المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد
قال علي بن ظافر الأزدي ثم الخزرجي: لم أزل في كل أوان وزمان أسمع من أوصاف المآثر الملكية الأفضلية، والمناقب النورية السلطانية، ما تتأرج بذكره المحاضر، ويفتتن به البادي والحاضر، وأشاهد من آثاره ما تثنى عليه الخناصر، ويعجب من صدوره من شخص تألفت عليه العناصر، فأكاد أطير إلى تلك الحضرة من الشوق، ويهم عمرو للتوق أن يشب عن الوطوق. حتى اتفق لي أن مثلت الحضرة الناصرية، خلد الله لمالكها الملك، وملكه الخلد، وأمده العلو، وأعلى له الأمر، لعزمة كانت من مهمات القلب أمضاها، وحاجة في نفس يعقوب قضاها، فحللت بمقامه الأسمى مادحًا، ونزلت على دوحة فضله الباسقة صادحًا، فرأيت مجدًا تقصر دونه مدى بلاغتي النظم والإنشاء، وجودًا خضرمًا لا يحتاج وارده إلى تطويل الرشاء، وحلمًا لا تجلجله رياح الغضب، وعزمًا لا تدعيه على صولتها القبض، فاخضرت لما حللت بجنابه سنى الغبر، ولما التقينا صدق الخبر الخبر: وأهديت إلى جانبه الأسمى - نصر الله عزه وأعز نصره وقدر علوه، وأعلى قدره - تحف مدائحي الغر، وقصائدي المزرية ببهجة الزهر، وغمرت النجوم الزهر. وخدمت مقامه بهذا الكتاب، الذي ما أظن قريحة أتت بمثاله فيما سلف من الزمن، ولا أظن أن أحدًا يجمع مثله فيما بعد. وأين من بعد أن قدمت قبله هذه القصيدة، وأودعتها نوعًا من جنس ما أودعته فيه من غريب التشبيه، ورفعتها صحبته يوم الأحد لخمس خلون
1 / 1
من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة بالعسكر المنصور على تل الحجل بمرج عكا وهي في صفة العسكر:
طربتُ إلى المعسكر بالشآم ... ومشيي بين أطنابِ الخيام
لدى بيضٍ قوادمهنَّ تهفو ... تلوحُ لناظري مثلَ الحمام
كأن الأرض أدحيُّ إذا ما ... حكتْ بخيامها بيضَ النعام
ولاحت خيمةُ السلطانِ فيها ... بحرمتها كبرقٍ في غمام
حكتْ وسطى من الياقوتِ لما ... بدوا مثل اللآلئ في انتظام
فتحكي ربوةً سترتْ بنبتِ الش ... قائقِ حين لاح من الكمام
عجبتُ لها ترى الآسادَ تبدي ال ... خضوعَ بها لوافرةِ السنام
إذا اصطفت ظباءُ الترك فيها ... جفوتَ لحسنهمْ كل الأنام
وإن شبهتَ مالكها بليثٍ ... عجبتَ لأنس غزلانٍ قيام
وكم بدرٍ بأفقِ قباهُ يسري ... يجررُ ذيلَ شعرٍ كالظلام
ويطعنُ كل قلبٍ من هواهُ ... سنانٌ جاء من رمحِ القوامِ
ولونُ عذاره المخضر أضحى ... لحمرةِ خده مثل الفدام
يخط لعاشقيه لا وصالٌ ... ألم تنظر إلى ألف ولامِ
وإن جاءَ القتالُ رأيتَ يوم ال ... ركوب من الأعاجيب العظام
فكم شمسٍ تجر هلالَ قوسٍ ... فترسلُ محرقًا شهب السهامِ
وكم في النقع ظبي فوق طرف ... كبدر فوقَ برق في ظلامِ
