بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الذى زلزل بِمَا أظهر من صَنعته أَقْدَام الجاحدين واستزل بِمَا أبان من حكمته ثَبت المبطلين وَأقوى قَوَاعِد الْإِلْحَاد بِمَا أبدى من الْآي والبراهين وَاصْطفى لصفوته من عباده عِصَابَة الْمُوَحِّدين ووثقهم من أَسبَابه بعروته الوثقى وحبله المتين فَلم يزَالُوا للحق ناظرين وَبِه ظَاهِرين وَللَّه وَلِرَسُولِهِ ناصرين وللباطل وَأَهله دامغين إِلَى أَن فجر فجر الْإِيمَان وأشرق ضوؤه للْعَالمين وَخسف قمر الْبُهْتَان وأضحى كوكبه من الآفلين ذَلِك صنع الَّذِي أتقن كل شئ ﴿أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين﴾
فنحمده على مَا أولى من مننه وأسبغ من جزيل نعمه حمدا تكل عَن حصره أَلْسِنَة الحاصرين ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة مبوئة لقائلها جنَّة الْفَوْز والعقبى فِي يَوْم الدّين ونشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ إِلَى الكافة أَجْمَعِينَ فأوضح بنوره سبل السالكين وشاد بهدايته أَرْكَان الدّين صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله أَجْمَعِينَ وَبعد
فَإِنِّي لما تحققت أَن الْعُمر يتقاصر عَن نيل الْمَقَاصِد والنهايات ويضيق عَن تَحْصِيل المطالب والغايات وتنبتر ببتره أَسبَاب الأمنيات وتفل بفله غر الهمم والعزمات مَعَ اسْتِيلَاء الفترة واستحكام الْغَفْلَة وركون النَّفس إِلَى الأمل واستنادها إِلَى الفشل علمت أَنه لَا سَبِيل إِلَى ذرْوَة ذراها وَلَا وُصُول إِلَى أقصاها وَلَا مطمع فِي مُنْتَهَاهَا فَكَانَ اللَّائِق الْبَحْث والفحص عَن الأهم فالأهم وَالنَّظَر فِي تَحْصِيل مَا الْفَائِدَة فِي تَحْصِيله أَعم
1 / 3
وأهم المطالب وأسنى الْمَرَاتِب من الْأُمُور العملية والعلمية مَا كَانَ محصلا للسعادة الأبدية وكمالا للنَّفس الناطقة الإنسانية وَهُوَ اطلاعها على المعلومات وإحاطتها بالمعقولاوت لما كَانَت المطلوبات مُتعَدِّدَة والمعلومات متكثرة وكل مِنْهَا فَهُوَ عَارض لموضوع علم يُسْتَفَاد مِنْهُ وتستنبط مَعْرفَته عَنهُ كَانَ الْوَاجِب الْجَزْم وَاللَّازِم الحتم على كل ذِي عزم الْبِدَايَة بِتَقْدِيم النّظر فِي الْأَشْرَف الْأَجَل والأسنى مِنْهَا فِي الرُّتْبَة وَالْمحل
وأشرف الْعُلُوم إِنَّمَا هُوَ الْعلم الملقب بِعلم الْكَلَام الباحث عَن ذَات وَاجِب الْوُجُود وَصِفَاته وأفعاله ومتعلقاته إِذْ شرف كل علم إِنَّمَا هُوَ تَابع لشرف مَوْضُوعه الباحث عَن أَحْوَاله الْعَارِضَة لذاته وَلَا محَالة أَن شرف مَوْضُوع هَذَا الْعلم يزِيد على شرف كل مَوْضُوع ويتقاصر عَن حُلُول ذراه كل مَوْجُود مَصْنُوع إِذْ هُوَ مبدأ الكائنات ومنشأ الحادثات وَهُوَ بِذَاتِهِ مستغن عَن الْحَقَائِق والذوات مبرأ فِي وجوده عَن الِاحْتِيَاج إِلَى الْعِلَل والمعلولات كَيفَ وَالْعلم بِهِ أصل الشَّرَائِع والديانات ومرجع النواميس الدينيات ومستند صَلَاح نظام الْمَخْلُوقَات
فَلَا جرم سرحت عنان النّظر وأطلقت جواد الْفِكر فِي مسارح ساحاته ومطارح غاياته وطرقت أبكار أسراره ووقفت مِنْهُ على أغواره فَلم تبْق غمَّة أَلا ورفعتها وَلَا ظلمَة إِلَّا وقشعتها حَتَّى تمهد سراحه واتسع براحه فَكنت بصدد جنى ثمراته والتلذذ بحلواته
1 / 4
وَلم أزل على ذَلِك بُرْهَة من الزَّمن مجانبا للإخوان إِلَى أَن سَأَلَني من تعيّنت على إجَابَته وتحتمت على تلبيته أَن أجمع لَهُ مشكلات درره وَأبين مغمصات غرره وأبوح بمطلقات فَوَائده وأكشف عَن أسرار فرائده
فاستخرت الله تَعَالَى فِي أسعافه بِطَلَبِهِ واستعنته فِي قَضَاء أربه فشرعت فِي تأليف هَذَا الْكتاب وترتيب هَذَا العجاب وأودعته أبكار الأفكار وضمنته غوامض الْأَسْرَار منبها على مَوَاضِع مواقع زلل الْمُحَقِّقين رَافعا بأطراف استار عورات المبطلين كاشفا لظلمات تهويلات الْمُلْحِدِينَ كالمعتزلة وَغَيرهم من طوائف الإلهيين على وَجه لَا يُخرجهُ زِيَادَة التَّطْوِيل إِلَى الْملَل وَلَا فرط الِاخْتِصَار إِلَى النَّقْص والخلل تسهيلا على طالبيه وتيسيرا على راغبيه وسميته غَايَة المرام فِي علم الْكَلَام وَقد جعلته مُشْتَمِلًا على ثَمَانِيَة قوانين وضمنتها عدَّة مسَائِل قَوَاعِد الدّين وَهُوَ الْمَسْئُول أَن يعصمنا فِيمَا نحاوله من كل خلل وزلل وَأَن يوفقنا لكل صَوَاب من قَول وَعمل إِنَّه على مَا يَشَاء قدير وبإجابة الدُّعَاء جدير
