9
ولم يقتصر فضل العرب في ميدان الحضارة على أنفسهم، فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، والمشرق والمغرب مدينان لهم في تمدنهما، ولم يتفق لأمة فيهما ما للعرب من النفوذ.
ذلك ما رآه لوبون، وهو القائل: «إن الأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين والأغارقة والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تنزل لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا أيضا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل: ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حية ... «وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارة التي ظهرت قبلها، وتمكنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم وحضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة كشعوب مصر والهندوس، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب، وظل نفوذ العرب فيها ثابتا، ويلوح لنا أن رسوخ هذا النفوذ أبدي في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند.»
وشمل فضل العرب قاهريهم أيضا، مع عجز هؤلاء عن الانتفاع بحضارة العرب كما كان يجب، وانتحل أكثر قاهري العرب دين العرب وفنونهم وعلومهم، واتخذ أكثرهم العربية لغة له، ولم يدر في خلد أحدهم إقامة حضارة مقام حضارة العرب، فحضارة العرب أينما حلت ثبتت أصولها، ولم يقدر فاتح على زعزعتها، وهي من المناعة ما استطاعت أن تهيمن به على الأمم التي حاولت هدمها.
قال لوبون: «لا نرى في التاريخ أمة ذات أثر بارز كالعرب، فجميع الأمم التي اتصل العرب بهم اعتنقت حضارتهم، ولو حينا من الزمن، ولما غاب العرب عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم، كالترك والمغول، إلخ، تقاليدهم وبدوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، لقد ماتت حضارة العرب منذ قرون؛ ولكن العالم لا يعرف اليوم في البلاد الممتدة من سواحل المحيط الأطلنطي إلى الهند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء غير أتباع النبي ولغتهم.»
وعندما تكلم العلامة لوبون عن عرب الأندلس قال: «لم يكد العرب يتمون فتح إسپانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمنا طويلا.»
ثم رأى لوبون أن إسپانية هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب عنها، وذلك بعد قوله: «لا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين، ومما يرثى له أن حرمت إسپانية عمدا هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.»
ورأى لوبون، والحق ما رأى، أن العرب مدنوا أوربة مادة وعلما وأخلاقا، «فقد كان عرب الأندلس يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظيم، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخرا ... وأثر عرب الأندلس في أخلاق الناس، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن ما تصبو إليه الإنسانية ... ويمكن القول بأن التسامح الديني كان مطلقا في دور ازدهار العرب ... ومثل هذا التسامح مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما منيت به من المذابح الدامية.»
وقد أفاض العلامة لوبون في إيضاح تمدين العرب لأوربة، وانتهى إلى ما يأتي: «إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعرب هم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان، والعرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا ممدنين لنا وأئمة لنا ستة قرون ... وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرا وحيدا، تقريبا، للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون ... وإذا كانت هناك أمة تقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم فالعرب هم تلك الأمة ... فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافا أبديا، قال مسيو ليبرى: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة في الآداب عدة قرون.»
ولم يغب عن بال لوبون أن يرد على قول بعض الكتاب إن معظم علماء العرب في بلاد الإسلام ليسوا من أصل عربي، فقد قال: «إن تلك البلاد مما ملكه العرب، وإن الدم العربي مما جرى في عروق أبنائها، وإن علوم العرب مما كان لها نصيب منه زمنا طويلا، وإنه إذا أبيح لأحد أن يجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلفات علماء فرنسة بحجة أنهم من الشعوب الكثيرة التي تألف من مجموعها الشعب الفرنسي كالنورمان، والسلت، والأكيتان ... إلخ.»
Unknown page