1 / 2
وكم من مغفر من فوقِ خدٍّ ... بهى كالحبابِ على المدامِ
وكم يهتز فيه غديرُ درعٍ ... يسقى غضنَ بانٍ من قوام
وصفتُ الكوس لا تنساهُ رعدٌ ... له قطرٌ من النشابِ هام
ويقطعُ مرج عكا كل طلبٍ ... كرضوى حينَ يطلعُ أو شمامِ
ويبدو المرجُ والرايات صفرٌ ... تحاكي لونه غبَّ الغمامِ
ترى حمر البيارق فيه تبدي ... عجاجًا كالدخانِ على الضرامِ
وإن صفرٌ بدتْ لك في عجاجٍ ... رأيت التبر يسكنُ في الرغام
ووقتَ الزحفِ تنظرُ كل ليثٍ ... لديه سيفه كالنابِ دام
إذا ما قالَ كم حطمت ألفًا ... فإن القولَ ما قالتْ حذامِ
ويعذر رمحه إن ماسَ سكرًا ... ألم يكرع من الدم في مدام
وعكا قد حكتْ بكرًا شموسًا ... تسدُّ ففتحها صعبُ المرامِ
وخندق عسكرِ الإفرنجِ يحكي ... عليه الخيلُ درًا في نظام
تراه خلفه الكومانُ يبدو ... كمنطقة علت ردفى غلام
وخيلُ الشركِ تركضُ خلفه في ... ذيولِ خيامهنَّ على الدوامِ
1 / 3
يثرن إذا ركضنَ عليه نقعًا ... بلا فعل حكى سحبَ الجهامِ
وكم مستأمن قذْ فرَّ منهمْ ... لأجلِ الجوعِ أو طولِ المقامِ
وكمْ من فارس منهم قتيلًا ... ولا قبرٌ له غيرُ القتام
إذا قصفُ الرماح عليه لاحتْ ... بدا مثلَ الحريص على الحطام
أظنُّ الله ما أفناهُ إلا ... بسيفِ عليٍّ الملكِ الهمام
هو الملكُ الجسيمُ البأسِ أضحى ... يقارنه مع النعم الجسام
هو البدرُ الذي ما زال يدني ... شهاب الرمحِ أو برق الحسام
تراه سافرًا في الحربِ لكن ... يلوحُ من العجاجةِ في لثام
إذا زفتْ إليه عروسُ حربٍ ... جفا في وصلها طيبَ المنام
وسؤددُ نفسه ما زال يزري ... بما قد جازَ منه على عصامِ
أيا ملكَ الملوك ولا أحاشي ... ويا خير الأنام ولا أحامي
عجبتُ لنار عزمكَ كيف تبقى ... ولا تطفى وبحرُ نداكَ طامي
وأعجبُ منه أمنُ الناسِ لما ... رأوكَ وأنت كالليثِ المحامي
يحلُّ الدرُّ في الحصباءِ قدرًا ... محلك إذا تضافُ إلى الكرام
ومن سواكَ فضلًا مع مليكٍ ... كمنْ سوى الحسام مع الكهام
وهل نجمُ السها في الجو نورًا ... يقاس ببهجة البدر التمام
وقد سيرتُ نحوكَ بنتَ فكري ... عروسًا ما تزفُّ إلى اللئام
لقد وشحتها بحلى المعاني ... كما ألبستها حلل الكلام
1 / 4
وقد أبتعها أيضًا كتابًا ... بعثتُ به إلى الهمم السوامي
أتى ليسوق لي سحبَ العطايا ... كفعل الريح بالغيثِ الرهام
فعجلْ لي بجودكَ يا مليكَ ال ... أنامِ فقد أطلتُ له مقامي
ودونك فاستمع سحرًا حلالًا ... أتى يلهي عن السحر الحرام
فخيرُ الشعر أكرمه رجالًا ... وشر الشعر أقوالُ الطغام
وعش لا زلتَ مجتنب الرزايا ... ودمْ لا زلتَ مرعيَّ الذمام
بسم الله الرحمن الرحيم. عونك اللهم.
