وبعد أيام أنشأ مينو ديوانا للأحكام عين به بعض العلماء والأعيان، والفرنسيين والمترجمين، وأظهر في أول عهده العدل والتسامح، وبالغ في الاختلاط بالأهلين، فكان بيته في كل ليلة مثابة للعظماء والعلماء، وكان يتحدث في هذه السهرات في عظمة فرنسا وقوتها، وأنها اجتاحت الممالك وقهرت الأمم، وكثيرا ما كان يمازح الشيخ البربير ويبادله النكات، وكان من بين المتزاحمين على مودته والتقرب إليه السيد علي الحمامي أخو زبيدة من أمها، فإنه بعد أن عين عضوا في الديوان أخذ يملأ الدنيا ثناء على الفرنسيين، ويضع «الجوكار» وهو شعار الجمهورية على صدره فخورا تياها، حتى سماه بعض خبثاء المدينة «الأوفيسيال علي»، أما محمود العسال: فكان يرأس جماعة الساخطين من شبان المدينة، وكان يجهر برأيه في حكم الفرنسيين غير هياب حتى لقد شكاه الضابط «لوي أوجست» نائب الحاكم العام إلى مينو مرات، فكان يشفع له علي الحمامي، والسيد محمد البواب.
وكانت زبيدة في هذا الحين مريضة طريح فراشها، فإنها منذ رفضت مكرهة خطبة محمود ضاقت نفسها عن احتمال ما هي فيه من حب ورياء، وأمل كاذب، فتوالت عليها الأوهام وتزاحمت الآلام، ومضت الأيام والأسابيع، وهي لا تزيد إلا سقما، ولا تجد إلى الشفاء من سبيل، وكانت تنتعش قليلا لزيارة محمود ويعود إلى وجهها شيء من نضارة الحياة، حتى إن أمها كانت ترجوه أن يزورها في كل يوم ، وما كان في حاجة إلى رجاء، ولم تبق أمها دواء ولا بخورا ولا حجابا ولا تميمة، إلا بذلت فيه المال الكثير طامعة راضية، ولكن المرض كان يطغى بزبيدة ويعصف بشبابها، زارها يوما محمود وقد كاد يبلغ بها الوصب غايته، فأطفأ بريق العيون ومحا نضارة الخدود، ولم يبق منها إلا هيكلا من جمال قديم، فنظرت إليه في شغف ويأس، وقالت: مسكين يا محمود! إن الزهرة التي سقيتها بدمعك، وأدفأتها بزفراتك، وغرستها في سويداء قلبك، وكنت تغار من النسيم أن يمسها، ومن الطل أن يلثمها، ومن الشمس الضاحكة أن تداعب أوراقها، وكنت تباهي بها الأزهار وتتحدى البساتين قد هبت عليها عاصفة هوجاء فتركتها هشيما، واصطلحت عليها الأنواء فغادرتها حطاما، انظر إلي يا محمود فهل تراني كما كنت أكون، أو كما كنت تحب أن أكون! الشباب والصحة جمال الجمال، والشباب والصحة جمال الروح، والشباب والصحة جمال الحياة، إني أحس وأنا راقدة في فراشي أن هذا السرير يعدو بي إلى الموت عدوا، وأود أن أملأ عيني من كل شيء في الحياة، قبل أن أفارق الحياة!!
كان محمود حزينا مطرقا، يغالب دموع عينيه ويكبت زفرات صدره، فالتفت إليها وقد تكلف الابتسام قائلا: أنت تفارقين الحياة؟ هذا مستحيل! إن الله أرحم بعباده من أن يفجعهم بهذه الفجيعة، إن روحك يا زبيدة متصل بكل روح، وقلبك يرسل الحياة والأمل إلى كل قلب، فهل تظنين أن الله سيطفئ روحا بها حياة الأرواح وأمل القلوب؟ إن زهرتي إن ذبلت اليوم فإن في جمالها الكامن ما يتحدى العواصف والأنواء، وسنراها غدا، وهي تتخايل فوق غصنها ناضرة فتانة، إن الشمس يا زبيدة لا تموت، ولكنها إذا جاء الأصيل درجت إلى سريرها فنامت الليل كما تنامين فوق هذا السرير، ثم بزغت في الصباح متلألئة باسمة.
