأيت، كن واثقا أنني أصبحت أزهد الناس بالملك، وإذا اشتد لهيب نار الثورة في نفسي، فلأساهم في إنقاذ الشعب كفرد من الشعب، سواء أبقي العرش أم انهار على رأس صاحبه، المهم أن ينقذ الشعب، وأن أحيا معه إن كان لي حظ في بقاء، كفرد من أفراده، يتمتع بالكرامة والعزة والتحرر، وإذا قدر لي الاستشهاد، فأكون ممن سعدوا بترك هذا العالم الفاني على أحسن ما يكون عليه المرء في محافظته على كرامته وإبائه وحريته، ليست الكرامة والعزة والتحرر في أن يكون الإنسان ملكا أو ولي عهد الملك، وإنما الكرامة والعزة والسؤدد والتحرر في أن يحيا الإنسان فردا سيدا في أمة سيدة، تشعر بالكرامة والعزة والسؤدد والحرية وتتمتع بها.
ح :
أهلا بك يا بني الحبيب، والله ما أجزت لنفسي أن أهزأ بك يوما ولا أجيز، فأنت مني كنت - ولا تزال - موضع كل عناية وكل تقدير وأمل، ولكنه بريق هيبة الملك قد لمع في وجهك ، وأشعة نورانية أمجاد الملوك قد انبثقت من عينيك، فتوهمت أن ما اصطلح عليه الناس بالملك، وأنت المهيأ لاعتلاء عرشه، قد انعكست أنواره على وجهك، وامتزجت بذلك مظاهر الجمال بالجلال، فما أسعدني وقد أدركت من بيانك أنك قد تملكت ذاتك، وسيطرت على نفسك، فأصبحت ملكا بالفعل وبالواقع لا بالوهم والاصطلاح، فكم من ملك في أعين الناس هو عبد في عين ذاته، وكم من الملوك من غرهم العرش وما يلابسه، وكانوا عبيدا أذلاء في عين الحقيقة، وفي تلك النظرات الخاطئة شقيت أمم وتشقى شعوب، وتهدمت مدن وانهارت حضارات، وتتهدم وتنهار إلى أن يفيء الناس إلى حقيقة ذاتهم الإنسانية، فيدركون في خفايا نفوسهم سواء أكانوا من السوقة أو من الصفوة والملوك، ما أدركته أنت - وفي كيانك نفحات ما اصطلح عليه الناس بالملك وأمجاده - بأن الملك الحقيقي في واقع التسامي في مفاهيم الحياة، إنما هو في تملك الذات، وفي السيطرة على النفس قبل كل شيء، إذ بذلك تدرك حقيقة الحياة، فأهلا بك يا بني مرة ثانية، ولكن قل لي: ماذا سمعت بعد أن تركتني أمس؟ وماذا رأيت؟
و :
ولعلك إنما جئت لهذا قبل الموعد اليوم، فأنا لا أشك بدهائك وحكمتك، وقد نعمت بآثارهما، وقد اشتد الآن اعتقادي بصدق فراستك، فاستمع لما جرى: لم أكد أختلي بنفسي بعد ذهابك أمس، حتى انبعثت منها في داخل كياني تيارات متعاكسة متجاوبة كانت تتجاذبني، فتميل بي تارة ذات اليمين، وطورا ذات اليسار، ولا أنكر عليك أن الشك والتردد كانا في صميم هذه المعركة، فتيار كان يذهب بي مذهب النقمة على من يفكر بالثورة على ذلك الوالد المسكين، وهو من أحب وأحترم بكل ما في الحب والاحترام من معان وتضحيات، وتيار كان يجرفني نحو الثائرين أعطف على حركتهم بل أتبناها، وكان بين التيارين تجاوب وتفاعل، استقر معهما رأيي على أن أجتمع بجلالته، وأحاول رده إلى الصواب، دون أن أخون ذاتي بفضح السر، كن واثقا، فإنني عاهدت وما فكرت على الرغم من تيار النقمة في أن أنكث العهد، فشكرا لله ، ثم شكرا.
ولم يستقر رأيي على ما عزمت عليه، حتى وجدت نفسي بين يدي جلالته في خلوة يندر أن أجده فيها، لأن حاشية السوء ذكية، لا تترك له مجالا يمكنه فيه أن يختلي بنفسه، ولكن ما كان أشد دهشتي، وقد رأيتني أمام صخرة لا يتفجر ماؤها، وما كان لتلطفي وحنوي وتذللي أي تأثير على موقفه من شعبه، فهو يرى الشعب بقرة حلوبا، يجب أن تدر عليه ما يشبع زهوه وترفه هو وخاصته وأتباعه، وإذا ما قصرت في درها ولو لمرض أصابها، فهي العاقة لمليكها، وعليها تقع تبعة حرمانه ومن معه من مقومات الزهو والترف.
لم يستول علي يأس، وقد وجدت لديه رعاية الوالد وحنوه في تلطفه، وفي محاولة ردي عما أعتقده في وثبتي هذه، لكن دخول بعض خاصته دون استئذان طبعا، وقد رفعت بينه وبينهم كل كلفة ومراسم أوقعني في يأس وقنوط، فقد كان هؤلاء عند شداد الملك المغتصب، وعادوا يثنون على حفاوته وتعهده بحماية العرش إذا ما ثار الشعب، فهم يحسبون للثورة إذن حسابها، ويتآمرون مع المغتصب على شعب رفعهم إلى أرائك الحكم، ولما قلت: إن للشعب حقوقا تجب مراعاتها، أجابني البعض: ليس للشعب إلا السوط، ولم يرد عليه أحد، وكدت أحاول أن أضع على رءوسهم جميعا السوط؛ لأنهم أجدر به، ولكني خفت على الثورة من رعونة الطيش.
وهنا تنهد الأمير والشرر يتطاير من عينيه، وقال: أعرفت سبب زهدي بالعرش؟ فإن عرشا لا ترفع إليه المرء أفئدة الأسياد، في شعب سيد، ليس بعرش أبدا، وإنما هو سجن الأسير، وفي وضع كهذا، يكون التساوي متحققا بين الحاكم والمحكوم سيادة وتحررا وحقوقا.
وما بلغ الأمير هذا الحد من حديثه، حتى رأى الحكيم يسجد لله شاكرا، وعيناه ترطبان الأرض بالدموع، ثم التفت إلى تلميذه الشاب باسما، وخاطبه بقوله:
ح :
إذا أذن الله بأمر يسر أسبابه، وقد أردتك مؤيدا للثورة، فإذا أنت تتحول ثائرا يهيأ لقيادتها بوحي ذاتك وفاعليتها وبملاءمة الحوادث، فنالت بك الثورة أكثر مما أملت، فشكرا للإله الحكيم، وقد كنت قد عجلت في مجيئي قبل الموعد وقلبي يحدثني بأن أجدك هنا لأطلب منك الاتصال بجلالة الملك ومحاولة إقناعه، لا لاعتقادي بجدوى العمل، ولكن لتطمئن نفسك. ولا تخش الشك، فالشك أصل اليقين، فالمهم في منطق الحركة هو أن تتحقق ثائرا بروحك ولا فائدة في الافتعال، وللثورة ككل كائن حي روحية، بها قوامها، وهذه لا تتحقق إلا بشروط، أولها إيمان يتفاعل معه العقل على ضوء الخبرة، وقد هداك ضميرك وإخلاصك إلى خبرة واقعية جعلت فيك العقل يتفاعل تفاعلا طبيعيا مع إيمان لا يتزعزع، وقد أشع نوره في قلبك بعد شك عفوي لا تصنع فيه، وثانيهما السمو بالأهداف إلى مبادئ عامة، لا يكون معها قصد انتقام من أحد، ولا إرادة جر منفعة إلى غيره، فالثورة لا تكون لخلع ملك ولا لتولية آخر، وإنما تكون لأهداف إصلاحية سامية تشمل الجميع، وهذا ما يخرجها عن مفاهيم الشغب والعصيان، ولذلك كان من نعم تفاعلها في نفسك زهدك بالملك، وثالث الشروط - وأرجو أن يتحقق في ذاتك مع ما سبق - أن تكون الثورة إنسانية، فتحاول حقن الدماء دائما، وإذا ما سمحت به فبأقل مقدار يمكن، فلا يصح أن تصبح الثورة مجزرة بأي حال، وإلا فهي ثورة فاشلة تشتبه كثيرا بالشغب والعصيان، وهذا ما نحاول، وستتحققه بذاتك في أول اجتماع آن وقته بعد أن أرخى الليل سدوله، فلنذهب.
الفصل الرابع عشر
قال الراوي: الدار في ضاحية المدينة، وكانت دارا واسعة، بابها الأمامي يطل على المدينة، وهو الباب الذي يدخله الناس من سكان الدار وضيوفها، وبابها الخلفي يواجه البرية وهو مخصص لدخول المواشي إلى الزريبة في داخل الدار، وكان لتلك الدار سرداب متسع تحت الأرض، اتخذه الثوار مكانا لاجتماعاتهم، جاور السرداب الزريبة مدخل الثائرين في ظلام الليل، فانقلبت بفعل روح الثورة عرينا للأسود، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت العرب يرون في الزريبة حظيرة المواشي وعرين الأسد ومخبأ الصياد.
دخل ولي العهد الدار من بابها الأمامي دون أي استخفاء، فأدهشه أنها دار أستاذه وقد ألفها قبلا، فظن أنها فترة الاستراحة للتنكر والاستخفاء، ولكن استمرار الشيخ الوقور في السير متجاوزا ردهة الاستقبال ودار الحريم، وطرقه على باب السرداب طرقا خاصا، نبهه إلى أن وضع مكان الاجتماع أنقذه من التنكر والاستخفاء، ولم يكن من المستغرب عند أحد أن يدخل ولي العهد دار أستاذه، ولكن أين امرأة الشيخ وبناته الصبايا؟ وأين أبناؤه الكهول والشبان؟ الدار خالية، وجميع أهلها في العرين!
فتح الباب وقال الشيخ كلمة السر، فاهتزت لها أرجاء الزريبة والسرداب المزدحمين برجال ونساء، أخذوا يرددونها بصوت خافت رصين، وقد كانت في ذلك اليوم: ولي العهد، وكانت هي تحيتهم له، فحياهم بأحسن منها إذ قال: عرين الأسود، وما استأنس الجمع بولي العهد، وما استأنس هو بهم بعد مباحثات ومداولات وتنظيم، حتى أخذته عزة الانتساب إلى هؤلاء النخبة، تجتمع لتضحي بكل ما تملك، ولا توفر الحياة في سبيل حفظ الوطن ورفع شأنه، برفع مستوى المواطنين وتحريرهم عن تفهم مدرك، وإخلاص عاقل، وتفكير مجرد، وقابل ما أحس من صميم ضميره من نبل أوضاعهم وصدق هيئاتهم النفسية وقوتها، وهم ولم يكن يعرف بينهم سوى الشيخ وأبنائه، قد أصبحوا الآن جميعا عناصر وثبات نفسه في تحرير ذاته وأمته، بما يعرف عن حاشية أبيه الملك في قصره، ولا يحيط به سوى الشمامين الطماعين الانتهازيين من الذين يمشون على بطونهم، فاندفع متحمسا يقول: بوركت روح الثورة، تحول الزريبة إلى عرين، وخزيت سراي تحولها الأنانية والأطماع وروح الانتهاز إلى حظيرة للمواشي.
قد تذكر في تأملاته هذه - وكانت قد ملكت عليه نفسه - أنه كان قد أعجب باشتعال نار الثورة في الشيوخ والكهول والشباب نساء ورجالا، وقد شاهدهم مجتمعين هناك على فكرة واحدة، وعزيمة صادقة متوحدة، فآمن بتفاعل الأجيال، وعلم أن الثورة الصحيحة إنما تكون صلة بين أجيال الأمة، وقوة في تفاعلها، فأدرك أن تلك الصلة هي شرطها الرابع.
وكان قد زاد في إعجابه ودهشته أن خبر الخاصة كان قد بلغهم كما وقع فيما جرى عند شداد وعند أبيه، حتى قوله: إن للشعب حقوقا تجب مراعاتها، ولولا أنه لم يفارق الشيخ الحكيم لحظة منذ أبلغه هذا الخبر؛ لتوهم أنه هو المخبر، ولاحظ أن الرصانة والهدوء كانا يتغلبان في بحث كل خبر كهذا، فأدرك أن التنظيم المدرك الواعي الهادئ هو الشرط الخامس لكل ثورة مخلصة مجردة.
وفيما كان مستغرقا في تلك الظواهر وفي حيويتها، تعبر عن حقيقة معاني الثورة، تستكمل نموها في نفسه، أيقظه هدير كلمة «ولي العهد»، يتردد في حناجر المؤتمرين، وإذا هو أمام أمير الجيش وبعض قادته يحيونه بكلمة السر: «ولي العهد»، فيجيبهم على الفور: عرين الأسود، وكان يعتقد أن كلمة «عرين الأسود» جوابا على كلمة السر كانت من وضعه، فإذا الواقع يؤيد أنها الجواب المصطلح عليه سابقا، أطلقها الثوار جوابا على كلمة السر، فآمن بتجاوب قلوب المجتمعين حول فكرة صحيحة، إذا ما كانت الفكرة أصيلة تنبثق من أعماق النفوس على سجيتها دون تقليد ولا افتعال، فألقى في نفسه أن الأصالة في التفكير وفي التعبير تصلح شرطا سادسا لتحقق معاني الثورة في النفوس، وقال في نفسه: ما أروع الإنسان في طبيعته، تتفتح بها معاني الحياة في داخل كيانه، فتتجلى عظمة الحياة في جمال تعبيره عن وثباتها.
وما قرر المجتمعون نضج الثورة لانتشار فكرتها صحيحة بين الجماهير في الشعب، وما أعلن قادتها أن الثورة قد أينعت، وحان قطاف ثمارها، حتى وجد في نفسه شرطها السابع؛ وهو أن القوة الفاعلة هي قوة الشعب، فلا يكفي أن تنضج فكرة الثورة في نفوس القادة والأركان.
كل ذلك مر في خاطر الملك أمام النافذة المطلة على الحديقة، وهو مستغرق في حلم اليقظة لا في حلم النوم، فمرت أمامه مشاهد الثورة في انطلاقها، واستسلام أبيه بعد مقاومة، دافع عنه فيها حرسه وبعض فرق الجيش، وقسم قليل من تباع الخاصة من الشعب، حتى استقر الأمر في استيلائه على العرش، والقبض على من بقي من المفسدين.
ولا يزال يذكر قوله لأبيه في تلك المعركة: يا أبت إن في استسلامك إنقاذا للمملكة ولمجدها وشرفها. وجواب أبيه في تنازله عن عرشه: يعزيني إنك أنت الملك الآن، وقد أدركت كل شيء، فلا تتساهل مع من خدعني من المقربين، وانتبه لأطماع شداد، فإنه جبار عنيد.
ولما كانت الثورة في حقيقة معانيها أسمى من أن تقف عند خلع ملك وتولية ملك، فقد استمر أوارها حتى أنقذت المملكة من جور شداد وبغيه، واستعادت ما سلب، وفرضت على مستعبد شعبها الجزية.
بوركت الثورة، فإنها وثبة حياة، توحد وتنقذ، وليست شغب أطماع تفرق، ولا هوس عصيان يهدم ويهير.
ليست الثورة أطماعا ولا مآرب ولا استغلال مغانم، وإنما هي قيم ومثل عليا، تضحي على مذابحها النفوس راضية مستبشرة، فيتحقق بها معاني الاستشهاد في أروع مشاهده.
والخطر كل الخطر في أن تنقلب الثورة شغبا أو عصيانا، حينما تستيقظ في نفوس الثائرين الأطماع، إذا ما دغدغتها مظاهر الأبهة، وتطبيل الدجل، وتزمير الشعوذة، وتصفيق التملق، وتهليل الغطرسة والكبرياء، قد تبدأ الثورة شغبا، ولا تزال ترتفع عن إسفاف الشغب حتى تبلغ حقيقتها، وتؤتي أكلها، وليس في هذا التطور خطر ما دام في طبيعة سيره، ولكن الخطر يكون قاتلا إذا ما عادت الثورة شغبا تدمر ما بنت، وتهدم ما شيدت في المدن والأمصار، بل هذا هو الأهم في نفوس الشعب عماد الثورة ومغذيها.
لذلك لا تنتهي الثورة عند أمجادها بل تستمر؛ لتستقر في النفوس ولتتوارث روحها الأجيال، ولا يبقيها في نفوس الشعب سوى العدل، عندما يحكم الثائرون، وهذا ما كان حققه الملك الجديد بعد أن ظفر، فلقب بالملك العادل، وإنه لا يزال يذكر قول أستاذه الحكيم بعد أن ظفر بالعرش منقذا، وبعدوه شداد منتصرا، إن ذلك الشيخ الوقور كان على فراش الموت يحتضر حين قال له: اعلم يا بني أن الثورة هي الثورة ما دامت تقاوم الفساد وتكافحه، سواء أكانت ثورة شعب على حاكمه، أم ثورة حاكم على شعبه، ويخطئ من يعتقد أن الثورة هي ثورة الشعب المظلوم على حاكم جائر وحسب، بل قد يتبدل وضعها، فتصبح ثورة حاكم صالح عادل على شعب متخاذل فاسد، فبعد أن كنت في المعركة مع الشعب الثائر، وأصبحت بفضل الثورة ملكا، كن الآن ذلك الملك الثائر، فروح الثورة ، وقد اختبرت أصالة التفكير في لهيبها، هي خير مستشار لك، وخير صديق تعتمد عليه في إصلاح الرعية، وإلا فإنني أخشى أن تنقلب الثورة عليك، كما سبق وانقلبت وبك أنت على أبيك.
وهنا فارقت روح الشيخ الحكيم الوقور جسده راضية مرضية، ولا يزال الملك يذكر - ولا سيما في تأملاته أمام النافذة المشرفة على تلك الحديقة - تلك الدموع الحارة التي كانت تذرفها عينا والده الملك المخلوع على قبر ذلك الشيخ الحكيم، مرددا هذه الكلمة: عصيتك فعصيت الحكمة، وخسرت كل شيء، ثم يلتفت إلى ابنه الملك، فينصحه قائلا: لا تنس وصايا هذا الشيخ رحمه الله، ولتكن روحه دائما معك ولا سيما عند الشدائد.
الفصل الخامس عشر
قال الراوي: دار الزمن دورته، وها هو بعد مرور ثلاثين سنة على اعتلائه عرش أبيه يسمع من وزير ميسرته تلك الكلمة المشئومة، وقد سبق وسمعها من أستاذه: «إن العرش في خطر»، فهل يقدر له أن ينقذ العرش ثانية إذا صح قول الوزير؟! أم ينهار العرش عليه وعلى ابنه، وهو لم يتجاوز العاشرة بعد، وعلى ابن أخيه المسرف الفاسق؟ أحان لشداد وهو في شيخوخته أن ينتقم مني، وأنا لا أزال في سن الكهولة، تهز قلبي فاعلية القوة فيها؟! أين لي بمثل ذلك الشيخ الحكيم الوقور؟!