1 / 5
القانون الأول فِي إِثْبَات الْوَاجِب بِذَاتِهِ
1 / 7
طَرِيق إِثْبَات الْوَاجِب
ذهب الْمُحَقِّقُونَ من الإسلاميين وَغَيرهم من أهل الشَّرَائِع الماضيين وَطَوَائِف الإلهيين إِلَى القَوْل بِوُجُوب وجود مَوْجُود وجوده لَهُ لذاته غير مفتقر إِلَى مَا يسند وجوده إِلَيْهِ وكل مَا سواهُ فوجوده مُتَوَقف فِي إبداعه عَلَيْهِ وَلم نخالفهم فِي ذَلِك إِلَّا سَواد لَا يعْرفُونَ وَطَوَائِف مَجْهُولُونَ فَلَا بُد من الفحص عَن مطلع نظر الْفَرِيقَيْنِ والكشف عَن مُنْتَهى أقدم الطَّائِفَتَيْنِ ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل وَلَو كره الْمُشْركُونَ
ومبدأ النّظر ومجال الْفِكر ينشأ من الْحَوَادِث الْمَوْجُودَة بعد الْعَدَم فَإِن وجودهَا إِمَّا أَن يكون لَهَا لذاتها أَو لغَيْرهَا لَا جَائِز أَن يكون لَهَا لذاتها وَإِلَّا لما كَانَت مَعْدُومَة وَإِن كَانَ لغَيْرهَا فَالْكَلَام فِيهَا وَإِذ ذَاك فإمَّا أَن يقف الْأَمر على مَوْجُود هُوَ مبدأ الكائنات ومنشأ الحادثات أَو يتسلسل الْأَمر إِلَى غير النِّهَايَة فَإِن قيل بالتسلسل فَهُوَ مُمْتَنع
أما على الرَّأْي الفلسفي فلأنا إِذا فَرضنَا ممكنات لَا نِهَايَة لأعدادها يسْتَند بَعْضهَا إِلَى بعض فِي وجودهَا وفرضنا بالتوهم نُقْصَان عشرَة مِنْهَا مثلا فإمَّا أَن يكون عَددهَا مَعَ فرض النُّقْصَان مُسَاوِيا لعددها قبله أَو أنقص أَو أَزِيد لَا جَائِز أَن يكون مُسَاوِيا إِذْ النَّاقِص لَا يساوى الزَّائِد فَإِن قيل أَنه أَزِيد فَهُوَ أَيْضا ظَاهر الإحالة وَإِن قيل أَنَّهَا أنقص فأحدهما
1 / 9
لَا محَالة أَزِيد من الآخر بِأَمْر متناه وَمَا زَاد على المتناهى بِأَمْر متناه فَهُوَ متناه إِذْ لَا بُد أَن يكون للزِّيَادَة نِسْبَة إِلَى النامى بِجِهَة مَا من جِهَات النّسَب على نَحْو زِيَادَة المتناهى على المتناهى ومحال أَن يحصل بَين مَا ليسَا متناهيين النِّسْبَة الْوَاقِعَة بَين المتناهيين لَكِن هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَقِيم على مُوجب عقائدهم وَتَحْقِيق قواعدهم حَيْثُ قضوا بِأَن كل مَاله التَّرْتِيب الوضعي كالأبعاد والامتدادات أَو تَرْتِيب طبيعى وآحاده مَوْجُودَة مَعًا كالعلل والمعلولات فَالْقَوْل بِأَن لَا نِهَايَة لَهُ مُسْتَحِيل وَأما مَا سوى ذَلِك فَالْقَوْل بِأَن لَا نِهَايَة لَهُ غير مُسْتَحِيل وَسَوَاء كَانَت آحاده مَوْجُودَة مَعًا كالنفوس بعد مُفَارقَة الْأَبدَان والذوات أَو هِيَ على التَّعَاقُب والتجدد كالحركات فَإِن مَا ذَكرُوهُ وَإِن اسْتمرّ لَهُم فِيمَا قضوا عَلَيْهِ بالنهاية فَهُوَ لَازم لَهُم فِيمَا قضوا عَلَيْهِ بِأَن لَا نِهَايَة وَإِذ ذَاك فَلَا يَجدونَ عَن الْخَلَاص من فَسَاد أحد الاعتقاديين سَبِيلا إِمَّا فِي صُورَة الْإِلْزَام أَو فِيمَا ذَكرُوهُ فِي معرض الدّلَالَة والبرهان
وَلَيْسَ لما ذكره الفيلسوف الْمُتَأَخر من جِهَة الْفرق بَين الْقسمَيْنِ قدح فِي الْغَرَض هُوَ قَوْله أَن مَا لَا ترَتّب لَهُ وضعا وَلَا آحاده مَوْجُودَة مَعًا وَأَن كَانَ ترتبه طبعا لَا سَبِيل إِلَى فرض جَوَاز قبُوله الانطباق وَفرض الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان بِخِلَاف نقيضه إِذْ المحصل يعلم أَن الِاعْتِمَاد على هَذَا الخيال فِي تناهي ذَوَات الأوضاع وَفِيمَا لَهُ التَّرْتِيب الطبيعي وآحاده مَوْجُودَة مَعًا لَيْسَ إِلَّا من جِهَة إفضائه إِلَى وُقُوع الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان بَين مَا ليسَا بمتناهيين وَذَلِكَ إِنَّمَا يُمكن بِفَرْض زِيَادَة على مَا فرض الْوُقُوف عِنْده من نقطة مَا من الْبعد
1 / 10
الْمَفْرُوض أَو وحدة مَا من الْعدَد الْمَفْرُوض وَعند ذَلِك فَلَا يخفى إِمْكَان فرض الْوُقُوف على جملَة من أعداد الحركات أَو النُّفُوس الإنسانية الْمُفَارقَة لأبدانها وَجَوَاز الزِّيَادَة عَلَيْهَا بالتوهم مِمَّا هُوَ من نوعها أَو فرض نُقْصَان جملَة مِنْهَا وَإِذ ذَاك فالحدود المستعلمة فِي الْقيَاس فِي مَحل الِاسْتِدْلَال هِيَ بِعَينهَا مستعلمة فِي مَحل الْإِلْزَام مَعَ اتِّحَاد الصُّورَة القياسية من غير فرق
