فتحت باب الشقة وهي تلهث، ولم تسمع صوت أمها، فسارت على أطراف أصابعها لتجتاز الصالة، ورأت أمها من خلال بابها المفتوح نائمة في سريرها على جانبها الأيمن، ورأسها الملتف بالطرحة البيضاء مرتفعا فوق الوسادتين السميكتين، وجسمها النحيل مختفيا تحت الغطاء الصوفي المزدوج.
دخلت فؤادة حجرتها وأغلقت الباب، وظلت واقفة في وسط الحجرة بضع لحظات ثم بدأت تخلع ملابسها، وارتدت قميص نومها، وخلعت الساعة ووضعتها على الرف بجوار التليفون، ومست يدها جسم التليفون البارد فأحست برجفة ونظرت في الساعة، كانت الثانية عشرة، أيكون فريد في البيت؟ أتجرب وتطلبه؟ ولكن، ألا يجب أن تكف عن هذه المطاردة؟ ولكن يمكنها أن تطلب الرقم فإذا جاءها صوته يقول «ألو» قفلت السكة. نعم، هكذا لن يعرف من الذي يطلبه.
ووضعت أصبعها في قرص التليفون وأدارته الخمس الدورات وجاءها الجرس المعهود، وقد ارتفع صوته الحاد في سكون الليل، وكتمت فوهة السماعة بكفها وقد ظنت أن الرنين العالي قد يوقظ أمها من النوم، وظل الجرس يهدر في أذنها كذئب جائع يعوي، يرتطم صداه برأسها ويرتد عنه كأنه جدار مصمت من الحجر.
وضعت السماعة في مكانها فانخمد الهدير، وألقت جسمها فوق السرير وأغمضت عينيها لتنام، لكنها لم تنم. ظل جسمها فوق السرير ممدودا ورأسها فوق الوسادة، وفتحت عينيها فرأت الدولاب والمرآة والشماعة والرف والنافذة، والسقف الأبيض بالدائرة المشرشرة التي سقط الطلاء من فوقها، وأغمضت عينيها وجعلت صدرها يعلو ويهبط في أنفاس عميقة منتظمة، لكنها لم تنم، ظل جسمها موجودا بوزنه وكثافته فوق السرير ، وانقلبت فوق بطنها ودفنت وجهها في الوسادة، وتظاهرت بأنها قد غابت عن الوعي، لكن وعيها ظل موجودا، وجسمها ظل ممدودا تحت الغطاء الصوفي الخشن، وانقلبت مرة أخرى فوق جنبها الأيسر وفتحت عينيها فلم تر إلا الظلام الكثيف، وخيل إليها أنها لا زالت مغمضة العينين، أو أنها فقدت البصر، لكن خطا رفيعا من الضوء ما لبث أن ظهر فوق الحائط، وضغطت برأسها على الوسادة وشدت الغطاء لتغطي عينها، لكنها لم تنم. ظل رأسها بثقله المعهود فوق الوسادة، وطنين خافت يبدأ يرن، بدأ خافتا جدا ثم أصبح يعلو شيئا فشيئا حتى أصبح أزيزا حادا متصلا كرنين جرس لا ينقطع، وخيل إليها أن سماعة التليفون ملتصقة بأذنها فمدت يدها تحت رأسها فلم تجد إلا الوسادة. وانقطع الطنين حين رفعت أذنها عن الوسادة ثم عاد يطن مرة أخرى، وكتمت أنفاسها لحظة فوضح لها مصدر الصوت، كان هو تلك الضربات المتتابعة المألوفة لقلبها، ولكنها لم تكن مسموعة في أية ليلة سابقة بمثل هذه القوة كمطرقة، وبمثل هذا التتابع والاستمرار. كانت في أي ليلة سابقة تضع رأسها فوق الوسادة ولا تسمع شيئا، وما هي إلا لحظات حتى تنام. كيف كانت تنام؟ حاولت أن تعرف كيف كانت تنام كل ليلة، لكنها اكتشفت فجأة أنها لا تعرف تماما كيف كانت تنام؟ كان جسمها يثقل وكأنه يسقط في بئر ثم تفقد الوعي، وتذكرت أنها حاولت مرة أو ربما مرتين أن تعرف كيف تفقد الوعي في النوم، ففتحت عينيها قبل أن يتلاشى وجودها، وتشبثت بقوة بآخر لحظة في وعيها لتعرف ماذا يحدث لها، لكن النوم كان يغلبها دائما قبل أن تعرف.