وهنا تذكر الأستاذ الجليل الساحر، فاطمأن نوعا، وقال في نفسه: لعل الله القدير قد بعث بروح ذلك الشيخ الحكيم في ناسوت هذا الأستاذ الجليل، رحمتك اللهم، وما خطر له هذا الخاطر حتى استفاق لواقعه فوجد نفسه في الهزيع الأخير من الليل، ساعات مرت به وهو غافل عن واقعه، غارق في تأملات الماضي بفعل شدة وطأة الواقع في حاضره المرتبك المضطرب، صفق بيديه فدخل الحاجب مسرعا، وعلى وجهه أمارات الاهتمام والاضطراب، ابتسم الملك وخاطبه متلطفا: ليلتك ساهرة! إنها ليلة بيضاء، لك عليها إجازة ثلاثة أيام ومكافأة، فأجابه الحاجب بتذلل واستحياء مرتبك: إن توفيقي في خدمة مولاي صاحب الجلالة هو أكبر مكافأة، وليس من واجب أحب إلى نفس العبد من سهره على راحة سيده، ولكننا كنا في بلبال، زاده شدة أمر مولاي بألا أفتح الباب ولا أستأذن لأحد، فلم يكن باستطاعتنا أن نروح نفس جلالة الملك، أو أن نقوم بخدمته لدفع القلق، وهنا التفت الملك إلى الحاجب باهتمام وقال: تتكلم بصيغة الجمع، فهل معك أحد؟ نعم يا مولاي، إن المشير الأول وبعض أعوانه ينتظرون منذ أمرتني بإغلاق الباب، فتذكر الملك أنه كان على موعد مع مشيره الأول ليطلعه على ما يكتشفه بواسطة عيونه وجواسيسه من الأدلة الجرمية التي تدين ابن أخيه، ومن يغرر به من أبناء الحرام، فأمر بإدخاله حالا ناسيا أن الجوع أخذ يحرق معدته، وأن الظمأ يلهبها، «إن العرش في خطر» كلمة أضاعت صوابه، وشغلته عن ذاته، فصرف عن كل شيء.
دخل المشير وكان رجلا مهيبا، تدل ملامحه على أنه يودع الكهولة، ويستقبل شيخوخة رغدة نضرة، محتفظا بنشاط شبابه، فحيا بالتحية الملكية، وظل واقفا ينتظر أن يفيق الملك من ذهوله.
انتبه الملك بعد لحظات، فأمر المشير بالجلوس على مقعد أمامه، وساد القاعة صمت مهيب، لم يجرؤ المشير على الرغم من اضطرابه الظاهر أن يخرق حرمته؛ لأن المراسم الملكية تقضي بألا يفاتح أصحاب الجلالة بالحديث، وأخيرا وبعد دقائق صمت وتأمل التفت الملك إلى مشيره وقال: أتعبتك اليوم، فهل من جديد؟
المشير :
لا يتعب العبد في خدمة مولاه يا صاحب الجلالة، وإنما يقلقني ما أغمض علي من أسباب تأملات الملك وتفكيره بعد عزلته الليلة، والثقة لا يتحمل الإبهام، وهل على هذا العارض المفاجئ من جديد؟
الملك :
كنت أتأمل في مغازي أسطورة كثيرا ما سمعتها من أستاذي الحكيم - رحمه الله ووسع عليه في سمائه - وكأني أسمعها منه الآن، ولا أدري لم نسيتها كل هذا الزمن.
المشير (وقد رأى في معرفة هذه الأسطورة مفتاحا عله يساعده على فتح أبواب ما أغلق عليه من أسباب ذهول الملك وهمه) :
وهل يتفضل مولاي الملك، فيجيز لي التأمل في مغازي أسطورة ذلك الحكيم؟
الملك :
إنها الحكمة، لبست لباس الأسطورة والخرافة، إنها من الحكم الخالدة، فاستمع لما رواه أستاذنا الشيخ عن الأقدمين :
كان في بلاد الهند قديما ساحر عظيم، اشتهر بالعلم والحكمة وسمو المدارك، وبلغ في مقدرة نفسه أنه كان يفهم لغات الحيوان، ويستطيع قلب الأعيان، فينقل الإنسان لصورة الحيوان والحيوان لصورة الإنسان، وما كان يعجزه أن يجعل النبات أو الحجر حيوانا أو إنسانا، ولا أن يعكس، ولا أدري لم اختص القدم بهؤلاء السحرة الأفذاذ.
رأى ذلك الساحر يوما فأرة، أهزلها حزن شديد دائم، وفي استجوابها علم أنها تخاف من الهرة، فأشفق عليها، وحولها إلى هرة عظيمة تهابها الهرر والهررة.
مر الساحر بتلك الهرة - الفأرة - واستغرب أن يجدها في حزنها وهلعها؛ لأنها أصبحت تخاف من الكلب، فعزم عليها، وحولها إلى كلب كبير كاسر تخشاه سائر الكلاب.
ولكنه عاد في اليوم الثاني فوجد ذلك الكلب - الفأرة - في حزن وجزع ورعب، إنها أصبحت تخاف من الضبع، فأقسم عليها فانقلبت ضبعا مفترسا تفر من هيبتها السباع.
ولكن أخذته الدهشة في اليوم التالي إذ رأى تلك الضبع - الفأرة - في حزنها وجزعها ورعبها؛ لأنها أصبحت تخاف من الصياد، فسخط، ثم التفت إلى تلك الضبع، وعزم وأقسم، ثم قال: ارجعي إلى أصلك، فإنني لا أستطيع أن أعمل شيئا في إبادة الخوف من نفسك ما دمت لا تحملين إلا قلب فأرة.
هنا تنتهي الأسطورة، وإنني لأتأمل في اللئيم تحسن إليه ويظل اللؤم مسيطرا على نفسه وكيانه، وأفكر في أبناء الحرام لا يمكن أن تصدر عنهم أعمال أبناء الحلال مهما تعلموا ومهما رفعت من مقامهم.
المشير (وقد تملكه الخوف) :
وهل يشك صاحب الجلالة في إخلاص عبده هذا؟ وأشار إلى نفسه.
الملك :
لم أردك في قولي هذا، ولم أقصد أي شخص بعينه، ما دمت في سحب الغموض، لا أستطيع أن أتثبت من الجرم فأتهم، إن الجرم واقع والعرش أصبح في خطر، ولا أدري من المجرم لأنقذ المملكة والعرش من إجرامه، من هم أولئك الانتهازيون الذين لا يهمهم إلا الوصول ليشبعوا جوع أطماعهم؟ من هم أولئك الخونة؟ وهم لا يتورعون عن الاتصال بعدو المملكة، يتآمرون على العرش؛ ليرووا ظمأ تعلقهم بالمناصب والمظاهر ، من هم أولئك المنافقون الذين يظهرون الإخلاص لملكهم، وهم لا يعملون إلا للإثراء والترف على حساب إفقار الشعب، وتعريض العرش للخطر؟ إنهم أبناء الحرام، ليسوا من هذه الأمة وإن حشروا بين أبنائها، وليسوا من أصلاب آبائهم وإن نسبوا إلى أولئك الآباء؛ لأنهم لا يفكرون بصالح الأمة ولا بكرامة الآباء والأجداد، تغريهم الأوهام، وينفخهم ما هم عليه من ادعاء وغرور، إلى متى نخدع بهم ولا نجد وسيلة الاهتداء إليهم لننقذ الأمة من شرورهم؟ قل لي: ماذا فعلتم أنت وأعوانك؟ وما هي الأدلة التي تثبت الجريمة؟ قل لي قبل أن يسبقنا الزمن، فأضطر في تصرفي لأن أنقم من أبرياء، وأقرب مجرمين يحسنون الخداع والتدليس والشعوذة، فننهار جميعا، ونصبح في قبضة شداد، يذلنا ويستعبدنا وهو لا يرحم.
المشير :
مولاي، ليس اكتشاف هؤلاء بالأمر السهل، ما دام الشر كل الشر يكمن في حاشية صاحب الجلالة وفي أخصائه وموضع ثقته، وأكاد أصل، فليتكرم صاحب الجلالة بإمهالي بعض الوقت، أو فليصرفني من عملي إذا أمر.
الملك :
أراك مللت العمل، وما تعودت أن أسمع منك ما أسمع.
المشير :
مولاي، أفتسمحون لي أن أكون صريحا وعلي الأمان؟
الملك :
قل ما بدا لك.
المشير :
إننا مكبلون، لا نستطيع حراكا ما دمنا نتلقى الأوامر من الوزراء والكبراء، فمن نفوس بعض هؤلاء تنتشر السموم، فيختلط علينا الأمر، نعم، إن العرش أصبح في خطر، والعرش لمليكه، وللملك أن يحفظه ويحميه، فإن كنا نستحق ثقته فليتفضل بمنحنا سعة تامة في صلاحيات العمل، على ألا نتلقى أمرا إلا من صاحب العرش المفدى؛ لأنه بحكم وضعه يمثل مصلحة المملكة وصالح الرعية، ولا بد في هذه الحالة من أن نأمن الشغب والدس والنميمة، فنكون في جو من الصراحة لا تحجب أنوار الحقائق فيه سحب الشعوذة والتدجيل.
الملك :
ليكن لك ولمعاونيك ما أردت، وإنني أمنحك سلطة تامة تشمل جميع الناس، حتى وحيدي الصغير ولي العهد.
المشير :
ويكون ذلك سرا لا يعرف به أحد.
الملك :
نعم، فاذهب ونم بهناء.
المشير :
والله لن أنام في فراش بعد اليوم، حتى أكتشف مكمن الفساد والشغب، وأمكن مليكي من أن يضع الأمور في نصابها، سأطلق هررتي لتصطاد تلك الفئران، فتسلم الأمور لأربابها، ويرتاح الشعب، فلا يظل بقرة لا يصل صغارها للبن أمهم الحنون.
عاش الملك، يكلأ الشعب بعناية الله.
الفصل السادس عشر
قال الراوي: كان الوقت سحرا لم يتنفس عن فجره، ولم ينبثق عنه صباحه بعد، عندما طرقت دار الأستاذ الجليل طرقا خفيفا، استفاق له التلميذ الشاب، وأسرع إلى فتح الباب، إنها طرقات أنبأت عن موعد عقد في الأمسية الماضية، وتهيأ لها الشاب بأمر من أستاذه.
دخل الرجل متلففا بعباءة واسعة أخفت معالمه، وكان رجلا قصيرا، ترشح على وجهه الغامض أمارات الخبث والمكر والرياء، مع هيبة ووقار في طلعته، لا يستطيع إنكارهما من يراه وإن نفر منه، لم يسبق للشاب أن رأى هذا القادم، ولا يعلم عنه سوى قول أستاذه: إن سيدا عظيما سيطرق بابنا وقت السحر، فانتبه إليه، وأيقظني حالا بعد أن تعلمه أنني أصلي صلاة السحر.
لم يكد الرجل يجلس في قاعة الاستقبال حتى سأل عن الأستاذ الجليل، فأجيب بأنه يصلي صلاة السحر، فقال: نفعنا الله ببركاته. وكانت شفتاه تفتران عن ابتسامة ماكرة، أردفها بغمزات تعلن أنه يعرف كل شيء فلم يخدع، أسرع التلميذ وأيقظ أستاذه، ولم يخف عنه ابتسامة الرجل وغمزاته، فابتسم الأستاذ ابتسامة من لا يأبه للمكر لأنه أشد مكرا، وبعد أن أصلح حاله ولبس ثيابه بادر إلى استقبال ضيفه الكبير.
كان الأستاذ يتوهم أنه سيقابل شخصا مجهولا لديه، وإذا هو أمام أحد زبائنه، وما كان يعلم أنه وزير الميمنة كان يأتيه متخفيا، فدهش، وكان الوزير يبتسم ابتسامة الماكر الداهية. أهذا أنت؟ قالها الأستاذ وهو يرحب به ويحييه، بعد أن فثأ عن نفسه الدهشة، فأجابه الوزير: أنا هو بعينه.
الأستاذ :
ما كنت أنتظر أن أجتمع بصديق قديم عزيز في هذا الموعد المبارك.
الوزير :
بل قل: بتلميذ قديم، يعترف بالجميل، فقد أفدت كثيرا من نصائحك، وكانت نصائح خبير عالم، عرك الحياة وعركته، وها قد التقينا وعلنا نتعاون.
الأستاذ :
وكيف حالك مع شداد اليوم؟
الوزير :
إنني لا أزال أداوره.
الأستاذ :
وتداور الملك العادل معه، أراك تداور الاثنين، وتمكر بهما بدهاء الأذكياء.
الوزير :
ألم تعلمني أن الحياة مداورة ونفاق، وأن الإخلاص شيمة الضعفاء؟
الأستاذ :
أراك تلميذا نابها، استطاع أن يخدع ملكين عظيمين، وأن يثري على حسابهما وعلى حساب الشعب، فوسع شقة الخلاف بينهما، وظل صديقا لكل منهما، فما أشد مكرك، وما أوسع دهاءك!
الوزير :
وهل جئت أنت إلا لهذا؟
الأستاذ :
إنني مخلص لجلالة الملك العادل، جئت لأنقذه (قالها متصنعا الغضب) .
الوزير :
قه، قه، قه، قه، وهل بلغ بك الضعف درجة الإخلاص؟ ومتى؟ أيخلص من يملك شجاعتك في الاحتيال والشعوذة والخداع؟ أنسيت احتيالك على فلان وفلان، وخداعك لفلانة وفلانة؟ ومن أنقذك من حكم القضاء غيري؟ لولا يقظتي وحسن تصرفي، ولولا احترامي لذكائك وعلمك وخبرتك، ولولا أملي في أن أجد فيك خير معين على الأخصام، لكنت اليوم - كما تعلم - في أعماق السجون.
الأستاذ :
وهل كنت مطلعا على جميع هذه الحوادث، وقد اتهمت بها ظلما وبهتانا؟
الوزير :
ألا تزال تحاول مداورتي؟ لم أطلع وحسب، بل تدخلت في صالحك، وهذه وثائق الدعاوى أقيمت عليك، وما أراه تلك الوثائق حتى اصفر وجه الأستاذ، وارتبك ولم يعد قادرا على الكلام، فاستمر الوزير في حديثه بلهجة الظافر الواثق وقال: من هو الذي أغراك بالمجيء إلى العاصمة؟ لم يكن سوى رسول من قبلي، ألم يكن فلانا؟ ثم قام أتباعي بالدعاوة لك، ومهدت لك طريق الاجتماع بجلالته، وكنت ذكيا جدا بالاستيلاء على شعوره وأفكاره، ومن استطاع أن يجمع يستطيع أن يفرق، ولا سيما حين تكون هذه الوثائق في حوزته، إنك قد حققت ظني بك وحققت ظن شداد، فلنتصارح ولنتعاون إذا كنت لا تزال على طموحك في الثروة والوجاهة والنفوذ، وإلا فاذهب إلى بلدك لا يعرف أحد منك شيئا.
الأستاذ :
هه هه هيه، على رسلك يا هذا، وهل أنت من ملائكة السماء أم من قديسي الأرض؟ أتظن أن من أرسلتهم لاغتيال فلان وفلان قد كتموا سرك، ولم يخبروا به أحدا؟ أو تظن أنك في احتيالاتك ورشواتك بعيد عن أعين الرقباء؟ وهل في تشجيعك للمحاسيب والأقارب والمقربين على مخالفة القوانين خير لهذا البلد؟
الوزير :
وما لك تحاول رد التهم بخلق التهم؟ إنها لمراوغة جبان.
الأستاذ :
بل هي مدافعة عن الذات، وإنني أملك الوثائق، والله إنني جمعت ما يثبت آثامكم جميعا، أنتم حاشية الملك، ولم يعجزني سوى وزير الميسرة وقائد الجيش والمشير الأول، وسأجد لهم ما يلوثهم ولو في أجواء حياتهم الخاصة، فاطمئن، وما دمنا يعرف كل منا الآخر فلم المداورات وإضاعة الوقت؟! نعم، فلنتعاون.
الوزير (وقد افتر ثغره وبدا ضعفه خبيثا لئيما) :
ألا نتبادل الوثائق ونحرقها؟
الأستاذ :
على أن نكتب عهدا في التعاون.
اتفق المشعوذان الماكران على ذلك، وأحضر الأستاذ الجليل وثائقه، ونودي على التلميذ، وطلب إليه أن يحرق هذه الأوراق أمام أعينهما، ففعل، ثم تناقشا في نص العهد، فالوزير أراده مبطنا ينص على أنهما يتعاونان في صالح المملكة لينقذ بذلك الظواهر، وأصر الأستاذ على أن يكون صريحا، لا التواء فيه ولا تورية، فينص على أنهما يتعاونان على خداع الملك وشعبه، ويقتسمان المغانم والأرباح مادية ومعنوية، وانتصرت فكرة الأستاذ، واثقين بأنها تظل سرا مصونا، وضمانا لعدم حصول سهو أو نسيان، وأمضيا صك الخيانة والنفاق.
عندئذ وبعد أن احتفظ كل منهما بنسخة من ذلك العهد، التفت الوزير إلى شريكه الأستاذ، وقال بألم وضعف باديين: إنني أخشى تغير الملك علي.
وقص عليه ما جرى في الاجتماع، ثم روى له ما علم عن سهرة الملك وعن اجتماعه بمشيره الأول وكأنه كان حاضرا، وأكد له أن الملك يأمل أن يجد فيه روح أستاذه الشيخ الوقور موقد نار الثورة على أبيه.
الأستاذ :
وكيف اطلعت على ما لم تشهد من الحوادث وما عهدتك من المنجمين العبقريين.
الوزير :
لا أكتمك الحقيقة، وقد توحدت مصالحنا، فإن حاجب الملك هو جاسوس مخلص لي، ونستطيع الاعتماد عليه، ولكنني أود أن أنبهك لخطأ أوقعك فيه حرصك على اجتذاب قلب الملك، ولكنه يضر في مصلحتنا.
الأستاذ :
وما هو هذا الخطأ؟
الوزير :
إنك قد أوعزت بفكرة الحرية، وأطنبت أمام جلالته بحرية الشعب، وأنحيت باللائمة على طريقتي في التجسس، ولا أدري كيف يمكنك أن تتدارك كل هذه الأمور، وهي لا تنسجم مع ما صممنا عليه.
