وتركت شارع قصر النيل وسارت في اتجاه شارع سليمان؛ كان الشارع مزدحما بالناس لكنها لم تر أحدا. كانت تسير شاردة، تدرك الأجسام من حولها بحدودها الخارجية التي تفصلها عن كتلة الدنيا الهلامية الضخمة، فتعرف بغير إرادة أن ذلك الجسم يشغل ذلك الحيز من الشارع وعليها أن تتفادى الاصطدام به. وهكذا سارت دون أن تصطدم بشخص أو جدار.
وخيل إليها أن حاجزا ما يسد الطريق، ورفعت رأسها فرأت طابورا طويلا من الناس يقف في عرض الشارع، فوقفت هي الأخرى.
كان الطابور يتناقص شيئا فشيئا، حتى وجدت نفسها أمام شباك التذاكر، فاشترت تذكرة واتجهت مع الناس إلى الباب الواسع. كانت الصالة مظلمة، وسقط نور الكشاف الصغير على ظهر تذكرتها وصعدت السلم وراء كرة الضوء حتى جلست في كرسيها.
كان الفيلم قد بدأ منذ قليل، ورأت على الشاشة رجلا وامرأة يتعانقان فوق سرير، وتحركت الكاميرا مبتعدة عنهما لتظهر قدم رجل تطل من تحت السرير ثم عادت إلى الرجل والمرأة وكانا لا يزالان ملتحمين في قبلة طويلة. وأحست بذبابة تمشي على ساقها فهشتها بيدها وهي تحملق في الشاشة.
وانتهت القبلة وارتدى الرجل حلته وخرج من الباب، وقالت المرأة شيئا فخرج الرجل الآخر من تحت السرير وبدأ العناق من جديد.
وخيل إليها أن الذبابة تعود، لم تكن ذبابة صغيرة كالذباب فهي كبيرة في حجم صرصار، وهي لا تقفز بسرعة الذباب وإنما تزحف ببطء صاعدة فوق ساقها. وكانت حريصة على ألا يفوتها شيء من مناظر الفيلم فظلت شاخصة ببصرها إلى الشاشة ومدت يدها في الظلام لتقبض على الحشرة قبل أن تصعد فوق ركبتها، لكن أصابعها تقلصت فوق شيء صلب، فنظرت في فزع إلى يدها، ووجدت أنها تقبض على أصبع الرجل الجالس إلى جوارها، وظلت ممسكة بأصبعه في يدها ونظرت إليه في غضب، لكنه لم يلتفت إليها، وظل ينظر إلى الشاشة، في استغراق شديد وكأنه لا يراها، وكأن أصبعه ليست ممسوكة في يدها، وقذفت بأصبعه في وجهه حتى كادت تقلع إحدى عينيه لكنه ظل يحملق في الشاشة كالنائم، ونهضت بسرعة من جواره وغادرت السينما. •••
تمددت فوق سريرها، وراحت تحملق في السقف، في تلك الدائرة الصغيرة المشرشرة التي سقط عنها الطلاء الأبيض، وشعرت ببرودة فشدت الغطاء فوق جسمها وأغمضت عينيها لتنام، لكنها لم تنم، وفكرت أن تمد يدها إلى التليفون وتطلب الرقم الخماسي كما تفعل كل ليلة قبل أن تنام، لكنها لم تمد يدها وضغطت برأسها على الوسادة وهي تقول: يجب أن أكف عن هذه العادة، لكنها لم تكف، كانت تعرف أنه لن يكون هناك سوى الجرس الحاد الأخرس، وأنه لم يعد صوتا، أو ذبذبات هواء تصل إلى أذنها، ولكنه قد تحول إلى سيخ مدبب من الحديد، يؤلم أذنها، ليس ألما عاديا، ولكنه ألم حارق كالنار.
غير أنها كانت قد ألفته، وكانت في الموعد المحدد كل ليلة تطلبه، وتفتح أذنها للساعة وتدعه يدخل مؤلما حارقا، كأنما كان الألم يريحها، كمريض يكوي جسمه بالنار ليتخلص من نار أخرى أشد، أو كمدمن ألف طعم السم وأصبح يطلبه كل يوم.
ولم يكن رنين الجرس يصل إليها خالصا، كان يختلط بصوت شهيقها وزفيرها ودقات قلبها، ولم تكن تعرف هذا من ذاك؛ فالأصوات كانت تمتزج وتتشابك وتصبح كلها صفيرا حادا متصلا، كذلك الصفير الطبيعي الذي يدوي في الأذن حين تصمت كل الأشياء.
أجل، كانت تنتظر الجرس كل ليلة كأنما أصبح حبا جديدا، لم تكن تنسى أنه جرس حاد أخرس، لكنها كانت تعرف أنه ينبعث من تليفون فريد، ويرن في بيت فريد، ويرتطم بمكتب فريد الذي كثيرا ما جلسا عليه إلى جوار بعضهما البعض، ويصطدم بالكنبة الكبيرة التي كثيرا ما تمددا فوقها جنبا إلى جنب، ويحرك الهواء الذي تنفساه معا وزفراه معا.
Unknown page