تزوج صابر بهند، وحين دخل بها طالعته مفاجأة عجب لها كل العجب. - كيف ذاك؟ - وماذا كان يمكن أن أفعل؟ - لقد عشت معه ست سنوات. - هذا حظي. - لماذا لم تقولي لأمك؟ - أمي لا وقت عندها أن تسمع شيئا، وخاصة إذا كانت الأخبار التي ستسمعها غير سعيدة. - أتعنين أنه لم يقترب منك؟! - رحمة الله عليه، قبلني يوم الدخلة وأفضى إلي بالحقيقة. - ولماذا قبلت؟ - خجلت. - أي سنوات عشتها! - قلت في نفسي هذا حظي المقسوم، وعلي أن أحتمل. - وهو كيف قبل؟ - كان يريد أن يبدو أمام الناس رجلا. - على حسابك؟ - المهم أنه أمام الناس زوج. - ومن أجل هذا يفرض عليك رهبنة، الله يعلم إلى متى كان ستظل مفروضة عليك. - رحمه الله! - ولكنك حزنت لأجله، نعم حزنت، أنا أعرف الحزن حين أراه. - عشرة لا تهون. ومات صغيرا. - ولكنه كان قد فرض عليك الظلم. - كان يحسن معاملتي. - هل بشر هذا الذي أراه فيك؟ أم نوع من الملائكية لا تعرفه البشرية؟! - بل إنسانة. - في أعلى مراتب الإنسانية. - لا تبالغ. - بل إني مقصر في الوصف. - أكنت تعرفين أنه مريض؟ - لقد مرض ومات في ثمان وأربعين ساعة، كان قبلها في أتم صحة وعافية، بل إنني لا أذكر أنه مرض مرضا يستحق أن يطلب من أجله إجازة طوال سنوات زواجنا. - كم تعذبت! - وحدي ولا يدري أحد. - كنت أرى في عينيك أسى ووحدة وألما دفينا. - ولكن أمي لم تر من ذلك شيئا. - أمك هذه شخصية فريدة في نوعها. - لو رأيت كم كانت تلح علي أن أذهب إلى الأطباء؛ ليعرفوا السبب في عدم إنجابي لدهشت. - وماذا كنت تقولين لها؟ - أقول لها: الله هو الرازق اتركيها على الله. وطبعا لم أذهب إلى طبيب. - وهي ألم يدهشها إصرارك على الرفض؟ - كانت تفرغ دهشتها بأن تروي أمري للناس وتجعل من حكايتي موضوع حديثها. - نعم أنت محقة، طالما سمعته منها. - وكانت تأتي إلي بالوصفات والأحجبة. - وتعتقد أنها قامت بواجبها. - هكذا هي. - أنت عظيمة يا هند. - لعل الله أن يكرمني بك. - أعدك أنك لن تري مني إلا ما يرضيك. - وأنا أعرف صدقك عندما تعد، بل أنت صادق في كل ما تقول أو تفعل. - إن الصدق عبء ثقيل، أعانني الله عليه! - سيعينك إن شاء الله. - الآن عرفت أنني أثير عند ربي؛ فإن الإنسان يكون في قمة السعادة إذا وهبه الله زوجة صالحة، وها هو ذا سبحانه يهب لي زوجتين صالحتين. - رحم الله وداد! كانت صالحة . - وأنت صالحة وصابرة، وفيك ملائكية لا أعرف أن أحدا من النساء تقاربك فيها. - أنت تبالغ. - أكرمك الله كما أكرمت زوجك الأول وكما سترت عليه. - سيكرمني بك إن شاء الله.
6
التحق عبد الغني بكلية الزراعة، ولحق به عبد الودود في العام التالي. وبعد أن كان سيرهما في الدراسة من ذلك النوع المتوسط الذي لا نبوغ فيه ولا نكوص، فكلاهما لم يسقط ولكن نجاحهما دائما كان نجاحا غير مرموق، إذا بهما كلاهما ينبغان في الزراعة نبوغا يدعو إلى دهشة من يراقبهما، وأدرك الأب من هذا النبوغ المفاجئ، ومن شواهد أخرى كثيرة أنهما يتعجلان التحكم في الأرض تحكما كاملا. وإن كان كل الآباء يسعدون بأن يصبح أبناؤهم نبغاء، فإن شيئا كالغصة كان يقمع الفرح في نفس صابر، فما أحب إليه أن تكون الأرض عزيزة عند ابنيه، ولكن ما أشد كراهيته أن تصبح الأرض هي العزيز الوحيد عند ولديه؛ فقد كان المال عنده وسيلة ليعيش كريما على نفسه وعلى أسرته وعلى الناس. ولم يكن المال عنده في يوم من الأيام غاية في ذاته.
