وهل هناك من عجب إذا رأينا سلطان الدين يضعف ويتوارى؟ وهل هناك من عجب إذا رأينا المذاهب الفلسفية تسود، ورأيناها أيضا تجمح وتغرق في سبحات فكرية عجيبة الألوان والظلال، وتأملات روحية غريبة شاذة متنافرة غير متماسكة.
وأحس رجال الدين بالخطر، وأحسوا أكثر من ذلك بأن سلطانهم الديني مهدد بالزوال؛ بل لقد شاهدوا تاج القداسة يفارق رءوسهم في قفزة سريعة ليختال في نوره رجال لا يعترف رجل الدين إلا بزندقتهم، رجال في طليعتهم الفارابي وابن سينا، ومن شبه الفارابي وابن سينا.
أحس رجال الدين بالخطر؛ فأشعلوا أصابعهم نارا، وأطلقوا أقلامهم بروقا، ولكن النار نالت منهم أكثر مما نالت من خصومهم، ولعل من أكبر أسباب الفشل في ثورتهم ما كانوا فيه من تفرق، وما كان بين طوائفهم من خصومة ولدد، فقد كان لكل منهم عصبية وأنصار، وكان هؤلاء الأنصار يتطاحنون ويتمزقون؛ فالحنفية تناهض الشوافع في المشرق، والمالكية تطرد ولا تطيق سواها في المغرب والأندلس، والحرب غير خافية بين الأشعرية والمعتزلة، وبين الباطنية والسنة.
وفي هذا المحيط الغريب الثائر، وبين تلك الحرارة العلمية نشأ الغزالي؛ فكانت نشأته على هامش بركان، وكانت معارفه ملتهبة حارة؛ لأنها ولدت بين اللهب.
درس الغزالي كل ما في عصره من خير وشر، ولم يهيئ نفسه في مطلع حياته لفن من الفنون؛ بل اندفع في زحام الفكر جبارا متوغلا غير هياب ولا متحفظ.
ثم انطوى على نفسه، وقد شك في حقيقة كل علم، كما شك في أهداف الفرق والنحل والمذاهب.
شاهد الغزالي أن الإسلام قد انتقل من القلوب إلى العقول، فانقلب إلى ملاحاة منطقية لفظية، ومجادلات فقهية جامدة.
كما شاهد المذاهب السياسية وقد تقنعت بستار الفلسفة تارة وبستار الدين تارة أخرى، فإن خلصت من هذا وذاك فهي لم تخلص تماما من ميراث اليونان الوثني، أو من سبحات الأفكار المضللة.
فأرسل الغزالي صيحة قديمة جديدة؛ قديمة لأنها صحية الإسلام في الجزيرة العربية منذ قرون، وجديدة لأنها دوت في مجتمع أوشك - وقد غرق في بحور الجدل والسفسطة - أن ينسى رحيقه الأول.
كانت قوة الغزالي التي خلدته كحجة للإسلام، أنه استطاع أن يقف تلك التيارات المتدافقة من المحاورات الفلسفية والمناظرات الجدلية والمنازعات الفقهية، وأن يجعل القوة الإسلامية المناهضة لتلك الزوبعة تتركز فيه، وتتمثل في تعاليمه وصيحاته المستمدة من الكتاب والسنة.
Unknown page