وهنا ألقت بيدها النحيلة بين يديه، وقالت: هذا كلام لطيف يا محمود ولكني أشعر بما لا تشعر به، وكثيرا ما سررت وأنا في غمرة أحزاني من أني لم أسرع إلى إجابة خطبتك، حتى لكأني كنت أقرأ ما دونه القدر، فما كان أعظم الكارثة علينا لو دهمني الموت بعد زواجنا، فشرقنا بكأس النعيم، وذهبت الحياة ونحن في أول نشوة من خمر الحياة!
وماذا يكون من أمرك حين تدفن العروس بثوب جلائها، ويسلبك القدر ريحانة لم تنعم طويلا بشذاها؟ وحين يكاد يختلط بسمعك لقرب ما بينهما عزف الراقصات بلطم النادبات، وضحكات المغنيات بولولة الناعيات؟!
فقاطعها قائلا: رفقا بي يا زبيدة ولا تسترسلي في هذه الناحية المظلمة القاتمة، ارحميني يا حبيبتي، ودعي ذكر الموت والنادبات، أتذكرين حين خرجنا يوم شم النسيم الماضي وقضينا يوما سعيدا ضاحكا مع أمك وأخيك علي ولورا، إني لن أنسى هذا اليوم، وأشعر واثقا أننا سنعيد ذكراه معا وأنت في أنضر ما تكونين صحة ومرحا وشبابا، فانتعشت زبيدة وقالت: ما كان أجمله يا محمود! خرجنا في ذلك اليوم في غبش الفجر، وقد كنا أعددنا كل شيء، وكان أبي نائما، فكانت أمي تمشي على أطراف أصابعها خشية إيقاظه كما تمشي الناقة العرجاء، ثم طافت بوجهها ابتسامة خفيفة واستمرت تقول: وقد أدرك أمي سعال فكانت تكتمه بيديها، وأخي يلطم خده ويقول: ضعنا والله، لو استيقظ ما سمح بخروج النساء. - وقد مشينا في هذا اليوم على شاطئ النيل والنسيم يهب خفيفا بليلا كأنه هبات الأمل في نفوس البائسين، حتى إذا اجتزنا دوائر الأرز ذهبنا جنوبا بين تلك الحدائق الزهر الباسمة، وأشجار الفاكهة التي أحست بالربيع فتفتحت أنوارها لتقبيله، وامتدت غصونها لعناقه. - وقد نظرت حينئذ فلم أجد أحدا، فخلعت ملاءتي أنا ولورا وذهبنا نمرح بين الأغصان كأننا طفلتان صانتهما الطفولة من خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أتذكر حين تسلقت لورا شجرة الجميز ثم قبضت بيديها على أحد فروعها، وأخذت تتأرجح به ضاحكة لاهية، وأمي تحت الشجرة تصرخ وتستحلفها أن تكف، وتضرب بيدها على صدرها خوفا وذعرا؟
لقد كان ذلك منظرا بديعا حقا، حتى إذا جاوزنا الحدائق ظهر لنا (كوم الأفراح). - ما أجمل هذا التل العالي يا زبيدة، وما أنقى رماله، وما أروع أن تشاهدي من فوقه النيل وهو يلتف حول الرمال كما يلتف السوار؟! - لقد غاصت رجلي في الرمل يومئذ فحاولت إخراجها فتهورت من أعلى التل إلى سفحه، وكنت أصرخ وأضحك في آن، وأعجبت لورا هذه اللعبة فتدحرجت خلفي، ثم وصلنا إلى مسجد «أبي منظور» ونحن أشد ما نكون جوعا فكنا نتخاطف الطعام في عبث ولهو ومجون. - ثم صعدنا في المئذنة فرأينا مدينة رشيد تحتنا بمآذنها وقبابها ومنازلها السعيدة الهانئة، والنخيل تحيط بها كأنها حراس من جنود الله، يدفعون عنها كل سوء. - أذكر كل هذا يا محمود كأنه مثال أمامي، ما أجمل الحياة وما أجمل أن يشعر المرء بجمالها! ثم انتقلنا إلى قارب يمخر بنا في النيل جيئة وذهابا كأنه الحوت الضخم ضل مكان أليفته، فجال يبحث عنها هائما مضطربا، وكان المراكبي شيخا هرما فلم يمنعه هرمه من أن يرسل إلي وإلى