أما بعد حمدًا لله العزيز القهار، عالم خفايا الأسرار، وبوادي الأجهار المنزه غيبه عن الإشهار والإظهار، مقدر كل ما يحدث في سواد الليل وبياض النهار المتكفل للإسلام بأعلى المنار، المؤلف بين قلوب أهله فأصبحوا بنعمته إخوانًا، بعد أن كانوا على شفا جرف من النار، الذي لا ينجو مما قدره دان ولا عال، ولا يحصن مما يريده سهول الظباءِ ولا أوعار الأوعال. أشهد أنه لا إله إلا هو الكبير المتعال، والصلاة على محمد نبيه وعبده، وعلى أصحابه الذين هم أفضل الخلق من بعده، فإن الأرض لما أخذت زخرفها وازينت، وظهرت علامات سعدها وتبينت، وتسلمت من الخطوب كتاب أمانها، وعاد ربيعًا كل زمانها، وتحلت بعقود من جواهر زهرها النضر، وطال عمر ربيعا الخضر، وأصبحت لأهلها بعد أن طالت شراستها، ولانت لأربابها لما حسنت سياستها، ووصلت لأرباب الفضائل وكانت هجرت، وهب عليهم نسيم أصائلها بعد أن هجرت، ويسرت عليهم أمورهم وكانت عسرت، وأطلقتهم من وثاق الفقر بعد
1 / 5
أن قسرت وأسرت، وجبرتهم من صدع النوائب حين حطمت وكسرت، وسكنت عنهم بحار الخطوب بعد أن طمت، وأوقفت دونهم رياح الفتن بعد أن حطمت. وعادت محجتها بيضاء من الحق وكانت سوداء من الباطل، وأوفت أهلَ الفضلِ ديونهم، وكم أوفت على الغرير المماطل بما شملها من أيام مولانا السلطان العادل، الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، منقذ بيت الله المقدس من الكفرة المشركين، أبى المظفر يوسف ابن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين، الذي ملكها فما جار بل عدل، وسلكها فما حاد عن طريق الحق ولا عدل. وأثارت رياح عزائمه سحاب جوده وسرت الدنيا وسائر أهلا بوجوده، وأحيا طلل المجد بعد أن كان دائرًا، وشعر بفضله فأضحى بسيفه ورمحه للبرود والرءوس من الكماة ناظمًا وناثرًا. ونجله الملك الأفضل العالم العادل، المجاهد المرابط. المؤيد المظفر، المنصور، نور الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين قسيم الدولة، فخر الأمة مجير الملة، ناصر أمير المؤمنين، الذي سرت مآثره شهبًا في ظلمات الخطوب، وظهرت مكارمه بشرًا في وجه الزمان بعد كثرة القطوب، وأدلجت بنات الأفكار في ليل الغرائب إليه؛ فحمدت عند الصباح وجه السرى، وأقسم الزمان بأن نظير مجده ما رآه، ولا يرى.
وإذا نظرتَ إليه قلتَ كأنهُ ... بدرُ الدجى إن لاحَ أو ليثُ الشرى
فلله هو من ملك ما أوسع صدره وأفسحه، وأعذب لفظه وأفصحه، وأمنع جاهه وأحصنه، وأجمل أدبه وأحسنه، وأسح جوده وأمطره، وأطيب ذكره وأعطره. إن ذكرتَ الكرم فهو أوسه وخاتمه، وإن ذكرت المجد فهو فاتحه وخاتمه، أو وصف البأس فعنترة فيه خادمه. قد اختالت به
1 / 6
الأندية والمحافل، وزهت به الكتائب والجحافل، وازدانت به الطروس والأقلام، وارتاحت له البنود والأعلام، فوجب على من شملته حاشيتا دولته، وضمته حسن إيالته؛ أن يبذل جهده في الخدمة بما تصل قدرته إليه، ويرجو به حسن الزلفى لديه.
