وكانت ليلة من ليالي العمر، كان ركاب المركب كلهم من الشباب، وأزال السن ما بينهم من غربة، فأصبحوا كأنهم أصحاب عمر بأكمله، وحكم الراكبون على الفتيات أن تقوم بينهن مسابقة في الرقص، فازت فيها ناهد بالمرتبة الأولى. وكان القمر واحدا من الرفقة، قد غدت أضواؤه أوتار الهوى في الصدور، وعلت الموسيقى أحيانا، والضحك والسرور كانا صاحبي السيادة على الليلة جميعها. •••
تكررت اللقاءات، وبدأت الرغبات في نفس عبد الغني وعبد الودود تحتدم. ولكن الفتاتين رفضتا إلا أن يكون الشرع هو الرباط بينهم. - وما له؟ - هل نتزوج؟ - تخرجنا، ومن الطبيعي أن نتزوج، فما البأس؟ - ألا ترى أن الفتاتين متحررتان أكثر من اللازم؟ - وأرى أيضا أنهما شريفتان. - لا شك، وكل الفتيات متحررات، وحسبنا أننا واثقان من شرفهما. - هل عرفت شيئا عن أبيهما؟ - عرفت القليل، إنما من الواضح أنه ميسور الحال، وإلا لما استأجر شقة للمصيف طوال فترة الصيف، وأنت ترى أن الفتاتين تلبسان أفخر الثياب. - ألا يهمك شيء إلا المال يا عبد الغني؟ - وهل هناك ما هو أهم منه؟ - ولكنك فيما أعتقد لم تأت إلى رأس البر لتتزوج. - الولد صديق ملازم لأبينا، وجاءنا أيضا الحوت فعلمه العوم على أصوله. - هل يئست؟ - من رأس البر نعم. - ولكنك لم تعدل عن فكرتك. - هيهات، ها نحن هذان سنتزوج، وسننجب أطفالا طبعا. - هل أنت واثق؟ - هذا هو الطبيعي، من يتزوج ينجب غالبا. - فلماذا تنكر هذا الحق على أبينا؟ - لأنه أبونا. - أهذا ذنبه؟ - هذا قدره. - المهم، ستكلم أنت أبي أم أكلمه أنا؟ - نكلمه معا. - على بركة الله. •••
وأقام صابر لولديه فرحا باذخا، واستأجر لكل منهما شقة بعمارة واحدة حتى يظلا متلازمين كما تعودا طوال حياتهما، وأتاح لهما فرصة أوسع في إدارة الأرض وإن لم يترك لهما الأمر جميعه.
وخلا البيت بهند وصابر وصديق.
9
بدأ عبد الغني ينهج نهجا جديدا نحو أخيه صديق دهش له صابر بعض الدهشة، ولكنه فرح به كل الفرح.
صار عبد الغني يعنى عناية فائقة بشأن صديق، ويذهب إلى مدرسته في فترات متقاربة، ويبلغ أباه بسعادة مقدار تفوق صديق، وإعجاب المدرسة به من ناظر إلى أساتذة إلى تلاميذ. وشارك عبد الودود في هذه العناية مشاركة غير خافتة، وظن صابر في براءته وهند في نقائها أن الكبيرين يرعيان أخاهما الأصغر شكرا لما هيأه لهما أبوهما من حياة زوجية مستقرة وبيت سعيد لكل منهما.
وحين حاول الأب أن يتعمق في الأمر ... لعلهما الآن يحسان باقترابهما من الأبوة، وربما راوحت نفسيهما هذه العواطف فهزت حنايا الحب والأخوة معا نحو أخيهما الذي يكاد أن يكون منهما بمكان الابن أيضا.
وهكذا لم يكن غريبا أن يأتي عبد الغني إلى أبيه: اترك لي صديق أخرج به إلى الدنيا. - أخاف عليه. - مني؟ - من غيرك. - سأخرج به أنا وعبد الودود وزوجتانا. - أين تذهبون به؟ - إلى حيث يلعب هو نتسلى نحن. - أين؟ - إلى الملاهي. - الملاهي؟ - ما لها، أليست للأطفال؟ - أي نعم، ولكن ألعابها خطرة. - ونحن معه؟! - الآلات لا قلب لها. - ولكن قلوبنا معه. - أخاف عليه. - توكل على الله.
وصحب عبد الغني صديق إلى الملاهي، وذهب معه عبد الودود والزوجتان. وفي الملاهي أوكل عبد الغني إلى رندة وناهد أمر صديق. وجلس هو مع أخيه في مقهى الملاهي يقطعان الوقت بالحديث، وسار صديق مع زوجتي أخويه وكانتا عنه لاهيتين، وإنما هما تمران في شبه تأدية واجب ليس حبيبا على ألعاب الملاهي، وهو وراءهما لا تسألانه عما يحب أن يشترك فيه من ألعاب. وأحس صديق بالعطش، فتسلل دون أن تحس به الأختان إلى المقهى ورأى من بعيد أخويه منهمكين في الحديث. فقصد إلى داخل المقهى وطلب ماء، وحين هم بالخروج من الداخل سمع اسم صديق على لسان أخيه عبد الودود، فاقترب من أخويه دون أن يرياه وسمع عبد الغني يقول: لا بد أن أنتهي منه اليوم. - يا أخي أجلها إلى يوم آخر. - إن أبي لم يسمح لي باصطحابه إلا بجهد شديد، فكيف أطمئن إلى أنه يسمح لي بذلك مرة أخرى؟ أقتله اليوم. - وماذا أنت قائل لأبيك؟ - وقع، مات .
Unknown page