الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
غادة رشيد
غادة رشيد
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
في اليوم الثاني من شهر يولية 1798م كانت الشمس تدرج من خدرها، فترسل أشعتها فوق النيل براقة وهاجة كالذهب النضار، وقد تكسرت أمواجه وهبت عليه نسمة شمالية وئيدة الخطا، بلل البحر الأبيض أذيالها بمائه، ونفحها ببخاره المملوء بعناصر القوة والحياة.
وكانت مدينة رشيد في هذا الصباح جاثمة فوق الشاطئ الغربي، بعظمة منازلها وارتفاع مآذنها، تنعم بلذة الهدوء الذي احتواها في أثناء الليل، إلا ما كان من العملة الذين اتجهوا أفواجا إلى مضارب الأرز (الدوائر)، وإلا ما كان من زمر الفلاحين الذين قدموا من الشمال والجنوب لبيع حاصلاتهم من الخضر والفاكهة، واللبن والبيض والدجاج، وقد أخذ فتى منهم غض الشباب يرسل صوته عذبا مشجيا بأغنية يذكر فيها ما يبذله من الجهد لجمع مهر حبيبة فؤاده، ثم يتم الأغنية بأن كنوز الأرض وثروة «البك الكبير» بمصر لا تكفي مهرا لهذا الجمال الرائع والحسن الفتان، ويسمعه بعض النساء والعذارى اللائي بكرن إلى النيل لغسل ثيابهن وملء جرارهن، وقد انتثرن على شاطئه في ثيابهن الزاهية الألوان كأنهن عقد اختلفت حباته حول جيد الحسناء، وقد زاد جمال الصبح في جمالهن، وأمن نظرات العيون فكشفن عن سوق خدال، ومعاصم رخصة صافية البياض، لولا ما يحبسها من حجول وأساور لسالت في الماء، كما يسيل الماء.
ضحكت إحداهن في دلال وعجب، وقالت لإحدى صويحباتها: أتسمعين غناء هذا الفلاح الأبله؟
فأجابت: لعله يا فاطمة يتغزل في جاموسة لأحد جيرانه يريد شراءها، فأسرعت فتاة لا تعرف مكر النساء ولا أساليبهن، تقول في سذاجة: ولكنه يصفها بأنها سوداء العينين، صغيرة الأذنين! فأرسلت فاطمة ضحكة مغرية الرنين وقالت: إنها الجاموسة بعينها كما قالت سعاد! وهي التي من أجلها يكدر علينا هذا الفلاح الجافي جمال هذا الصباح بصوته المنكر، من أين يأتي لهؤلاء الفلاحات الجمال؟ ولو قدر لهن شيء منه لطمسنه ببلاهتهن وقذارتهن، وجهلهن بطبائع الرجال، إن الجمال مهارة قبل أن يكون خلقة وفطرة، والمرأة التي لا تستطيع التعبير بعينيها وابتساماتها، وأسارير وجهها عما تحب وتكره، والتي لم تدرس طبائع الرجل، ولم تعرف مواطن ضعفه وغروره، لن يكون لها حظ عند زوجها، ولو بلغت في الجمال ما بلغت زبيدة بنت البواب.
ارتفعت الشمس وعاد النساء بجرارهن، واستيقظت المدينة الآهلة بسكانها، الزاخرة بنزلائها من جميع أقطار الشرق، فقد بلغت رشيد في هذا الحين شأوا بعيدا من الثروة واتساع التجارة واستبحار العمران، وكانت ترد إليها السفن من مصر والشام، وتركيا وأوربا، محملة بأصناف البضائع، وكانت تمتد على شاطئ النيل من الشرق، ويحيط بها من الغرب الكثبان الرملية التي ملأها نشاط أهلها بالنخيل والكروم، وأشجار الزيتون والتين، وكان بجهتها الشمالية والجنوبية حدائق فيح، وبساتين خضر، ازدحمت بأشجار الموز والليمون، والبرتقال والنارنج، وأنواع الزهر والرياحين، فكان النسيم في غدوه ورواحه يحمل أريجها إلى المدينة، لا يكاد يخلو منه منزل ولا طريق، فحيثما ذهبت شممت عطرا، وأينما أقمت تنفست طيبا.
وكانت شوارعها ضيقة ملتوية، تقوم على حافتيها منازل بنيت بطوب صغير الحجم أجيد إحراقه، حتى أصبح كالحجر الصلد، وصناعة هذا الطوب خاصة بأهل رشيد ودمياط، وأعظم ما كانت رشيد تزهى به شارعان عظيمان، أحدهما شارع البحر، والثاني شارع مواز له يبتدئ من مسجد المحلى، وينتهي جنوبا بالمسجد الجامع المسمى بمسجد زغلول، وهو من المساجد النادرة المثال بمصر، تزيد رقعته على رقعة الجامع الأزهر، به مساكن لطلاب العلم الغرباء، وكان يلقي الدروس به طائفة من كبار علماء المدينة، أشهرهم الشيخ أحمد الخضري ، والشيخ إبراهيم الجارم، والشيخ محمد صديق.
