وقاطعها صابر في حزم: يا خالتي رحيمة اسكتي.
وفوجئت رحيمة، يرتسم على محياها وجوم ذاهل، وأكمل هو: للمرة الأولى وربما الأخيرة أريدك أن تسمعي بدلا من أن تتكلمي، وللمرة الأولى وربما الأخيرة سأتكلم أنا .
وظلت على ذهولها وأكمل هو منتهزا فرصة صمتها: عم داود ليس صغيرا في السن والمرض يجهده، وما يكسبه من الدروس الخصوصية لا يكاد يفي بثمن أدويته، وأنا أعلم أنكم في ضائقة وأن وجود هند معكم سيزيد هذه الضائقة إحكاما، أمسكي هذا المبلغ، سأقدم إليك كل شهر مثله، بشرط واحد ألا تعرف خالتي ألفت شيئا، ولا تعرف هند شيئا، ولا يعرف عم داود أيضا شيئا، وإذا احتجت إلى أكثر منه أثناء الشهر ما عليك إلا أن تطلبي مني، فأنا أعرف أنك تعتبرينني مثل ابنك، وسيظل هذا الأمر سرا بيننا إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وازداد ذهول رحيمة وحاولت أن تفتح فمها، ولكنه عاجلها: ولا كلمة.
وأخيرا قالت بلسان غير ثابت وبدموع جارية: يا بني لأول مرة لا أجد شيئا أقوله، إلا كلمة واحدة سأقولها وأصمت: وسع الله عليك وأكرمك في نفسك وفي أبنائك! - هيا بنا. - هيا.
3
في ذكاء شديد كان صابر يحرص غاية الحرص على أن يترك عبد الغني وعبد الودود في القرية ويذهب هو إلى القاهرة، ويترك لهما حرية التصرف، وهو يرقبهما من بعيد يجيز ما يجيز من تصرفاتهما، ويرفض ما يرفض دون أن يشعر واحدا منهما أنه يرفض تصرفه، بل هو يعالج الأمر في كياسة وتلطف حتى لا يحرج صاحب الرأي أمام أهل البلدة.
وفي يوم من هذه الأيام التي انفرد فيها الشابان الصغيران بالأمر لغياب والدهما، قصد إلى عبد الغني ناظر الزراعة هنداوي فراج ومعه سعدان الدهموشي مقاول تطهير المصارف، وقال هنداوي: هل ترك البك معك حق سعدان يا عبد الغني بك؟ - نعم. - لقد انتهى من تطهير المصارف. - لقد مررت عليها ورأيتها؟ - مصرفا مصرفا. - وهل تظن أني أصدقك؟ - إن لم أكن محل ثقة ما استخدمني جدك، وما أبقى علي أبوك. - نعم، نعم، أعرف هذا الموال، ولكنني غير أبي وجدي. - بالتأكيد يا عبد الغني بك، أنت غير أبيك وجدك.
وتدخل عبد الودود في الحديث محتدا: ماذا تقصد بهذا يا عم هنداوي؟ - لم يعد هناك داع لكلمة «عم » هذه، فإنك أنت وعبد الغني بك نسيتما أيام كنت أحملكما على كتفي ونسرح في الغيط، ونشوي الذرة وتأكلانه. - وهل معنى هذا أن تأكلنا؟ - أنا يا عبد الودود آكلكم؟! - عبد الودود هكذا بلا حياء. - لقد كبر الرجل يا عبد الودود ولم يعد يفهم. - جاد خيرك يا عبد الغني أنت وأخوك، سلام عليكم.
وانتتر عبد الغني غاضبا: سلام عليكم إلى أين؟ - إلى بيتي ولكم أب أرد عليه، إن كان هذا يعجبه يكون لنا كلام آخر. - ألا يعجبك أنت؟ - لا يعجبني، ولا يعجب أحدا يعرف معنى احترام الصغير للكبير، سلام عليكم. - وفلوس سعدان؟ - سعدان عندك والمصارف عندك، افعل ما تريد.
Unknown page