صعد الكونت رادلف في جبل كاسينو ذات يوم، وكان معه خمسة عشر نورمانيا، فترك هؤلاء النورمان، على حسب العادة، أسلحتهم وخيولهم عند باب الدير الذي دخلوه للصلاة، وبينما كان هؤلاء النورمان جثيا أمام هيكل القديس «بنوا» أغلق الرهبان أبواب الدير من فورهم، وقبضوا على تلك الأسلحة والخيول، ودقوا النواقيس إيذانا بالخطر، فتدفق أنصار الدير كالسيل، وهجموا على هؤلاء النورمان الذين لم يبق لهم ما يدفعون به عن أنفسهم سوى السبحات التي كانت بأيديهم.
وذهب عبثا ما تضرعوا به لاحترام ذلك المكان المقدس الذي لم يحدث أن احترموا أمثاله، وذهب عبثا قسمهم إنهم لم يدخلوا الدير إلا للعبادة وللاتفاق مع رئيسه، فقد جعل الرهبان أصابعهم في آذانهم، ولم يرضوا أن يضيعوا ما سنح لهم من فرصة الانتقام، وقد قتل أصحاب الكونت الخمسة عشر، ولم ينج الكونت نفسه من القتل إلا بفضل شفاعة رئيس الدير الذي اهتبل هذه الفرصة فأعاد إلى الدير ما كان هذا الكونت قد اغتصبه من الأملاك والأموال، وقصر القديس أندره وحده هو الذي حاول المقاومة.
شكل 7-2: داخل قصر العزيزة في صقلية (من تصوير جيرول دوپرانجة).
واستمر النورمان على نهب صقلية إلى أن فكر رئيس ماهر من رؤسائهم، اسمه روجر، في فتحها بحزم، والفرصة كانت سانحة لتحقيق ذلك.
وكان الانقسام يأكل المسلمين، وكان ما بين العرب والبربر من المنافسة يقودهما إلى الهلاك في صقلية كما كان يقودهما إليه في إسپانية، وكانت صقلية في ذلك الزمن، أي في سنة 1061م، مجزأة إلى الإمارات الخمس: بلرم ومسينة وقطانية وأطرابنش وجرجنتة، وأطلق المؤرخون لقب ملك على أمير بلرم، ولكن هذا الملك كان يقتتل هو والأمراء المسلمون الآخرون مع استيلاء النورمان على نصف جزيرة صقلية.
وجعل انقسام العرب في صقلية فتح النورمان لها من الممكنات، وتم استيلاء النورمان عليها بدخولهم بلرم سنة 1072م، فأفل نجم العرب السياسي عن صقلية في تلك السنة، وإن دام تأثيرهم الثقافي بعدها زمنا طويلا بفضل دراية روجر وخلفائه.
وبدا روجر الأول، الذي نودي به أميرا على صقلية، منظما قديرا كما بد مقاتلا شجاعا، ويجب عده من أعاظم رجال زمنه، ويستحق ابنه الذي خلفه مثل هذا المديح.
وكانت حضارة العرب زاهرة في صقلية حين فتحها النورمان، وأدرك روجر وخلفاؤه أفضلية أتباع النبي؛ فانتحلوا نظمهم، وشملوهم برعايتهم، وتمتعت صقلية برخاء دام إلى أن قبض ملوك من السوآب على زمامها في سنة 1194م فأجلوا العرب عنها.
وكان يسكن صقلية، حينما نظم روجر أمورها، خمسة شعوب ذات لغات وعادات مختلفة، وهي: الفرنج (النورمان ولا سيما البريتان) والأغارقة واللنبار واليهود والعرب، وكان لكل من هذه الشعوب شريعة خاصة، أي كان الأغارقة يعملون بقانون جوستنيان، واللنبار يعملون بالفقه اللنباري، والنورمان يعملون بالفقه الفرنجي، والعرب يعملون بالقرآن، وكان لا بد لمن يريد أن يحسن سياسة هذه الشعوب المختلفة من التحلي بروح التسامح والعدل والإنصاف، وكان العرب يدركون ذلك فجاء روجر فأدركه أيضا، وكانت إمامة الثقافة والصناعة للمسلمين، فأخذ روجر يحافظ عليهم أحسن المحافظة، وكانت مراسيم روجر تكتب بالعربية واليونانية واللاتينية، وكان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية والنصف الآخر باليونانية أو اللاتينية، وكان بعضها يشتمل على رمز المسيح، وبعض منها يشتمل على رمز محمد، وبعض آخر يشتمل على كلا الرمزين.
وسار خلفاء روجر على سنته، ومنهم غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يرجع إليهم في أهم شؤونه، وكانوا يقابلون عطفه بإخلاصهم له، فينضوون إليه ويساعدونه على إطفاء ما يقع من الفتن.
Unknown page