Gharizat Mara
غريزة المرأة
Genres
مقدمة الطبعة الثانية
لما صدرت الطبعة الأولى ومثلت الرواية وشاهدت أشخاصها على المسرح لاحظت أنا عيوبا، ولاحظ غيري من الإخوان والنقاد سواها، ففكرت في هذا كله، وبدا لي أن خير ما أصنع هو أن أحاول أن أنتفع بالنقد الذي وجه إلي، بغض النظر عن البواعث، فإن الحق حق على كل حال، وقد نقحت الرواية وزدت عليها فصلا هو الثالث الآن، وهذا التنقيح لا يغير موضوعها، بل يزيد فكرتها وضوحا والغرض منها بروزا، وأحسب هذه أول مرة يحدث فيها أن كاتبا - على الأقل في مصر - يتناول مؤلفا له بمثل هذا التعديل الجسيم، ولكني لا أرها بدعة سيئة ولا سنة غير محمودة، وما دام أن الكاتب نفسه قد اقتنع بصحة النقد ومطابقته لما يراه هو، فإن من الحماقة أن لا يعالج عمله بالإصلاح والتهذيب، ولا سيما إذا كان ميسورا، ومما سهل علي الأمر أن الطبعة الأولى نفدت بسرعة وأن الحاجة إلى طبعة أخرى كانت جلية.
وقد ألحقت بالرواية رواية مترجمة هي «الشاردة» لجون جالسوردي الكاتب الإنجليزي المعروف؛ ليقابل القارئ ويقارن كما يشاء؛ دفعا لكل وهم قد يسبق إلى الذهن.
وليس يسعني إلا أن أتقدم بالشكر لكل من تفضل بإيلاء روايتي «غريزة المرأة» عنايته، كائنا ما كان رأيه فيها، وأخص بالشكر صديقي الأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل بك، وقد وفقت بين رأيه ورأيي في تسمية الرواية، وساعدني على ذلك الفصل الذي زدته.
إبراهيم عبد القادر المازني
مقدمة الطبعة الأولى
الحكاية التي تنطوي عليها هذه الرواية لا جديد فيها ولا ابتكار ولا عمل للخيال، وأعني النفور بين زوجين وما يؤدي إليه ذلك في الأحيان الكثيرة من تقوض بناء الأسرة والشقاء وخيبة الأمل في الحياة، وأمثال ذلك تقع كل يوم، وفي كل لغة مئات من القصص التي تدور على هذا المحور، فلا فضل لي أدعيه، ولا جهد أستطيع أن أباهي به؛ فإن الطريق مطروق والأرض ممهدة وما انقطعت الأرجل قط عن السير فيها، والأمثلة التي يمكن أن تحتذى لا تعد ولا تحصى، وفي وسع القارئ - بلا أدنى عناء - أن يهتدي إلى عشرات من الروايات التمثيلية وغير التمثيلية التي تتناول هذا الموضوع وتقلبه على كل وجه وتصفيه أتم تصفية وأوفاها؛ وهذا ما أحب أن أقرره في ذهن القارئ؛ فأنا لم أصنع شيئا حين جئت بقصة مذالة وتناولت موضوعا مبتذلا سبقني إليه كل من تناول قلما ليروي حكاية أو يصورها بأحسن ألف مرة مما أستطيع أنا أن أفعل، وفي وسعي أن أورد هناك أسماء مائة قصة هذا موضوعها، وليست هي كل ما يقرأ، بل بعض ما يتسع لقراءته وقت الذين لا يقصرون اطلاعهم على القصص والروايات، غير أني اعتقد أني وجهت الحوار في هذه الرواية توجيها يستحق العناية، ولهذا أكتب هذا التصدير، فما ثم شيء في حكاية زوجين فسد الحال بينهما ووقعت النبوة وانتهى الأمر إلى الفراق والنزاع، وما عسى أن يجرا في ذيلهما من المتاعب والأسواء، وإنما الشيء ما وراء ذلك كله من الأسباب الدافعة والعوامل التي من شأنها أن تفضي إلى هذا الحال، وقد عولج هذا الموضوع من قبل؛ غير أني حاولت في هذه الرواية أن أبرز سببا معينا ولو على حساب غيره من الأسباب، لأنه عندي السبب الأقوى، وما عداه - في يقيني - أقل وخامة في عواقبه إذا أغفل، وقد حاولت جهدي أن أشير إليه في أثناء الحوار وأنبه عليه، ولكني مقيد - في إدارة الحديث - باعتبارات شتى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، منها ما هو واجب؛ من الاحتشام والتزام حدود الأدب واللياقة، ومنها - وهذا أهم - أن المفروض في الرواية أن الزوجين اللذين فسد ما بينهما لا يدركان هذا السبب ولا يفطنان إليه، وأنهما قد يحومان حوله ولكنهما لا يقعان عليه، ولو أنهما كانا يعرفانه ويدركان كنهه لصلح حالهما واستقر الأمر بينهما على حدود الوفاق.