ثمَّ إِن فرض وُقُوع الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي مَحل النزاع وان كَانَ جَائِزا وَمَعَ جَوَازه وَاقعا فَهُوَ إِنَّمَا يُوجب النِّهَايَة فِي كل وَاحِد من العددين أَن لَو كَانَت الزِّيَادَة المتناهية الَّتِي فضل بهَا أحد العددين على الآخر لَهَا نِسْبَة إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا نسبتها إِلَى مَا هُوَ متناه والخصم وَإِن سلم قبُول المتناهى لنسبة مَا هُوَ المتناهى إِلَيْهِ فقد لَا يسلم قبُول غير المتناهى لنسبة المتناهى إِلَيْهِ وَلَا محَالة أَن بَيَان ذَلِك مِمَّا لَا سَبِيل إِلَيْهِ كَيفَ وَأَنه منتقض على الرأيين جمعا فَإِنَّهُ لَيْسَ كل جملتين وَقعت بَينهمَا الزِّيَادَة بِأَمْر متناه يكونَانِ متناهيين فَإِن عُقُود الْحساب مثلا لَا نِهَايَة لأعدادها وَإِن كَانَت الْأَوَائِل اكثر من الثوانى والثوانى اكثر من الثوالث بِأَمْر متناه وَهَذِه الْأُمُور وان كَانَت تقديرية ذهنية فَلَا محَالة أَن وضع الْقيَاس الْمَذْكُور فِيهَا على نَحْو وَضعه فِي الْأُمُور الْمَوْجُودَة فِي الْفِعْل فَلَا تتوهمن أَن الْفرق وَاقع من مُجَرّد هَذَا الِاخْتِلَاف
أما الْمُتَكَلّم فَلَعَلَّهُ قد سلك فِي القَوْل بِوُجُوب النِّهَايَة هَهُنَا مَا سلكه الفيلسوف ولربما زَاد عَلَيْهِ بقوله لَو فرض أعداد لَا نِهَايَة لَهَا لم يخل إِمَّا أَن تكون شفعا أَو وترا أَولا هِيَ شفع وَلَا وتر أَو شفعا ووترا مَعًا فَإِن كَانَت شفعا فَهِيَ تصير وترا بِزِيَادَة وَاحِد وَكَذَلِكَ إِن كَانَت وترا فَهِيَ تصير شفعا بِزِيَادَة وَاحِد وإعواز الْوَاحِد لما لَا يتناهى محَال وَلَا جَائِز أَن يكون شفعا ووترا أَو لَا شفع وَلَا وتر فَإِن ذَلِك ظَاهر الإحالة وَهَذِه المحالات كلهَا إِنَّمَا لَزِمت من فرض عدد لَا يتناهى فَهُوَ أَيْضا محَال وَهُوَ مَعَ أَنه مَحْض استبعاد الشفعية مَا لَا يتناهى أَو وتريته إِنَّمَا ينفع مَعَ تَسْلِيم الْخصم لقبولية مَا لَا يتناهى أَن يكون شفعا أَو وترا وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيل إِلَيْهِ
1 / 11
ثمَّ بِمَ الِاعْتِذَار عَن هَذَا الْإِلْزَام إِن ورد على مَا سلم كَونه غير متناه كالأعداد من مَرَاتِب الْحساب وَكَذَلِكَ مَا يخْتَص بِمذهب الْمُتَكَلّم من اعْتِقَاد عدم النِّهَايَة فِي مَعْلُومَات الله تَعَالَى ومقدوراته
وَمَا قيل من أَن الْمَعْنى بِكَوْن المعلومات والمقدورات غير متناهية صَلَاحِية الْعلم لكل مَا يَصح أَن يعلم وصلاحية الْقُدْرَة لتعلقها بِكُل مَا يَصح أَن يُوجد وَمَا يَصح أَن يُوجد وَيصِح أَن يعلم غير متناه لكنه من قبيل التقديرات الوهمية والتجويزات الخيالية وَذَلِكَ مِمَّا لَا يجب فِيهِ القَوْل بالنهاية وَلَا كَونه غير متناه مُسْتَحِيل بل المستحيل إِنَّمَا هُوَ القَوْل بِأَن لَا نِهَايَة فِيمَا لَهُ وجود عينى وَهُوَ فِي تعينه أَمر حقيقى فَلَا أثر لَهُ فِي الْقدح فَإِن من نظر بِعَين التَّحْقِيق وأمعن فِي التحديق علم أَن هَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَت تقديرية ومعاني تجويزية وَأَنه لَا وجود لَهَا فِي الْأَعْيَان فَلَا بُد لَهَا من تحقق وجود فِي الأذهان وَلَا محَالة أَن نِسْبَة مَا فرض اسْتِعْمَاله فِي القَوْل بالنهاية فِيمَا لَهُ وجود ذهنى على نَحْو اسْتِعْمَاله فِيمَا لَهُ وجود عينى وَأَن ذَلِك بِمُجَرَّدِهِ لَا أثر لَهَا فِيمَا يرجع إِلَى الِافْتِرَاق أصلا
وَمِمَّا يلْتَحق بِهَذَا النّظم فِي الْفساد أَيْضا قَول الْقَائِل إِن كل وَاحِد من هَذِه الْأَعْدَاد مَحْصُور بالوجود فالجملة محصورة بالوجود وكل مَا حصره الْوُجُود فَالْقَوْل بِأَن لَا نِهَايَة لَهُ محَال فَإِن مَا لَا يتناهى لَا ينْحَصر بحاصر مَا وَهُوَ إِنَّمَا يلْزم أَن لَو كَانَ الْحصْر متناهيا وَلَا محَالة أَن الْكَلَام فِي تناهى الْوُجُود كَالْكَلَامِ فِيمَا يحصره الْوُجُود هَذَا إِن قيل بِأَن الْوُجُود زَائِد على الْمَوْجُود وَإِلَّا فَلَا حاصر أصلا