إنها لم تعرف شيئا، إنها لا تعرف أبسط الأشياء، لا تعرف البديهيات ولا تتعلم من التكرار، كم ليلة نامتها في كل عمرها؟ عمرها الآن ثلاثون عاما، وكل عام ثلاثمائة وخمسة وستون يوما، لقد نامت عشرة آلاف وتسعمائة وخمسين ليلة دون أن تعرف كيف تنام.
وضغطت برأسها فوق الوسادة، ودوى الطنين في رأسها، رأس مصمت من الحجر، رأس جماد لا يعرف شيئا، لا يعرف أين اختفى فريد، ولا يعرف لماذا دخلت كلية العلوم، ولا يعرف لماذا اشتغلت في قسم الأبحاث الكيميائية الحيوية، ولا يعرف ما البحث الكيميائي الذي يجب أن يبحث، ولا يعرف الاكتشاف القديم المزمن الذي يجب أن يكتشف، ولا يعرف كيف كانت تنام. نعم، رأس مصمت من الحجر، جاهل لا يعرف شيئا، وغير قادر على شيء سوى أن يردد ذلك الصدى الأجوف كأي حائط أو جدار.
وخيل إليها أن جدارا عاليا ثقيلا سقط فوقها، فاندك جسمها في بطن الأرض، وأحست بالمياه تحوطها من كل جانب، كأنما تعوم في بحر، كان البحر عميقا كبيرا، ولم تكن تعرف السباحة، لكنها كانت تعوم بمهارة فائقة، كأنها تطير فوق الماء، وكان الماء دافئا لذيذا، وأبصرت حوتا كبيرا يزحف تحت الماء، كان يفتح فكيه الكبيرين، وفوق كل فك أنياب طويلة مدببة، واقترب منها الوحش فاتحا فاه كسرداب طويل مظلم، وحاولت أن تجري لكنها لم تستطع، فصرخت من الفزع وفتحت عينيها. •••
كان نور النهار يدخل من بين شقوق الشيش الرفيعة، ورفعت رأسها من فوق الوسادة فشعرت بدوار فأعادته إلى الوسادة، ثم مدت ذراعها وسحبت الساعة من فوق الرف، وما إن ألقت نظرة عليها حتى قفزت من السرير وارتدت ملابسها بسرعة، وابتلعت كوب الشاي البارد الذي أعدته أمها وخرجت إلى الشارع.
لفح وجهها الهواء البارد فأحست بانتعاش وراحت تحرك ساقيها وذراعيها في نشاط، ولكنها أحست فجأة بألم في معدتها، فأبطأت الخطى، وضغطت بأصبعها على المثلث المنفرج تحت ضلوعها، كان الألم تحت أصبعها، غائرا في لحم بطنها، يقرص جدار معدتها كدودة لها أسنان. إنها لا تعرف ما سبب هذا الألم الغريب الذي يفاجئها كل صباح.
ووقفت على محطة الأتوبيس وجاء الأتوبيس رقم 613 الذي يمر في شارع الوزارة، وقف أمامها وتلكأ لتركبه، ولكنها لم تركب، وقفت تحملق فيه كتمثال، وتحرك الأتوبيس فتنبهت إلى أنها يجب أن تركب، وأسرعت تجري وراءه لكنها لم تلحقه، وعادت لتقف في المحطة وهي تشعر بشيء من الراحة؛ إنها لن تذهب إلى الوزارة اليوم، إجازاتها انتهت كلها، ولكن ما الذي سيحدث لو أنها لم تذهب اليوم؟ هل سيتغير شيء في العالم؟! إن موتها كله وغيابها بلحمها ودمها عن العالم لن يحدث شيئا، فما قيمة غيابها يوما عن الوزارة؟ فراغ سطر واحد من دفتر الحضور والانصراف القديم الذي بليت جلدته.
Unknown page