ولما كان المملوك ممن يشرف بوطء البساط الكريم، ويميز بانتسابه إلى المقام العظيم تأكد الوجوب عليه في توالي ما يخدم به من خدمه، وتعين له ذلك لأن يلتحق بمن اشتهر بأوليته في الخدمة وقدمه، فنظر فيما يخدم به الجناب الأسمى - زاده الله سموًا وعلوًا - فوجد فن التشبيه بين الأشعار عالي القدر، نابه الذكر، لا يمكن كل الناس سلوك جادته، ولا يقدر إلا اليسير منهم على إجادته، حتى استهوله أكثر الشعراء واستصعبه، وأبى بعضهم أن يجهد بأن يروض مصعبه، وقالوا إذا قال الشاعر كأن فقد ظهر فضله أو جهله، ولم يجد أحدًا من المؤلفين ولا مصنفًا من المصنفين اشتغل بتمييز ذهبه عن مدره، ولا خاض في بحاره لاستخراج درره، ولا انتقى خلاصةً من خبثه ولا فصل جده من عبثه، فاختار هذا المجموع شهد الله من أكثر من خمس عشرة ألف ورقة، وجمع فيه جملًا من غرائب أبياته، ومعجزات آياته، ليكون أنسًا للمجلس الأسمى في هذا الوقت وأمثاله، وطليعةً لما بعده مما يرد عليه الأمر باقتفاء مثاله، واختصره غاية الاختصار، واقتصر على المحاسن أشد الاقتصار لمعرفته باشتغال المجلس الأسمى بتدبير الكتائب، وتجهيز العساكر والمقانب، وحسن القيام بإيالة الخلائق، وتعلقه من أمر الحروب بأشد العلائق. والمملوك يستعين بالله تعالى ويسأله أن يرزقه من المجلس موافقة الغرض ويقويه من الخدمة على أداء المفترض.
1 / 7
وهذا حين نبتدئ مستعينًا بالله، ومتوكلًا عليه، راغبًا في العصمة من الغلط إليه، بعد تسمية الكتاب وتبويبه، وتنميق مقصده وترتيبه.
أما الاسم: فغرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات، ومقصود الكتاب ينحصر في ستة أبواب:
الباب الأول: في
تشبيه الأجرام العلوية
الباب الثاني: في تشبيه المياه والأنهار.
الباب الثالث: في تشبيه الأنوار والأثمار والنبات.
الباب الرابع: في التشبيه الواقع في الخمريات.
الباب الخامس: في التشبيه الواقع في الغزل.
الباب السادس: في تشبيهات مختلفة.
1 / 8
الباب الأول
تشبيه الأجرام العلوية
وفيه عشرة فصول
1 / 9
الفصل الأول
في ذكر التشبيه الواقع في الهلال
من أحسن ما قيل فيه قول ابن المعتز من مزدوجته:
وقد بدت فوقَ الهلالِ كرتهُ ... كهامةِ الأسودِ شابتْ لحيتهْ
وكذلك قوله:
أهلًا بفطرٍ قد أنار هلالهُ ... الآنَ فاغدُ على الشرابِ وبكرِ
وانظر إليهِ كزورقٍ من فضة ... قد أثقلتهُ حمولةٌ من عنبرِ
وأخذ هذا المعنى ظافر الحداد فقال من قطعة:
والجو من شفقِ الغروبِ مفروزٌ ... كحديقةٍ حفتْ بوردٍ أحمر
وبدا الهلالُ لليلتينِ كأنهُ ... فترٌ حوى تفاحةً من عنبرِ
وأخذ ابن قلاقس قول ابن المعتز وزاد عليه زيادة من قبل الصنعة فقال:
أنظرْ إلى الشمسِ فوقَ النيلِ غاربةً ... وانظرْ لما بعدها من حمرةِ الشفقِ
1 / 11
غابتْ وأبقتْ شعاعًا منه يخلفها ... كأنما احترقتْ بالماءِ في الغرقِ
وللهلالِ فهل وافى لينقذها ... في إثرها زورقٌ قد صيغَ من ورق