ولربما نظر فِي الْعِلَل والمعلولات إِلَى طرف الِاسْتِقْبَال فَقيل مَا من وَقت نقدره إِلَّا والعلل والمعلولات منتهية بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وانتهاء مَا لَا يتناهى محَال وَهُوَ أَيْضا غير مُفِيد فَإِن
1 / 12
الْخصم قد سلم انْتِهَاء الْعدَد من أحد الطَّرفَيْنِ وَمَعَ ذَلِك يَدعِي أَنه غير متناه من الطّرف الآخر وَمُجَرَّد الدَّعْوَى فِيهِ غير مَقْبُولَة لَا سِيمَا مَعَ مَا قد ظهر من أَن عُقُود الْحساب لَا نِهَايَة لَهَا وَلم يلْزم من تناهيها من جِهَة البدء أَن تكون متناهية من جِهَة الآخر أَو أَن يُوقف فِيهَا على نِهَايَة
فَإِذا الرَّأْي الْحق أَن يُقَال لَو افْتقر كل مَوْجُود فِي وجوب وجوده إِلَى غَيره إِلَى غير نِهَايَة فَكل وَاحِد بإعتبار ذَاته مُمكن لَا محَالة فَإِن مَا وَجب وجوده لغيره فذاته لذاته إِمَّا أَن تقتضى الْوُجُوب أَو الِامْتِنَاع أَو الْإِمْكَان لَا جَائِز أَن يُقَال بِالْوُجُوب لِأَن عِنْد فرض عدم ذَلِك الْغَيْر إِن بَقِي وجوب وجوده فَهُوَ وَاجِب بِنَفسِهِ وَلَيْسَ وَاجِبا لغيره وَإِن لم يبْق وجوب وجوده فَلَيْسَ وَاجِبا لذاته إِذْ الْوَاجِب لذاته مَا لَو فرض مَعْدُوما لزم مِنْهُ الْمحَال لذاته لَا لغيره وَلَا جَائِز أَن يُقَال بالامتناع وَإِلَّا لما وجد وَلَا لغيره فبقى أَن يكون لذاته مُمكنا
وَإِذا كَانَ كل وَاحِد من الموجودات الْمَفْرُوضَة مُمكنا وهى غير متناهية فإمَّا أَن تكون متعاقبة أَو مَعًا فان كَانَت متعاقبة فَمَا من مَوْجُود نفرده بِالنّظرِ إِلَّا وَفرض وجوده مُتَعَذر وانتهاء النّوبَة إِلَيْهِ فِي الْوُجُود مُمْتَنع فَإِنَّهُ مهما لم يفْرض وجوب وجود فَلَا وجود لَهُ وَكَذَا الْكَلَام فِي موجده بِالنِّسْبَةِ إِلَى موجده وهلم جرا وَمَا علق وجوده على وجود غَيره قبله وَذَلِكَ الْغَيْر أَيْضا مَشْرُوط بِوُجُود غَيره قبله إِلَى مَا لَا يتناهى فَإِن وجوده محَال
وَنَظِير ذَلِك مَا لَو قَالَ الْقَائِل لَا أُعْطِيك درهما الا وَقَبله درهما وَكَذَا إِلَى مَا لَا يتناهى
1 / 13
فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى إِعْطَائِهِ درهما مَا وَهُوَ على نَحْو قَول الْخصم فِي تناهى الأبعاد باستحالة وجود بعدين غير متناهيين فرض أَحدهمَا دائرا على الآخر بِحَيْثُ يلاقيه عِنْد نقطة وينفصل عَنهُ بِأُخْرَى بِنَاء على أَن مَا من نقطة إِلَّا وَقبلهَا نقطة إِلَى مَا لَا يتناهى فَمَا من نقطة يفْرض التلاقى عِنْدهَا إِلَّا وَلَا بُد أَن يَكُونَا قد تلاقيا قبلهَا عِنْد نقطة أُخْرَى إِلَى مَا لَا يتناهى وَذَلِكَ محَال كَيفَ وَأَن مَا من وَاحِد يفْرض إِلَّا وَهُوَ مَسْبُوق بِالْعدمِ فالجملة مسبوقة بِالْعدمِ وكلى جملَة مسبوقة بِالْعدمِ ولوجودها أول تنتهى إِلَيْهِ فَالْقَوْل بِأَن لَا نِهَايَة لأعدادها مُمْتَنع
وَمَا يخص مَذْهَب الْقَائِلين بالإيجاد بالعلية والذات أَن كل وَاحِد إِمَّا ان يكون موجدا لما أوجده فِي حَال وجوده أَو بعد عَدمه لَا جَائِز أَن يكون موجدا لَهُ بعد الْعَدَم إِذْ الْعَدَم لَا يَسْتَدْعِي الْوُجُود وان كَانَ مَوْجُودا لَهُ فِي حَال وجوده فوجود الْمَعْلُول يلازم وجود علته فِي الْوُجُود وهما مَعًا فِيهِ وَإِن كَانَ لأَحَدهمَا تقدم بالعلية على الآخر على نَحْو تقدم حَرَكَة الْيَد على حَرَكَة الْخَاتم وَنَحْوه فَإِذا الْعِلَل والمعلولات وَإِن تكثرت فوجودها لَا يكون إِلَّا مَعًا من غير تقدم وَتَأَخر بِالزَّمَانِ وَأما إِن كَانَت مَعًا فالنظر إِلَى الْجُمْلَة غير النّظر إِلَى الْآحَاد إِذْ حَقِيقَة الْجُمْلَة غير حَقِيقَة كل وَاحِد من آحادها وان كَانَ كَذَلِك فالجملة إِمَّا أَن تكون بذاتها وَاجِبَة أَو مُمكنَة لَا جَائِز ان تكون وَاجِبَة وَإِلَّا لما كَانَت آحادها مُمكنَة وان كَانَت مُمكنَة فَهِيَ لَا محَالة تفْتَقر إِلَى مُرَجّح فالمرجح إِمَّا أَن يكون خَارِجا عَن الْجُمْلَة أَو دَاخِلا فِيهَا لَا جَائِز أَن يكون من الْجُمْلَة وَإِلَّا فَهُوَ مقوم لنَفسِهِ إِذْ مقوم الْجُمْلَة مقوم
1 / 14