الأستاذ :
لا أريدك خوارا في عزيمتك، وقد أحسنت في إبلاغي ما جرى للملك، وسأتدبر الأمر فاطمئن، وأما اهتمامك بما قلته عن الشعب وحريته، فإنه يدل على ضعف في كياسة السياسة، ولا أدري كيف فاتك هذا الأمر، إننا نعطي من نخدع ما يحب وما يريد؛ لنأخذ منه ما نحب وما نريد: الحرية، العدالة، الرحمة، وما ماثلها، إنما هي كلمات يؤخذ بها المغفلون، ونستغلها نحن لمصالحنا، إننا لم نتورع عن استغلال الأديان على سموها وعلى شدة تأثيرها، أفنعجز عن استغلال هذه الكلمات، إنها كلمات تسحر عيون الناس وتعمي قلوبهم ما داموا لا يفقهون لها معنى، فلم نتورع عن استغلالها؟ هي سلاح خصومنا، فلنسلبهم سلاحهم هذا، ولنتخذه سلاحا لنا، إنما يخشى علينا منها، إذا ما فقهوا معانيها، واتصلت بنفوسهم على حقيقتها، وسترى كيف سأشوش على الملك وعلى الشعب فهم معاني هذه الكلمات الساحرة، سيختلط عليهم الأمر، فتدرك كيف نتخذها وسائل لإلقاء أبواب السحر، نحن السحرة لا نكتفي باستخدام عالم الجن ولا بالاتصال بعالم الأرواح، بل نستخدم هذه الألفاظ ولا سيما المبهمة منها، وهي أكثر تأثيرا في استعباد الناس من الجن والشياطين والأرواح والشعب، ألا تزال تؤمن بخرافة الشعب؟ إنه وثني ألفاظ، يساق بها كما تساق الماشية ما دام جاهلا مغفلا، وإذا اضطررت لتعليمه فاثقل المنهاج وغرر بالمعلمين، كن مطمئنا، وثق بي، ولا تعجل، فالعجلة من الشيطان يزل بها الإنسان.
وما بلغا من حديثهما هذا الحد حتى دخل التلميذ، ينبئ الأستاذ عن وصول رسول الملك مع بعض الأتباع، وإنهم يقولون: إن جلالته في انتظار الأستاذ الجليل.
ظهر الفزع على الوزير، فابتسم الأستاذ قائلا: ابق هنا مع تلميذي إلى أن يبعد بي الموكب، وإلى اللقاء، وابتسم كل منهما للآخر ابتسامة المكر والنفاق.
الفصل السابع عشر
قال الراوي: استقبل جلالة الملك العادل الأستاذ الجليل بحفاوة بالغة في صبيحة تلك الليلة الساهرة البيضاء، وكان لا يزال متأثرا بتخيله، إن روح ذلك الشيخ، قد بعثت في ناسوت هذا الأستاذ الجليل، وأصبح ينتظر على يديه الإنقاذ من بلبلة الأزمة، أهلا بأستاذنا الجليل. قالها الملك بنبرة الآمل الواثق وأردفها بقوله: كيف أصبحت؟ فأجابه الأستاذ بهلجة تذلل العبد الخاضع متخذا هيئته: على خير ما أرجو لسيدنا ومليكنا صاحب الجلالة المفدى، كانت ليلتي بيضاء ساهرة، قضيتها بالصلاة، أبتهل إلى الله، جلت قدرته، أن يكلأ المليك العادل الكبير بعين عنايته، أن يسدد خطاه في الاعوجاج ودرء الفساد، ويرشده إلى ما فيه من خير العباد وإصلاح الرعية، أطال الله عمر جلالة الملك، وأدامه ذخرا للأمة، وحقق معاني تلك الرؤيا الصالحة، وقد رأيتها بعين اليقظ الواعي آمين.
أمر الملك الأستاذ بالجلوس بجانبه، ولم يكن معهما أحد، ثم نادى الحاجب وأمره بإقفال الباب والامتناع عن الاستئذان عليه، والتفت إلى الأستاذ الجليل بوضع المطمئن الواثق وقال: اقصص علي تلك الرؤيا الصالحة، أيها التقي الصالح، فتململ الأستاذ، وانحنى انحناء المتواضع يهاب الكبر، ويأبى الغرور والادعاء، وأخذ يفرك بيديه ويقول: لم تكن يا مولاي رؤيا منام، وإنما كانت رؤيا يقظة وهيام، فلله عباد يهيمون بحبه وينقطعون إليه، فيتهجدون الليل، ويقضونه بالصلاة، والذكر والدعاء، فلا ينامون، وفي هدأة الليل البهيم وسكونه، وفي صميم طمأنينة الصلاة وحلاوتها، تنخطف روحهم إلى العوالم الأخرى، ويتمتعون بمشاهدة قدرة الله في أكوانه وعوالمه، ويسيحون في ملكوته، فيزداد إيمانهم، وتربو حسناتهم، وتنمو أرواحهم، ويتنسمون نسيم السعادة الأبدية والهناء السرمدي، وكثيرا ما ينعمون في انخطافهم هذا بالاجتماع برجال الله الصالحين، من أنبياء وحكماء، وبملائكته الأبرار. هنا أخذت الملك قشعريرة قوية، ارتعش لها جسده، واهتز رأسه، إنها قشعريرة الخشية والانجذاب، ثم تمتم قائلا: أكمل حديثك يا رجل الله، نفعنا الله ببركتك. فازداد الأستاذ الجليل تملقا وخشوعا بعد أن أصبح في نظر مليكه من رجال الله الأبرار، وأخذ في حديثه - وهو يتلبس بأوضاع أولئك الرجال الصالحين في تذللهم لربهم، وبهيئاتهم - وكان بارعا في تمثيله الرائع: وكأني بالإله الرحيم الحكيم قد أراد أن أكون مظهرا لرضائه على عبده جلالة الملك العادل، ودليلا على عنايته به، فأنعم علي في تهجدي هذه الليلة بانخطاف روحي، نقلني من عالمنا هذا إلى عالم من عوالمه، ولا يعرف مداها إلا هو تبارك اسمه، فرأيتني في قصر منيف، أين منه قصور هذا العالم؟ فقد وجدت فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من نعم الله وآياته، ثم انتهى تطوافي في أرجائه إلى حديقته المتسعة الغناء، وكانت وارفة الظلال والنبات، وإذا أنا على مقعد بين يدي شيخ جليل وقور، فحبوت لأقبل يده لشدة ما تهيبته، فلم تقع يدي على شيء، فتذكرت أنني في عالم الأرواح ترى ولا تلمس، فضممت ذاتي إلى ذاتي وانكمشت على نفسي، وقد أخذتني رعدة لم ينقذني منها سوى صوته الهادئ الرخيم يقول: هدئ من روعك، فإنما أنت في دار أمان وسلام، إنه شيخ وقور قد تجاوز التسعين، إلا أن مظاهر همته ونشاطه تجعله في الستين على الأكثر، لولا نصاعة بياض شعره، إنه طويل القامة، عريض المنكبين، بارز الخدين، وعيناه واسعتان يشع منهما أنوار الصفاء والذكاء، صمت قليلا وعلى وجهه أمارات التفكير والتأمل، ثم نظر إلي محدقا وقال: كيف حال الملك؟ ولم ينتظر مني جوابا، والحقيقة إنني كنت معقود اللسان لا أستطيع الكلام تهيبا ودهشا، وأرجو من صاحب الجلالة أن يسمح لي بنقل ما قاله بالحرف؛ لأنني أجهل مضامينه، ولا يجوز لي أن أحرف رسالات الأرواح الطاهرة، وتوقف الأستاذ عن الكلام إلى أن أمره الملك المشدوه بأن يتم حديثه، وأن يروي ما سمع بالحرف دون زيادة أو نقصان.
بعد فترة تململ وتردد، خفض الأستاذ رأسه، وقال بلهجة المأخوذ الغائب عن الوجود: سمعته يناديني باسمي يا مولاي، ويؤكد علي بأن أنقل إليك قوله: «أنسي الملك أستاذا حفظ له عرشه؟ أنسي قول والده: لتكن روح أستاذك دائما معك ولا سيما عند الشدائد، أخمدت نار روح الثورة في نفسه، فالتفت حوله حاشية السوء؟ وكل ما أخشاه هو ما أنذرته به منذ ثلاثين سنة عندما اعتلى العرش، من أن تنقلب الثورة عليه، ولولا أنه يذكرني الآن، ويذكر حكاية الساحر والفأرة لما ذكرته ولما اهتممت بشأنه، ليذكر ما مضي وليعتبر، فلا يجمع حوله الفئران - صغار النفوس - المتلبسين بعنجهية غطرسة اللؤم والجحود، أولئك هم أولاد الحرام، كن له خير مرشد ومعين، وباعتماده عليك يعتمد علي أنا مرشده وليا للعهد؛ لأن روحي تحل في ناسوتك، وتتحد بروحك، فنعمل معا على إنقاذه وإنقاذ العرش، وقد أصبح في خطر، هذه إرادة الله، وفي نهاية قوله هذه إرادة الله، وجدت نفسي في غرفتي، أسبح وأذكر، وأنا مدهوش لما رأيت، مأخوذ مما سمعت، أنتظر أن أتشرف بالمثول بين يدي مولاي صاحب الجلالة علي أطلع على ما في عبارات هذه الرؤيا الصالحة من مغاز وأسرار، وأقسم بالله، إنني لم أفقه شيئا من ألغازها، وهنا سكت برهة، ثم قال: ولعلها أضغاث أحلام خدعت بها، فأستميح مولاي العذر على جرأتي في ذكرها أمام جلالته»، لم يكن ليخفى على الأستاذ وهو ينطق بهذه الجمل بتؤدة وهدوء وخشوع، حال الملك مأخوذا بما سمع في موافقات مواقف الرؤيا وهمساتها، لمواقف تأملاته وهمساتها، وما كاد يسمع من الملك قوله: كلا ليست أضغاث أحلام وإنما هي الحقيقة بعينها، وما كان يتحقق قوة تأثير أقواله في تأملات الملك وقد أصبح في شبه غيبوبة، حتى ارتعش الأستاذ ارتعاشة قوية وهو يقول: مولاي مولاي، ألا ترى الشيخ الوقور معنا الآن؟ إنه هنا، ينظر إليك بعين الرضا، نعم إنه بيننا ينظر إليك، ويحدق نظره بك، وكأني به يريد أن يتكلم، ألا تراه يا مولاي؟ ألا تسمعه؟ وكالمنوم أو المصروع رأى الملك شبح أستاذه الوقور بعينيه وسمع صوته بأذنيه يقول: ذكرتني فذكرتك، وإنني مطمئن ما دمت تستمع لهذا الأستاذ وتعمل بإرشاده، ففيه حلت روحي واتحدت بروحه، فلا خوف عليك ما دام معك، هذه إرادة الله، واختفى الشبح، وغاب الملك عن وعيه، وغرق في سبات عميق، ورأسه على صدر الأستاذ اليقظ الواعي والمشعوذ الخطر.
تردد راوي هذه الحكاية في تعليل هذه الظاهرة، وفي تفهم أسرارها، سحر المشعوذ عيني الملك وهذا مألوف، إذ كثيرا ما يسحر الدجالون المشعوذون أعين الناس، فيجعلونهم يرون ما ليس له وجود، ولكنه كيف سحر أذني الملك فسمع بهما ما سمع؟ أتكلم الساحر من بطنه، وخدع الملك، فتوهم الصوت يصدر عن الشبح؟ أم أن الوهم يتصل بالأذنين كما يتصل بالعينين في سحر المشعوذين؟! كلاهما ممكن، وكيفما كان الواقع فالأستاذ قد أنفذ وعيده، وألقى باب الوهم على الملك، فملك عليه قلبه وحواسه، ويذكر القارئ النبيه أن باب الوهم - كما سبق وألمعنا إليه - هو من أبواب السحر، وهو صنو الصرعة، وإن شياطين الوهم - وقد هدد الساحر بها - تستحوذ على العينين والأذنين والقلب والدماغ وعلى جميع الحواس، فتجعل الإنسان يتوهم أنه يرى وهو لا يرى، وأنه يسمع وهو لا يسمع، وأنه يأكل ويشرب وهو لا يأكل ولا يشرب، وأنه يفكر ويعبر وهو إنما يخلط ويهذي ويثرثر.
والمشعوذون إنما يؤثرون في المستضعفين من الناس وهؤلاء أنماط: فمنهم من يتأثر لغفلته بتأثير الجشع والانقياد للمطامع والمآرب، ومنهم من تصرعه غباوته لجهله أو استهتاره أو فجوره وفساده، ومنهم من يرتاح للدجل والشعوذة، ولكنه عاجز عن تحمل أسرارها، وتمثيل أدوارها الصعبة؛ لأنها بحاجة لاستعداد قوي في المكر والخداع ولذكاء متقد، فيدخل في الدعاوة لدجال ماكر، ويتظاهر أنه رأى وهو لم ير، وأنه سمع وهو لم يسمع، وأنه أكل وشرب وهو لم يأكل ولم يشرب، وإنما يلذ له أن يخدع نفسه ويخادع الناس، فيغرب بالحوادث ويغالي في رواية الأخبار، وقد ينتهي به الأمر بأن يسحر فعلا فيصبح هو الغافل الغبي صريع الشعوذة والتدجيل، ومليكنا من النوع الغافل، شغله عن ذاته خوفه على العرش، وكم أذهبت العروش من عقول، وإنه الآن في سباته مشغول بما أراد له الساحر من أحلام، فلننتظر فيأته ويقظته لنراقب في واقع الحياة مسير الحوادث والأحوال.
الفصل الثامن عشر
قال الراوي: لم يكد الملك يحرك رأسه حركة خفيفة إيذانا باستفاقته من غيبوبته، حتى بدأ الأستاذ يتمتم بكلام غير مفهوم، يحرك معه يديه المبسوطتين فوق الرأس حركة ، توهم أن الرقية - بحكم دورها - هي التي توقظ الملك، فافتر ثغر الملك وهو يفتح عينيه عن ابتسامة رضى، عبرت عن عرفانه بالجميل، ثم صرخ قائلا: لا بد لي من إعدام ذينك الشابين الوقحين وقد اجترآ على رجل عظيم من رجال الله العالمين العاملين، إنني وقد كشف عن بصري في غيبوبتي هذه، قد تمثل لي مشهد تلك الوقاحة بوضوح وجلاء، وأرى أن وراءها ما وراءها، وستصيب نقمتي الخائنين جميعا، مهما سما شأنهم، وأيا كانت صفتهم، إن شعلة الثورة لا تزال تتقد بين جنبي، ولن أتوانى في الأخذ على أيدي الخائنين، وقد بلغت وقاحتهم التعرض لكرامة من أجل من رجال الله المخلصين.
لم يكد الملك يبلغ من هذيانه هذا الحد - والساحر الماكر يعلم جيدا أنه إنما كان ذلك بتأثير تهيج أعصاب من يهزه باب الوهم في السحر، وأنها نوبة لا بد أن يزول أثرها، فيعود الملك إلى صوابه، ويدرك مبلغ الظلم في إعدام من لم يعدم نفسا، ولم تثبت عليه خيانة ما - حتى تلبس بمظاهر أهل التقى والورع، وهو البارع في تمثيل أدوار النفاق والدجل، وقال وهو يرتعش «من خشية الله»: مولاي مولاي، حلمك ورضاك، لا نستطيع - وقد أنار الله قلوبنا بالإيمان - أن نوافق على الانتقام ممن يلحق بنا الأذى، لا أرى في الناس لي عدوا وإن ألحق بي الضرر؛ لأننا أمرنا بأن نحب أعداءنا، ونعدل في شانئينا، ونحسن لمن يسيء إلينا؛ لأن الله ربنا جميعا، يحب المحسنين، ويجزيهم رضوانه، فامنحني هذين الشابين وأنا الكفيل بإعادتهما لجادة الصواب، إنه مس من الشيطان أصيبا به، فاستقر في قلب كل منهما جني، سأخرجه بإذن الله، ويصبحان من أخلص عبيد مولاي صاحب الجلالة، وكم أخرجنا من قلوب الناس من جان وشياطين وعفاريت، هذه هي رسالتنا في هذه الحياة، ننفع الناس، ونتحمل أذاهم، ولا ننتظر جزاء ولا شكورا.
فتن الملك بقول المشعوذ - كما سبق وفتن بفعله وألاعيبه - فارتفع في نظره إلى درجة القديسين من الأولياء والأنبياء، ولا غرابة، ألم يستحضر له روح أستاذه وقد رآه بأم عينيه، وسمع حديثه بأذنيه؟ أبعد الحس يرتفع دليل؟ ثم، ها هو يعفو عمن أهانه وآذاه بتسامي القادر على الانتقام، المترفع عن مقابلة الشر بالعقوبة، وعن إلحاق الأذى بأعدائه وشانئيه، إنه لخلق عظيم تقترن به الأعاجيب، وهل يصدر هذا إلا عن الصديقين الأبرار من رجال الله؟ وما أسعد من يهيأ له مرشد من هؤلاء! فما أسعده هو الملك العادل بهذا المرشد الإلهي العظيم! وهكذا سيطر المشعوذ على نفس مليكه، واستولى على إرادته، فأصبح الصديق القديس البار، لا يرد له طلب، ولا يرقى إليه الخطأ، فلم يجد الملك مناصا من أن يسأله: وما رأي الأستاذ الجليل في هذين الشابين الأحمقين المأفونين؟ فأجاب: لعل الخير يا مولاي في أن يصدر أمر جلالتكم السامي بنقلهما إلى داري مكبلين بالحديد، حيث يظلان تحت رقابة تلميذي إلى أن أعود إليهما، فأعمل على إصلاح ما أفسده في نفسيهما ذلك المشعوذ الدعي. وعنى أستاذهما الحكيم.
لم يستمع الملك لما قاله الأستاذ الجليل حتى أمر بتنفيذ إرادته على الفور، فأرسل الأستاذ إلى تلميذه يوصيه بالاحتفاظ بهما على وضعهما وحراستهما إلى أن يعود، ثم التفت جلالته، وقال: وذلك المشعوذ الدعي الذي يفسد علينا شبابنا أفلا يستحق الموت؟! فارتعش الأستاذ، ورفع أصابع يديه، ثم نفض طرف جبته وقال: نجنا اللهم من أن نضطر لإزهاق النفوس، لو تمهل مولاي الملك وترك لي تدبير الأمر بتؤدة وحكمة، إن في قتل هذا المشعوذ الدعي حياة له، وخلودا لفكرته، وهذا هو شأن أمثاله من المشعوذين يدعون التفكير والإصلاح، ألم يبلغكم ما قاله أحدهم، وقد اكتشف الحقيقة وقال:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
إنني سأنفذ رغبة مولاي، وسأقتله بتدبيري؛ لأنه مجرم يستحق الإعدام، إنني سأقتله قتلا معنويا روحيا، فأفض جمعه، وأفرق ما حوله من شباب ورجال، بتوزيع المناصب والأعمال الحكومية على البعض، وبمنح الأموال لآخرين، وبالوعد والوعيد، ثم بنشر عيوبه، وجل من لا عيب فيه، بين الناس، ولعله يجوز لنا هنا أن نعتمد على الأراجيف فنبثها حوله، فلا يقترب منه الناس خشية ورهبة، فهو ملحد كافر، وهو فاسد فاجر، يجمع حوله الشابات والشبان والنساء والرجال، وهو محتال ماكر، يتخذ المثل والقيم وسائل لإشباع الأطماع من مال ومناصب ونفوذ، وهو ... وهو ... وسيكون هذان الشابان من وسائل التمهيد لحملة لا هوادة فيها.
الملك :
ولكنني علمت أن الناس - ولا سيما الشباب - شديدو التعلق بمبادئه وفكراته، وهم يجلونه إجلالا كبيرا، ويفتدونه بالأرواح.
