فالفلاح المصري يقتصر في طعامه على كسر يابسة من الخبز وقليل من الفواكه والبقول، ويسكن كوخا حقيرا من تراب النيل المجبول بالتبن والماء، ويلبس جلبابا أزرق، وإذا ما كان عمره أقل من أربع عشرة سنة كان من العراة، وقد رأيت في مصر العليا وبالقرب من حدود النوبة، على الخصوص، عمالا كثيرين لا يكاد يزيد ثوب كل واحد منهم على زنار عرضه بضعة سنتيمترات مشدود على وسطه، وتترجح جميع نفقات الفلاح المصري السنوية في زماننا، الذي كثرت فيه نفقات الإنسان، بين سبعين فرنكا و120 فرنكا، ويندر أن تزيد أجرته اليومية على خمسين سنتيما، وأنبأني دليلي في الأقصر، أحمد، وهو لم يكن من سفلة الناس، أن نفقاته السنوية، هو وزوجه وأولاده الأربعة، نحو أربعمائة فرنك، وأنه يعيش بهذا المبلغ عيشا لائقا كثيرا.
ولم تتقدم طرق الزراعة والاستغلال في مصر ما كانت عليه في زمن الفراعنة، ولا نرى من الفوائد ما يحفزها إلى تغييرها ما دام النيل والشمس يغنيان فيها عن الأسمدة والحرث.
شكل 4-5: منظر القلعة ومسجد محمد علي في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وتنظيم شؤون الري مقدارا فمقدارا بزيادة القنوات والترع هو كل ما يمكن إصلاحه وما تقضي المصلحة بإصلاحه، فبهذا يمكن إنقاذ أجزاء مصر التي يصل إليها ماء النيل من الصحراء، وتحويلها إلى حقول خصبة.
ولا بد من أن تكون مصر الغنية قد أثرت تأثيرا حسنا في العرب الفاتحين الذين جاءوا من صحاري بلادهم، فالكتابان الآتيان اللذان تبادلهما عمر بن الخطاب وعامله عمرو بن العاص يثبتان درجة تقديرهما لفتح مصر.
كتب خليفة أبي بكر، عمر بن الخطاب، إلى عامله عمرو بن العاص يقول له: «أطلب منك يا عمرو أن تصف لي مصر وصفا دقيقا عند أخذك كتابي هذا؛ لأتمثل ذلك البلد الجميل والسلام عليك.»
واسمع جواب عمرو بن العاص:
ورد إلي كتاب أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين، أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان، يدر حلابه، ويكثر عجاجه، وتعظم أمواجه، فتفيض على الجانبين، فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن المخايل،
5
أو ورق
Unknown page