وكان يسكن عظماء المدينة وكبار تجارها بشارع دهليز الملك، وهو يبتدئ من الغرب بمسجد العرابي، وينتهي في الشرق إلى النيل، ويمتاز بسعته واستقامته، وبالمنازل على جانبيه فقد كانت فخمة البناء شاهقة الارتفاع، تتألف في أكثرها من أربع طباق، وتكثر بها الزخارف الفنية والشبابيك، والمشربيات التي أبدعت صناعتها من قطع الخشب الصغيرة المخروطة، ذات الأشكال الهندسية البارعة الدقة، الرائعة الحسن، وكان يسكن بهذا الشارع عثمان خجا حاكم رشيد من قبل مراد بك، وكان رجلا فاتكا بطاشا، ظالما جماعا للأموال أين وجدها ومن أي طريق وصل إليها، وكان به منزل محمد بدوي جوربجي سردار مستحفظان، والسيد محمد البواب، والسيد إبراهيم الجمال - وهما من كبار تجار الأرز بالثغر - والحاج عبد الله البربير شاعر المدينة وزجالها، إلى غير هؤلاء من الأعيان والعلماء والكبراء.
وميناء المدينة أشد أحيائها ازدحاما وأكثرها جلبة وصخبا، تراصت به السفن آتية من أقطار الشرق والغرب، وسار ملاحوها في شارع البحر يلغطون، وقد اختلفت أزياؤهم وألسنتهم وألوانهم، واختص شارع البحر بمضارب الأرز فطل عليه منها أكثر من ثلاثين دائرة، يبيض فيها الأرز بطواحين تدور بالخيل والبقر، وكان بهذا الشارع متجران: أحدهما لفرنسي يدعى مسيو فارسي، وهو يتجر في الحبوب والعقاقير الطبية، والثاني لإنجليزي يتجر في المنسوجات الحريرية والصوفية، هو مستر أوليفر نيكلسون، وقد كان عند بدء تاريخنا هذا في سن الأربعين، رحب الجسم قوي العضل، يدل تألق عينيه الزرقاوين على قوة العزم، ويوحي انبساط أسارير وجهه بالوداعة واللطف وسلامة دواعي الصدر، وكان كامل الثقافة وافر العلم بأحوال الدول والأمم.
في ضحوة هذا اليوم جلست زبيدة بنت السيد محمد البواب في غرفة نومها، وكانت تلبس قميصا من الحرير الأبيض الشفاف، يتسع كماه ويضيقان عند الرسغين، فوق صدار من القطيفة القرمزية طرز بالقصب، وكثرت أزراره حتى التصق بعضها ببعض، أما سروالها فكان من الأطلس البنفسجي واسعا فضفاضا، زين عند نهاية الساقين بطراز من الفضة المموهة بالذهب، وقد انتطقت فوقه بحزام حريري، جعلت عقدته إلى الجانب الأيسر من خصرها ، واتشحت بوشاح (يسمى الشمار) دمشقي الصنعة، بديع الألوان، وكان فوق رأسها قرص من القطيفة رصع بالماس ونفيس الجواهر، أما شعرها: فقد ضفر «بالصفا» وهو خيوط من الحرير وصل بها كثير من القطع الذهبية، وفصل بين كل قطعة بنظم من اللؤلؤ.
جلست زبيدة في غرفة نومها ثم اتجهت إلى المرآة ذاهلة حالمة: فرأت وجها كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلج الحق بين ظلمات الشكوك، به عينان حوراوان امتزجت بهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب، وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالا، وثغر دري ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب ظمأى، كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير، ثم رأت صدرا صافي البياض ممتلئا بالأنوثة الناضجة، يعبث بالعقول، كأنه سبيكة من لجين، استعارت من الزئبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة.
كانت زبيدة في الثامنة عشرة من عمرها، وقد تفتح فيها الشباب كما تتفتح زهرات الربيع، وجالت بنفسها خواطر وثارت بها نزعات لم تعرفها في عهد الطفولة الغريرة، وأحست بما تحسه الفتاة في هذا السن، من ميول متدفقة يكبتها الحياء وتكظمها بقية من أدب ودين، وللعرف قانون لم يكتب في أوراق، وهو أشد القوانين عنفا، والناس أكثر له طاعة وقبولا، وللمجتمع آداب، يحكم بها المرء بنفسه مستكينا مستسلما.
كانت زبيدة فارعة القد ممتلئة الجسم، جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، وتهافت أبناء التجار والأعيان والحكام على خطبتها والتقرب من قدس حسنها، ولكنها كانت ترد كل توسل بالإدلال، وكل إغراء بالرفض والإباء، ولم تكن أمها لتستطيع أن تعمل شيئا أمام هذه الحسناء الجامحة، ولم يكن أبوها - وهي وحيدته - ليرد لها كلمة أو يقف بينها وبين ما تكره أو تحب، كانت الفتاة المدللة العابثة المتحكمة، وقد ملأتها ثقتها بجمالها كبرا وغرورا، وزادتها ثروة أبيها الضخمة ميلا إلى الإسراف، والتأنق في الرفه، وإنفاق المال الكثير على الحلي والجواهر والملابس، فكانت في جمالها وأزيائها، ودلالها وإبائها جنة محرمة الثمرات، وأملا حلوا عز على كل شيء حتى على الخيال.