الأستاذ :
ومتى كان للناس ذمام؟ ولا سيما عندما يسري نسيم المال بين جموعهم، ويتغلغل أمل المناصب والأرباح في نفوسهم، ولا تسل عن اهتزاز القلوب للوعود، تصدر عمن يتوهمون فيه القدرة على الإنجاز، ليطب مولاي نفسا وليقر عينا، فشئون الدولة أصبحت في يدي صناع ماهر، لا يخشى فشله، المهم أن يمنحني مولاي ثقته، وأن يوسع علي ميادين العمل والسلطة بأمره وعلى عينه.
الملك :
لك ما تشاء، ولكننا شغلنا بالمهم عن الأهم، فما رأيك بأبناء الحرام؟ وكيف نستعيض عن طريقة التجسس، وقد ضاق الناس بها ذرعا لنختبر مواليد الناس؟ ألا تراني على حق في الاهتمام باختيار أبناء الحلال للمناصب والأعمال؟ إنني أرى أن وزير الميمنة قد خدعني، عندما اقترح علي التجسس على الناس، ولكنه كان مصيبا في نظرته إلى أبناء الحرام.
الأستاذ :
أراه قد أصاب في الفكرتين، ولكن أبناء الحرام - وقد انتبهوا للأخطار تحيق بهم - استطاعوا أن يشوشوا على الثانية، وهي طريقة الاختيار بالتجسس، ولم يستطيعوا أن ينقضوا الأولى، وهي فكرة اختيار أبناء الحلال، والتشويش على طرائق تحقيق الفكرات أسهل من التشويش على الفكرات ذاتها، ولكن مكرهم سيعود إليهم، وسيستقر كيدهم في نحرهم، فأنا لا أشك بإخلاص وزير الميمنة، وأثق بحصافته وذكائه، وأتبنى فكرته، وأراها فكرة صحيحة صالحة، وإذا ما وجب أن نفكر في تغيير الطريقة، فلا يكون ذلك تجريحا لطريقته، ولكن لإيقاف دسائس التشويش عند حدودها، ولدي طريقة سحرية تحتاج لوقت وجهود، وما كنت لألزم نفسي بها على شدة ما توجب من إرهاق، لولا ما توجبه علي عبوديتي لمولاي من فرائض وواجبات يسترخص معها كل غال نفيس، ويستسهل كل صعب مجهد بله الحياة.
الملك :
ما هي الطريقة المثلى؟ أوضح بربك، وكل صعب يسهل، وكل عثرة تزال، إذا لم تكن من ذلك النمط، وقد أرهق الناس.
الأستاذ :
هي طريقة لا يشعر بها الناس، هناك تاج سحري أصطنعه بما أحصل عليه من تحف الكنوز، بقوة الأرواح والجن والشياطين، ولا يراه على رأس صاحب الجلالة سوى أبناء الحلال، وقد أمرني أستاذك الشيخ الوقور بصنعه، ووعدني بالمساعدة والتأييد.
الملك :
وهل يستغرق صنعه الوقت الطويل؟
الأستاذ :
إنه يحتاج لسنين لا تقل عن الثلاث، ولكن عون الملك وتأييد الأستاذ وعناية الله تمدني بقوة خارقة آمل معها أن أكتفي بستة من الشهور، وهذا أقل ما يمكن، وشهور ستة ليست بالوقت الطويل.
الملك :
وبم أستطيع عونك؟
الأستاذ :
بالمال وبالسلطة؛ لأنني سأحتاج لاستغلال أرواح بعض الناس ونفوسهم لتساعد الأرواح العلوية والجن والشياطين، وبغير ذلك لا أستطيع اختصار الوقت، فإما أن أوفر على جلالتكم وأعمل سنوات وإما أن أعان وتبسط يدي فأكتفي بستة من الشهور، والأمر لمولاي.
الملك :
لك كل ما تريد على أن تعدني بإتمام العمل في ستة أشهر.
الأستاذ :
أعد مولاي صاحب الجلالة بأن أتمم صنع التاج بمدة لا تتجاوز الشهور الستة إن شاء الله.
الفصل التاسع عشر
قال الراوي: سر الملك للتاج السحري الذي وعد به، وبعث تخيله لعظمة ذلك التاج وروعته زهوا في نفسه، ملأ كيانه، إنه سيتفرد به بين ملوك زمانه، وكم أيقظ حب التفرد من غرور، وسيكون لأزمة التجسس حل يهتدي به لأبناء الحرام؛ فيبعدهم عن نعيمه وعن حمل التبعات، فالتفت إلى الأستاذ الجليل، وقال بصوت المطمئن المستسلم: قد وثقت بوعدك، وها أنا أصدر أمري للخازن بأن يمنحك ما تحتاج إليه من مال، وسأدعو رجال الدولة وأركان المملكة لطعام الغداء وتكون معهم، فيدركون مقامك عند الملك، فلا تقف في سبيل مشروعك عثرات، ولا تكتنفه صعوبات، وسأخصص لك قصرا بجانب قصري، يكون مسكنا لك إلى أن تستقر الأمور على وجهها الأمثل.
ما سمع المشعوذ الماكر بما وعده الملك من عطاء وعناية، حتى كاد قلبه يطفر من عينيه لشدة فرحه، ولكنه - وهو الماكر الخبيث - رأى الموقف يدعو لإظهار العفة والتواضع، فوقف منحنيا انحناء العبد لسيده وطفق يرتل آيات الحمد والثناء، ويدعو لمليكه العظيم الجواد بدوام العز والتوفيق والإقبال، مؤكدا إخلاصه في عبوديته وصدقه في خدمته إلى أن يسيطر «الحق» ويهزم «الباطل»، ويتميز «أبناء الحلال عن أبناء الحرام» إلى أن قال: يعلم مولاي صاحب الجلالة أن مثلي لا يطمع بمتاع الدنيا، وإنما يقصد وجه ربه، وبما أن عطاء الملوك لا يرد، أسترحم من السدة الملوكية أن تسمح لي باستمرار السكنى في بيتي المتواضع، على أن أتخذ القصر، وقد تفضل به صاحب الجلالة للاجتماع بأركان الدولة وبالناس، ولعقد المجالس التي تقتضيها الحاجة في إتمام صنع التاج، وأرجو أن يوافق مولاي على أن تدفع الأموال لمن أحتاج لإعانتهم ببيان تتفضلون بالموافقة عليه حتى لا أمس بيدي ما يتورع النساك الزاهدون عن الاغترار به من حطام الدنيا وأموالها، ولا بد لي من التأكيد بأن هذا التاج إنما يأتي بمواده، بقوة الأرواح الأرضية والسماوية، شياطين الوهم من كنوز ملوك الجان، ولولا ما يستلزمه هذا السحر من نفقات لما ذكرت المال على لساني. وهنا رفع رأسه إلى السماء مناجيا ربه، وهو يهدر قائلا: اللهم غفرانك.
أفعمت نفس الملك إعجابا بالأستاذ الساحر، وهو لا يزال يأتيه بالدليل تلو الدليل على تقاه وورعه، وعلى صلته بربه وإخلاصه لمليكه، فأكد له الملك بأنه يطلق له التصرف باستخدام المال لمشروعه على الوجه الذي يراه موافقا دون أن يحتاج للموافقة، وأن القصر له يتخذه لما يفضل من أعمال، ولكن لا يسمح له بأن يمتنع عن تناول الغداء.
الساحر :
لم نتعود تناول الطعام على موائد الملوك، ولا يليق ذلك بمن وهب نفسه لله من النساك الزاهدين، ولكنني أحرص على أن أتعرف بحاشية صاحب الجلالة وبأركان دولته، لما لذلك من صلة روحية بصنع التاج وحسن تأثيره، فلتكن مشيئة الملك، وقد ثبت لي مما رأيت وسمعت أنه قريب من الله، ربنا جميعا.
تهلل وجه الملك لقبول الأستاذ ضيافته، وإنه ليعلم أن الصالحين من النساك والزاهدين كانوا فعلا في تلك العصور يتورعون عن أموال الحكام، ولو ملوكا، وعن طعامهم، لما يعتقدون فيها من الشبه، ولم ينتبه الملك المأخوذ بشعوذة الساحر وبسحر بيانه إلى مداورته في حديثه، وقد جعل القصر وقد أراده الملك أن يكون لسكن الساحر مؤقتا، عطاء ومنحة ووسيلة زهو، فحوله لهبة دائمة، وكل ذلك عن طريق التورع والتقى والعفة والتواضع، فسبحان من حير العقول في تكوين خلقه!
لم ينتبه صاحب الجلالة لكل ما يقوم به المشعوذ من مداورات واحتيال، وقد أصبح مستسلما إليه بعد ما رأى من عجائب، وبعد ما سمع من عبارات التقى والورع والزهد والعفة والترفع عن حطام الدنيا، فلم يعد باستطاعته أن يحمل قوله على غير محمل حسن الظن والقداسة، ثقة منه بطيب نفسه وبصحة تفكيره ورقة شعوره، وباتصاله بعالم الملكوت؛ لذلك أراد أن يصرف المدة الباقية لموعد الغداء مع رجل الله، يستطلعه رأيه في أحوال المملكة، فوجه إليه السؤال التالي:
الملك :
ينقل إلي من حين لآخر شكوى الشعب من إسراف الدولة ورجالها، ومن تفشي الرشوة وإثراء أكثر أرباب المناصب، ولا سيما الكبار، على حساب الشعب في إفقاره وتجويعه، ووزير الميسرة يؤيد ما يقال، ويطالب بقطع أيدي هؤلاء المسرفين المرتشين، فما رأي الأستاذ الجليل؟
الأستاذ :
غريب والله أمر هذا العصر وبنيه، فمتى كان للشعب أن يتطاول إلى رجال الدولة وأركانها فينقد أعمالهم؟! إن الشعب رعية، وهل يحق للرعية أن تناقش راعيها؟ انقلبت الأوضاع وفسد الزمن، ثم ماذا يرى الشعب؟ إسرافا؟! وهل تقوم هيبة الدولة على غير الإسراف؟! إننا محاطون بدول، يقصدنا سفراؤها ورجال الأعمال فيها، وهم يتصلون بالأمراء والوزراء ورجال الوجاهة والنفوذ، وكثيرا ما يتصلون بصاحب الجلالة نفسه، فهل يجد هؤلاء سلطانا للدولة إلا فيما يمد لهم من سمط وموائد، وفيما يقدم لهم من أطعمة وهدايا وبإسراف؟ وهل يشعرون بهيبة الدولة إلا فيما يبني رجالها من قصور وفيما يعمرون من قرى؟ وهل إذا ما قبل هؤلاء هدايا الناس ومكافآتهم ليقوموا بواجب تشييد القصور وإعمار القرى يكونون مرتشين؟ أعوذ بالله، إنما هي ضريبة غير مباشرة يتقاضونها، ولو مالوا في ذلك لخزينة الدولة لأفرغوها وأصبحت خاوية، الرشوة إنما وضعت كلمتها لمنع صغار العمال في الدولة من استيفاء مثل هذه الضريبة لإطعام أولادهم الجياع، وهي ليست من حقوقهم، وليس لها أن تقف في سبيل ما تستدعيه هيبة الدولة من زهو في نفوس رجالها، ومن ترف في حياتهم، فهذا حق طبيعي لهؤلاء الأشراف المهذبين والذوات المختارين، وإنما الشعب رعية للملك ومقربيه، وهو غنم لهم، يقتسمونه حسب مشيئة الملك ورعايته. أما إفقار الشعب وتجويعه فهي سياسة حكيمة يجب على الملك اتباعها من حين لآخر ليظل المسيطر على مقدراته، ومتى استمر شبع الشعب وثراؤه، يخشى منه على العرش وعلى من حوله من المؤيدين، هذه هي سنة الكون، والناس طبقات، ولكل طبقة حقوقها، والملك وحده هو الذي يملك حق التصرف بكل ما في المملكة من رعية ومقتنيات، وليس لأحد أن ينافسه في ذلك بله أن ينازعه، يا سبحان الله! انقلبت المفاهيم وأصبحنا في عصر كله سخف وحماقات وغرور وشذوذ، أسأله سبحانه وتعالى أن يلهمنا طريق الصواب، فنوقف كل إنسان عند حده بمعاونة أبناء الحلال، آمين، ولعل مولاي يستغرب هذا البيان مني وأنا الناسك الزاهد المنصرف إلى الله؟ ولكن للدين نظامه وحدوده وللملك والسلطان والدولة نواميسها ومقتضيات تطوراتها وأحوالها، ولا يظلم من يتبع النواميس والتقاليد.
الملك :
ولكن ألا يتنافى ما تقول مع ما تدعوني إلى تحقيقه من حرية وعدالة؟
الأستاذ :
مولاي، إن للحرية حدودا وإلا كانت فوضى، وحدودها الإنسانية الصحيحة هي هيبة العرش وسلطة الملك، وزهو خواصه وحاشيته ومؤيديه وترفهم، وهذا هو العدل بعينه، فلكل حقه حسب طبقته، والناموس الأكبر هو في أن يظل الناس جميعا عبيدا للعرش ولصاحبه، فللناس أن يأكلوا ما يصلون إليه من طعام كما يشاءون، وأن يعملوا في المهنة التي عليها يتمرنون، وأن يلبسوا ما يجدون كما يريدون، وأن يفرحوا، وأن يتنزهوا، وأن يقوموا بأفراحهم حسب تقاليدهم، وأن ... وأن ... فمن يعترض عليهم؟ فهم أحرار في تصرفاتهم، وها إن جلالة ولي الأمر قد أوقف التجسس عن أعراضهم، فماذا يبغون بعد ذلك؟ أويريدون أن يتطاولوا إلى صاحب العرش ومقربيه؟ هذا لا يكون؛ لأنه فوضى لا أثر للتحرر فيها، وهي الظلم المبين وبها خراب هذا البلد، أنقذنا اللهم من أبناء الحرام الذين يوسوسون في الصدور ويقولون ما لا يعقلون.
الملك :
ويظهر أن الناس يطالبون بالمساواة ولا سيما مساواة المرأة بالرجل، ويشددون في هذا الطلب على ما علمت، فما الحيلة؟
الأستاذ :
المساواة بين الطبقات؟ وبين المرأة والرجل؟ إطلاقا، أين نحن؟ وفي أي زمن؟ حتى المرأة تتطاول! وهل بلغ الضعف بالرجل حده الأقصى حتى أصبح يؤيدها في مطلبها هذا؟ أكاد أتهم نفسي بالخبل والجنون، والله لبطن الأرض خير من ظهرها إذا ما استمرت هذه الترهات، ولكن لا، فسنعمل على إحباط مساعي المفسدين، وهم إنما يريدون لنا الفوضى في حياتنا.
وهنا أعلن موعد الطعام، فذهب الملك وضيفه إلى المائدة، حيث كان رجال الدولة المدعوون في انتظار الملك، وسيستمر حول المائدة الحديث.
الفصل العشرون
قال الراوي: جلس صاحب الجلالة، وأجلس الأستاذ الجليل عن يمينه بعد أن قدمه بصفته المشير الخاص للملك، فتقدم الحاضرون واحدا واحدا إلى مصافحة المشعوذ مقدما له نفسه باحترام كلي، وكان الانكماش باديا على المشير الأول ووزير الميسرة ومن والاهما، مسرين في نفوسهم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، أما وزير الميمنة ومن والاه، فإن البشر كان يطفح على وجوههم معلنين عن غبطتهم بما شاء الله، اللهم احفظ للملك هذا الرجل الحكيم، رجل الله الأمين، واجعل البركة في حياته وامنحه التوفيق، آمين.
لم تغب هذه الأوضاع عن نظر الملك، ولكنه كان قد قرر في نفسه ألا يثير أية قضية قبل أن ينجز صنع التاج، وسيلة التفريق بين الحق والباطل بالتمييز بين أولاد الحلال وأولاد الحرام.
مضت لحظات صمت مهيب، هي من ضرورات الاجتماع مع الملوك؛ ليتخذ المجلس وضعه الوقور في حضرة صاحب الجلالة، ثم صدرت عن جلالته إشارة خفية يدركها الخدم، فبدئ بتقديم الطعام، ويكفي أن ندرك أن المائدة هي مائدة ملكية؛ لنتصور ما يقدم فيها من شهي الأطعمة المتعددة المتنوعة، يتقطر الترف من أفاويهها وأدهانها وألوانها، لدقة الصناعة في تحضيرها وللعناية في اختيار مقبلاتها وعرضها، وما كادت تفوح روائحها الذكية الطيبة، حتى كاد يغشى على صاحبنا الأستاذ الجليل؛ لما نعلم من شدة شرهه، ولكنه - وهو الواعي القوي الإرادة - تماسك وصبر، ولا سيما وهو في وضع يلزمه فيه التظاهر بالزهد والنسك والتعفف عن حطام الدنيا، فبدأ يأكل بتؤدة واعتدال، محاولا أن يتناول القليل من بعض الأنواع، ولكن شهوته المتأججة كادت تمزق أحشاءه.
وفي حومة هذه المعركة التي تثير الشهوات، افتتح الملك الحديث، ولم يكن يحق لغيره أن يفتتحه، فكانت هدنات تقطعها فترات، يتناول فيها المدعوون بعض لقيمات، وقد تعود الجميع هذا الطراز من المؤاكلة مع جلالته، ولكن الأستاذ كاد يموت غيظا وهو الذي لم يتعود مؤاكلة الملوك، فالتزم جانب الصبر، وساير الحضور فيما تستلزمه المراسم الملكية وتقاليدها.
وكان جلالته قد لاحظ نظرات وزير الميسرة، يرمق بها المشعوذ بحذر واحتقار، فأراد أن يرفع الأستاذ في عين وزيره، فوجه إليه الحديث قائلا: وهل لا يزال وزيرنا العزيز على رأيه في منح المرأة حق المساواة بالرجل؟
فأجابه وزير الميسرة: أليست إنسانا كالرجل؟ فلم لا تكون مساوية له في الحقوق؟
هنا التفت الملك إلى أستاذنا الجليل مبتسما ابتسامة من يغري بالجواب والمناقشة، فلم يخيب المشعوذ ظن الملك، فأخذ يقول: المرأة إنسان كالرجل؟ ألا تزالون تؤخذون بقول البدو من الأعراب وهم همج حمق لا يفقهون شيئا من معاني الحياة؟ نعم، إنهم قالوا: إن المرأة إنسان، وأبوا لجهلهم وسفههم أن يقولوا إنسانة، حتى لا يفرقوا بينها وبين الرجل في المعنى، ولكن أنحن مضطرون في حضارتنا أن نسير وراء مفاهيم البدو في همجيتهم وجاهليتهم للكلمات؟ المرأة لا أدري ما هيه؟ ولكنها متعة الرجل، وهو وحده الإنسان، وليس لها من حقوق يجوز لها أن تطالب بها، فالرجل سيدها يمنحها ما يشاء، ويمنع عنها ما يشاء، وسعادتها في إرضائه وحسب، وليس لها من الأمر شيء.
