أفلا يطرق تأسفا إذ يرى صور مدينة الفينيقيين التي كانت مركز تجارة العالم ومحط رحال الآمال قد صارت نسيا منسيا ولم يبق فيها سوى شباك الصيادين؟ أفلا يرتعد لدى سطوة الحدثان حينما يرى أورشليم مدينة داود ومحل عظمة سليمان قد أصبحت قرية لا يذكر منها سوى المحلات التي لم يحفظها سوى يد القداسة؟ أفلا يضطرب مخافة من بوائق الزمان عندما يرى أنطاكية مدينة الله العظمى ذات الأسوار العالية والحصون المنيعة قد أضحت رمة مضجعة في قبر أنوبال؟ أفلا يرتجف لدى هيبة الأيام إذ يرى مدينة تدمر التي كانت مبنية بالصفاح والعمد قد صارت أطلالا دارسة ورسوما بالية حتى لا يشاهد فيها سوى عواميد هابطة وعضايد ساقطة وهياكل مهدومة؟ أفلا يهجس كربا إذ يعاين أن منبج ذات الصيت الرنان قد غدت كالسمك الذي لا صوت له؟ أفلا يقف متحيرا عندما يصعد على رأس سمعان ويرى أن جميع ما كان يحويه من المدن العظيمة والقرى الخصبة والمزارع الناضرة والأديرة العامرة والكنائس الرحبة قد صار خرابا تاما ودمارا لا مزيد عليه بحيث لم يبق سوى بعض رسوم وأشكال؟ وبعد هذا فلا تسحقه صواعق الاشمئزاز عندما يتأكد أن جميع هذا الخراب هو نتيجة الجهل والتوحش؟
فبالإجمال نقول إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل والمروض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار إذ هو يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرة على مستحقرات الأشياء، ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة فلا يعود هاذيا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه توقدات الحسد بنظره إلى زوال المحسودات، ويطرد من صدره ضواغط الطمع بإدراكه حقيقة المطموعات، وتتلاشى من روحه بقية الأطوار المنتجة رجسه الخراب كالقساوة التي غرقت مراكب مصر، والالتطاخ الذي هدم قصور آثور، والتغفل الذي كسف شمس فارس، والطمع الذي كسر صولجان مكدونية، والضغينة التي مزقت أحشاء فلسطين، والكبرياء التي ثلت عرش الروم، والخيانة التي قلبت ممالك الرومانيين، والبغض الذي شتت شمل لبنان وزعزع أركان دمشق.
ثم تنمو به الصفات الداعية إلى جلالة العمار كالشجاعة والنباهة والمحبة والاتضاع والدعة والإحسان والوفاء والأمنية؛ إذ يعود خبيرا بغوائل تلك الأطوار الطالحة، وعليما بنتائج هذه الصفات الصالحة.
فبدون تثقيف العقل إذن لا يعد الإنسان إلا مع البهائم التي لا عقل لها ولا يمكن أن يدعى متمدنا قط.
الدعامة الثالثة: تحسين العوائد والأخلاق
إن النظر إلى عوائد البشر وأخلاقهم يعتبر كأعظم دليل على حالة تمدنهم ومقامه، فكلما كانت هذه العوائد والأخلاق جيدة كان تمدن أربابها جيدا وعاليا، وكلما كانت قبيحة كان قبيحا؛ ولذلك يجب على الشعب الداخل في دائرة التمدن أن يبذل الاعتناء كثيرا في تحسين عاداته وأخلاقه كي لا يكون تمدنه من باب الدعوى لا الحقيقة كما يشاهد ذلك في كثير من الأمم، ولما كانت العوائد والأخلاق تارة تعتبر في الخصوص وأخرى في العموم وجب أن يكون كلامنا عليها خاصا وعاما.
أولا «الخاص»:
إن المراد هنا هو النظر إلى تحسين العادات والأخلاق الشخصية؛ أي التي تخص الشخص المفرد، وهي إما طبيعية أو أدبية؛ فالطبيعية تدعى ملكات، والأدبية عادات. وجميعها يرجع إلى التطبع لأنه الأصل لجميع هذا الباب؛ ولذلك يجب عليه أن يكون المدار. فنقول إن الإنسان حينما يولد على الأرض يكون خاليا من جميع العوائد والأخلاق جيدة كانت أو رديئة، ولا يوجد فيه شيء سوى الاستعداد إلى التطبع، فإذا كان استعداده جيدا مال إلى قبول الجيد، وإذا كان رديئا مال إلى قبول الرديء. فلا يوجد لتحسين العادات والأخلاق الشخصية أهم من إخضاع الاستعداد الإنساني منذ نعومة الأظفار إلى التطبع بالطبائع الحسنة والتخلق بالأخلاق الجيدة. على أنه في هذه المدة من الحياة تكون الطبيعة شديدة الخضوع لقبول التأثيرات والانفعالات؛ فلذلك كل عادة وجدت في الحداثة ولم تستدرك طبعت أثرها على الفطرة وكانت ملكة عند الكبر لا تسمح باستئصالها إلا تحت مشاق التعب الزائد وهكذا كل خلق. ومتى حصل الانتقال إلى سن البلوغ فصاعدا صار التطبع صعبا جدا على الطبيعة ولا يعود للملكة سلطان عليها، بل تصير خاضعة لغلبة العادة التي ليس لإزالتها صعوبة.
أما كيفية ذلك الإخضاع للاستعداد الإنساني، فهي تتم بإمالة الأميال عن التطبعات بالعوائد والأخلاق المنكرة وإلحاقها بالمقبولة، ولا يمكن التسليم بكون الشخص متمدنا ما دامت عوائده وأخلاقه غير موافقة لما يقتضيه التمدن من التعود والتخلق.
فلا يتفق التمدن مع ملكة السكر؛ لأن ذاك يطلب تقوية أفعال العقل بتصحيح التصور وإصلاح الحكم وتنشيط الذكر، وهذه تقتضي إضعاف الأفعال العقلية بإيقاع الخمول وإفساد الأحكام وإلقاء الهذيان. ذاك يستلزم حسن الصفات كالأناسة واللطافة وعزة النفس، وهذه تستدعي قبح الأوصاف كالتوحش والكثافة والدناءة. ذاك يطلب الالتفات إلى الأعمال والأشغال والنشاط، وهذه تطلب البطالة والتواني والكسل. ذاك يستميل إلى المحافظة على الصحة ورفع أسباب الأمراض، وهذه تطرد كل قانون صحي وتفتح سبيلا عظيما لنهوض كل مرض عضال كالحدار والتيبس وسوء الهضم والاستحالات الآلية ونحو ذلك.
Unknown page