جلست زبيدة أمام مرآتها ورأت ما رأت، فابتسمت ابتسامة لؤلؤية، ثم عبست وتجهمت أساريرها، ثم رفعت حاجبيها وشخصت بعينيها كالمفكرة المأخوذة، ثم قالت تحدث نفسها: ولم تكذب «رابحة» العرافة؟ أليس في حسني ما يذل له كل عزيز، ويخضع لسطوته كل ذي نفوذ وسلطان؟ ألم يسر ذكر جمالي مع كل سائر؟ ويطر مع كل ريح؟ نعم إن رشيد مدينة نائية عن القاهرة مقر عظماء الحكام وكبار الأمراء، ولكن الملاحين الذين يسافرون إليها في كل يوم لا يزال يحفظون ويتغنون بتلك الأغنية السائرة، التي نظمها سرا الحاج عبد الله البربير والتي فيها:
الحسن كله في رشيد في بيت
وإن كنت تنكر إسأل البواب
لا، لا، لن تكذب رابحة، وهي لم تتكهن بشيء مستحيل أو بعيد المنال، لقد سمعت من أبي ما أخبره به السيد أحمد المحروقي زوج خالتي من أن السيدة نفيسة زوج مراد بك لها حظ من الجمال، وهي مع ذلك صاحبة الصولة والنفوذ في حكم مصر، فلم لا أكون حاكمة مصر؟! إن كان بها فتاة تشبهني، فأنا أول من يأخذ بيدها إلى كرسي المملكة.
ثم ضحكت ضحكة اليأس والاستخفاف وقالت: ألست أتشبث بخيوط من الوهم، وتعبث بي عاصفة هوجاء من الخيال الكاذب؟ من أنا حتى أكون حاكمة مصر؟ بنت السيد محمد البواب أحد تجار الأرز برشيد! هاها. وهذا كل ما أقدمه من الذرائع لأكون أول سيدة بمصر؟! لا يا زبيدة هذا لا يكفي، ثم إنني جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر مني وجها ولا أملد عودا، ولا أشد إغراء وفتنة! وهذا أيضا لا يكفي يا زبيدة، فإن منازل الرفعة لا تنال بالجمال، وحكام مصر وبكواتها يتصاهرون فيما بينهم لحصر الملك فيهم، وجمع السلطة في أسرهم، لا يغريهم سحر العيون ولا اعتدال القدود.
حقا إنني أتعلق بأمل خداع وغرور مضلل!! وسأسقط من القمة التي أنشبت فيها أظافري مهشمة العظام، مفككة الأوصال، حينئذ سأفيق بعد أن قضيت زهرة شبابي في جنون وأحلام، وحينئذ سأنظر حولي وقد بلغت الثلاثين أو نحوها، فأجد الخطاب وقد طاروا وتركوا عش فاتنتهم حطاما مبعثرا، ثم أنظر في هذه المرآة التي أمامي فلا أرى فيها تلك الفتاة الناعمة التي أراها اليوم، ولكني أرى فيها امرأة سواها، دبت في وجهها الغضون، وخمد من عينيها ذلك البريق الساحر اللماح، وأخذت شعرة بيضاء تطل من طرتها كأنها راية التسليم البيضاء، يلوح بها الجندي المنهزم.
لا، لا، الله لعن الله تلك العرافة، ولعن الله اليوم الذي قابلتها فيه!
ثم أطالت النظر في المرآة، فرأت فحصة رائعة الحسن في خدها الأيمن، فابتسمت، فزاد الابتسام تلك الفحصة ظهورا وحسنا، فعاودها الأمل، ورفعت رأسها في شمم وعزة، وهمست: ولكن العرافة لا تكذب، إنني لم أعرض عليها كفي، وقد كنت جالسة بجانب أمي فجذبتها ونظرت فيها لحظة، ثم صاحت دهشة حائرة، وكانت الحيرة تبدو في عينيها حقيقة لا تكلف فيها، وكان شيء يشبه الذهول يتحكم في أسارير وجهها، صاحت: إنني لم أر في حياتي هذا الخط في كف غير كفك وكف إبراهيم بك الكبير، إنه خط الملك!! خط العظمة! خط الحكم! ولكن ما هذا يا ربي؟! سبحانك لا راد لمشيئتك، انظري يا زبيدة! ما أنا بمخطئة، انظري يا مليكتي! أترين هذا الخط الذي يمر بأسفل الإبهام قويا بارزا، ثم لا يقف عند ذلك كأغلب الأكف، بل يمتد إلى نهاية الأصابع الأخرى حتى يصل إلى الخنصر، هذا هو خط الملك!! انظري إلى كفي، فهل ترينه؟ ثم إلى كف أمك فهل تجدين له أثرا؟! ثم إذا شئت فانظري إلى أكف أهل رشيد جميعا، وأنا زعيمة بأنك لن تعثري على مثله.