الوزير :
ولكن «أليست أما للرجل وأختا وزوجة تشاطره الحياة نعيمها وبؤسها؟ أليست هي التي تعطف عليه وكثيرا ما تسدد خطاه؟»
الأستاذ (وقد بدت عليه بوادر الانتصار) :
بقولك أخذت، ألا يدل ما تقول على صحة ما ذهبت إليه؟ أليست للبيت، تخدم الرجل ولدا وزوجا وأخا؟ ألا تكون بذلك خادمة للرجل وحسب؟
الوزير :
الله الله! وهل يفهم بالعطف، عطف الأم والزوجة والأخت، وهل يفهم بالتربية، تربية الأم لولدها، خدمة محتقرة على ما تقصد يا سيدي الأستاذ؟ أترى في عطف جلالة المليك على رعيته وفي عنايته بتدبير شئونهم وحمايتهم أنه خادم في رعيته على ما تريدون في مفهوم الخدمة؟ ولعلكم إنما تريدون ما يقصده أولئك البدو في قولهم: سيد القوم خادمهم، لما ينالهم منه من منافع وخيرات!
الأستاذ (وقد احتدم غيظا، فالتجأ إلى الدس والمغالطة) :
أبلغت بك القحة في اتباعك لمنطق البدو الهمج أن تجعل جلالة المليك خادما لرعيته يا أحمق؟
قائد الجيش :
احفظ لسانك واذكر أنك في حضرة الملك، ولا يسمح لي تهذيبي وإجلالي للمليك بأن أقول أكثر من ذلك.
الأستاذ (وقد بدت على وجهه بوادر الغضب) :
عفوا يا صاحب الجلالة، فقد أحرجني الوزير.
الملك (ولم يكن راضيا عما قاله الوزير، ولكنه خشي مغبة الأمر إذا ما استرسل في إرضاء الأستاذ، لا سيما وقد تحفز وزير الميمنة للانتصار لشريكه، وبدت بوادر انقسام الحضور إلى حزبين، في أحدهما القائد، فكظم غيظه وقال) :
مهلا إنما أريدها مناقشة هادئة أو فاصمتوا.
الأستاذ (وقد خشي أن يتغير رأي الملك فيه، وقد عثر) :
إنني أعتذر لحضرة الوزير وليسامحني حضرة السادة، فإنني أجل الملك مما قيل، ولا أعتقد أن حضرة الوزير يعني ما قال، وإنما هي فكرات يبثها في الناس ذلك الفيلسوف المشعوذ، وأخشى منها على كيان المملكة.
المشير الأول :
ما لك ولذلك الفيلسوف وهو يتحمل الفقر والحرمان، ويصبر على تحمل كثير من الأذى؛ ليقوم بنشر فكرة ليست إلا في صالح المملكة، تؤيد العرش وتحفظ الملك.
الأستاذ (وقد أظهر الهدوء لما لاحظ من تهيب الملك للموقف) :
إخواني، أنتم سادة البلاد وأشرافها، وأنتم حكامها وأمراؤها، وإن فيما يقوله ذلك المشعوذ هدما لأمجادكم وتدميرا لتقاليد ما زلنا نرثها منذ أجيال، فنسمح له أن يهدم ما بناه الأجداد من فروق بين الطبقات، أفتريدون أن تخربوا بيوتكم بأيديكم؟ أو يكون غير هذا إذا ما تساوى رعاع السوقة بالأشراف والملوك، والنساء بالرجال، فكروا قليلا، وانزعوا من نفوسكم وهم الديمقراطية، وأنقذوا نفوسكم من سحر هذه الكلمة الهدامة المخربة.
وزير الميسرة :
ليست الديمقراطية على ما تظن يا سيدي الأستاذ، وإنما هي في مفهومها الصحيح أمن وعدالة وحرية وطمأنينة وسعادة، وليست المساواة فيها سوى مساواة في الحقوق الإنسانية، وإن يكن فروق فبالمواهب والأعمال، وفي تحقيق مصالح الأمة ومجد المملكة، وهي تحفظ للملك عرشه وعزته، فلا يهضم لصاحب حق حقه ما دام صالحا يعمل للمصالح العامة دون أن يهمل مصالحه الشخصية، فليست هي الخطر على المملكة، وإنما الخطر كل الخطر في أن يظل الشعب شاعرا بحقارته وذله، لا يجد الجو الملائم لنشاطه وسيادته.
وهنا احتدم الجدال بين الحضور حول مفاهيم الحرية والحقوق والواجبات والنظام والفوضى، وفيما إذا كانت المرأة إنسانا أو نوعا آخر من المخلوقات، وكان وجود جلالة الملك - وقد أراد هذا النقاش لغرض في نفسه - مهدئا نوعا لشدتها ومسكنا لحدتها، إلى أن أضاعت تلك المناقشات صواب الأستاذ، فاستيقظت في نفسه غريزة الشره وقد وقعت عيناه على دجاجة أمامه كالعكة، فنسي مقامه وتصور نفسه في داره فريدا أمام خوانه، فأمسك بها وأخذ يقطعها بأسنانه تقطيع الوحش النهم، فملأ فمه بلحمها وشحمها، وأغرق ثيابه بدهنها، وأفسد ما على المائدة من ترتيب، فدهش الجميع وكادوا يسترسلون في الضحك لولا هيبة الملك، فذهب صاحب الجلالة بضيفه إلى داخل القصر ليبلد له ثيابه، وانقض الناس على مائدة لم تنته بعد من تقديم ألوانها.
الملك :
ماذا أصابك أيها الأستاذ الجليل؟
الأستاذ (ولم يظهر عليه أي ارتباك، وكان دائما حاضر البديهة) :
عذرا يا مولاي فإنها حال من أحوال التصوف، وكدت أمزق هؤلاء الخونة بأسناني، لولا أن صرفت الحال بتمزيق هذه الدجاجة، وأشكر الله إذ حماني من جريمة القتل، مولاي لم يئن الأوان، وسيكشف التاج عن حقيقة هؤلاء جميعا، وسنفرغ للخونة المشعوذين، إنهم يريدون أن يفتنوا الشعب، والفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها.
الملك :
كنت أتمنى لو ظل البحث هادئا.
الأستاذ :
لا هوادة مع من يحاول إثارة الفتن، وكل آت قريب، إنما يهمني أن أنفذ وصية أستاذك الشيخ الحكيم، فأنقذك من الخونة المنافقين، ولم تكن تلك الفكرات التي يبثها المشعوذ إلا سموما تفتك بالمملكة وتعرض العرش والمليك للأخطار.
اطمأن الملك لا سيما وقد ذكره بأستاذه، فازدادت ثقته بالأستاذ الجليل، فودعه بحرارة وإيمان، وأمر بأن يصحب إلى داره بموكب عظيم.
الفصل الحادي والعشرون
قال الراوي: لم يدهش التلميذ الشاب عندما دخل عليه الشابان «المجنونان» مكبلين بالحديد، يحرسهما الجند، إنه كان ينتظر حضورهما على هذه الهيئة، وهو لا يخفى عليه أستاذه في مداوراته وفي ترتيبه للأمور.
ناوله الجند رسالة من الأستاذ الجليل يوصيه فيها بإبقاء الشابين مقيدين إلى عودته، دون أن يعلم بوجودهما في الدار أحد، ويؤكد عليه بأن يقوم ما أمكن بتهيئة الجو الملائم معهما ترغيبا وترهيبا.
سر التلميذ لوصية أستاذه، إذ أفسحت له مجال صرف الجنود ليتمكن من التحدث إلى ضيفيه بحرية وانطلاق، وما انصرف الجند، حتى ابتسم لهما ابتسامة ناعمة، فيها معاني المرارة والألم، والحنو والأمل في آن واحد، وكان قد أمسك عن النظر إليهما قبل ذلك، وراعه أن الشابين استقبلا ابتسامته هذه بانكماش وعبوس وحذر، فقال:
هو :
أهلا بكما، قدمتما على صديق يرعاكما، وأظن أنكما لا تجهلان من هو، فلا مبرر للحذر.
هما (معا وبانفعال) :
ماذا تصنع هنا عند هذا المشعوذ؟ أكنت جاسوسا له علينا في حلقة الأستاذ؟
هو :
خففا عن نفسيكما، وأحسنا بشاب مثلكما الظن، وهل يتجسس الشباب؟! قد يكون عينا لمبدأ إصلاحي يعتقد بصحته، ولكنه لا يكون جاسوسا لأحد.
أحدهما (ساخرا) :
فلسفة جديدة، عين لمبدأ وجاسوس لأحد الناس، وما الفرق بين العين والجاسوس؟
هو :
الفرق عظيم، وهو في قولي بين واضح؛ فالعين إنسان مخلص لبلاده وفكرته، يبحث عن الأحوال الخفية، وينبش عن الأسرار الكمينة في الداخل وفي الخارج؛ ليتخذ وضعا نفسيا مستنيرا، يساعده على نصح الملوك والحكام، ويسدد خطاهم في سيرهم، ويصلح تفكيرهم، ويركزه على الواقع، فلا يجنحون في المصالح العامة إلى وهمهم وخيالهم، فلا ينخدع، ولا يخدع الملوك والحكام.
الثاني :
كأني بك تريد أن تقول: إن مجلس الأعيان إنما يتكون من أمثال هذا، وإنك أنت عين من أولئك الأعيان؟!
هو :
ولم تهزأ؟ وهل غريب أن يكون القصد من مجلس الأعيان هو هذا؟ وإذا لم أتشرف بأن أكون من أعضاء هذا المجلس الموقر، فلم تستبعد أن يتحقق معناه في نفسي أو في نفس كل مواطن مدرك عاقل، وقد لا يكون متحققا فيمن يزعمون أنهم أعيان؟ أتريد الأعيان للمراسم والغطرسة والترف؟ أتريدهم للابتزاز والاحتيال، يتجسس بعضهم على بعض مباشرة وبجواسيس مأجورين؛ للنكاية بإخوانهم في الوطن الواحد على حساب طاغية عات أو فاتح مستعمر، إشباعا لشره الرذائل وتسكينا لشهوة النفوذ؟ أم هم لانتباش كل سر دفين يعرض المملكة للخطر؟ ولم وجب أن يكونوا بعيدي النظر في تفهم الأمور وفي تصريفها، حكماء في إبداء الرأي، وفي العمل على تحقيق المشاريع ووضع القوانين؟ وهل يحسن ذلك جاهل غبي؟
أحدهما :
وضح الفرق بين العين والجاسوس، ولكن، لم لا يجوز للشباب أن يتجسس، ونحن نعرف كثيرا من الشبان يتجسسون مأجورين لا لحساب الطغاة الظالمين، أو الوجوه الطامعين من أبناء البلاد وحسب، بل ولحساب أجنبي طامع وعدو متحفز، ومنهم من تصغر نفوسهم في نفوسهم، فيتخذون التجسس لبعض الناس على بعض الناس وسيلة تقرب وتملق، ولا أجر لهم إلا ما قد يأملون من توافه المنافع، وقد لا تكون سوى وهم الوجاهة بالتقرب من الوجهاء وأرباب النفوذ، وقد يصبح هذا الحال مرضا يتبرع فيه الجاسوس بتجسسه، أي بكرامته لحساب الشيطان، فيرتاح في عمل الشر للشر وحسب.
هو :
مهلا أخوي، أتظنان من يتجسس أخبار الناس لينقلها غيبة أو نميمة لتوافه أو لمرض تملقا أو تشفيا، أو من يتجسس أخبار الناس لينقلها إلى أرباب النفوذ مأجورا أو انتهازا، رغبة في الوصول دوسا على رقاب الناس في بلاده لحساب أجنبي طامع، أو عدو متحفز، أوتحسبان هؤلاء الجواسيس من الشباب، ولو كانوا في سن الشباب؟ ليس الشباب شباب العمر، وليس الشباب شباب مظاهر نمو الجسد؛ إنما الشباب في حقيقته وفي فاعليته شباب النفس والروح، شباب الوثبات والتقدم، شباب التسامي بفضائل المجتمع، الشباب إطلالة جديدة للحياة، تتجدد بها الحياة في الإنسان متسامية بروحه الإنسانية؛ لتحقيق فضائل الإنسان - المجتمع - ليهنأ الفرد بمجتمعه وفيه، وليسعد المجتمع بأفراده وفيهم، الشباب خير وبركة، وهو سخاء وإخلاص وتضحية، وهو عزة وإباء ونبل، إنه الوثبة، ولا يثب من لا يتصف بهذه الفضائل في مجتمعات الحياة، ومن سوء حظ بعض المجتمعات أن الشباب - شباب الروح والنفس - لا يتحقق فيها، فتنهار، لنكن يقظين فلا نخدع بشباب العمر والسن والجسد عن شباب الروح والنفس، ولا تتحقق إنسانية الإنسان إلا بهذا الشباب، ولا يتقدم المجتمع، فيتكون تكونا أفضل إلا بروح الشباب وتفاعلاته في ذاته، تفاعلات تجدد وتقدم ورقي، وهؤلاء الذين عبرتم عنهم بالشباب إنما هم شباب في أجسادهم، وهم أطفال أو شيوخ الهرم في نفوسهم، قد تفسد التربية شباب العصر، فيعودون أطفالا في نفوسهم وأرواحهم، أو يبتلون بأمراض الشيخوخة المبكرة، وما أشد شقاء أمة تبتلى بأمثال هؤلاء الشباب، تسيطر على نفوسهم غطرسة الادعاء، ووهم الغرور، وأنانية الجشع.
وفي هذه اللحظة دخل الخادم وقدم للتلميذ رسالة، فضها فإذا هي من الأستاذ الجليل، يعلن أنه سيتناول طعام الغداء على مائدة جلالته، ويؤكد عليه بتهيئة الجو الملائم، فافتر ثغره عن ابتسامة اطمئنان، وأتم حديثه قائلا: اتسع مجال البحث بتأخر الأستاذ المشعوذ، ثم التفت إلى الشابين مشيرا إلى الخادم وقال: إن هذا الخادم كهل، وهو أخي ورفيقي ومساعدي؛ لأن روح الشباب مستقرة في نفسه على الرغم من تجاوزه الخمسين من عمره، وشباب الروح قد تحقق في نفسه، فاحتفظ به في كهولته، وسيظل محتفظا به في شيخوخته، في سن الشباب تتحقق روح الشباب، فإذا ما تحققت استمر طول الحياة؛ لذلك جعلت من هذا الكهل الشاب شريكا لي وناصحا في جميع ما أصمم عليه من أعمال ومشاريع، إنه من الشعب، ومن الشعب تستمد قوى الحياة في الشباب، إنه من السوقة، وفي السوقة نجد عناصر النهضات، ولا استمرار لتقدم إذا لم يمنحنا الشعب في سوقته عناصر التقدم، ويا ويل أمة يضاف فيها فساد السوقة إلى فساد الأشراف المترفين.
أحدهما :
حسنا تقول، وكأنك تتكلم بلسان أستاذنا الحكيم.
هو :
وهل أفدت ذلك من سواه؟
الثاني :
وهل أنت على صلة به؟
هو :
دائما، وهو يعلم الآن مكانكما هنا، والتفت إلى الخادم متسائلا.
الخادم :
علم الأستاذ بكل شيء، وقد أوصاني بأن أبلغكما سلامه، وأن أذكركما بما قيل في اجتماع الوثبة قبل اعتقالكما بثلاثة أيام.
أحدهما (مخاطبا التلميذ) :
نعم، إنها كلمة السر، وقد أصبحنا تحت تصرفك أيها الأخ الكريم، نصدع فيما تأمر، ثم التفت إلى رفيقه متسائلا.
الثاني :
ظهر الحق، ولم يعد للريبة مجال.
هو (وقد ظهرت على وجهه أسارير الاطمئنان) :
يجب أن تصطنعا جنون من به مس.
الثاني (مقاطعا) :
وما هو المس؟
هو :
يتوهم هؤلاء المشعوذون أو يوهمون الناس أن شيطانا من الشياطين قد يمس الإنسان ويدخل فيه، فيصاب بجنون، لا يشفى منه إلا بإخراج هذا الشيطان، والمشعوذ الأستاذ سيحاول ذلك، فسايراه حتى يخرج الشيطان من كل منكما.
أحدهما :
أفي كل منا نحن الاثنين شيطان يسكن؟ أم من نفس المشعوذ القذرة يخرج الشيطان؟
هو :
يجب أن تعتقدا ذلك الآن، وأن تتظاهرا بالامتنان للمشعوذ بعد أن يخرجهما، أن يكون قد أنقذكما من الهلاك.
الثاني :
ما هذه الأحاجي والألغاز؟
الخادم :
بها أنقذكما صديقي من الموت المحتم.
أحدهما :
وهل كنا معرضين للإعدام؟
الخادم :
نعم، ولولا مداورات هذا الهمام لنفذ.
أحدهما (مداعبا) :
وهل يداور الهمام؟ أراك تعلمت من أستاذك المداورات.
هو :
مداورة دفع الشر ليست بشر، ولا بد من أن نحارب الأعداء بسلاحهم، فالأخلاق ببواعثها تسمو وتنحط، والأمور بمقاصدها تعلو وتسفل، وإنما الأعمال بالنيات، فلا مندوحة لكما من تمثيل دور الجنون، ثم دور البرء منه بعد أن يخرج المشعوذ الشيطان.
ثم أخذ في تمرينهما على تمثيل هذين الدورين، يساعده الخادم الشهم، وقد أتقناهما بسرعة أعجب بها التلميذ، فهنأهما، وأكد لهما بأنهما جديران بأن تعقد عليهما الآمال.
الثاني :
ولكن هل يخدع الأستاذ المشعوذ بهذا التمثيل، على علو كعبه في العلم والتفكير، على ما فهمنا منك؟
هو :
قد يتمرس المرء بالخداع، وتتلبس به نفسه لدرجة يلتبس عليه بها الأمر، فينخدع هو نفسه، ولا سيما إذا مس الانخداع غرورا في النفس، أو جشعا في القلب، أو طمعا يعلق به آماله، ألا ترى من يخدع الناس بالدعاوة للطغاة ينتهي بأن ينخدع هو نفسه بهم؟ ألم يصنع الإنسان الوثن من حجر أو خشب أو تمر بيديه، ثم أخذ يعبده مع العابدين؟ ألا نزال نحن نعبد أوثانا نكونها نحن، ثم ننخطف إليها انخطاف المتصوفين؟! لا يزال الناس غافلين، وعلينا أن نعي أولا، ثم نعيد الناس لوعيهم، فيجدون أنفسهم، فتستمر تقدمية الحياة.
والآن باشرا تدوير الأعين وزمجرا وأتقنا الهذيان، فإنني أسمع سعال الأستاذ وخطواته.