لآحادها وَذَلِكَ يفضى إِلَى تقوم الْمُمكن بِذَاتِهِ وَهُوَ مُتَعَذر إِذْ قد فرض كل وَاحِد من آحَاد الْجُمْلَة مُمكنا وَإِن كَانَ خَارِجا عَن الْجُمْلَة فَهُوَ إِمَّا وَاجِب وَإِمَّا مُمكن فَإِن كَانَ مُمكنا فَلَيْسَ خَارِجا عَن الْجُمْلَة على مَا وَقع بِهِ الْفَرْض فبقى أَن يكون وَاجِبا بِذَاتِهِ لَا محَالة
فَهُوَ لَا محَالة وَاجِب بِذَاتِهِ وَإِلَّا لافتقر إِلَى غَيره وَذَلِكَ الْغَيْر إِن كَانَ خَارِجا عَن الْجُمْلَة الْمَفْرُوضَة فَفِيهِ إبِْطَال الْفَرْض وَإِن كَانَ دَاخِلا فِيهَا فَفِيهِ توقف كل وَاحِد على صَاحبه وتقدمه بِالذَّاتِ وكل وَاحِد من الْقسمَيْنِ مُتَعَذر فقد تنخل من الْجُمْلَة أَنه لَا بُد من القَوْل بِوُجُوب وجود مَوْجُود وجوده لذاته لَا لغيره
فَإِن قيل مَا ذكرتموه فرع إفضاء النّظر إِلَى الْعلم وَجعله مدْركا وَبِمَ الرَّد على من أنكر ذَلِك وَلم يسوغ غير الْحَواس الظَّاهِرَة مدْركا كَيفَ وَهُوَ مُتَعَذر من جِهَة الْمَطْلُوب وَمن جِهَة المبدأ أما من جِهَة الْمَطْلُوب فَهُوَ أَنه إِمَّا أَن يكون مَعْلُوما أَو مَجْهُولا فان كَانَ مَعْلُوما فَلَا حَاجَة إِلَى طلبه إِن كَانَ مَجْهُولا فتمتنع مَعْرفَته عِنْد الظفر بِهِ
وَأما من جِهَة المبدأ فَهُوَ أَن كل مَطْلُوب فَلَا بُد لَهُ عِنْد التَّعْرِيف من مبادئ مَعْلُومَة سَابِقَة مُنَاسبَة وَتلك المبادئ إِمَّا أَن تكون بديهية أَو مستندة إِلَى مَا هُوَ فِي نَفسه بديهي قطعا للتسلسل الْمُمْتَنع والبديهي لَا معنى لَهُ إِلَّا مَا يصدق الْعقل بِهِ من غير توقف على أَمر خَارج عَنهُ وَهُوَ مَا لَا حَاصِل لَهُ فَإِنَّهُ إِمَّا أَن يكون حَاصِلا لنا فِي مبدأ النشوء أَو بعده لَا جَائِز
1 / 15
أَن يُقَال بِالْأولِ فَإنَّا كُنَّا لَا نشعر بهَا فِي مبدأ نشوئنا وَلَو كَانَت حَاصِلَة لما وَقع الذهول عَنْهَا إِذْ هُوَ متناقض وَإِن قيل بِالثَّانِي فإمَّا يُقَال حصلت بِالدَّلِيلِ أَو بِغَيْر دَلِيل فان كَانَت بِالدَّلِيلِ فَلَيْسَتْ بديهية وَإِن كَانَت من غير دَلِيل فاختصاص حُصُولهَا بِزَمَان دون زمَان هُوَ مِمَّا لَا حَاصِل لَهُ
وَأما قَوْلكُم إِن مَا وجد بعد الْعَدَم لَا بُد وَأَن يكون وجوده لغيره وَإِلَّا لما كَانَ مَعْدُوما قبل فَلَو كَانَ وجوده لغيره لم يخل إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْغَيْر دَائِما عِلّة أوحدث كَونه عِلّة فَإِن كَانَ دَائِما عِلّة وَجب أَلا يتَأَخَّر وجود معلوله عَن وجوده وَأَن لَا يكون مَسْبُوقا بِالْعدمِ وَإِن حدث كَونه عِلّة فَالْكَلَام فِي تِلْكَ الْعلَّة كَالْكَلَامِ فِي معلولها وهلم جرا وَهَذَا يُؤدى إِلَى أَن لَا يكون مَعْدُوما وَلَا مَسْبُوقا بِالْعدمِ وَهُوَ محَال أَو إِلَى علل ومعلولات لَا تتناهى وَلم تَقولُوا بِهِ
وَإنَّهُ لَو افْتقر الْحَادِث فِي حَال حُدُوثه إِلَى مُحدث لافتقر الْمَعْدُوم فِي حَال عَدمه إِلَى معدم وَهُوَ مُمْتَنع لِأَن مَا اقْتضى الْعَدَم إِمَّا نفس مَا اقْتضى الْوُجُود أَو غَيره لَا جَائِز أَن يكون نَفسه فَإِن مَا اقْتضى وجود شئ لَا يقتضى عَدمه وَإِن كَانَ غَيره فَذَلِك الْغَيْر إِمَّا وَاجِب بِذَاتِهِ أَو لغيره فَإِن كَانَ وَاجِبا بِذَاتِهِ أدّى إِلَى اجْتِمَاع واجبين وَهُوَ محَال كَمَا سَيَأْتِي كَيفَ وَيلْزم أَن يكون الشئ الْوَاحِد مَوْجُودا ومعدوما مَعًا لتحَقّق مَا يقتضى كل وَاحِد مِنْهُمَا وَهُوَ مُمْتَنع وَإِن كَانَ وَاجِبا لغيره فَذَلِك الْغَيْر اما أَن يكون هُوَ نفس مَا أوجب الْحُدُوث أَو غَيره فَإِن كَانَ نَفسه فيستحيل أَن يُوجب بِذَاتِهِ مَا يقتضى عدم مَا يَقْتَضِيهِ وجوده بِذَاتِهِ وَإِن كَانَ غَيره فيفضى إِلَى اجْتِمَاع واجبين هُوَ مُتَعَذر
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَو افْتقر إِلَى موجد لم يخل إِمَّا أَن يكون موجدا لَهُ فِي حَال وجوده أَو فِي حَال عَدمه فَإِن كَانَ موجدا لَهُ فِي حَال وجوده فَهُوَ محَال إِذْ الْمَوْجُود لَا يُوجد وَإِن كَانَ موجدا لَهُ فِي حَال عَدمه فَهُوَ محَال أَيْضا ظَاهر الإحالة وَلَو سلمنَا أَن مَا وجد بعد الْعَدَم لَا بُد وَأَن يكون وجوده بِغَيْرِهِ لَكِن لَا إفضاء لَهُ إِلَى أثبات وَاجِب الْوُجُود مَعَ كَون الْخصم قَائِلا بعلل ومعلولات إِلَى غير النِّهَايَة
1 / 16