دهشت ودهشت أمي، وقهقهت قهقهة المذهول وقالت: ما هذا يا رابحة؟ ما هذا الكذب الصراح؟ كنا نرضى منك بدون هذا، وأين نحن من الحكم ومن مراتب الحكم؟ إن الحكم في مصر قسمة بين البشوات والبكوات، ولم يناله مصري أنبتته أرض مصر ، إننا نعيش في بلادنا غرباء نتلقف فتات ما يتركون، إن ابنة عثمان خجا تأنف أن تزور بيت رشيدي كيفما علا مقامه، وعظم جاهه، إنها لا تسميننا إلا بالفلاحين، كأن الله خلقنا من طين وخلق الترك من مسك وكافور، بنتي تحكم مصر؟! دعيها أولا تحكم رشيد، أو شارع دهليز الملك، قبل أن تطيري بها في جو الأحلام والأكاذيب، لعلك تظنين أنه كلما عظمت الأمنية عظم الأجر، ولكن الأماني المعقولة شيء، وهذا الجنون الجديد شيء آخر.
قالت أمي هذا، فتطاير الشرر من عيني رابحة، ووثبت من مكانها كمن لدغه ثعبان، ووضعت يدها في جيبها في حنق وغضب، فأخرجت أنصاف الفضة التي كانت أمي أعطتها إياها، وقذفت بها في وجه أمي وهي تصيح: جنون جديد! هذه أنصافك يا سيدتي فإني في غنى عن مالك بما وهب الله لي من علم ومعرفة، وإذا كنت تظنين أن تكهني دجل وخرافة، فلم دعوتني؟ ولم أرسلت خادما بعد خادم ملحة في طلبي؟ لعل الذي جرأك علي أني أتقبل أجرا لقاء الإفضاء ببعض ما يتكشف لي من ملامح الغيب، والله لولا مس الحاجة ما تدليت إلى هذا الحضيض، ولا سمعت اليوم من سيدتي نفسية التي تظنني امرأة أفاقة أفاكة، هذا السب الشنيع، حقا إن كل شيء يمتهن إذا بيع بالمال: فالجمال يمتهن إذا بيع بالمال، والجاه يمتهن إذا بيع بالمال، والعلم يمتهن إذا بيع بالمال.
قالت كل ذلك وأوصالها ترتعد، وفمها يقذف بالزبد كأنما مسها شيطان، ثم زايلها الغضب دفعة واحدة والتفتت إلي وحنت رأسها في إجلال وخشية وقالت: والآن تحيتي وخضوعي لمولاتي زبيدة ملكة مصر، ثم انفلتت كما ينفلت الطائر من الشبكة، فلم نر لها أثرا.
هذا ما جرى من رابحة العرافة، أذكره كلمة كلمة كأنما أقرأه في لوح مكتوب، فهل كان كل ذلك كذبا وزورا؟ وهل أنا مخاطرة بحياتي وجمالي وشبابي، في سبيل كذب وزور؟ إن التردد يكاد يقتلني! ما هذه الأرجوحة التي أرتفع بها مرة، وأنحط أخرى؟ يقين يتملكني فأكاد أرى العرش الذي سأجلس عليه ، ثم يجيء الشك فيمحو كل هذه الآمال كما يمحو النهار آية الليل، فلا أرى أمامي إلا جنة أصبح ماؤها غورا، وعاد ريحانها حطاما، وأنظر فإذا أنا في صحراء العمر المحرقة، وقد غدا الشباب النضر الريان في هذه الصحراء سرابا خداعا مخاتلا، إذا جئته لم أجده شيئا، إن الزهرة إذا تفتحت اليوم ذبلت غدا، والبدر إذا تم كماله درج إلى النقص والمحاق، وهل بعد بلوغ الفتاة الثامنة عشرة غاية للنضج وتفتح الأنوثة وتفجر الميول؟ فإذا أهملها الخطاب في هذا السن ذوى عودها وخبت نارها، وذهبت بشاشاتها، كالثمرة إذا لم تجن والزرع إذا لم يحصد، هكذا قضت الطبيعة القاسية المستبدة بكل حي، فقد جعلت لكل شيء أوانا، فإذا ذهب أوانه تبدل خلقا آخر، فزهدته النفوس وتقحمته الأعين.
