جلست زبيدة في غرفة نومها ثم اتجهت إلى المرآة ذاهلة حالمة: فرأت وجها كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلج الحق بين ظلمات الشكوك، به عينان حوراوان امتزجت بهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب، وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالا، وثغر دري ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب ظمأى، كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير، ثم رأت صدرا صافي البياض ممتلئا بالأنوثة الناضجة، يعبث بالعقول، كأنه سبيكة من لجين، استعارت من الزئبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة.
كانت زبيدة في الثامنة عشرة من عمرها، وقد تفتح فيها الشباب كما تتفتح زهرات الربيع، وجالت بنفسها خواطر وثارت بها نزعات لم تعرفها في عهد الطفولة الغريرة، وأحست بما تحسه الفتاة في هذا السن، من ميول متدفقة يكبتها الحياء وتكظمها بقية من أدب ودين، وللعرف قانون لم يكتب في أوراق، وهو أشد القوانين عنفا، والناس أكثر له طاعة وقبولا، وللمجتمع آداب، يحكم بها المرء بنفسه مستكينا مستسلما.
كانت زبيدة فارعة القد ممتلئة الجسم، جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، وتهافت أبناء التجار والأعيان والحكام على خطبتها والتقرب من قدس حسنها، ولكنها كانت ترد كل توسل بالإدلال، وكل إغراء بالرفض والإباء، ولم تكن أمها لتستطيع أن تعمل شيئا أمام هذه الحسناء الجامحة، ولم يكن أبوها - وهي وحيدته - ليرد لها كلمة أو يقف بينها وبين ما تكره أو تحب، كانت الفتاة المدللة العابثة المتحكمة، وقد ملأتها ثقتها بجمالها كبرا وغرورا، وزادتها ثروة أبيها الضخمة ميلا إلى الإسراف، والتأنق في الرفه، وإنفاق المال الكثير على الحلي والجواهر والملابس، فكانت في جمالها وأزيائها، ودلالها وإبائها جنة محرمة الثمرات، وأملا حلوا عز على كل شيء حتى على الخيال.
جلست زبيدة أمام مرآتها ورأت ما رأت، فابتسمت ابتسامة لؤلؤية، ثم عبست وتجهمت أساريرها، ثم رفعت حاجبيها وشخصت بعينيها كالمفكرة المأخوذة، ثم قالت تحدث نفسها: ولم تكذب «رابحة» العرافة؟ أليس في حسني ما يذل له كل عزيز، ويخضع لسطوته كل ذي نفوذ وسلطان؟ ألم يسر ذكر جمالي مع كل سائر؟ ويطر مع كل ريح؟ نعم إن رشيد مدينة نائية عن القاهرة مقر عظماء الحكام وكبار الأمراء، ولكن الملاحين الذين يسافرون إليها في كل يوم لا يزال يحفظون ويتغنون بتلك الأغنية السائرة، التي نظمها سرا الحاج عبد الله البربير والتي فيها:
الحسن كله في رشيد في بيت
وإن كنت تنكر إسأل البواب
لا، لا، لن تكذب رابحة، وهي لم تتكهن بشيء مستحيل أو بعيد المنال، لقد سمعت من أبي ما أخبره به السيد أحمد المحروقي زوج خالتي من أن السيدة نفيسة زوج مراد بك لها حظ من الجمال، وهي مع ذلك صاحبة الصولة والنفوذ في حكم مصر، فلم لا أكون حاكمة مصر؟! إن كان بها فتاة تشبهني، فأنا أول من يأخذ بيدها إلى كرسي المملكة.
ثم ضحكت ضحكة اليأس والاستخفاف وقالت: ألست أتشبث بخيوط من الوهم، وتعبث بي عاصفة هوجاء من الخيال الكاذب؟ من أنا حتى أكون حاكمة مصر؟ بنت السيد محمد البواب أحد تجار الأرز برشيد! هاها. وهذا كل ما أقدمه من الذرائع لأكون أول سيدة بمصر؟! لا يا زبيدة هذا لا يكفي، ثم إنني جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر مني وجها ولا أملد عودا، ولا أشد إغراء وفتنة! وهذا أيضا لا يكفي يا زبيدة، فإن منازل الرفعة لا تنال بالجمال، وحكام مصر وبكواتها يتصاهرون فيما بينهم لحصر الملك فيهم، وجمع السلطة في أسرهم، لا يغريهم سحر العيون ولا اعتدال القدود.
حقا إنني أتعلق بأمل خداع وغرور مضلل!! وسأسقط من القمة التي أنشبت فيها أظافري مهشمة العظام، مفككة الأوصال، حينئذ سأفيق بعد أن قضيت زهرة شبابي في جنون وأحلام، وحينئذ سأنظر حولي وقد بلغت الثلاثين أو نحوها، فأجد الخطاب وقد طاروا وتركوا عش فاتنتهم حطاما مبعثرا، ثم أنظر في هذه المرآة التي أمامي فلا أرى فيها تلك الفتاة الناعمة التي أراها اليوم، ولكني أرى فيها امرأة سواها، دبت في وجهها الغضون، وخمد من عينيها ذلك البريق الساحر اللماح، وأخذت شعرة بيضاء تطل من طرتها كأنها راية التسليم البيضاء، يلوح بها الجندي المنهزم.
لا، لا، الله لعن الله تلك العرافة، ولعن الله اليوم الذي قابلتها فيه!
Unknown page