ومن هذا الإعجاز قول أبي منصور الديلمي أنشده الثعالبي في تتمة اليتيمة:
وحاكى هلال الأفقِ في أعين الورى ... مراةً تبدى بعضها من إهابها
ومما ينسب إلى ابن المعتز هذه الأبيات:
قم فاسقني الخمرَ يا نديمي ... فإنه آفةُ الهمومِ
فقد تبدى هلالُ شهر ... قدومه أيمنُ القدوم
كأنهُ في السماءِ فخٌّ ... ينتظر الصيدَ للنجوم
وزاد عليه القاضي التنوخي فقال:
اسقني واسقِ صاحبي ... بأكفِّ الكواعبِ
من مدامٍ مزجتها ... بدموعِ السحائبِ
والهلالُ الذي يلو ... حُ خلالَ السحائبِ
مثل فخٍّ من اللج ... ينِ لصيدِ الكواكبِ
وقال أبو بكر الخالدي وقصر:
ربَّ ليل فضحتهُ بضياءِ ال ... راح حتى تركتهُ كالنهارِ
1 / 12
ذي سماءٍ كخرم ونجم ... مشرقات كنرجس وبهارِ
وهلالٍ يلوحُ في ساعدِ الغر ... بِ كدبوس فضة أو سوارِ
وأجود منه قول الأمير تميم، وإن كان مأخوذًا منه:
ربَّ صفراءَ عللتني بصفرا ... ء وجنح الدجى خليعُ الإزارِ
وكأنَّ الدجى غدائرُ شعرٍ ... وكأنَّ النجومَ فيه مداري
وانجلى الغيمُ عنْ هلالٍ تبدى ... في يدِ الأفقِ مثلَ نصفِ سوارِ
وأخذه علي بن محمد بن حبيب التميمي من قصيدة:
ولا ضوء إلا من هلال كأنما ... تفرق منه الغيم عن نصف دملجِ
وأخذه الشريف أبو الحسن علي بن إسماعيل الزيدي القيرواني فقال من قصيدة:
كأنَّ طلوعَ أنجمهِ كؤوسٌ ... سقى الشرقُ الغروبَ بها عقارا
وفي ذيلِ الغروبِ سليلُ شمسِ ... كما شطرت منعمةٌ سوارا
وأخذه نشو الملك بن المنجم وزاد عليه، وذكر غروب الشمس فقال:
وعشي كأنما الأفق فيه ... لازوردٌ مرصعٌ بنضارِ
قلتُ لما دنتْ لمغربها الشم ... سُ ولاحَ الهلالُ للنظارِ
أقرضَ الشرقُ صنوهُ الغرب دينا ... رًا فأعطاهُ الرهنَ نصف سوارِ
1 / 13
ومن الشعر الذي تظهر عليه الشطارةُ قول مؤيد الدين الطغرائي أبي إسماعيل:
قوموا إلى لذاتكم يا نيام ... وأترعوا الكاس بصفو المدام
هذا هلالُ الشهرِ قد جاءنا ... بمنجلٍ يحصدُ شهرَ الصيام
وقال ابن وكيع من قصيدة:
ولاح لي هلالها ... كقوسِ رامٍ إذْ يغطْ
أو حاجبٍ ذي شمطٍ ... ظلَّ من التيه يمطْ
وزاد المملوك على هذا زيادة من طريق الصنعة فقال:
انظر لحسن هلال الجو كيف سرى ... إلى منازله في غايةِ الصغرِ
كأنما قوسه ما بينَ جبهتهِ ... وطرفهِ حاجبٌ قد شابَ في كبر
وقال ابن حمديس في طلوع الهلال، عند السحر في أواخر الشهر وأجاد:
وربَّ ليلٍ سهرناهُ وقد طلعتْ ... بقيةُ البدرِ في أولىَ بشائرهِ
كأنما أدهمُ الإظلامِ حين نجا ... من أشهبِ الصبحِ ألقَى نعل حافرهِ
ومما ينسب إلى ابن المعتز:
قم يا غلامُ فهاتها كرخيةً ... حمراءَ تحكي حمرة المارينجِ
1 / 14
وانظر إلى حسنِ الهلالِ كأنهُ ... نونٌ مذهبةٌ على فيروزج
وقال السري من قطعة:
ضحكتْ أوجه اللذاذةِ بالفط ... رِ ولاحتْ طوالعُ السراءِ
وكأنَّ الهلالَ نونُ لجينٍ ... غرقت في صحيفةٍ زرقاء
وأخذه الوأواءُ فقال:
