من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا
قال شاعر قديم وهو يصف الإنسان الكامل كما يتصوره:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
أراد بذلك أن يقول إن الإنسان الكامل قوامه جانبان، هما: الشعور الذي يختلج به صدره، ثم التعبير بلغة اللسان عن ذلك الشعور؛ فالقلب الشاعر هو نصف طبيعته، واللسان الناطق هو نصفه الآخر، وأما ما يبقى منه بعد ذلك من أجزاء البدن، فهو إطار جيء به ليحمل ذينك العنصرين.
ربما يكون هذا الشاعر قد أصاب في رسم الصورة، التي تصور عصره فيما كان يصبو إليه ذلك العصر، من مثل إنساني أعلى؛ إذا لم يكن يطلب من الإنسان الأمثل عندئذ، أكثر من أن يضطرب جوفه بفكرة أو عاطفة، ثم يجري لسانه بما يصفح عن تلك الفكرة أو العاطفة بلفظ مبين.
فإذا رأينا ظروف الحياة في عصرنا، قد تغيرت تغيرا يقتضي ألا تكون هذه هي صورة الإنسان كما ينبغي له أن يكون، فليس الذنب في هذا ذنب الشاعر القديم، بل هو ذنبنا نحن؛ إذ جمدنا على صورة ذهب زمانها، وأخشى أن يكون هذا هو ما قد حدث، فما نزال إلى يومنا هذا ننسج حياتنا، على المنوال القديم نفسه؛ فصدور تضطرم بمشاعر الغضب أو الرضا، وألسنة تنطلق بالتعبير عما في الصدور، تعبيرا بالشعر حينا وبالنثر أحيانا، ثم لا شيء بعد ذلك، فمحطة الوصول عندنا هي، أن يكون مكنون الفؤاد قد أفرغ في عبارات لغوية؛ وذلك لأننا نظن فيما يبدو - جريا مع نموذج الشاعر القديم - أنه ما دام القلب قد انفعل واللسان قد نطق، فقد أدينا كل ما يمكن أن يؤدى.
لكن ماذا لو كان عصرنا هذا يأبى أن يتصور الإنسان على هذين النصفين؟ ماذا لو كان عصرنا يطالب الإنسان بنصفين آخرين، أحدهما يتألف من الفؤاد واللسان معا، وأما الآخر، وهو النصف الذي أهمله الشاعر - وربما كان ذلك لأن عصره كله قد أهمله - فهو جانب الفعل الذي يخرج الفكرة أو العاطفة إلى دنيا العمل، بل إن فلسفة عصرنا هذا لا يكفيها، أن يقال إن الفكرة وتنفيذها، جانبان يكمل أحدهما الآخر، بل تصر على أن تكون الفكرة أو العاطفة، هي نفسها العمل الذي يظهرها ويجسدها، فإذا وجدت جماعة يساروها الوهم، بأن رءوس أفرادها ممتلئة بالأفكار، وبأن قلوبهم مفعمة بالمشاعر، غير أن طريق العمل أمامهم مسدود، فاعلم عندئذ أن الرءوس في حقيقتها رءوس خاوية، وأن القلوب في واقعها قلوب فارغة، وإنما هو الوهم صور لأصحابه ما قد صوره.
كان المدار فيما مضى، هو القلب الشاعر الحساس، واللسان الناطق المبين، فأصبح المدار هو دينامية العمل؟ ففي أصلاب العمل، تسري الفكرة ويسري الشعور، وإذا لم يكن عمل فلا فكرة هناك ولا شعور، ولما كان جانب الصناعة في هذا العصر هو أهم الجوانب، ثم لما كانت هذه الصناعة مرهونة بآلاتها - والآلات علوم مجسدة ومهارات مكثفة، وليست قطعا من حديد - أقول لما كان الأمر كذلك، كانت الصورة الأساسية التي تجسد روح عصرنا، هي الأجهزة العلمية التي عن طريقها، نستدبر حضارة ونستقبل أخرى؟ فقل لي إلى أي حد استطاعت أمة، أن تشارك في ابتكار هذه الأجهزة العلمية، أقل لك كم سارت تلك الأمة في شوط الحضارة العصرية، فإذا كانت عكاظ فيما مضى، هي التي تحكم على درجة التفاوت بين الناس، بناء على جودة ما ينظمه شعراؤهم، فسوق الأجهزة العلمية هي عكاظ اليوم.
لا، لم يعد فؤاد الفتى نصفا ولسانه نصفا، اللهم إلا إذا أصر هذا الفتى، على أن يلوذ بعصر غير عصره؟ والأصوب أن يقال اليوم: دماغ الفتى نصف ونصف أجهزته العلمية، التي تتكثف فيها معارفه ومهارته! وأما ما عدا ذلك، فهو إما أن يكون نشاطا في خدمة تلك العلوم وأجهزتها، وإلا فهو جزء من حياة الإنسان الخاصة، التي لا بد منها لراحة نفسه أثناء ساعات الفراغ، لكنها لا تسهم بنصيب ظاهر في البناء الحضاري المشترك.
Unknown page