لورا عينين جائعتين كادتا تلتهماننا التهاما، إن شباب القلوب وضعف الأجسام كارثة الشيوخ يا محمود، وجلست لورا في القارب وأخذت تصف لنا جمال بلادها وأخلاق أهليها، واطمئنان نفوس الناس لحكامها، وأن النساء هناك سافرات يخالطن الرجال ويقضين شئونهن بأنفسهن، إنه كان يوما سعيدا يا محمود، لم نرجع منه إلا بعد أن غابت الشمس، وكان أبي حازما فلم يسأل سؤالا واحدا؛ لأنه رأى من صون كرامته أن يغضي إغضاء المتجاهل، إن ذكرى ذلك اليوم جددت الحياة في نفسي وجعلتني أحس أن كتاب حياتي لم ينفد بعد، وأنه لا يزال به صحف كثيرة من بيض وسود، أين لورا؟ إنها لم تعدني؟ - لقد سافرت مع أبيها منذ دخول الفرنسيين، ولا أعلم أين استقرت بهما النوى. - إنها أجمل فتاة رأيتها خلقا وخلقا، ولو أنها كانت مسلمة لكانت خير زوجة، إنها الحنان والعقل لفا في أبدع صورة من صور الجمال، فهل نراها مرة أخرى؟! - إن سفن الحياة تفترق وتلتقي في بحر العمر المائج، والحب كفيل بألا يطيل الفرقة بين الشتيتين.
وهنا دخلت أمها فرأتها باشة مستبشرة، فانصبت على خدي محمود تقبلهما كالمجنونة وهي تقول: أنت شفاء ابنتي يا محمود، وكأن فيك سحرا يبعث في جسمها العافية.
فالتفت إليها محمود قائلا: تعالي يا خالتي نتحدث في الأمر حديث جد وصراحة، هذه الأحجبة وهذا البخور لا تفيد شيئا، إن زبيدة لا تشكو إلا من وعكة تزول إن شاء الله، إذا اتخذت الوسائل الصحيحة لعلاجها، أتمانعين في أن يراها الطبيب «شوفور» الفرنسي؟ - أيجوز يا بني أن يرى الطبيب الإفرنجي بنتي، وأن يكشف عن جسمها كما يفعل بالرجال؟ - كان يقول لنا شيخنا الخضري: «إن الضرورات تبيح المحظورات» وسلامة زبيدة من أشد ضرورات الدنيا، أنا ذاهب لأدعوه، ثم انطلق كما ينطلق السهم وعاد بعد ساعة ومعه الطبيب «شوفور» وهو رجل قضى برشيد أكثر من عشر سنوات، وعرف أهلها واختلط بأسرها، فلما فحص زبيدة اتجه إلى محمود وقال: إن حال زبيدة لا تقضي الانزعاج بتاتا، إن كل أجهزتها سليمة طبيعية، ويغلب على ظني أنها مصابة بمرض الأعصاب، وهي تحتاج إلى الهدوء وإلى كل ما يبعث السرور في النفس: وسأرسل لها دواء أرجو أن يكون شافيا، ثم ضحك وقال: لا تخافوا شيئا إنها بخير، وبعد أن أطرق إطراق المفكر قال: أظن أن تغيير الجو الذي هي فيه، والسفر إلى مدينة أخرى سيكون لها أشفى من ألف دواء، فقالت أمها: إن خالتها زوج السيد أحمد المحروقي بالقاهرة قد أرسلت منذ يومين رسالة تتشوق فيها إليها وتلح في طلبها. - هذا خير ما يكون، وبالقاهرة من أشهر أطباء الحملة الطبيب «ديجنت» فلو توصلتم إلى أن يراها لشفاها في أقرب وقت.
ثم انصرف الطبيب بعد أن ترك وراءه في الدار روحا من الأمل والابتهاج، ورأت نفيسة ووافقها محمود وجوب سفر زبيدة إلى القاهرة، وأقنعت الأم السيد محمدا البواب بذلك فاقتنع، وكانت سفينة عظيمة محملة بالأرز على وشك السفر، فأعدت بها غرفتان، وسافرت بها زبيدة وأخوها علي الحمامي، وبعد سفرها أحس محمود بالوحشة والقلق، وضايقه جواسيس الفرنسيين، فوطد العزم على الرحيل إلى القاهرة، فسافر إليها بعد عشرة أيام.
Unknown page