الفصل الثاني والعشرون
قال الراوي: دخل الأستاذ الجليل - وعلى وجهه أمارات رصانة مضطربة هادئة، ومنكمشة منطلقة، تناقضت فيها المعاني وغمضت: أكان لوضعه في انسياقه لشرهه أثر ما في نفس الملك؟! أم أن تغطيته الصوفية كانت كافية؟ ولا غرابة في تردده، فالمحتال - وهو يعرف نفسه - يظل في اضطراب داخلي لما يخشاه من انكشاف حاله، فكيف إذا ما بدر في تصرفه ما ينذر بظهور الحقيقة وجلائها، ولعل هذا الوضع هو الذي يدفع المحتال ولا سيما إذا كان من ذوي المكانات المرموقة إلى الانكماش حتى التواري في بعض الظروف، وإلى الكبر حتى الغطرسة في بعضها الآخر، وقد يمهر بعضهم في الاحتيال لدرجة يستطيع معها إخفاء كمده وانكماشه، والظهور بمظهر المطمئنين المغبوطين، ولكن أسارير وجهه تدل دائما على ما في فؤاده وسريرته، وإن غالى في إظهار التواضع المصطنع.
وعلى كل، فالأستاذ المشعوذ كان غامضا في رصانته، وما وقعت عيناه على الشباب حتى حياهم مظهرا التغاضي عن شتائم الشابين ووضعهما المجنون، ومبتسما ابتسامة أدرك التلميذ مغزاها، إذ كانت تعبر عن استفهام في جلاء ما وقع، فأجابه: كما ترى يا مولاي، لم أستطع معهما شيئا، فهز الساحر رأسه قائلا: سترى فعل السحر، ثم حدج الشابين بنظرة حادة ثابتة دون أن يكلمهما ودخل إلى غرفته، وما توارى حتى ابتسم الجميع، وكادوا يضجون في الضحك، لولا أن تمثيل الرواية يقتضي شيئا من الرصانة والجدية.
عاد الساحر ومعه كتاب كبير، واتجه نحو الشابين عابسا يدمدم ويتمتم بكلام غير مفهوم، ثم أخذ يهمهم كالرعد مثبتا نظراته الحادة في الشابين وكأنه يحاول أن يرميهما بأسهم من شرر شظايا نار قلبه، كان منظره مخيفا، لولا أن الشباب الواعي لا يخاف، هدأ الساحر برهة وصمت، ثم أخذ يشزرهما بعينين تتهيآن لقتال عنيف، ثم فتح الكتاب، وأخذ يتلو ما فيه من أسماء وتعاويذ، ويرسم الطلاسم ويكتبها، ويندد ويهدد، ويرتفع وينخفض، ويهدأ ويثور، حتى كاد الشابان يكلان وهو لا يكل ولا يتعب ولا يعيا، ولم يكن أحد هنا يفهم منه شيئا حتى ولا تلميذه، إنه لم ينضج - في نظره - بعد ليتلقى سر المهنة.
وأخيرا طوى الكتاب، ووضعه على طاولة كانت بجانبه، وعاود نظراته الحادة الثابتة ذات الشرر، إنه كان يهيئ نفسه لإلقاء أبواب من السحر، وهي في هذه المناسبات أبواب الرجفة والخوف والرعب، ثم يرسل شياطين الوهم والخضوع والاستسلام، إلى ما هنالك من أبواب، وما استكمل إعداد ذاته حسب زعمه حتى صرخ بصوت داو: إلي يا شمشريخا ويا شمشريخ، ويا شمرخايا ويا شمروخ، ويا عربدانة ويا عربدون، إلي إلي أيها الملوك من أحمر وأسود وأزرق وأبلق و... و... إلي أيتها الجن والشياطين والعفاريت، وما انتهى من تعداد هذه الأسماء المخيفة بصوته الداوي العريض حتى وضع يده اليمنى على رأس الشاب الأول، واليسرى على رأس الثاني، ثم صرخ سائلا وهو يحدج بنظره الأول: من أنت أيها اللعين؟ فأجابه صوت أجش خافت: أنا الزعازيع أيها الساحر الكبير، ولولا ما تتلو من أسماء لقتلتك.
الساحر :
ومن أتباع أي ملك أنت؟
الشيطان :
من أتباع الملك الأحمر، وسينتقم لي منك لما أزعجتني.
الساحر :
اخرس يا لعين، فأنت وملكك تحت قدمي، وإذا ما أسأت الأدب أحرقتك الأسماء، قل لي ما تصنع هنا؟
الشيطان (وقد بدا عليه الخوف، وارتجف بذلك جسم الشاب) :
إن هذا الشاب طائش، رمى بآنية كانت في يده، فأصابت ابني برضوض آلمته، فأنا أنتقم من المعتدي وسأقتله.
ثم مال الساحر إلى الشاب الثاني وأعاد الأسئلة، فإذا هي جنية، تعلقت ابنتها بهذا الشاب، ولما كان إنسيا لا تستطيع الوصول إليه انتحرت، فالأم تنتقم لابنتها.
فاشتد غضب الساحر وغيظه وأخذ يخاطبهما بشدة وقوة وحنق، قائلا: لا علاقة لهذين الشابين بما أصاب ولديكما، فعليكما أن تخرجا حالا وإلا أحرقتكما بنار الطلاسم والأسماء، فدوت ضحكتان عاليتان وقهقهتان شديدتان وصاح الشيطانان معا: إذا أحرقتنا تحرق الشابين معنا، فما تكون قد صنعت؟ فنادى الساحر شياطين الرعب، فأظهر الشابان الرعب، وكانا قد تمرنا - كما سبق - على أن يظهرا الحالة التي يعلنها الساحر رجفة، فيرتجفان ... الخوف، فيظهرانه ... وهكذا. أما هذه المناقشات، فعلى القارئ الفطن أن يذكر ما سبق، وقلنا: إن الساحر يتكلم من بطنه.
احتدم غضب الساحر وحنقه وصرخ بصوته الأجش الداوي: لا بد لي من إنقاذ هذين الشابين مهما كلفني الأمر؛ لأنهما عزيزان علي، فاخرجا حالا وسريعا دون تأخير، العجل العجل، وإلا ...
وأخذ يتلو الأسماء والآيات، ويستنجد بملوك الجان وجبابرتها، فارتفع صوت الدردهاء قائلا: تمهل أيها الساحر العظيم، واذكر جرأة هذين الشابين ووقاحتهما، ولا تنس أنهما أهاناك، أفلا يسرك أن ننتقم لك؟ فأجاب الساحر محتدما: ومتى كان الانتقام شيمة لرجال الله المختارين؟ فإنني قد صفحت عنهما، وعليكما أن تخرجا حالا، فإذا صوت داو هو مزيج صوتين يقول: لن نخرج، لن نخرج.
ولكن الأستاذ - وقد التهب غضبا وحنقا - لم يمهلهما، فتلا من الأسماء والتعاويذ ما تلا، وكتب من الطلاسم والحروف ما كتب، ثم صرخ صرخة داوية، وضع على إثرها يديه على قدمي الشابين، وأقسم قسما عظيما، فخرج من إبهامي قدمي الشابين دخان كثيف ذو رائحة كريهة، لم يذكر راوي الحكاية أي تركيب كيماوي استعمل الساحر في إرسال شياطين هذا الوهم، ولكن الشابين أدركا أن الرواية قد انتهت، فتظاهرا بالنوم العميق، فطلب الساحر قدحي ماء، قرأ عليهما ما تيسر، ثم نفث في كل منهما من فيه أنفاسا ثلاثة بالتوالي، ثم تكرم عليهما بشيء من لعابه، وأوصى تلميذه - وقد تقززت نفسه مما أصاب القدحين من دنس - بأن يسقي كلا منهما قدحا عند صحوه ليستعيدا نشاطهما، وعندئذ يكون له معهما حديث مفيد.
الفصل الثالث والعشرون
قال الراوي: لم يكد المشعوذ يطأ عتبة غرفته الخاصة، حتى فتح الشابان العيون وابتسامة ساخرة ترتسم على الشفتين، في حين كان الشاب التلميذ يرسل نظرات حذرة من عينيه المرتبكتين خوفا من مفاجأة الأستاذ في عودة سريعة تعودها منه، فيراهما فيها على هذه الحالة المريبة، ولم يطمئن إلا عندما سمع صوت باب الغرفة في انغلاقه، فأخذ يقهقه معهما قهقهة الهازئ الساخر، يعبر بها عن إدراكه لإفك لم يخدع به، وعن تصميمه على هدم ما يبنيه المشعوذ من قصور المين وصروح الكذب بإفكه المبين وبسراب خداعه.
وكان أول ما نطق به الشابان في سخريتهما عند فتح العيون: ألق ما في هذين الكأسين من ماء ملوث دنس إلى الخارج قبل أن ننظر إليهما فنخرج ما في أمعائنا من التقزز، يا له من شرير محتال! أوما يكفيه ما يتكرر من إفكه وكذبه حتى يحاول أن يجعل من لعابه الخبيث علاجا مقدسا ودواء مباركا للشفاء، وإذا بلغ غرور الشعوذة والتدجيل هذا الحد من احتقار الناس ورذلهم، أفيبلغ حمق الناس وسخفهم هذه الدركة من الاستسلام والانحطاط؟! فيرتاحون لمن يستخف بهم، ويستسلمون لدجله وشعوذته استسلام الصوفي لربه، وهم إنما يتنزلون في حالتهم هذه عن أدمغتهم وعن قلوبهم، فيصبحون ولا عقول لهم تحفظ لهم كراماتهم، ولا شعور يحمي ما في النفوس من إباء.
فأجاب الشاب: إنه الجهل، وإنه الطمع، يجتمعان فيهيران ما في الذات من قوى تدرك بها وتشعر، فيفقد الإنسان ذاته الإنسانية، ويصبح أدنى من الحيوان دركة في سلم الوجود، وليس في قولي هذا أي مجاز، فالإنسان في استسلامه هذا يستخف بحقيقته فينحط عن درجته في سلم الوجود، أما الحيوان فأيا كانت درجته في تلك السلم، فإنه يظل محافظا عليها، ويستمر من يحافظ على مكانته في الحياة وفي الوجود أرفع شرفا ممن يستهتر بها، وينحط عنها، مهما اختلفت الأجناس والأنواع، ومهما تعددت الصفات والإمكانات، فالعبرة دائما للأمر الواقع، وليست لما يدخل في حدود الاستطاعة والتمني والإمكان، إننا نريد التقدم والرقي لأمتنا، فلا بد من إنقاذ الشعب المسكين من الجهل لينقذ من الطمع، وهذا هو سر ثورتنا، ونحن الشباب الواعي في هذه الأمة المنكوبة بشعوذة الأذكياء والمستغلين.
حياك الله وبياك - قالها الشابان بصوت واحد - ثم قال أحدهما: ماذا يجب أن نصنع لنبلغ الهدف؟ وأكمل الثاني متسائلا: وعلام يجب أن نعتمد في تحقيق الثورة، وقد أصبحت وكأنها تتأكل قلوبنا وأدمغتنا، وتهز في نفوسنا الوجدان والفؤاد؟!
علينا الآن أن نستأذن على هذا المشعوذ الدجال، فتقبلا يديه معتذرين شاكرين، ورافعين لواء الحمد والثناء.
فانتفض الشابان وقد انتفخ في جبهة كل منهما عرق الإباء والغضب، وتوتر عصبه، واشتد تورم الأوداج في العنقين، وتضخمت في كل منهما الرقبة، ثم عبر الشاب الثاني عن انفعالهما المشترك بقوله: يا لك من شيطان مريب، أتسعدنا بسمو تفكيرك، ثم تشقينا بحقارة اقتراحك، والله لولا شهادة الأستاذ الحكيم وإشارته لقتلتك الآن مهما كانت النتائج.
لم يفقد الشاب التلميذ سيطرته على أعصابه، بل أجابهما مبتسما مداعبا: على رسلكما أخوي، إنما نحن جنود الفكرة وشباب الفداء، فلا يجوز أن نترك للانفعال مجالا، تتقطع فيه الأوصال، وتتفكك العرى؛ فالانفعال كالخيانة، وقد يقضي كل منهما على حركة الثورة في مهدها، أراكما سريعي الارتياب، وليس في هذه السرعة ما يبشر بالفوز والنجاح، انتبها، فلا بد من أن نتخذ العدة من جميع وجوهها، وهذا المشعوذ خطر، وقد أصبح لولب حركة المحافظة على وضع يدافع عنه الخونة المستغلون، فلا بد من أن نقبض على ناصيته؛ لنجز عنقه بسهولة في الوقت المناسب، قد يخطئ الأخ، ولكنه لا يخون أخاه، فاحسبوني أخطأت، فماذا تريان؟
سكن روع الشابين واعتذرا، ثم أبان أحدهما عن رأيه قائلا: لن نقبل يدي المشعوذ، ولن نرفع له الحمد والثناء، بل نعتذر شاكرين وكفى، فثنى الثاني على تعديل رفيقه، ولم يرفضه التلميذ الشاب، بل أيده تعديلا يحفظ الكرامة، وزاد عليه بأن يقبلا التلمذة على المشعوذ، وهو سيقترحها؛ ليتعاونوا جميعا في تدارك الأخطار، فوافقا على قبول ما زيد على التعديل، وانتهى المشكل بسلام.
دخل الشبان الثلاثة على الساحر في غرفته، فاستقبلهم استقبالا جميلا، فاعتذر إليه الشابان، وشكراه على إنقاذهما من فعل الشياطين، فامتلأت نفسه زهوا ومرحا، وتحير الراوي في تفسير هذا الزهو: هل انخدع الساحر بنفسه وهو العالم الفطن؟ أم سره أنه خدع هؤلاء الشبان، وهو يسخر من سذاجتهم في نفسه؟ وعلى كل، فنحن بين خداعين: خداع شعوذة وخداع إنقاذ منها، فلا نزال في كفاح الخير والشر، يتخير كل منهما سلاحه، وإذا ما ساير الخير الشر في مبدأ الطريق واستعار منه بعض سلاحه، فالفوز إنما يتحقق عندما يتفرد الخير، ويتمكن من استعمال سلاحه هو، محتقرا ما يتسلح به الشر من أسلحة الرياء والنفاق والخداع والشعوذة، ونحن الآن في أول الطريق، فلم يجد الشابان مجالا للامتناع عن تبني ما اقترحه رفيقهما من تلمذتهما على الساحر المشعوذ، وبررا ذلك أمام نفسيهما الأبيتين، بتبني قول من قال: «تعلم السحر ولا تعمل به»؛ لتدرأ عن نفسك خطر شعوذة الساحرين.
اعتذر الشابان عن قبول دعوة المشعوذ للعشاء؛ لأنهما بشوق إلى ذويهما، وهم لا يعلمون عنهما شيئا، فودعهما الساحر بحرارة محفزا فيهما الهمة على ملازمة الشاب التلميذ، وقد صحبهما هذا إلى الباب مودعا، وأوصاهما بما يجب قوله للأستاذ الحكيم، ثم عاد إلى أستاذه مرحا طربا، فتوهمه هذا مظهرا لنجاحه في إخراج الشياطين، فالتفت إلى تلميذه وخاطبه متمثلا بالمثل المشهور: «كل فتاة بأبيها معجبة»، فابتسم الشاب وقال: أفلا يحق لي أن أفرح وأمرح، وأستاذي لا يني في تقديم عجائبه المعجزة كل يوم؟! فابتسم الساحر ابتسامة المعجب بنفسه، قال: وكيف بك عندما تتحقق أعجوبة التاج؟!
التلميذ :
وأي تاج هذا؟!
الساحر :
سأصنع للملك تاجا سحريا ليس له في العالم مثيل، عجز عنه الأوائل، وسيكون له ذكر خالد في المتأخرين، (وأمسك الساحر عن ذكر ما زعمه من خاصية التاج في كشف أبناء الحرام ضنا بها من التبذل، وإنه ليريدها أن تظل سرا بينه وبين الملك، وربما أشرك في معرفة ذلك وزير الميمنة وحده إلى أن يحين الأوان بعد ستة أشهر طبعا).
التلميذ :
شأن مولاي عجيب، ومتى كان صائغا للتيجان؟
الساحر :
لا يعجز العالم، ولا سيما متى كان ساحرا، أي عمل.
التلميذ :
والاختصاص الذي تدعون إليه دائما وتؤيدونه؟
الساحر :
هي كلمة نستغل بها المغفلين، فإذا منحنا الاختصاص حقه، وانتظمت الأمور، فماذا يبقى للسحر ليظل قادرا على كل شيء؟ ومسيطرا على الجميع؟
التلميذ :
فالسحر إذن استغلال وسيطرة؟
الساحر :
وماذا عساه أن يكون؟ أتريد أن يكون الساحر كذلك المأفون المغفل، أستاذ صاحبيك الشابين، يقضي الوقت بالإرشاد والتوجيه وإلقاء الدروس، ويظل فقيرا لا يأبه للسيطرة والسلطان؟ مسكين ذلك الأستاذ الذي يلقبونه بالحكيم، إنه عالم ذكي، كان باستطاعته أن يثري، وأن يكون من أرباب المناصب العالية المرموقة، ولكنها الغفلة تسيطر على نفسه، فيتوهم أنه يستطيع أن ينهض بالشعب ليصبح سيد نفسه، وأنى للشعوب أن تنهض؟ إنها خلقت مستغلا للأذكياء الأقوياء، ومن يضيع وقته في خدمة الشعب لا يربح سوى فقدان فرص الاستغلال، فالعاقل من يعمل لنفسه، ويترك الشعب في عماه، يتخبط في دياجير الاستعباد والفقر والجهل والذل، يضحكني ويؤلمني معا أمر أولئك السخفاء من الأدباء والعلماء، إنهم يستطيعون أن يمتصوا - بما يمنحهم العلم والأدب من فهم وبيان - دماء الناس وأموالهم فلا يفعلون، وإنما هم - على زعمهم - يتعففون، وهل العفة والإباء والإخلاص سوى ألفاظ يستخدمها الواعون منهم، كما يستخدم الساحر في سحره الجن والعفاريت؟ احفظ هذا ولا تنسه.
التلميذ :
ولعل هؤلاء الواعين من الشمامين؟
الساحر :
أيوه، ولكنهم من النوع الذي يحاول الاستعلاء، يدورون حول من تفوح منه روائح إمكانات الاستغلال، ولا يكادون يتصلون بمن تستهويهم رائحته، أو نتنه، حتى يحاولون القضاء عليه للاستيلاء على ما يملك من مال أو جاه أو مكانة.
التلميذ :
ومن هم الشمامون إذن؟ وعدتني مرارا بتوضيح أمرهم.