وقولكم إِنَّه لَو كَانَت الْعِلَل والمعلولات غير متناهية فَكل وَاحِد مِنْهَا مُمكن بِاعْتِبَار ذَاته فَبِمَ الرَّد على من إشترط فِي مُمكن الْوُجُود أَن لَا يكون مَوْجُودا وَأَن الشئ مهما اتّصف بالوجود فَهُوَ ضرورى الْوُجُود وضرورى الْوُجُود لَا يكون مُمكنا فَإِن قيل لَهُ مُمكن فبالاشتراك وَلَيْسَ هَذَا تَسْلِيم الْمَطْلُوب فَإِن كَون الشئ ضرورى الْوُجُود أَعم من الضَّرُورَة الثَّابِتَة لذاته وَمَعَ التَّسْلِيم بِكَوْنِهَا مُمكنَة فَمَا ذكرتموه فِي أَن لَا نِهَايَة غير مُسْتَقِيم أما مَا ذكرتموه فِي طرف التَّعَاقُب فَغير مطرد وَذَلِكَ أَنا لَو فَرضنَا حَادِثا بعد الْعَدَم فإمَّا أَن يُقَال إِن لَهُ قبلا كَانَ فِيهِ مَعْدُوما أَو لَيْسَ لَا جَائِز أَن يُقَال انه لم يكن لَهُ قبل كَانَ فِيهِ مَعْدُوما وَإِلَّا لما كَانَ لَهُ أول وَهُوَ خلاف الْفَرْض وَإِن كَانَ لَهُ قبل هُوَ فِيهِ مَعْدُوم فَذَلِك الْقبل إِمَّا مَوْجُود أَو مَعْدُوم لَا جَائِز أَن يكون مَعْدُوما وَإِلَّا لما كَانَ لَهُ قبل إِذْ لَا فرق بَين قَوْلنَا إِنَّه لَا قبل لَهُ وَبَين قَوْلنَا إِن قبله مَعْدُوم فبقى أَن يكون مَوْجُودا ثمَّ مَا قبل يفْرض إِلَّا وَهُوَ مَسْبُوق بقبل آخر إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ على هَذَا النَّحْو فَإِذا قد ثَبت وجودات لَا نِهَايَة لأعدادها وَإِن كَانَت متعاقبة وكل وَاحِد مَسْبُوق بِعَدَمِهِ وَبِه تبين كذب مَا ذكرتموه من الْقيَاس وَأما مُعْتَمد الْقَائِلين بالإيجاد بالعلية فطريق الرَّد عَلَيْهِم مَا هُوَ طَرِيق لكم فِي الرَّد عَلَيْهِم كَمَا يَأْتِي فِيمَا بعده
وَأما مَا ذكرتوه فِي طرف الْمَعِيَّة وَوُجُوب الِانْتِهَاء فِيهَا إِلَى مَوْجُود وجوده لذاته فَذَلِك الْمَوْجُود لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مُمكنا أَو لَيْسَ بممكن فَإِن كَانَ مُمكنا فَهُوَ من الْجُمْلَة وَلَيْسَ بِوَاجِب وَإِن لم يكن مُمكنا فَمَا لَيْسَ بممكن لَيْسَ بِوَاجِب وَبِهَذَا ينْدَفع مَا ذكرتموه فِي جَانب الِانْتِهَاء إِلَى مَوْجُود هُوَ مبدأ الموجودات أَيْضا
1 / 17
وَالْجَوَاب أما طَرِيق إفحام الْمُنكر لكَون النّظر مدْركا أَن يُقَال نفى إفضاء النّظر إِلَى الْعلم إِمَّا مَعْلُوم أَو غير مَعْلُوم فَإِن كَانَ مَعْلُوما فإمَّا أَن يكون حُصُوله متوقفا على مدرك يعلم بِهِ أَو لَيْسَ فَإِن كَانَ متوقفا فالمدرك إِذا إِمَّا الْحَواس أَو النّظر لَا جَائِز أَن يكون مدركه الْحَواس إِذْ هُوَ غير محسوس فَتعين أَن يكون مدركه النّظر وَإِن لم يكن متوقفا على مدرك فَهُوَ بديهي وَلَو كَانَ بديهيا لما وَقع الِاخْتِصَاص بِهِ لطائفة دون طَائِفَة كَيفَ وَأَنه لَو خلى الانسان ودواعى نَفسه فِي مبدأ نشوئه مَعَ قطع النّظر عَن النّظر لم يجد فِي نَفسه الْجَزْم بذلك أصلا وكل مَا لَيْسَ على هَذِه الْقَضِيَّة من الْعُلُوم فَلَيْسَ ببديهي وَإِن اكْتفى فِي ذَلِك بِمُجَرَّد الدَّعْوَى فقد لَا تؤمن الْمُعَارضَة بِمثلِهِ فِي طرف النقيض وَلَيْسَ عَنهُ محيص
وَأما إِن كَانَ مَجْهُولا غير مَعْلُوم فالجزم بنفيه مُتَعَذر لعدم الدَّلِيل المفضى إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا ينقاس فِي طرف النقيض فَإِن من حصلت عِنْده الْموَاد الصادقة المقترنة بالصور الحقة الَّتِي يتَوَلَّى بَيَانهَا المنطقى لم يجد فِي نَفسه جحد مَا يلْزم عَنْهَا وَذَلِكَ كعلمنا بِأَن الْأَرْبَعَة زوج لعلمنا بِأَنَّهَا منقسمة بمتساويين وكل منقسم بمتساويين فَهُوَ زوج كَيفَ وَأَنا نجد من أَنْفُسنَا الْعلم بِأُمُور كُلية حصلت لنا بعد مَا لم تكن وَلَو خلينا على أصل الْفطْرَة من غير طلب لَهَا لم نعلمها فَلَا بُد لَهَا من مدرك موصل
1 / 18
إِلَيْهَا فَإِنَّهَا غير بديهية وَلَيْسَ الْمدْرك هُوَ الْحَواس إِذْ الكليات غير محسوسة فَتعين أَن يكون النّظر وَلَوْلَا أَنه صَحِيح لما أفْضى إِلَى الْمَطْلُوب
فَإِن قيل مَا ذكرتموه فِي معرض إِثْبَات النّظر غير بديهي وَإِلَّا وَقع اختصاصكم بِهِ دُوننَا فبقى إِن يكون نظريا وَفِيه إِثْبَات النّظر بِالنّظرِ وَهُوَ مُمْتَنع