إن ابن خالتي محمودا العسال فتى يزدهي به الشباب، وتعتز به الفتوة، إنه زينة الأنداد وفخر الأمثال: جمال وجه إلى كرم خلق، إلى جرأة وإقدام، إلى كياسة وحزم، ثم إلى ثروة وجاه عريضين، وما رأيته مرة إلا اختلج قلبي له، وهفت روحي إليه، وأحسست في شفتي بدبيب يكاد يدفعهما إلى تقبيله، وجرت في جسمي نشوة عجيبة لا أعرف لها كنها ولا أستطيع لها وصفا، أهذا هو الحب الذي يتغنى بأناشيده الرجال والنساء؟ إن كان إياه فإنه حب عنيف تحكم في نفسي، وملأ علي يقظتي وأحلامي، أما محمود فلم يدع وسيلة يدلي بها إلي إلا اتخذها، ولم يترك كلمة من كلمات الغرام إلا سكبها في أذني، يغري مرة ويتذلل أخرى، ثم يصف ما يلاقيه من الهجر وصفا يستنزل العصم، ويهز الجبال الشم، وأنا أنصت إليه في وجوم وذهول ورعب، وقلب مضطرب خفاق، فإذا زادت بي ثورة الوجد كدت أثب عليه فألتهمه ضما وتقبيلا لولا أطياف ذلك الخيال الخداع، والأمل الختال، التي كانت تسرع إلى نفسي فتجتذبني من السماء إلى الأرض، وتطفئ نار نزواتي، وتهدئ من خفقات قلبي، ذلك الخيال الذي يصور لي الملك الموهوم، والذي يوسوس إلي أن من قسم لها أن تكون حاكمة مصر لا ينبغي لها أن تصغي إلى كلمات الغرام من أي شخص، ولو كان في جمال محمود العسال ورجولته، أسمع هذا الوسواس الخناس فيعود إلي هدوئي، وأرده عني بكلمات تقتل الأمل وتجتث الرجاء، ويعلم الله أني أقولها وكل حرف منها سكين في فؤادي وغصة في حلقي، إنه زهد في جميع الفتيات لأجلي، ولو أنه رفع إصبعا لأجملهن لطارت إليه شغفا، واهتزت كالعصفور للقائه شوقا، ولكنه أبى أن يتزوج إلا بي، ذكرت له أمه بنت الشيخ الجارم «رقية» - وهي من هي في جمالها وخفة روحها ومنصب أبيها - فأبى، ثم ذكرت له بنت السيد أحمد المحروقي زوج خالتي - وهي بنت الشرف والسيادة والجاه - فأبى، فهل حكم علي وعليه أن نبقي هكذا محرومين من ثمار هذا الحب، ومن تلك الجنة الدانية القطوف، وبيننا وبينها كلمة تقال؟!
وبينما هي في أحلامها وأحاديث نفسها؛ إذ سمعت صوت حركة لدى البابا، ففزعت واتجهت إليه، فإذا قطتها تدخل متباطئة، حتى إذا أبصرت سيدتها جرت نحوها وأخذت تتمسح بها في حب وحنان، فأخذتها زبيدة بين يديها وطفقت تقبلها والقطة تزمزم وتقلب وجهها فوق خديها، ثم وضعتها أمامها وضحكت ضحكة الفتاة العابثة اللعوب، وأخذت تقول: تعالي أيتها القطة الماجنة الخبيثة، واعترفي لي كما اعترفت لنفسي، أتحبين غيري؟ لا؟ تحبينني أنا وحدي؟ أليس هناك قط في خيالك قد يكون ملك القططة؟ أراضية أنت عن حياتك كما هي؟ ألا يكدر عليك صفوك طيف كاذب يطمعك فيما لا يمكن أن يكون؟ لا؟ ما أسعدك يا قطتي، وما أوفر حظك من الحياة! أنت أعقل من سيدتك المفتونة بالأوهام، ولكن ألا تحبين أن تكوني قطة الملكة؟ الخدم أمامك ووراءك! والوصائف تدللك! وأصحاب الحاجات تتملقك! تحبين هذا؟ بلا شك؟ نعم يا قطتي، نعم يا قطتي، إن قلبي يحدثني أنني لست واهمة، وإن صوتا يهمس في نفسي ألا تخافي ولا تحزني، وأن «رابحة» العرافة لم تكذب، أكاذبة رابحة؟ لا؟ صدقت، إنها قالت مرة: إن أبي سيسافر إلى استانبول فلم يمض أسبوع حتى دعاه داع للسفر إليها من حيث لا يتوقع، وألحت مرة على عمتي أن تحذر ابنها من الماء فمات بعد شهر غريقا، وقالت للورا بنت الخواجة نيكلسون: إن ضيفا سيزور أباها من بلاد بعيدة فحضر عمها بعد يومين.
لا، لا يا قطتي، إن رابحة لا تكذب، وليس علي إلا أن أرتقب وأصطبر.
وما كادت تتم جملتها حتى رأت خادمها الخاص «سرورا» يقبل نحو غرفتها ويقول: إن سيدي محمودا حضر منذ ساعة، وهو جالس مع سيدتي الكبيرة، وقد أرسلتني لأدعوك إليهما، فقالت زبيدة: فيم يتحدثان يا سرور؟ - لا أدري يا سيدتي، إنه حديث طويل، وسيدي محمود هو الذي كان يتكلم، وسيدتي تهز رأسها وتربت كتفه. - أما فهمت موضوع الحديث؟
فأطرق الخادم في خبث وقال: أنا يا سيدتي لا أفهم الكلام السريع، فإن سيدي محمودا كان منطلقا في حديثه كما ينطلق النمر في بلادنا خلف الغزال، وكل ما فهمته كلمات متقطعة مثل: نذهب إلى مصر، السعادة، طال الزمن، هل هذا يجوز ... - فهمت يا سرور، تعالي يا قطتي وساعديني على الثبات والصبر.