الساحر :
نعم، وقد حان الوقت، فاعلم أن من الناس من يملكون في أرواحهم حاسة شم دقيقة سريعة التأثر والانفعال، وهي أشبه ما تكون بحاسة الشم عند الحشرات والحيوان كالذباب والقطط والكلاب والخنازير مثلا، وليست حقارتهم في قوة حاسة الشم في روحهم، بل في سيطرتها على كيانهم، وفي تفضيلهم لخبيث الروائح ونتنها، فلا يكادون يشمون تلك الروائح، حتى يهرعوا إليها، ويداوروا من تنبعث عنه حتى ينالوا مأربهم، وليست هذه المآرب سوى منافع مادية أو زهو وهم لجاه يؤدي إليها، ومهما تضخمت هذه المنافع فإنها تظل حقيرة، ولكن تعلقهم بها يسهل لأصحاب المطامع والشهوات الكبيرة أن يستخدموهم وهم بهم ساخرون، وهؤلاء الشمامون قديرون على تصنع الوفاء والغيرة والإخلاص بشكل عجيب، فإذا اتصلت بك رائحة تستهويهم، فلا تنخدع بهم، بل استخدمهم على حذر، وإياك أن تشبعهم، فصولة اللئيم إذا ما شبع خطرة مؤذية، وهم في لؤمهم هذا لا يحللون ولا يحرمون، وإنما وراء الروائح الكريهة الخبيثة يسيرون ويعدون، ولا يهمهم إلا الساعة التي يكونون فيها، فأنت العظيم الكريم، ما دامت أنوفهم تستلذ روائح دراهمك أو وجاهتك، وتوصلهم في انتشارها إلى أحقر الشهوات، وأنت الحقير الشحيح ما دمت لا تسيغ لهم أن يستغلوا ضميرك، أو أن يستهينوا بمبادئك، فلا إباء لهم، بل يهزءون من الكرامة، فالشهوة والانتهاز والوصول دوما على جثث المخلصين هي ديدنهم في الحياة، وما أقدرهم على قلب الحقائق وإلباس الشر لباس الخير، إننا نستخدمهم ونحتقرهم ونحذرهم، متذكرين الحكمة الخالدة: احذر صولة الكريم إذا جاع، وصولة اللئيم إذا شبع، وهؤلاء الشمامون هم اللؤم مجسما، يتصنعون الوفاء وهم الغدر ذاته، ويفتعلون الكرم وهم الشح نفسه، ويتظاهرون بالإخلاص وهم للخيانة تماثيلها، ويدورون مع روائح الإمكانات، حيث تدور مهما خبثت ونتنت انسياقا متملقا، لا إرادة معه ولا وجدان ولا حرية، وإذا ما ذكرت لهم الإباء والكرامة والعزة، ابتسموا ساخرين؛ لأنك مغفل، تصدق بوجود ما لا يمكن أن يكون.
فابتسم التلميذ ابتسامة، فسرها الساحر بالاقتناع، ولكن الشاب أسر في نفسه الاعتقاد بأن أستاذه هذا هو من أمكر الشمامين، ولكن هل يخدع نفسه فيصورهم على حقيقتهم، ويعتقد أنه ليس منهم في الصميم؟ وكان قد حان موعد النوم، فأوى كل منهما إلى فراشه؛ ليخلوا بأحلامه وآماله وأمانيه، بعد أن تمنى كل منهما لصاحبه ليلة سعيدة وصباحا خيرا.
الفصل الرابع والعشرون
قال الراوي: كانت الأشهر الستة أعجوبة من أعجوبات الدهر في سخريته بالناس واحتقاره لهم، فالأستاذ الجليل أو الساحر المشعوذ نسي التاج بل تناساه، وأخذ بالتفكير في طرق استغلال الدولة لمصلحته، فطلب إلى تلميذه أن يستدعي جميع التلاميذ المنتشرين في أرجاء المملكة، وقد كان هيأهم كما يهيئ تلميذه هذا إلى مثل هذه الفرصة تسنح، فيغتصب فيها حقوقا لغيره، ويسلب الناس حريتهم أموالهم ما أمكنه ذلك، ويتمتع بالولائم والحفلات وبالتصفيق والتطبيل، ثم يمكن لنفسه مركزا ومكانة، يستمر معهما استغلاله هذا وكبرياؤه وغطرسته وشعوذة التدجيل.
حضر التلاميذ، وقد تجاوزوا نصف المائة باثنين أو ثلاثة أو خمسة، تردد الراوي في إحصاء العدد، ولكنهم كانوا جميعا من شياطين الإنس وعفاريت جهنم في فساد النية، وفغر الأفواه للزلع والبلع، وللنطق بما يرضي المحسنين، ولو سرقوا وسلبوا وخدعوا الحراس، ونقموا من المخلصين الصادقين، ولو شاهدت همزهم ولمزهم لاستعذت بالله من شياطين الإنس، يؤذون الناس أكثر من استعاذتك من شياطين مارج النار، ولا غرو في أن تكون هذه حال من يكون ذلك المشعوذ أستاذه.
أفهم الساحر المشعوذ تلامذته بأنهم قادمون على عهد كله خير وبركة، إذا ما أخلصوا له الخدمة والنصح، ووعدهم بالوظائف ذات الريع السمين، والموارد التي لا تنضب، مع سطوة ونفوذ ومكانة، فابتسموا ابتسامة عميقة، رفعوا معها الرءوس، وأغمضوا العيون مع ضم الشفاه في كل فم اثنتان، وكأنهم في غيبوبة مرحة، يعبرون عن فرحهم وابتهاجهم مع غبطة واطمئنان، ثم وعدوا أستاذهم بالوفاء والإخلاص والتضحية، فأوصاهم بما تجب ملاحظته وبما يفرض عليهم عمله لتأمين الدعاوة له ولمحاسيبه وأوليائه، مع موافاته دائما بما يتجسسون له من أخبار، وانصرفوا آملين، وقد صمموا على أن يتجنبوا كل ما يدعو إليه الوطن والدين من مبادئ وأخلاق ومناقب، في سبيل الوصول والانتهاز.
كان من مظاهر هذه الفترة من الزمن، أن التجسس على أعراض الناس قد انتهى في الظاهر، ولكن أمر هتك تلك الأعراض قد استفحل إغراء بالأموال أو احتيالا بالوعود أو قسرا بالتهديد والوعيد، أو إغراء واحتيالا وقسرا بأساليب الشعوذة والتدجيل، وتحايل الإنسان لا يحده إحصاء ولا حصر متى فسد، ولا سيما إذا ما استحكم مبدأ التغطية، فأصبحت ترى هؤلاء الفاسدين المفسدين، أو الراشين المرتشين، أو المستغلين السالبين يصفق لهم ويزمر ويطبل، وتلقى بين أيديهم مصالح الناس، ويرفعون على الأكف، وينسب إليهم من الصفات والمناقب ما لا يتصف به سوى المصلحين من أنبياء وحكماء وأولياء قديسين، ولعل الأنكى في المجتمع ألا يكتفي هؤلاء بالتجارة بعواطف الناس، إذ يعملون على الانحراف بها، بل يلعبون بعقولهم أيضا، فيتاجرون بالعلم لينحرفوا بتلك العقول وقد عم الخطب في هذه الأشهر الستة، لدرجة أصبح الغافلون من الناس يقولون: ماذا تريد؟ هذه هي الحياة: شعوذة وتدجيل وخداع ومداورة، والغنم للأذكياء الذين يعرفون كيف تؤكل لحمة الكتف، ومتى استسلم الإنسان لمظاهر الفساد، وقبل به كتيار لا تمكن مقاومته، تهيأ بحكم نواميس الحياة ليكون لقمة سائغة للغير، فيستعبد ويصبح تابعا لا يحق له أن يطالب بالتحرر والاستقلال، وقد يبلغ في انهياره هذا حدا يستلذ معه الاستعباد، ولا هم له سوى ترفه، فيشتد الخطر ويهدد بالتشرد عن الأوطان.
أما المخلصون الصالحون فيصبحون هم الخائنين المفسدين، وهكذا تنقلب الأوضاع، فيبعد الصالحون عن الأعمال التي تهيئوا إليها، ويقوم بها الدخلاء.
هذه هي الأحاديث التي كان يتداول بها شبابنا الثلاثة، ويتناقشون منفردين أو مع رفاق لهم، أو في حلقة الأستاذ الحكيم في أوقات مختلفة من تلك الفترة، وكثيرا ما تداولوا مستغربين الطرق التي استعملت لإيغار صدر الملك على مشيره الأول بعد أن سبق وسلمه كل أمره، فأصبح وليس له من الأمر شيء، يتعذر عليه أن يدخل على مليك أخلص له الخدمة كل حياته، وكانت في نفسه أشياء وأشياء ينقذ إعلانها الموقف، ولكن ذكاء الاستغلال حال بينه وبين مليكه.
والأستاذ الحكيم ماذا صنع؟ ولم اشتدت عليه المراقبة؟ وهناك رجال مخلصون توعدهم أذكياء الاستغلال ثم منوهم، فإذا هم في حالة استهواء يترنح بين الترغيب والترهيب، فينقلبون على أستاذهم، وبلغت الوقاحة في لؤم البعض منهم أن وشى به، وألصق به ما أراده أولئك من تهم هو براء منها، ولكنه المشعوذ أخذ يحقق ما أوعد به من إرجاف؛ ليقتل الأستاذ الحكيم قتلا أدبيا، قد يؤدي إلى التخلص منه دون ضجة ولا عنف، بل وبإرادة المغفلين من الشعب، فيصيبه ما أصاب الشهداء؛ شهداء المبادئ، شهداء حب الإنسان، شهداء التضحية والنصح من اضطهاد صارم خلدهم على الدهر، وكان الوسيلة لانتشار المبدأ، ولتحقق هدف الضحية في حب الإنسان، فكانوا الأحياء حقا بين أموات يتوهمون أنهم أحياء.
وفي انعطاف الحديث في هذا الاتجاه في يوم من أيام الشهر السادس الأخيرة، سأل أحد الشابين التلميذ قائلا: والتاج، هل انتهى المشعوذ من صنعه؟
التلميذ :
والله إنني في حيرة من أمر هذا الساحر وفي أمر تاجه.
أراه لا يفعل شيئا، يقضي بعض أوقاته في استقبال أوليائه وأتباعه، يحدثهم عن مستقبل باهر قريب، ويعدهم ويمنيهم ليكونوا له من الصادقين، ويمضي القسم الآخر في الولائم والحفلات والدس والمؤتمرات في قصور بعض أركان الدولة، وفي دور المتنفذين المستغلين، ثم ينام ليله وغطيطه يملأ الدار، ولا يستيقظ إلا بعد الضحى، وقد أصبحت ردهة الاستقبال تعج بالمنتظرين، فيصبحونه بالتملق والتذلل وتكرار عبارات التأليه والولاء والاستعباد، جرا لمغنم أو درءا لمغرم، وأكاد أجن مما يكال لي من هذا المديح والثناء والإطراء؛ لأسهل لهم شرف تقبيل يدي الأستاذ الجليل، أما مصالح الأمة ورفاه الناس وقطع دابر الظلم والإسراف والتحرير من العبوديات، وإيصال صاحب الحق إلى حقه، فهي من الكلمات التي يسرف في استعمالها في خطب يلقيها من وقت إلى آخر بمناسبة ودون مناسبة، ليخدع بها عقول الناس، ويستخدمها تغطية لآثامه، ولم أجد أي أثر لأي عمل يقوم به في صنع التاج المنتظر، وقد أصبح حديث الناس.
الثاني :
لعله يعتمد على أحد مهرة الصاغة، ثم يلبسه ثوبه السحري، فيبهر عيون الناس.
أحدهما :
بل لعله تاج مصنوع منذ القديم، يهتم في آخر يوم بتنظيفه وتلميعه، ويظهر له بريقا متلألئا بمواد يعرفها ويطمئن إليها، فلا يلبث أن يشع منه سحر أشبه ما يكون بدخان الشياطين.
التلميذ :
كل افتراض ممكن في مثل هذه الأجواء، والمهم أنه لم يعمل شيئا معينا، وفي غرفته السحرية إلى اليوم، وكل همه منصرف لإلحاق الأذى بأستاذنا الحكيم وللنكاية به، ولا راحة له ولأوليائه وأتباعه على ما يبدو لي إلا بالتخلص منه ومن فكراته وتوجيهاته.
أحدهما :
مسكين هذا الأستاذ، فلا يزال هو ومن يدين بآرائه عرضة لانتقام الانتهازيين المستغلين، ولكن الله ناصره، ألا ترى كيف يزداد المعجبون به على الرغم من خيانة الكثيرين؟ ألم تسمعه يردد دائما قوله: طريق الحقيقة مفعم بالأشواك، وليس لمن يدعو إليها سوى الصبر والثبات والتضحية.
الثاني :
ما أسمى ثباته وصبره، وما أكبر تضحياته في سبيل المبدأ.
التلميذ :
وما أشد عناد هذا المشعوذ في سبيل تحقيق المطامع.
أحدهما :
وما أعظم صبر الملك في سبيل هذا التاج، ولكن ما دمنا من ليلة حفلة التاج قاب قوسين أو أدنى فلننتظر، ولكل حادث حديث، فما أقصر حبل الكاذب الخائن يلبس على مليكه وعلى الناس أنه الصادق الأمين! وما أشد حقارة من هذا شأنه! وما أشد انهيار الأمم إذا ما انخدعت به وبأمثاله من المنافقين!
الفصل الخامس والعشرون
قال الراوي: إنها ليلة التاج، في السهرة وبعد العشاء سيضع الساحر المشعوذ تاجه السحري الموعود على رأس الملك، سحره انتظار ذلك التاج، فغض النظر، وحاول أن يتجاهل كل ما بلغه عن سوء تصرفات المشعوذ وسفهه وسخفه، ولعله لم يكن يصدق ما كان يسمع عنه من أحاديث، أو ما يقرأ من تقارير، فباب وهم التاج قد سحر عينيه وأذنيه وكل حواسه، وعقد لسانه، وقيد تفكيره وأخرس شعوره، وعلى كل، فقد دنت الليلة المنتظرة الموعودة، ولم يكن يفصل الشباب عنها سوى بضع ساعات، وكانوا يتبادلون الأحاديث على الوجه التالي:
أحدهما :
أين الساحر؟ إننا لم نره اليوم.
التلميذ :
إنه مهموك في أمر التاج وليلته، حضر منذ دقائق من القصر؛ حيث أشرف على تهيئة الاحتفال بوضع التاج على رأس الملك هذه الليلة، وما دخل الدار حتى أمرني بألا أستأذن عليه لأحد، وانزوى في غرفة السحر مقفلا بابها من الداخل على عادته كلما أراد أن يهيئ أمرا خطيرا.
الثاني :
وهل انتهى من صنع التاج؟
التلميذ :
إنه ليدهشني في حكاية تاجه هذا إنني لم ألاحظ عليه أي عمل يتعلق بهذا التاج إلى اليوم، وكل ما في الأمر أنه أحضر معه الآن طبقا واسعا من ذهب، وهو طبق عالي الجوانب، مع تقعير قليل، غطاه بقطعة ثمينة من الديباج المرقش، ويدعي أنه سيضع فيه التاج.
الثاني :
ألم تسأله عن تاجه هذا؟
التلميذ :
سألته، فأجابني: إنه تاج لا يرى إلا على رأس الملك، وهذا من أسرار السحر فيه.
أحدهما :
إنه أشبه ما يكون إذن «بعرقية الإخفاء».
الثاني :
ولعل فيه أعجوبة إخفاء ذاته، ودوت القاعة بضحك الشباب وقهقهتهم، ثم أردف الثاني قائلا: وما شأن هؤلاء الناس يتجمهرون ويهزجون، وكأن حدثا سعيدا هاما سيحدث في البلاد؟
التلميذ :
ألم تعلم أنهم قد أدخل في روعهم أن هذا التاج، سيكون سعدا على المملكة، فيكون بدء عهد، كله خصب ورفاهية واطمئنان؟ فهم يتفاءلون بالخير واليمن والبركة، ثم همس قائلا: وكل ذلك بتدجيل هذا المشعوذ الكبير.
أحدهما :
نجى الله الأمة من شروره، فنفسي متشائمة، وإنني لأخشى الفتنة، وأخاف ضربة تصيب أستاذنا الحكيم ومن والاه، فإنها تحدثني بشر مستطير!
التلميذ :
لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فلنكن على استعداد للمفاجآت، ولعلها تكون مؤاتية، فننقذ البلاد من الشعوذة وذيولها، ومن التدجيل وآفاته، فالله حكيم، يمهل ولا يهمل، والعاقبة للمخلصين المجاهدين.
أحدهما :
أراك مسرفا في تفاؤلك، وكأني بك تحاول أن تتناسى هذا الصمت الذي يستولي على نفوس الشعب الثائر منذ بدأ هذا الساحر يفتنه بشعوذته، فأين اندفاع الثورة في النفوس؟ وأين مظاهر تدفقها في القلوب؟ فلا انفعال يبعثه الألم، ولا تحفز تغذيه الحماسة والأمل، وكأن الناس ولا سيما الشباب سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم مخدرون لا يعون الواقع، اللهم إلا واقع حاجات البطن وما يلابسه، ويغفلون عن مستقبل كانوا - ولا يزالون - يدعون أنهم في سبيل تحقيقه يجدون ويكدحون ويفكرون ويتأملون، والحقيقة أنهم لا يعرفون ماذا يريدون، فلا يزالون في تيههم يعيثون.
التلميذ :
لا تبتئس يا أخي ولا تيأس، إنه الوجوم، وجوم شعب ينتظر، خدعوه بالتاج وبفعله السحري في إصلاح حاله وتحقيق رفاهه ورغده، فخدع وصدق، ودفعه الأمل لانتظار العجائب، وهل نحن في زمن المعجزات؟ الشعب يريد تحسين أحواله، ويرغب في الحصول على حاجاته، ولا يزال يعلق آماله على من يعده، حتى ييأس فينهار، أو يعي، وإذا ما وعى كانت الثورة، ولا فرق لدى الشعب أكان الإنقاذ عن طريق حكومته أو عن طريق الثائرين، ولكنه لا يكاد يقنط من الحكومة، وينجلي له انخداعه بالاتكال عليها حتى يثور مع الثائرين، وإنني لمتفائل بأن هذ الليلة ستكون ليلة انكشاف خداع الشعوذة، ولعلها ستكون ليلة الإنقاذ.
الثاني :
إنني متفائل مثلك، فحبل الكذب قصير.
وفيما كان هذا الشباب الواعي يتبادل الأحاديث بين التفاؤل والتشاؤم في هذا الجو الواجم يكتنفه الغموض، ناداهم الساحر قائلا: تهيئوا فقد دنا موعد الخروج إلى القصر العامر، وإنها لليلة لها ما بعدها، ثم دنا من تلميذه وأسر في أذنه: إياك إذا لم تر التاج أن تنكر وجوده، ففي إنكارك حتفك، أفهم رفيقيك فإنني ضنين بكم وسأبين لكم السر بعد حين، وإياكم أن تعلنوا عن أي ارتياب قبل أن أوضح لكم أمر هذا التاج، فإن تأثير سحره عجيب، إنه في حراسة قوم من عفاريت الأرصاد، فلا يظهر إلا لمن كان على هيئة روحية ملائمة، فإذا لم تتحقق فيكم أو في أحدكم فليصطنع وليظهر أنه يراه، وعلي إنقاذ الفاقد لتلك الهيئة الخاصة من شرور نفسه، فكونوا يقظين، ولا تخشوا ضرا ولا أذى ما دمتم مع أستاذكم ظاهرا وباطنا، وفقكم الله.