فَالْوَاجِب أَن يُقَال مَا ذكرتموه فِي معرض الْإِبْطَال إِمَّا أَن يكون صَحِيحا أَو فَاسِدا فَإِن كَانَ صَحِيحا فقد أبطلتم النّظر بِالنّظرِ أَيْضا وَهُوَ مُمْتَنع وَإِن كَانَ فَاسِدا فَلَا حَاجَة إِلَى الْجَواب
وَقَوْلهمْ إِن الْمَطْلُوب فِي النّظر إِن كَانَ مَعْلُوما فَلَا حَاجَة إِلَى طلبه وَإِن كَانَ مَجْهُولا فَلَا فَائِدَة لطلبه لعدم الْوُقُوف عَلَيْهِ عِنْد الظفر بِهِ
قُلْنَا الشئ قد يكون مَعْلُوما من وَجه ومجهولا من وَجه أعنى مَعْلُوما بِالْقُوَّةِ ومجهولا بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون عِنْد كَون الانسان عَالما بقضيه كُلية وَهُوَ جَاهِل بِمَا يدْخل تحتهَا بالجزئية أَو عَالم بِهِ لكنه غافل عَن الارتباط الْوَاقِع بَينهمَا مِثَال الأول علمنَا بِأَن كل اثْنَيْنِ زوج وجهلنا بزوجية مَا فِي يَد زيد مثلا لجهلنا باثنينيته لَكِن جهلنا بِهِ إِنَّمَا هُوَ جهل بِالْفِعْلِ وَإِن كَانَ مَعْلُوما بِالْقُوَّةِ من جِهَة علمنَا بِأَن كل اثْنَيْنِ زوج
وَمِثَال الثَّانِي ظن كَون البغلة المنتفخة الْبَطن حُبْلَى مَعَ الْعلم بِأَنَّهَا بغلة وَأَن كل بغلة عقيم فالعلم بِكَوْنِهَا عقيما وَاقع بِالْقُوَّةِ وَالْجهل بذلك إِنَّمَا هُوَ بِالْفِعْلِ فمستند الْجَهْل فِي الْمِثَال الأول إِنَّمَا هُوَ عدم الْعلم بالمقدمة الْجُزْئِيَّة وَفِي الثَّانِي الْغَفْلَة عَن الارتباط بَين المقدمتين فالطلب إِذا إِنَّمَا هُوَ الْمثل هَذَا الْمَجْهُول فَإِنَّهُ مهما ظفر بِهِ وعرفه بِالْفِعْلِ
1 / 19
على الصِّفَات الَّتِي كَانَت مَعْلُومَة بِالْقُوَّةِ عرف أَنه مَطْلُوبه لَا محَالة أما أَن يكون الطّلب لما علم أَو جهل مُطلقًا فَلَا
وَأما القضايا البديهية فَهِيَ كل قَضِيَّة يصدق الْعقل بهَا عِنْد التعقل لمفرداتها من غير توقف على مبدأ غَيرهَا فعلى هَذَا حُصُولهَا لنا فِي مبدأ النشوء إِنَّمَا هُوَ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ وَعدم حُصُولهَا بِالْفِعْلِ إِنَّمَا كَانَ لعدم حُصُول مفرداتها الَّتِي لَا تحصل إِلَّا بِكَمَال آلَة الْإِدْرَاك فَإِذا حصلت الْمُفْردَات عِنْد كَمَال آلَة الادراك بَادر الْعقل إِذْ ذَاك بِالنِّسْبَةِ الْوَاجِبَة لَهَا من غير توقف اصلا فعلى هَذَا لم يلْزم من عدم حُصُولهَا لنا فى مبدأ النشوء بِالْفِعْلِ ان تكون غير بديهية وَلَا من تأخرها أَن تكون نظرية فَبَطل مَا تخيلوه
وَأما مَا ذَكرُوهُ فِي امْتنَاع افتقار الْحَادِث إِلَى الْمُحدث فَإِنَّمَا يلْزم أَن لَو لم يكن مُسْتَنده الْقَصْد والإرادة بل الطَّبْع وَالْعلَّة وَلَيْسَ كَذَلِك أما على الرَّأْي الفلسفي الْقَائِل بالايجاد بالعلية فَهُوَ أَن الافلاك متحركة على الدَّوَام لتَحْصِيل مَا لَهَا من الأوضاع الممكنة لَهَا على وَجه التَّعَاقُب والتجدد طلبا للتشبه بمعشوقها والالتحاق بمطلوبها مقتضية للحركات الدورية بإرادات قديمَة لأنفس الأجرام الفلكية وبتوسط الحركات وجدت التأثيرات كالامتزاجات والاعتدالات وَغير ذَلِك من الْأُمُور السفليات وَقبُول القابليات للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية فَإِن مَا لم يُوجد مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ لعدم القابلية لَا لعدم الفاعلية إِذْ الْفَاعِل إِنَّمَا هُوَ الْعقل الفعال الْمَوْجُود مَعَ جرم فلك الْقَمَر
1 / 20
وَأما الرَّأْي الإسلامي فمصدر الْحَوَادِث بأسرها ومستندها إِنَّمَا هُوَ صانع مُرِيد مُخْتَار اقْتضى بِإِرَادَة قديمَة وَأَنْشَأَ بِمَشِيئَة أزلية كل وَاحِد مِنْهَا فِي الْوَقْت الَّذِي اقْتضى وجوده فِيهِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقه فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَلَيْسَ الموجد للحوادث مُحدثا حَتَّى يفْتَقر إِلَى مُحدث وَلَا هُوَ موجد لَهَا إيجادا بالعلية أَو الطَّبْع حَتَّى يلْزم قدم مَا صدر عَنهُ بقدمه