هلالها من خلل السحابِ ... كمذهبِ النونِ من الكتابِ
أو طرفِ السيفِ من القرابِ
وأخذه أبو عبد الله بن الحدادِ الأندلسي أخذًا عجيبًا فقال:
وبدا هلالُ الفطر فيها سائرًا ... وسطَ السماءِ كأنهُ العرجون
فكأنَّ بانَ الصومُ خط بجوهِ ... خطًا دقيقًا بانَ منه النونُ
وأخذه ظافر الحداد فقال:
لما تجلى هلالُ العيد عادَ ... بما قد كنتُ آنسُ من لهوٍ ومن طربِ
يلوحُ في الأفق الغربيِّ من شفق ... كالنونِ خطتْ على لوحٍ من الذهبِ
وللسري الموصلي، وأجاد:
ألا عد لي بباطية وكاس ... ورع همي بإبريق وطاس
1 / 15
وذكرني بشعر أبي نواس ... على روض كشعرِ أبي فراس
وغيمٍ مرهفات البرق فيه ... عوارٍ والرياضُ به كواسي
وقد سلتْ جيوشُ الفطرِ فيهِ ... على شهرِ الصيامِ سيوفَ باسِ
ولاحَ لنا الهلالُ كشطرِ طوقٍ ... على لبابِ زرقاءِ اللباس
وقد أربى هذا على قول ابن المعتز:
وكأنَّ الهلالَ طوقُ عروسٍ ... بات يجلى على غلائلَ سود
وقال ظافر الحداد وأجاد:
أما ترونَ هلالَ العيدِ حين بدا ... للعين منه بقايا جرم دائره
كحرف جامٍ من البللورِ قابله ... ضوءٌ وأخفى الدجى إشراقَ سائرهِ
أو درهمٌ فوق دينارٍ تجللهُ ... سترًا وضاقَ عن استيعابِ آخرهِ
وقال ابن المعتز من قصيدة:
ولاحَ ضوءُ هلالٍ كادَ يفضحنا ... مثل القلامةِ قد قدتْ من الظفرُ
وقال علي بن محمد بن حبيب التميمي من قصيدة:
في ليلةٍ أنفٍ كأنَّ هلالها ... صدعٌ تبين في إناء زجاج
كفل الزمانُ لأختها بزيادةٍ ... من نورهِ فأتى كوقف العاج
وقال من أخرى:
فلما قضى منه السحابُ قضاءه ... وأنفقَ في تحديقهِ كل ناظرِ
بدا مستدقَّ الجانبينِ كأنهُ ... على الأفقِ الغربيِّ مخلبُ طائر
1 / 16
وهو من قول ابن وكيع:
طاف بها يجلو ظلام الغيهبِ ... كالبدرِ يمشي في الدجى بكوكبِ
وقد بدا ضوءُ هلالٍ أحدبِ ... يلوح في الجو كقرني عقربِ
كمنسرٍ من طائرٍ أو مخلبِ
وقال التميمي أيضًا من قصيدة:
إذا استثبتته العينُ لاحَ كأنه ... وقد كادَ يخفى في الدجى خطُّ مفرقِ
وأضمره الإسهادُ حتى كأنهُ ... على الأفقِ الغربي قوسُ مفوقِ
وقال ابن وكيع من قطعة:
يلوحُ لي هلالها ... كمثل نصفِ الزردهْ
1 / 17
الفصل الثاني
تشبيهه مع الثريا وسائر النجوم
ومن أحسن ما سمع المملوك في ذلك هذان البيتان، وهما منسوبان إلى ابن المعتز:
كأنما الليلُ والهلالُ وقد ... بدتْ نجومُ السماء منقضهْ
رامٍ من الزنجِ قوسه ذهبٌ ... ينثر منه بنادقَ الفضهْ
وقال ابن قلاقس فيه وفي النجم من قصيدة:
ألمَّ وقلبُ البرقِ في الجو خافقٌ ... حذارًا وطرفُ النجم في الجو ساهدُ
وفي جيد زنجيِّ الدجى من هلالهِ ... وأنجمهِ طوقٌ له وقلائدُ
وقال أيضًا فيه وفي الثريا:
يا ربَّ ليلٍ قد نضى لباسه ... لم يلبث النجمُ به أنْ جاسهُ
دع امرأَ القيْس ودعْ أمراسهُ ... فترُ الهلال سرعةً قد قاسهْ
منكسًا نحوَ الثريا راسهُ ... هل تعرف العرجونَ والكباسهُ
وهذا غاية في الجودة.
