فقدت وعيها تماما فيما عدا تلك الخلية الواحدة الواعية، استقطبت حواسها الخمس، وظلت ترى وتسمع وتحس وتذوق وتشم، وأحست الكف السمينة الطرية فوق صدرها، وشمت رائحة الحديد الصدئ، وذاقت طعم اللعاب اللاسع المر.
وتحولت الكف الطرية إلى أصابع غليظة ترتعش، لم تكن رعشة ثابتة في مكانها، لكنها رعشة هابطة أسفل، إلى بطنها وفخذيها، ورأت رقبته المكتنزة باللحم كجذع شجرة عجوز يبرز منها برعم صغير أسود كان يمكن أن يعيش وينمو لكنه مات وتعفن، وقميصه الحريري المفتوح يكشف عن صدر سمين أملس بغير شعر، ويهبط إلى حزام من الجلد مفكوك، يدور حول بطن منتفخ عال تتدلى منه ساقان رفيعتان معوجتان بغير شعر، وكان بطنه المرتفع يعلو ويهبط مع أنفاسه المتقطعة، وتنبعث من داخله حشرجة خافته غريبة كأنين ثور جريح.
وزحفت فوق جسدها برودة ثقيلة غريبة، برودة لم يعرفها جسمها من قبل سوى مرة واحدة سابقة، كانت راقدة فوق ملاءة من الجلد ومن حولها أجهزة معدنية، مشارط وإبر ومقصات، وأمسك الطبيب إبرة حادة طويلة وغرزها في ذراعها. وسرت في جسمها تلك البرودة الثقيلة الغريبة فكأنما هي تغطس في حوض ماء مثلج وجسمها يثقل ويعرق شيئا فشيئا.
ولم يكن تحتها ماء، كان هناك شيء ناعم له ملمس الرمل، وهواء بارد يدخل في ثوبها المفكوك، ولعاب مر لاسع يتجمع في جوفها، ورائحة صدئة عتيقة تسد أنفها، وإلى جوارها كتلة ضخمة ممددة على الأرض، تلهث وترتج، وترتج معها عينان جاحظتان مطفأتان وساقان رفيعتان مرتخيتان، وحاولت أن تفتح فمها لتبصق لكنها لم تستطع واقترب جفناها الثقيلتان وانغلقتا. •••
فتحت عينيها لترى نور النهار يدخل من شقوق الشيش، ونظرت حولها في ذهول، كان كل شيء في حجرتها كما كان دائما؛ الدولاب والشماعة والنافذة والسقف والدائرة المشرشرة، وسمعت صوت القدمين تزحفان في الصالة وتقتربان من حجرتها، ونظرت إلى الباب تنتظر ظهور وجه أمها، لكن وقتا طويلا مر دون أن يظهر وجه أمها، وانتفضت من فوق السرير واقفة على قدميها، لقد تذكرت، وسارت بقدمين مرتجفتين إلى الصالة، واقتربت من باب حجرة أمها في وجل، أكان حلما؟ أم أنها ماتت حقا؟ ومدت رأسها لتنظر داخل الحجرة وارتطمت عيناها بالسرير الخالي وتراجعت إلى الوراء في ذعر، وسارت إلى المطبخ، وإلى حجرة الطعام، وإلى الحمام لم تكن أمها في أي مكان، وأحست بدوار، فأسندت رأسها إلى الحائط، كانت كتلة صلبة تلف وتدور داخل رأسها وترتطم بعظامه، وشيء مر لاسع يلتصق بحلقها. وزحفت مستندة إلى الحائط لتصل إلى الحوض، وفتحت فمها لتبصق لكن المرارة ضغطت على جوفها فتقيأت، وفاحت الرائحة الصدئة الكريهة من فمها وأنفها وملابسها، وخلعت ملابسها ووضعت جسمها تحت الماء الجاري، وغسلته بالليفة والصابون، لكن الرائحة لم تزل، كانت قد نفذت إلى أحشائها وخلاياها وامتزجت بدمائها.
وعادت تستند على الجدران إلى حجرتها، ودارت بعينيها المحتقنتين بالدم حولها ثم استقرت فوق وجه أمها معلقا بجوار الدولاب، ونظرت إليها أمها بعينيها الواسعتين الصفراوين تطل منهما تلك النظرة الضعيفة تستجديها أن تبقى، وأخفت وجهها بيديها، ألا تكف أمها عن هذه النظرة الساحقة؟ ألم تكفر عن ذنبها؟ ألم تملأ جوفها بذلك العلقم اللاسع المر؟ ألم تنقع جسدها في تلك المرارة الصدئة المركزة؟ هل هناك حزن أشد من هذا الحزن؟ وما هو الحزن؟ كيف يحزن الناس؟ صراخ عال يجلو الصوت ويفرج عن الكبت؟ ملابس سوداء جديدة تنعش جدتها الجسم؟ ولائم وذبائح تفتح الشهية وتملأ البطن؟ أهناك أم ماتت وحظيت بأكثر من هذا الحزن؟ هل خلفت أم ابنة تتجرع من بعدها السم؟ أهناك وفاء للأمومة أكثر من هذا الوفاء؟ أهناك سداد لديون البنوة أكثر من هذا السداد؟
وسارت إلى السرير تحس بعض ارتياح، وفردت ذراعيها وساقيها، لا زال جسمها ثقيلا ولا زال جوفها مرا، متى؟ متى يضيع هذا الثقل تماما وينتهي العبء؟
وانبعث من التليفون الجرس، إنه هو، لا أحد غيره، لم يعد هناك شيء سواه، لم يبق إلا أن تتجرع السم يوما بعد يوم، ستملأ جوفها بالعلقم اللاسع المر، وستنقع جسمها في المرارة الصدئة المركزة، لم يبق إلا الموت البطيء.
ومدت يدها النحيلة الصفراء، ورفعت السماعة، وجاءها الصوت الغليظ اللزج: صباح الخير يا فؤادة، كيف أنت؟
وقالت بفتور: أعيش.
Unknown page