39

عابوا على الغزالي فلسفته الأخلاقية؛ لأنها تريد أن تبتدع مجتمعا فاضلا معطرا بصفاء الروح وطهارة القلب والحس والجوارح، طهارة لا تعرف الغل والحسد، ولا تقر الغش والتزييف، ولا ترضى التواثب والتلاحم، وتنكر الصراع والنزال.

وعابوا على الغزالي فيما عابوا أنه مزج الدين بالأخلاق، والروحانيات بالفضائل، ولم يمزجها بعلم النفس، ولم يقم صروحها على نداءات الجنس، وضرورات الشهوة، ودوافع المجد والنصر في الروح البشرية.

عابوا على الغزالي وأسرفوا، ثم عابوا وأسرفوا، فأخطئوا وأسرفوا في الخطأ؛ لأن أخلاقيات الغزالي لا توزن بتلك الموازين الجامدة المتشائمة التي صور أصحابها الناس بألوان من الشهوات وألوان من الغايات وألوان من النزوات، لا يستقيم معها خلق ولا يسود فيها دين.

أما الميزان الصادق الذي يقام في ساحة العدالة الفكرية، عند دراسة تلك الأخلاق، فهو ميزان الآداب السماوية، وميزان المثالية الخلقية.

فالغزالي حينما وضع دستوره الأخلاقي كان يمسك بيمناه ميزان عدل وهدى، الأخلاق عنده هي كل ما يرفع النفس، ويسمو بالحياة إلى مناطق النور والصفاء، والرذائل لديه هي كل ما يفسد الجسم والنفس والعقل، ويبعد الروح عن مناطق النور والصفاء.

فإذا دعا الغزالي إلى عدم التكالب على الرزق، والتفاني في الحرص على متاع الحياة، وذهاب النفس حسرات على مباهجها، فذلك لأنه يحتقر المال والجاه والسيادة إذا كان في الفوز بها صفة من تلك الصفات التي تمس الخلق القويم.

وإذا نادى بكف النفس والعقل واليد عن مطامع الحياة، وكف النفس والعقل واليد عن المتاع الزائل والمجد الزائف والصراع الباطل، فليس لنا أن نقول للغزالي إن هذا الزهد في الحياة يقتل بواعث المجد في النفوس، ويخمد شعلة التوثب والفوز في القلوب.

فالغزالي لم يتخيل الدنيا ملحمة بين كباش تتناطح، وإنما تصورها حنانا ورحمة وطاعة وعبادة، فالمجد عنده مجد النفوس المطمئنة المتحابة، والنصر لديه هو الفوز على النزوات والشهوات والتطهر من الرذائل الهابطة إلى الظلمات.

نظر الغزالي إلى الحياة الدنيا باعتبارها وسيلة لا غاية، وعبادة لله لا للدرهم والدينار والتغالب والتفاخر والتنابذ بالألقاب.

كتب الغزالي أخلاقياته للمجتمع الإسلامي الفاضل الذي يؤمن به ويدعو إليه، ومن ثم ابتدع له أخلاقا كاملة على أسس دينية وطاعات روحية وقلبية.

Unknown page