1 / 18
وقال مؤيد الدين الطغرائي فيه وفي الثريا:
وترى الثريا والهلالَ مظاهرًا ... بمعنبرٍ في حلةٍ ومجسدِ
كالدر فصلَ في وشاحِ خريدةٍ ... حسناءَ تجلى في نقابٍ أسودِ
وكأنهُ وكأنها من فوقهِ ... عنقودةٌ في زورقٍ من عسجد
ولأبي عصام البصري فيه وفي الثريا والزهرةِ وأحسن:
رأيتُ الهلالَ وقد أحدقت ... هُ نجومُ الثريا لكي تسبقهْ
فشبهتهُ وهو في إثرها وبين ... هما الزهرةُ المشرقهْ
بقوسٍ لرامٍ رمَى طائرًا ... فأتبعَ في إثره بندقهْ
وله فيه وفي الزهرة:
قارنَ الزهرَ الهلالُ وكانَا ... في افتراقِ منْ غير صدٍّ وهجرهْ
وإذا ما تقارنا قلتُ طوقٌ ... من لجينٍ قد ركبتْ فيه درهْ
وقال الوأواء من قطعة:
ما ترى الصبح كيف قد غلب اللي ... لَ وقد أقبلَ النسيمُ العليلُ
وكأنَّ الهلالَ تحتَ الثريا ... ملكٌ فوق رأسه إكليلُ
1 / 19
وللأمير أبي الفضل الميكالي فيه وفي الزهرة:
أما ترى الزهرةَ قد لاحتْ لنا ... تحتَ هلالٍ ضوؤه يحكي اللهبُ
ككرةٍ مجلوةٍ من فضةٍ ... أوفَى عليها صولجانٌ من ذهب
وقال ابن المعتز فيه وفي الثريا:
زارني زائري وقد هرمَ الليْ ... لُ ودبَّ المشيبُ في عارضيهِ
وكأنَّ الهلالَ نصفُ سوارٍ ... والثريَّا كفٌّ تشيرُ إليهِ
وينسب إليه من قطعة فيها:
يتلو الثريا كفاغرٍ شرهٍ ... يفتحُ فاهُ لأكلِ عنقود
وقال المملوك فيه وفيها من قطعة:
والليلُ قد أبدى الثريا جنحه ... فكأنه موسى يضمُّ يمينهُ
وكأنَّ بحرَ الليلِ درجٌ أسودٌ ... خطَّ الهلالُ به بتبرٍ نونهُ
وقال أيضًا فيه وفيها وفي الليل من قطعة:
ولاح ظلامُ الليلِ فيه هلاله ... ونجمُ الثريا للغروبِ قد اقتربْ
كأدهم نهد ذي هلالٍ مفضضٍ ... على ظهره قد شد سرجٌ من الذهبْ
1 / 20
وقال أيضًا في صباهُ فيه وفي الليل والنجوم:
انظرْ إلى جو السماءِ وقد بدا ... فيه الهلالُ لدى نجم كاللهبْ
وكأنَّ جنحَ الليلِ ثورٌ أبلقٌ ... وهلاله فيه قرونٌ من ذهبْ
وقال أيضًا من قطعة:
ولاحَ في الغربِ هلالٌ حكى ... مع الثريا في الدجى حينَ لاحْ
فخَّ نضارٍ قد رأى شخصهُ ... طيرٌ فأهوى نحوهُ بالجناحْ
والبيت الثاني فيه زيادة على قول ابن المعتز:
كأنهُ في السماءِ فخٌ ... ينتظرُ الصيدَ للنجوم
1 / 21