وخرجت تمشي في دلال وعجب، والقطة تدخل بين قدميها وتخرج في أثناء مشيها، وهي تكاد تعثر بها في كل خطوة، حتى نزلت إلى أمها في الطبقة الثانية من المنزل، فلما رأتها أمها قالت: أهلا بعروسي الحسناء، تعالي بجانبي يا فتاتي وأنصفيني من ابن خالتك هذا، فقد حطم رأسي بكثرة حديثه هذا الصباح! ولولا حبي له وإعجابي بخلقه وأدبه ورجولته، وضعفي أمام وجهه الوسيم، لكان لي معه شأن آخر.
فحيت زبيدة ابن خالتها بعينين مطبقتين تصنعت فيهما الحياء والخفر، ثم جلست إلى جانب أمها ورفعت رأسها قليلا نحو محمود، وقالت: كيف حال خالتي زينب اليوم؟ - الحمد لله، ولكنها لا تزال عاجزة عن المشي، ولا تزال تقاسي آلاما مبرحة في ساقيها، وبخاصة في الليل. - كانت هنا بالأمس «بدور» الدلالة وقالت: إنها كانت أصيبت بهذا المرض، ولم يشفها منه إلا دهن ساقيها بزيت ساخن خلط به دقاق الفلفل الأسود، والقرفة والمر. - عملنا يا زبيدة كل شيء، ولم نترك في تذكرة داود علاجا إلا جربناه، واضطررت آخر الأمر إلى استشارة الطبيب الفرنسي «شوفور» فقال لي: إنه مرض في المفاصل، وإن له مرهما في فرنسا، ولكن هذه الحرب بين الدول سدت سبل البحار، فلم يصل إلى مصر إلا قليل جدا من البضائع التي كانت تغرق الأسواق. - صحيح، إن أبي يقول: إن التجارة في كساد لقلة البضائع التي تسافر من رشيد أو تأتي إليها؛ لأن ناسا يقفون في البحر ويغرقون السفن.
كانت نفيسة أم زبيدة جالسة تعبث بسبحتها، وهي بادية العبوس تكاد تحترق غيظا من الحديث في السفن والتجارة؛ لأنها كانت تود لو أن محمودا قذف بنفسه على قدمي زبيدة يبللهما بدموعه، ويشتكي لها لوعة الحب والغرام، وليس أشهى لدى المرأة في سن اليأس من أن تشهد منظرا للحب، أو تسمع عنه حديثا، لقد حرمتها الطبيعة الحب الذي لم تنس حلاوته، فلا أقل من أن تراه في غيرهما، ولقد ودعت راحل الشباب من عهد بعيد، فهل يحال بينها وبين أن تسمع عنه خبرا؟!
وهل يجوز في شرعة الإنصاف أن تجحد هذا الحق الضئيل، الذي اكتفى به أبو نواس حينما نهاه المأمون عن الخمر فقال:
جل قصدي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
وهل عليها من حرج إذا طافت بها ذكريات الماضي، فحنت إلى رؤية أطيافها في فتى أو فتاة؟!
ثم إن نزوات القلوب لا تموت، ولكنها تفقد وسائلها من صحة وفتاء، وحسرات الشيخ على الشباب إنما هي حسرات الجائع يرى الطعام عن بعد، فلا يستطيع إليه وصولا، ولا يجد له سبيلا، إن ألذ شيء عند العجائز أن يقضين النهار كله في أن فلانة خطبت، وفلانة تزوجت، وأن يحضرون الأفراح ويشاهدون العروس ليلة جلائها.
لما رأت أم زبيدة الحديث تافها، خطر لها بحق أن وجودها قد يكون سببا في كبح جماح عاطفة محمود فقامت مسرعة وهي تقول: يا حسرتي! لقد نسيت أن أنظر فيما تعده الطاهية لغداء اليوم، ثم ذهبت نحو المطبخ ولقبقابها العالي جلبة وقعقعة.
