ولما كان لا يمكن لنظر الراوي أن يدرك جليا كيفية امتداد تلك السياسة على العالم، ولا أن يستوضح حقيقة المسلك الذي نهجته لها الأقدار لما يعارضه هناك من ظلمات الأحقاب والأعصار، وجب عليه حينئذ أن يستخدم العقل كمصباح لكي يمكن لأعينه بواسطة أشعة الانتقالات الفكرية أن تنفذ في تلك الظلمات الدامسة فتفوز بمشاهدة ما وراء ذلك.
فهلم إذن يا أيها الراوي واتل علينا بقية ما جرى هنالك، وأخبرنا عما عثرت عليه من المواقع بعد أن استطلعت العقل نيرا في أوج الغوامض.
إنني بعد أن أولجت نظري طويلا في بحر زاخر من الظلام الهائل حيثما كانت أمواج التيه والمعاثر تتلاطم تحت مهب عواصف الأيام والليالي، أنفذته أخيرا من هذه اللجج العميقة إلى سهل فسيح الأمد يعانق بباع نهايته أفق البداية، وإذا مرسح عظيم قد انفتح أمامي؛ وإذ كنت عاجزا عن استجلاء الأشباح اللاعبة فيه تماما لشدة توغلهم في عباب القدمية، وضعت على أعيني نظارة الاستقراء وجعلت أتأمل.
فرأيت جموعا عديدة من الناس قائمين بمهمات عظيمة، ومقيمين ضوضاء حافلة وهم يصيحون بعضهم على بعض قائلين: هلموا نبتني لأميرنا برجا يبلغ رأسه إلى السماء؛ فكان البعض يقطع من الجبال حجارة، والبعض يصنع طينا، وآخرون يشوون لبنا، وغيرهم يسرد ترابا، وما برحوا يحفلون بموسم البنيان حتى انتصب برج عظيم وصارت تخفق عليه راية أمير القبيلة.
وهكذا شرع كل من الناس يبني له بيتا ولمواشيه مذودا حتى قامت مدينة عظيمة المشاد، يضج في شوارعها أفواج وافرة من العباد. ولما صارت الأسواق تطن بمطارق معامل المعادن، والشوارع ترن بأصوات الصنائع والأشغال، والساحات ترتجف تحت أقدام المحافل والمعامع، والمراسح تتموج لدى لطم أمواج الأصوات الاحتفالية الآتية من أفواه آلات الطرب، صار يدوي في آذان الشعوب المتفرقة صوت ذلك الضجيج المرتفع واللغط الهادر، فكانوا يتقاطرون أجواقا أجواقا، ويخيمون في ظلال المدينة طالبين من سكانها أن يقبلوهم في الجوار لكي يتخلصوا من مشاق البادية ويفوزوا براحة الحضر.
وهكذا كانت تلك المدينة تقبلهم بكل إكرام على شرط أن يخضعوا لأحكامها وشرائعها ويؤدوا الأعشار لأميرها؛ فلم تلبث أن تعاظمت جدا، وتضاعفت مساحة وسكانا، وصارت محاطة بأسوار رفيعة وحصون منيعة، حتى أضحت مركز رهبة يدور عليه احترام القبائل وموضوع عظمة يحمل عليه حسد البشر.
وبينما كانت هذه المدينة الزاهرة رافلة بأذيال اليمن والكرامة، مختلة بسربال الهدو والسلامة، تطفح في حاناتها كاسات السرور، وتشدو في حدائقها بلابل الحبور، وإذا عجاج يثور عن بعيد، ونقع غبار يتصاعد إلى الجو، حتى عاد يظن أن زوبعة شديدة قد نهضت من جوف الثرى وهمت أن تكحل أعين السماء بإثمد تراب الأرض، وكانت أصوات كهدير هجمات المياه تهب من تلك الجهة، فصليل تمازجه قعقعة اللجم وصهيل تتخلله نقرات حوافر الخيل. وما كان إلا كتردد الفكر بين شك ويقين، حتى أسفر ذلك الغبار عن جيش جرار يتموج على الصهوات ويفري بطون الفلوات.
فلما نظرت عينا الأمير ذلك العجاج الثائر وسمعت أذناه تلك الأصوات الضاجة، لم يعد عنده ريب أن عدوا سمع بجلال مدينته فدفعه لهيب الحسد إلى إشهار الحرب وإيقاع الحصار.
ولما ثبت عنده ذلك الغضب المقبل، أخذته ثورة الحمية ودارت في رأسه حرارة الوطن، ونادى في جميع المدينة معلنا صوت الحرب حيثما صارت كافة الأهالي فريسة ترتعد بين مخالب الجزع والهلع لما عاينوا مما لم يعاينوا؛ فأوعز إليهم أن يجتمعوا في إحدى الساحات الفسيحة رؤساء ومرءوسين، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء، بدون أدنى امتياز أو مميز؛ لكون الجميع يلزمهم أن يحاموا عن حقوق الوطن ويقتسموا مطاليب محبته سوية لوجوب حقه على كل من لا ينكر عليه حق التمتع بخيراته.
وعندما تم الاجتماع وشملت النخوة كل الجموع وقف ذلك الأمير على محل عال وأنشأ يقول:
Unknown page