وباقتراب صابر من رحاب الله أصبح ذا نفس شفافة ترى ما لا يراه سائر الناس، وبنوع من الروحانية التي لا يعرف البشر مأتاها كان يحس بمواطن الخطر المتخفي وراء أستار الطمأنينة والبشريات. •••
كان الأخوان لا يفترقان إلا إذا ذهب كل منهما إلى محاضرته، ثم هما متلازمان في الكلية وفي البيت وفي القرية. •••
بعد شهرين من زواج صابر بهند بدأت أعراض الحمل، وجاء الطفل في موعده المقدور مشرقا إشراقة لم يعهدها صابر في ولديه. - ماذا سنسميه؟ - كنت أرجو أن يكون لابني أخت، أستحضر أسماء البنات لا البنين. - أغضبت أن جئت لك بولد ثالث؟ - أيغضب أحد من مجيء ولد؟ فكيف بمؤمن بالله إيماني؟! وكيف إذا كان الغلام بهذا الإشراق؟! إن النور يبهر من ينظر إلى مهده. - فماذا نسميه؟ - أرى أنك تضمرين له اسما. - كان يدرس لي في المدرسة شيخ طاهر وضيء السمت والضمير، كنت أشعر بالسعادة كلما رأيته، وكنت أحرص دائما أن أقبل يده في كل صباح، وكان أملي أن يهب الله لي غلاما وأسميه باسمه. - صديق إذن؟ - أتعرفه؟ - طالما ذكرته لي ونحن نسمر، هل نسيت؟ - كانت أحاديث عابرة. - اسمعي! لقد كنت أنوي أن أسميه صديق، ولكني أردتك أنت أن تسميه، فقد خشيت في نفسي أن يكون حبك للشيخ من قبيل التبرك والإعجاب فقط، وليس لدرجة أن تسمي ابنك الأول على اسمه. - هذا أملي. - وليكن صديقا على بركة الله. •••
وقال عبد الغني: إذن فقد أنجب الشيخ الزاهد.
وقال عبد الودود: أليس من الطبيعي أن تلد الزوجة لزوجها؟ - أنت غبي. - أي غباء في أن يتزوج اثنان فتلد الزوجة؟! أولم تكن تعلم أنها ستنجب منذ عرفت أنها حامل؟ - كنت أعرف طبعا، وكم صليت ورجوت الله ألا تكمل حملها. - وأي سر فيك يجعل دعاءك عند الله مجابا؟ - وها هو ذا لم يستجب، ولكنك أيضا غبي ما تزال. - أنا موافق، فقط أخبرني فيم غبائي؟ - ألا تدري أن هذا الولد سيجعل ميراثنا ينقص بمقدار الثلث، غير نصيب الثمن الذي ستحظى به هند هانم إذا عاشت بعد أبي؟ - أمن أجل هذا تراني غبيا؟ - طبعا. - ولكن النتيجة التي وصلت إليها لا تحتاج إلى أي ذكاء، فما دام قد أنجب فلا بد أن يرث ابنه. - هذا إذا عاش الابن.
وفزع عبد الودود فزعا شديدا. - ماذا تقول؟! - ألم تسمع؟ - فقط أتعجب. - الموت حق. - على كل البشر، ماذا الذي جعلك واثقا أننا سنعيش بعد موت أبينا؟ - سنة الحياة. - وهل سارت الحياة دائما على هذه السنة؟ - الاستثناء لا يقاس عليه. - ألم تقدر أننا قد نرث ثم لا يكون لنا بنون أو بنات، فيرث صديق كل ما نملك؟ إنه أصغر منا بسنوات طويلة، إنه ولد ونحن في الجامعة، فمن طبيعة سنة الحياة أن نموت قبله. - من الذي يشكل الحياة؟ - الميلاد والموت لا يشكلهما إلا الله. - أما الميلاد فنعمة، أما الموت ... - أتريد أن تشارك الله في ملكوته؟ - أدافع عن حقي. - ولكنه حق صديق أيضا. - من قال له يأتي ونحن في هذه السن؟ - إذن لو كنت تكبرني بعشر سنوات لقتلتني؟! - الأمر مختلف؛ لقد تعودت وجودك واستقر في ذهني أن ليس لأبينا وارث إلا أنا وأنت. - ولكن الأمر تغير. - نغيره مرة أخرى. - كيف؟ - سترى. •••
حرص صابر أن يبقى صديق في غرفة نومه منذ مولده، وأمر هند أمرا صارما ألا تفارقه لحظة، ألم أقل لك أنه قريب من الساحة الربانية؟
Unknown page