وهنا نظر محمود إلى زبيدة في ذل واستجداء، وقد أحست في لمحة خاطر ما وراء هذه النظرة، وهدتها فطرتها النسوية الماكرة إلى السكوت حتى تتفتح لها السبيل التي يجب أن تسلكها، فأطرقت إطراق المذنب الخاضع الذي وطد النفس على تلقي ما يقذف به من تهم، وهنا قال محمود: لقد وعدتني في آخر لقاء لنا يا زبيدة أنك ستفكرين في الأمر، وستصارحينني بما انتهى إليه رأيك، وسألتك الرحمة بي فيما تفكرين، والإشفاق علي فيما تبتين، ووالله ما لقيتك بعدها إلا خفت أن أسألك عما هداك إليه التفكير من الحكم لي أو علي؛ لأني رأيت من الخير لي أن أعيش في نعمة من الشك، وأن أستمر في مداعبة أمل واهن أضعف من أنفاس المحتضر، والذي قال: إن اليأس إحدى الراحتين لم يكن يعرف أن العشاق كالغريق يتوكأ على الثمامة، وأنه لولا ما يلازم الحب من الرجاء والخوف لكان إحساسا حقيرا كإحساس الجوع والعطش، مضى شهران يا زبيدة وأنا في هذا الشك، فهل لديك اليوم كلمة أقوي بها أملي، وأتوسم فيها وجه سعادتي؟ لا تقولي: «لا» يا زبيدة، فإنه لم يبق لي إلا وتر واحد ضعيف من أوتار الأمل، أعزف عليه أنشودة غرامي، فإذا قطعته يا زبيدة سكتت أنشودتي، وسكتت معها نبضات قلبي، قولي: «نعم» يا حبيبتي، وإذا عز عليك أن تقوليها فلا تقولي: «لا».
كانت لواعج الحب تضطرم في نفس زبيدة، وكانت تحس كأن سكاكين مثلمة تحز في قرارها؛ لأنها كانت تهوى ابن خالتها وتراه المثل الأعلى للزوج والحبيب، وتتمنى لو ألقت بنفسها بين ذراعيه، ومزجت دموعها بدموعه، ولكن المسكينة كان لنفسها ناحيتان: ناحية يكتم فيها الوجدان وتطغى النزوات، وناحية ألقت بزمامها إلى العقل واستسلمت إلى سلطان الإرادة، وطالما تحكمت الثانية في الأولى، وأسكنت صيحاتها، فالتفتت إليه وقالت: أنت لا تشك يا محمود أني أحبك كما أحب أخي عليا، وأني كلما فكرت في أمرك ارتفع في نظري هذا الحب الأخوي الطاهر الشفاف على حب الزوجة لزوجها، فأضن به أن يذهب من يدي لاستبدل به حبا ماديا أرضيا ، قلقا مضطربا، ربما دام وربما لا يدوم. - حبا قلقا مضطربا؟ إن حبي يا حبيبتي لو تجسم لكان ركانة في الجبال، وصلابة وبأسا في الحديد، إنه قطعة من الروح وفلذة من القلب، فإذا زال زالت الروح، وذهب القلب معه، إن الحب الأخوي نفحة وراثية، والحب الغرامي نفحة روحانية، وشتان ما بين النفحتين!! إن الحب الأخوي أثر المعاشرة والإلف، والحب الغرامي أثر الوحي والإلهام، لا تغالطيني يا حبيبتي، وإذا رضيت أن أكون لك أخا فأطلقي لهذا الحب قليلا من فضلة العنان، ليكون حبا قدسيا تتعانق فيه الروحان، وتتلاقى الشفتان. - هل سألت أبي؟ - لقد أمللته حتى إنه كاد يفر مني، ولما ضاق بي ذرعا آخر الأمر، التفت إلي حزينا وقال: «إنك تزيد في آلامي يا بني بكثرة الإلحاح، لقد ذكرتك أمامها مرات، ويعلم الله أني لم أترك وصفا مما يرغب النساء في الرجال إلا خلعته عليك، ولكني لم أر منها اتجاها إليك ولا رغبة فيك، وقد عاهدت نفسي ألا أجري إلا على ما أرادت، وألا أدفعها إلى أمر لا ترغب فيه، فإذا رضيت بك زوجا فإنني أكون أسعد خلق الله بهذا الزواج»، أما أمك: فقد قضيت معها ساعة اليوم فلم أجد منها إلا موافقة تامة ورضا كاملا، غير أنها كانت كأبيك تخشى أن تلزمك إرادة أو تحملك على عزيمة، فالأمر بين يديك يا زبيدة، إن في فمك كلمة هي الحياة أو الموت، فأشفقي على ابن خالتك المسكين!!
نظرت إليه زبيدة في شيء من القلق مكتوم وقالت: لم يبق إلا رضاي؟! وهذا شيء هين، ولن يخلو زواج من عقبات، وهذه عقبة صغيرة أسأل الله أن يقدرني على تذليلها، فدعني الآن يا محمود، فإن لكل شيء أوانا، والذي سطر في لوح القدر سيكون، ولا بد أن يكون، وماذا أكون أنا أمام علم الله وقدرته؟
وهنا ظهرت عند باب السلم الشيخة أمينة، وهي امرأة كفيف تحفظ القرآن وتقرأ في بيوت أغنياء المدينة، وكانت تقودها فتاة صغيرة قذرة الجلباب حافية القدمين، أصاب الرمد عينيها بدموع لا تنقطع ، فأوشكت أن تشبه من تقودها، دخلت الشيخة أمينة وهي تقول: صبحكم الله بالخير جميعا، وكفاكم شرور هذا الزمان، إن المدينة اليوم في ثورة جامحة، فإن عثمان خجا لم يكتف بما يفرضه من الضرائب والمكوس والمصادرات في كل يوم، حتى ابتكر ضريبة جديدة لا تترك للفقير ما يقتات به، ولا تبقي للغني ما تبقى له من قليل.
