رسالة الغنية عن الكلام وأهله

للإمام الخطابي المتوفى سنة 388 هجرية

بسم الله الرحمن الرحيم

Page 1

قال الإمام الخطابي رحمه الله

عصمنا الله وإياك أخي من الأهواء المضلة والآراء المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالحو الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونعمنا وإياك بما علمنا وجعله سببا لنجاتنا ولا جعله وبالا علينا برحمته

Page 23

وقفت على مقالك أخي وليك الله بالحسنى وما وصفته من أمر ناحيتك وما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حرمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور

Page 24

وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين فإن الدين النصيحة

Page 25

واعلم يا أخي أدام الله سعادتك أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله تعالى وذلك مصداق قول النبي إن الدين بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن البوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما نشاهده منه وسلوا الله العافية من البلاء واحمده على ما وهب لك من السلامة وحاطك به من الرعاية وجميل الولاية

ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة فإنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك من طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء فاختدعهم بهذه الحجة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها فلم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين علم

Page 26