270

( وإياي فارهبون ) فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيدا رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص. فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من ( إياك نعبد ) [الفاتحة : 4] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها. أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير. والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول. ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس. يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. قوله ( وآمنوا ) معطوف على ( اذكروا ) والمراد ( بما أنزلت ) القرآن و ( مصدقا ) حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تكذيبا لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقا ، ومن جهة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي ( ولا تكونوا أول كافر به ) صلى الله عليه وسلم أي أول من كفر به صلى الله عليه وسلم ، أو أول فريق أو فوج كافر به صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به كقوله «كسانا حلة» أي كل واحد منا.

(وهاهنا سؤالان) الأول : كيف جعلوا أول من كفر به صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلى الله عليه وسلم مشركو العرب؟ وفي الجواب وجوه : الأول : انه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى الله عليه وسلم لمعرفتهم به صلى الله عليه وسلم وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدون أتباعه أولى الناس كلهم. فلما بعث كان أمرهم على العكس ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) [البقرة : 89]. والثاني : ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه صلى الله عليه وسلم موصوفا في التوراة مثل من لم يعرفه صلى الله عليه وسلم لأنه لا كتاب له. الثالث : ( ولا تكونوا أول كافر به ) من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل. الرابع ( ولا تكونوا أول كافر به ) يعني بكتابكم. يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم. الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق الى الكفر كفره

Page 272