في هذا الجو المفعم بالوجوم والشكوك والحيرة، سار الشبان الثلاثة في موكب الساحر والخواطر تغلي في نفوسهم، إذ تشتعل نيران الارتياب والخوف في قلوبهم، ولكن لا بد من الصبر حتى تسنح ساعة المبادرة، والصبر مفتاح الفرج، وقد أدهشهم تحمس الجماهير لرؤية الموكب، ولا سيما عندما كانت عيونهم تقع على طبق تاج الإنقاذ، فالتاج السحري المنتظر أصبح في نظرهم رمز إنقاذ مما هم فيه من فاقة واضطراب وظلم، وهكذا يفعل الجهل بالجماهير الغافلة، ترقص على قبور أعدت لوأدها.
وصل الموكب إلى القصر بعد مظاهرات وصخب وتهليل، وأودع الطبق في غرفة خاصة ينتظر الساعة، ولا خوف عليه من أن يكشف الغطاء عنه أحد؛ لأن الجميع غدوا يعلمون أن التاج لا يرى إلا على رأس صاحب الجلالة.
لم يكد المدعوون من أركان الدولة والأمراء والوجوه ينتهون من تناول طعام العشاء على المائدة الملكية الباذخة، وقد تعود الأستاذ الجليل مراسيمها، فلم يعد يخطئ بها كما سبق له، حتى استعد الجميع في القاعة الكبرى لاستقبال ذلك التاج، يزين رأس الملك، ويحل بسحره مشاكل الدولة.
دخل الأستاذ الجليل الغرفة التي وضع فيها الطبق الذهبي، ثم خرج على هيئة خاصة، يتلو الأسماء ويعزم ويدمدم، حتى بلغ العرش وقد جلس عليه الملك تتأكله نار صبر الانتظار، صمت الساحر برهة، ثم صرخ بانفعال وشدة: إلي يا هامان ويا دمدمان، اكشفا الحجب عن هذا التاج السحري ولتكونا رصديه الملازمين إلى الأبد، ثم وضع يديه على رأس صاحب الجلالة، وكأنه يضع شيئا سريع العطب، وما رفع يديه حتى انقسم الحضور، فبعض بدأ بالتهليل وبإيراد كلمات الإعجاب بهذا التاج العجيب، مدعيا أن أنواره تكاد تخطف الأبصار لما فيه من جواهر ومن نفائس الأحجار، وبعض أنكر وجود أي تاج على رأس الملك، وبعضهم وقف مشدوها لا يدري ماذا يقول.
انكشف السر للشبان، فلا تاج ولا إنقاذ، وإنما هي شعوذة، بنيت على فراغ يستغلها المشعوذ الأكبر، ويحاول استمرار الاستغلال في شركة سرية، ضحيتها الشعب والمملكة، ويحميها الملك، وما انكشف الأمر حتى حاول التلميذ الكلام ليوضح هذه الأمور، ولكن مفاجأة الملك للجميع بانسحابه إلى دائرة الحريم أعاد للصمت الرهيب سلطانه في تلك القاعة، وقد أصبح الناس فيها في شبه غيبوبة، شملت الجميع حتى المشعوذ، وقد كادت تخونه أعصابه في تلك اللحظة الرهيبة، وما زال الذهول مستوليا على هؤلاء المشدوهين المضطربين وقد تملكتهم الحيرة في تفسير رموز ما وقع، حتى سمعت من دائرة الحريم المجاورة أصوات استغاثة تطلب النجدة، فتردد هؤلاء قليلا في بادئ الأمر، ولكن ازدياد صراخ النساء دفعهم إلى داخل الحرم، فإذا الملك في حالة ثورة نفسية عنيفة وفي يده خنجر يحاول الفتك به بأمه، وكان يردد بصوته المرتفع وبحزم شديد قوله: إن لم تخبريني الحقيقة قتلتك توا.
وكانت الأم تقول له بصوت عاطف حنون: إنك واهم، فوالله إنني كنت ولا أزال الأمينة الوفية على شرف أبيك الملك، فلا مرية في بنوتك له، لعن الله من شوش عليك عقلك، وأدخل في صدرك الوساوس، وأساء ظنك بالمخلصين حتى بلغ شره أمك، وهي من أفنت ذاتها في ذاتك.
أدرك المشعوذ بسرعة البرق أن الملك ارتاب بأمه؛ لأنه لم يشعر بالتاج على رأسه، ولعله عندما دخل إلى دائرة الحريم نظر في المرآة فلم يجد على رأسه شيئا فثارت نفسه، وحاول قتل تلك الأم لثقته بصدق شعوذاته، فابتسم ابتسامة ماكرة تسر الارتياح لهذه الثقة العمياء وتظهر الاعتماد على تلك الثقة في تهدئة ثورة الملك، ثم استمر في شعوذته بجرأة نادرة وحضور ذهن غريب فقال: أسرعت يا مولاي، ولو سألتني في القاعة لأخبرتك أن حامل هذا التاج لا يراه، وإنني أنا المذنب؛ لأنني لم أجل لصاحب الجلالة ذلك السر قبلا، فاحكم علي بما تشاء، فوالدة صاحب الجلالة هي من أطهر النساء، وأنا أثق كل الثقة بما أقول؛ لأن الأرواح تؤكد لي ذلك الآن في هذه اللحظة، وتظاهر المشعوذ بالانخطاف.
كاد الملك يخدع أيضا، وعلى الرغم من جميع ما مر به من إفك ذلك الرجل ومينه، لولا أن وقف التلميذ وطلب الخلوة بصاحب الجلالة لأمر خطير ينقذ المملكة من الدمار، وما أجيب إلى طلبه حتى طلب الحجز على جميع من حضر الحفلة إلى ما بعد انتهاء حديثه في خلوته بمليكه، وهكذا كان.
وفي تلك الخلوة، وضع التلميذ بين يدي الملك تلك الأوراق التي كان أمره أستاذه المشعوذ بحرقها، ولكنه لم يكن ليحرقها، وإنما موه على أستاذه بإحراق غيرها برشاقة ماهر نجيب حسب للأمور حسابها، وما اطلع الملك على تلك الأوراق وهي تثبت الجرائم التي ارتكبها كل من وزير الميمنة والمشعوذ حتى أظهر دهشته، فأعلمه الشاب عن كل شيء وعن العهد المشترك في خداعه، فأرسل الملك حالا من يكشف عن نسختي العهد في قصر الوزير وفي دار الساحر الدجال، ويا لشدة ثورته، عندما اطلع على نص العهد وهو يعرف خط كل من المتعاهدين وإمضاءه، فأمسك بالجرم بيديه وعينيه وأذنيه، ولم يعد ثمة أي وجه للارتياب.
خرج الملك من الخلوة كالأسد المكلوم، فإذا الشعب وقد عرف كل شيء بتدبير من الشابين، يصخب ويصرخ مطالبا برءوس الخونة المضللين والمجرمين المستغلين والدجلة المشعوذين، فاستجاب الملك لمطالب الشعب، وأصدر أوامره - كما يقول الرواة - بالقضاء على جميع السحرة، وبتحريم السحر والشعوذة في جميع أرجاء المملكة، وفي مقدمتهم ذلك المشعوذ الأكبر، وقد أفسد البلاد، وكاد يهلك العباد؛ لكثرة ما استغل ولوفرة ما هيأ من وسائل الاستغلال.
ولكن هل انتهى السحر بشعوذاته ودجله مع تلك الحادثة؟ وهل قضي بإنفاذ حكم الملك على جميع السحرة والمشعوذين؟
خاتمة وعبرة
قال الراوي: ما كادت تلك الليلة - ليلة التاج - تتنفس عن فجرها - وقد كانت لجلالته ليلة بيضاء، كتلك الليلة التي استعاد فيها في نفسه تاريخ حياته - حتى كان الملك قد دبر كل شيء، فكان نهارها انقلابا داويا، تغيرت معه وجوه المسئولين في المملكة، وكان تبدلا جذريا، استقر به الاتصال الوثيق بين الدولة في حكومتها وبين الشعب في آماله ومثله، وأصبح الأستاذ الحكيم الثائر مستشارا أول للملك وموجها للحكومة، وراعيا لمصالح الأمة في جماهيرها، وقد عبرت زينة الأنوار المتلألئة على السطوح والشرفات والمندفعة في الأجواء، عن فرح الناس واغتباطهم وعما استعادته الحياة في تلك البلاد من بهجة ومرح، كما عبرت الهتافات والزغاريد المتصاعدة من أفواه الناس وقلوبهم عن حبور الشعب واطمئنانه وسعادته.
استمرت تلك الأعياد، وقد دعيت بأعياد النصر، أياما متواصلة، اتصلت فيها أفراح الليل بأفراح النهار، والناس يهنئ بعضهم بعضا، فتتسامى أرواحهم إلى العلاء، في أجواء المثل الوطنية والقيم الاجتماعية والمناقب الإنسانية، فيلتقون عندها جميعا ملكا وحكومة وشعبا ، وليست الأفراح والأتراح - يشترك فيها الشعب والحكومة معا اشتراكا عفويا يصدر عن طبيعة الذات وعن تحسسها الأصيل تلقائيا، لا اصطناع فيه ولا افتعال، ولا استعارة ولا استئجار، دون تكلف أو محاولة تغطية - إلا وسائل قوة وعزة وبناء صروح للأمجاد، تتباهى بها الأمم وتتفاخر الحكومات ويزهو الملوك، وتكون النتيجة انتصارا على الذات وانتصارا على الأعداء، والحوادث تتوالى، هي الدليل الصادق على صحة هذه النظرات.
فما سمع شداد بما جرى، وما اتصل به نبأ العواقب الوخيمة تبلغ أعناق أنصاره من الخونة في رجال الدولة وأركانها، حتى استشاط غضبا، فقرر اقتحام المملكة بهجومه الصاعق.
إنه قد سبق، وهيأ شداد جنده لهذا الهجوم بالاتفاق مع الخونة المارقين والسحرة المشعوذين من رجال الدولة وقادة الشعب، فهل يضيع الفرصة والدولة هناك - على ما كان يعلم - منهوكة القوى بفعل الترف، والشعب في تلك المملكة متفككة أوصاله بفعل إفساد من أغرى من الخونة المارقين، يخلصون لمن يستأجرهم ويغريهم من أعداء البلاد الطامعين في مرافقها وثرواتها، ويحسنون خداع شعوبهم في خدمته؟ إنه النصر الأكيد ما دامت الأمة في تخاذل وانقسام، وما دام الشعب مع حكومته على خلاف، وأولئك الأنصار والأصدقاء ممن خانوا بلادهم في سبيل تحقيق مطامعي في أطماعهم، ألم يرحني منهم ملكهم الملقب بالعادل، فلم أعد مطالبا بوفاء في إبان النصر، عندما تستحق وعودي لهم الاستيفاء؟ وهل كنت حقا مصمما على الوفاء إلا بمقدار ما تقتضيه مصلحتي من تجدد الخدمات، أو يتعذر علي - وأنا المنتصر - أن أجد في غيرهم أطماعا تغريهم بالخيانة وبأبخس الأجور والأثمان، ما دامت الأمة في حكومتها وفي شعبها لا ترى في غير المال والزهو والترف أي معنى للوجود أو أية قيمة للحياة؟
وفي خضم تموجات هذه الخواطر السوانح البوارح، أصدر شداد أمره بالهجوم غادرا ليفاجئ الخصم، فيربح المعركة على أهون سبيل وبسرعة برق الصاعقة، ولكن ساء فأله وخاب أمله، وكان برق صاعقته خلبا، إنها روح الثورة تأتي في مقاومتها بالأعاجيب وتفعل المعجزات، فتتفجر بها ذرات الضعف قوة، إذ يتحول الانقسام تماسكا والتخاذل تناصرا، والتعدد في التفرق والاختلاف وحدة في التجمع والاتفاق.
انتصر الملك العادل، وانهزمت جيوش شداد، وطابت لملك عرف كيف ينسجم مع شعبه الحياة، فلانت للشعب، يعرف كيف يعيد إلى مليكه صوابه، واستحالت رغدا وعزة ومجدا وسعادة، فاطمأنت النفوس وسكنت الأعصاب، واعترف الجميع بأن الفضل للشباب في وثبات الثورة في نفسه وفي استقرار المقاومة فيها، يعبر عنها باستمرار خفقان القلوب ودوران الدماء، نعم، الدماء.
يؤكد الراوي: إنه مضت على هذه المملكة بعد نجاح الثورة سنوات عزة وإقبال، ورغد ورخاء، ولكنها سنوات لم تتجاوز عدد أصابع الكف، إذ ما لبث الملك أن استعاد بتأثير طفيليات نبتت من جديد في أوساط رجال الدولة جميع ميول السخف بالارتياح إلى تملق الناس وإلى البذخ والترف، وكأن الشيخوخة وقد بدأت تراوده وإن باكرا، قد أضعفت ما في صميم ذاته من مقاومة، فخمدت شعلة الثورة، وأصبح كارها لها، يخيفه أن يذكر اسمها، أو أن يسمع بأنها لا تزال يذكرها الناس في أحاديثهم ولو في الخلوات.
يا ويل الأمة من أذكيائها إذا ما أصبحوا وصوليين انتهازيين، ففي قدرة هؤلاء أن يفسدوا الأولياء والقديسين، وأن ينحرفوا بالأتقياء المصلحين، إذا لم يتدارك الشعب أمره بوعي صادق، تبعثه وثبات المقاومة، تدخلها روح الثورة، تتأجج نارها في النفوس، وهذا ما وقع، فإن الشعب وقد احتفظ بفاعلية المقاومة تحميها شعلة الثورة في النفوس، لم يحتمل طويلا، ولكنه وقد مل دلع الملوك المتألهين وسيطرتهم جبارين متغطرسين، لا يرضيهم إلا البذخ والإسراف والمراسم السخيفة، في إشباع حب الظهور والمباهاة بما يشبه التمثيل والتهريج، حفظا لهيبة الملك والدولة على ما يدعون، وإنما هو في الحقيقة شعوذة تتخذ وسيلة للتخدير والتنويم، استعبادا للناس وقد خلقوا أحرارا، إنه الشعب تلتهب في نفسه روح الثورة، تفجر ذرات المقاومة، فلا يعقل - وهو في تقدميته - أن يصطبغ بصبغة شعوب الانهزام والتأخر والانهيار، فما لبث أن ثار ناقما على الملك بل على النظام الملكي نفسه، فخلعه وطرده من البلاد وطرد أسرته وقلب الحكم جمهوريا، يصدر عن إرادة الشعب في خدمة الشعب، ويظل تحت سيطرة شعب أراده حكما ديمقراطيا صادقا، لا يظلم في ظله الفرد ولا يستغل المجتمع، إن الشعب قد أراد بالجمهورية الديمقراطية حكما تمثل سيادته سيادة كل فرد من أفراده، فلا يجد الحاكم فيه حقا في كبرياء سيادة يؤجر عليها من أسياده الناخبين، فيكيف أنت بالأجير يتكبر على أسياده ويبذخ بمالهم ولا يخجل. ويقول الراوي: إن تلك المملكة سعدت بجمهوريتها، إذ صدقها من انتخبت من الحكام وأخلصوا لشعبها. وإلى هنا انتهت جدتي في سرد الحكاية مرددة إحدى العبارات المألوفة في نهاية كل حكاية يشتد فيها الصراع: «وظلوا في سعادتهم إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.» ومن يدري؟
العبرة
لن أطيل، فعبرة القصة في ثنايا حروفها وبين السطور والكلمات، إنما أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى ما لا يزال حولنا وحوله طبعا من صائغي التيجان المسحورة، يضللون بها الناس بشعوذة سحر الكلمات ودجل تنميق الألفاظ وغيرها، فأنت مؤمن ووطني من أبناء الحلال، إذا ما توهمت وجود تاج صاغوه، وخدعت نفسك بادعاء رؤيته، وأنت الكافر وأنت الخائن وابن الحرام طبعا، إذا ما كانت لك عينان تريان غير ما يريدونك أن تراه واهما، وإذا ما كانت لك أذنان تسمعان غير ما يدعون سماعه، فلا ذات محسوسة يحكم العقل بصحة وجودها، وإن وجد شيء بالفرض فتوهم شبح، ولا رنين صوت يسمع فتتذوقه الروح، وإن سمع شيء فضجيج وصخب، ويجب عليك أن تعجب بما لا ترى، وأن تطرب بما لا تسمع، وإلا فإنك من أبناء الحرام، لا ترى التاج، تاج الوهم على رءوس المتألهين، ولا تدهش لتلألؤ جواهره، فأنت الكافر الخائن؛ لأنك تعبر عن وهم الشبح، فتقول: إنه وهم. وأنت الأعمى؛ لأنك لا ترى ما لا يرى، وأنت الأصم؛ لأنك لا تسمع ما لا يسمع، أنت لم تخدع، إنك لا ترى التاج المسحور، ولا يشعر بوجوده من يدعون أنه يعلو رأسه، ولكن يجب أن تراه وإلا فإنك ابن حرام، تكفر بدينك، وتخون بلادك، وتحتقر المثل والقيم، يجب أن تخادع نفسك، وأن تخدع غيرك أيضا، لتحشر في زمرة أرباب العلم والفن والذوق، ولتعتبر مواطنا ومؤمنا، وإلا فكيف يستغلون ويثرون ويرتشون ويسرقون، أو يقطعون على عباد الله الطرق؟ فإذا ما أنكرت الوهم، وأعلنت الحقيقة، فإنك لم تر التاج، تاج السحر والشعوذة، فلست من ظهر أبيك، ولذلك يحكم عليك هؤلاء الصائغون لتيجان السحر والشعوذة والتدجيل بالجهل وقلة الذوق وبالكفر وبالخيانة.
فانتبه يا قارئي الفطن وإياك أن تخدع، واتركهم يقولون، فإذا ما استقرت روح المقاومة في نفسك اتقدت نار الثورة حواليك، فيستنير الناس وينكشف الغطاء، فلا يحاول مخلص صريح أن يقتل أمه أو وطنه وبلاده، أو أن يتهم دينه، فأنت مدعو للاختيار بين تقهقرية الشعوذة وهدم الدجل، وبين تقدمية الحرية والإدراك وبناء الفكر والتأمل، ولا إخالك مختارا عن التقدمية والبناء بديلا؛ لأنك إنسان، وإنسانية الإنسان إنما تتحقق بالتحرر والإدراك، وبالتفكير والتأمل، والإنسان لا يستعبد، وخضوعه كعبد إنما يعني تنازله عن إنسانيته، والإنسان لا يستعبد؛ إذ بمحاولة إخضاع الناس رجعة إلى حياة التوحش في كهوف السباع الضارية، ولسنا في عصر التوحش، ولا في عهد استعباد من للحرية خلق، ورسالة كل إنسان يعي لإنسانيته أن يكافح شعوذة التيجان الساحرة ودجل الاستغلال الخادع، لا فيما يأتي به الجهلاء والسذج الأغبياء، بل فيمن يحسن الصياغة من المتأدبين والمتعالمين، ولا سيما من حملة الشهادات، ففي هؤلاء قد تكون الأخطار والأضرار، ومن أذكيائهم استعاذ المصلحون فقالوا: اللهم أنقذ الأمة من أذكيائها، وقد استجار نبي العرب منهم في قوله: «أعوذ بالله من عالم اللسان جاهل القلب.» فتأمل فيما أقول أيها الشاب، وفكر، فأنت الأمل.
Unknown page