والمسألة هي أن غريزة حفظ الذات في الرجل أقوى، وأن حياة المرأة مدارها وقوامها غريزة حفظ النوع على الأكثر، هذا هو الأصل، والشواذ غير معدومة ولا قليلة، ولكن الشواذ لا تنفي الأصل ولا تحجبه، وليس هذا مكان الإفاضة في شرح هذا الفرق، وعلى من شاء التوسع أن يطلبه في الكتب والفصول التي تتناول هذا الموضوع، فالوفاق بين الرجل والمرأة لا يكون إلا إذا فهم كل منهما طبيعة الآخر وما تتطلبه كل من الغريزتين، والشقاق نتيجة العجز عن هذا الفهم، وقد تؤدي أسباب أخرى إلى الخلاف والجفوة، ولكن من المحقق أن العجز عن إدراك مطالب الغريزة النوعية في المرأة يؤدي بلا أدنى شك وفي كل حال إلى فساد ما بينها وبين الرجل، ومن الرجال من يكون سلوكه مرضيا للمرأة ومحببا لها فيه وهو لا يدري لماذا؛ لأن سلوكه معها لا فضل فيه إلا للفطرة الذكية، غير أن الفهم الصحيح لا يكون إلا ثمرة الدرس العلمي، وليست الغريزة النوعية في المرأة فوضى؛ فإن لها لقوانين قد يلحقها الاضطراب أحيانا ويصيبها الشذوذ، ولكنها حتى في شذوذها واضطرابها غير مستعصية على الدرس.
أكتب هذا وقد جربت الأمر بنفسي، ووقعت في مشاكل الجهل، ولم ينجني من عواقبها السيئة إلا التوفيق إلى درس طبيعة المرأة وغريزتها، فقد تزوجت أول ما تزوجت وأنا في العشرين لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى، ولا عن الزواج إلا أنه وسيلة مشروعة لتعارف الجنسين، فقضينا ثلاث سنوات ونحن في جحيم لا تخمد ناره ولا ينقطع عذابه، فكاد يجنني أنا بدأنا متحابين، فما هي إلا شهور حتى صرنا إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال، وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد، وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية لولا أنه اتفق أن قرأت فصلا في مجلة راقني يومئذ، وعرفت بعد ذلك أنه سخيف محشو بالخطأ؛ غير أنه دفعني إلى درس موضوع لم تكن لي به عناية، فأقبلت على الكتب ألتهمها، حتى الجاف الذي لا يطيقه ولا يفهمه غير الأخصائي؛ من مثل الكتب الطبية، وأذكر من بينها كتابا ضخما في الإمساك، ولما شبعت من القراءة واعتقدت أني وصلت إلى نتيجة يمكن الانتفاع بها شرعت أطبق العلم على العمل وأدرس طبيعة زوجتي، وصبرت على التجريب والاختبار أكثر من عام، وعشنا بعد ذلك ستة أعوام كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات، وقبضها الله إليه بعد ذلك، فكان مما عزاني أني لم أقصر، وأني إذا كنت عذبتها بجهلي ثلاث سنوات فقد استطعت أن أذيقها طعم السعادة النسبية ضعف هذا الزمن.
وليست هذه الرواية نقدا، ولقد هممت أن أجعل ختامها في بيت الزوج بعد تنفيذ حكم الطاعة على الزوجة، مع اختلاف يسير في النتيجة، ولكني خفت أن يعد نقدا لحكم الطاعة، وليس هذا ما قصدت إليه، ولقد تحريت في أثناء الحوار أن أبين أن الزوجة لم يكن لها دفاع، ولا هي تقدمت إلى المحكمة بما يصلح أن ينهض عذرا لها، ولو فعلت واستطاعت أن تثبت أن التفريق واجب لقضي لها به، ولكنها فقيرة مكروبة ممزقة الأعصاب، تكتفي بالفرار مما تكره.
Unknown page