وَقَوْلهمْ لَو افْتقر الْحَادِث فِي حَال وجوده إِلَى مُحدث لافتقر فِي حَال عَدمه الى معدم قُلْنَا مهما كَانَ الشئ فِي نَفسه مُمكنا فَلَا بُد لَهُ من مُرَجّح لأحد طَرفَيْهِ أعنى الْوُجُود والعدم وَإِلَّا فَهُوَ وَاجِب أَو مُمْتَنع فَكَمَا أَنه فِي حَال وجوده يفْتَقر إِلَى مُرَجّح فَكَذَا فِي جَانب عَدمه والمرجح للعدم هُوَ الْمُرَجح للوجود لَكِن إِن كَانَ مرجحا بِالذَّاتِ عِنْد الْقَائِلين بِهِ فعدمه هُوَ الْمُرَجح للعدم لَا نفس وجوده وَأما عِنْد الْقَائِلين بالإرادة فَيصح أَن يُقَال عدم الْمَعْدُوم فِي حَال عَدمه مُسْتَند إِلَى عدم تعلق الْقُدْرَة بإيجاده والإرادة بتخصيصه فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا يلْزم من ضَرُورَة وجود الْقُدْرَة والإدارة فِي الْقدَم قدم مَا يتخصص بهَا كَمَا سنبينه فِيمَا بعد
وَيحْتَمل أَن يُقَال بِإِسْنَادِهِ إِلَى قدرَة قديمَة اقْتَضَت عَدمه وَإِرَادَة أزليه اقْتَضَت تَخْصِيص عَدمه بذلك الْوَقْت كَمَا اقْتَضَت تَخْصِيص وجوده بِوَقْت آخر والمرجح للطرفين وَاحِد لَا تعدد فِيهِ وَإِن وَقع التَّعَدُّد فِي مُتَعَلقَة كَمَا سَيَأْتِي بعد
وَأما مَا ذَكرُوهُ من امْتنَاع إِحْدَاث الْمُحدث فِي حَالي الْوُجُود والعدم فَلَا يَسْتَقِيم وَذَلِكَ أَن مَا وجد بعد الْعَدَم إِمَّا أَن يكون وجوده لذاته أَو لغيره لَا جَائِز أَن يكون
1 / 21
وجوده لذاته وَإِلَّا لما كَانَ مَعْدُوما فَبَقيَ أَن يكون وجوده لغيره كَمَا قَررنَا والإقتضاء لوُجُوده لَيْسَ هُوَ لَهُ فِي حَال عَدمه وَإِلَّا لما كَانَ مَعْدُوما فَلَيْسَ الِاقْتِضَاء لوُجُوده إِلَّا فِي حَال وجوده لَا بِمَعْنى أَنه أوجده بعد وجوده بل معنى اته لَوْلَا الْمُرَجح لما كَانَ مَوْجُودا فِي الْحَالة الَّتِى فرض كَونه مَوْجُودا فِيهَا وَعند ذَلِك فَلَا الْتِفَات إِلَى من اعتاص هَذَا الْقدر على فهمه واعترضت عقله مرامى وهمه
وَأما اشْتِرَاط انْتِفَاء الْوُجُود عَن مُمكن الْوُجُود فيعتذر جدا وَذَلِكَ أَن مُمكن الْوُجُود هُوَ بِعَيْنِه مُمكن الْعَدَم فَإِن اشْترط فِي مُمكن الْوُجُود أَن لَا يكون مَوْجُودا فليشترط فِي مُمكن الْعَدَم أَن لَا يكون مَعْدُوما فَإِنَّهُ كَمَا أَن الْخُرُوج الى الْوُجُود يُخرجهُ إِلَى ضَرُورَة الْوُجُود فالخروج إِلَى الْعَدَم يُخرجهُ إِلَى ضَرُورَة الْعَدَم وَذَلِكَ يفضى إِلَى أَن لَا يكون الْمُمكن مَوْجُودا وَلَا مَعْدُوما وَهُوَ محَال
فَإِن قيل إِن الْعَدَم لَا يُخرجهُ إِلَى ضَرُورَة الْوُجُود بِالْمَعْنَى الْمَشْرُوط دون الْمُطلق فَهُوَ صَحِيح لَكِن لَا مُنَافَاة بَينه وَبَين الْمُمكن
وَأما مَا ذَكرُوهُ من القبليات الْغَيْر المتناهية فمندفع وَذَلِكَ أَنهم إِن فسروا الْقبلية بِأَمْر زَائِد على عَدمه كَانَ عَدمه فِيهَا فَغير مُسلم بل لَا معنى لقبلية الشئ إِلَّا أَنه لم يكن فَكَانَ وَمَعَ هَذَا التَّفْسِير للقبلية فَلَا يتمهد مَا ذَكرُوهُ كَيفَ وَأَنه يَسْتَحِيل القَوْل بِمَا ذَكرُوهُ نظرا إِلَى مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الْبُرْهَان وأوضحناه من الْبَيَان فِي عدم حوادث لَا تتناهى
وَأما مَا ذَكرُوهُ فِي بَيَان اسْتِحَالَة القَوْل بِوُجُوب وَاجِب الْوُجُود نظرا إِلَى ثُبُوت الْإِمْكَان
1 / 22
لَهُ ونفيه عَنهُ فمنشأ الْغَلَط فِيهِ إِنَّمَا هُوَ من اشْتِرَاك لفظ الْمُمكن إِذْ قد يُطلق على مَا لَيْسَ بممتنع وعَلى مَا لَا ضَرُورَة فِي وجوده وَلَا فِي عَدمه فالاعتبار الأول أَعم من الْوَاجِب بِذَاتِهِ وَالثَّانِي مباين لَهُ فعلى هَذَا إِن قضى عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُمكنا فَلَيْسَ إِلَّا بِالِاعْتِبَارِ الأول وَلَا يلْزم مِنْهُ نفى الْوُجُوب لكَونه أَعم مِنْهُ وَإِن سلب عَنهُ الْإِمْكَان فَلَيْسَ إِلَّا بِالِاعْتِبَارِ الثانى وَلَا يلْزم مِنْهُ نفى الْوُجُوب ايضا بل ربيما كَانَ الْوُجُوب هُوَ الْمُعْتَبر اَوْ الأمتناع لَا محَالة نعم لَو سلب عَنهُ الْإِمْكَان بِالِاعْتِبَارِ الأول أَو أثبت لَهُ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي لزم أَلا يكون وَاجِبا فقد تقرر كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ أَنه لَا بُد من القَوْل بِوُجُوب وجود مَوْجُود وجوده لذاته لَا لغيره
1 / 23
وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
القانون الثَّانِي فِي إِثْبَات الصِّفَات وابطال تَعْطِيل من ذهب إِلَى نَفيهَا من أهل المقالات ويشتمل على قاعدتين
1 / 25