وهنا ظهر الحزن والهم على وجه محمود العسال، ونهض واقفا وهو يقول: لا يمكن أن نعيش يوما آخر مع هؤلاء المماليك، ثم حيا زبيدة ومال إلى أذنها وهو يهمس: طال الصبر يا زبيدة فإلى متى؟ ثم أسرع نحو الباب.
وعندئذ قامت زبيدة متثاقلة حزينة، فهرعت إلى غرفة نومها لتكتم آلامها، وما وصلت إليها حتى رمت بنفسها على السرير وكتمت أنفاسها الحرى في وسادة من الحرير، وأخذت تبكي بكاء مكتوما اهتزت له أضلاعها في خفقات مضطربة، وهي تقول: أحبه!! ... أحبه!! ...
الفصل الثاني
وصل محمود إلى الشارع فرأى الناس يتسابقون إلى شارع زغلول، وفي كل وجه صورة مخيفة للغضب والحزن وحب الانتقام، وكانت العين لا ترى فيهم إلا أشباحا للفقر والجوع والذل، لن تستطيع ريشة رسام أن تبوح بوصفها، مشى محمود في إثرهم حتى إذا وصلوا إلى الشارع رآهم يتجهون نحو مسجد زغلول، فهز رأسه حزينا وقال: مسكين هذا المسجد! أصبح من يلتجئ إليه من المظلومين أكثر ممن يقصده للصلاة والعبادة، والناس لا يجدون غياثا في هذه الأيام إلا العلماء والأعيان، وويل لهؤلاء العلماء والأعيان! إنهم أصبحوا أضعف من ذات خمار أمام ظلم عثمان خجا وظلم أعوانه وعصابته، اذهبوا أيها المساكين اذهبوا، فإن عثمان خجا لن يرضى إلا بامتصاص آخر قطرة من دمائكم، وهو غراب مشئوم لا يستريح إلا بعد أن يرى المدينة قفرا يبابا، اذهبي اذهبي أيتها الضحايا المنكودة، فإن مراد بك إن رضي بقضم اللحوم فإن وكيله خجا لا يشبعه إلا التهام الجلود، ما هذا الحظ العاثر يا رشيد؟ إذا اقتسم إبراهيم بك ومراد بك أرض مصر، لا تكونين إلا من نصيب مراد بك الفاتك الجبار، الذي لم يبق بالبلاد قائما ولا حصيدا، والذي إذا فر منه برغوث في مدينة أحرق المدينة كلها ليقتله.
ثم يأخذ محمود سمته إلى شارع البحر، ويميل إلى متجر أوليفر نيكلسون فيراه جالسا ومذبته في يده، يذود بها الذباب عن وجهه، وهو جهم الوجه حزين النفس يظهر عليه القلق والاضطراب، وكانت الصلة وثيقة العرا بين محمود ونيكلسون لتلاؤم في أخلاقهما، وللمعاملة المتصلة بينهما، فقد كان لمحمود متجر للمنسوجات الصوفية بالقاهرة ترك الإشراف عليه لابن عم له، فكان يشتري البضائع من نيكلسون ويبعث بها إلى القاهرة، وكان لنيكلسون اتصال وثيق أيضا بأسرة البواب، فقد كان له أخ يتجر في الأرز بدمشق فكان يبعث إليه به من مضرب البواب لثقته بأمانته وحسن معاملته؛ لذلك نمت الصداقة بين الأسرتين، فكانت بنته لورا نيكلسون لا تجد لها في رشيد صديقة أوفى ولا أكرم صحبة من زبيدة، فأكثرت من زيارتها والائتناس بها، وأحبت في زبيدة لطفها وارتفاع مستوى تفكيرها وثقافتها عن مثيلاتها، وأن لها من صفات الأنوثة والبراعة في إظهار جمالها ما يشبه ما تتحلى به الأوربيات، ورأت زبيدة في لورا نضارة الجمال الإنجليزي ورقته وحنانه، وكمال أدبه ودقة إحساسه، ففتنت بها وحاكتها - من حيث لا تدري - في كثير من أخلاقها وعاداتها وآدابها، وطالما جلست لورا لتفصل لها الحلل على الطراز الأوربي.
حيا محمود صاحبه، وجلس وهو يلهث من الحر والتعب وقال: أرأيت الزمر الحزينة البائسة وهي تهرول مستغيثة مولولة إلى مسجد زغلول؟ - نعم يا محمود رأيتها، وقد زادني مرآها حزنا على حزن، وألما على ألم، إن هؤلاء المماليك جزارون لا يحسنون الذبح، إنهم مصابون بجنون التدمير والتخريب، وكم لاقت منهم مصر وتلاقي إن امتد بهم الحكم وطاولهم الزمان، إني لم أر بلدا - فيما قرأت من تاريخ - فدح بمثل هذا الحكم، إن صح أن يسمى ما نحن فيه حكما، إن الزنوج الذين يسكنون في وسط إفريقية لا يمكن أن يخطر بعقول رؤسائهم الضعيفة الجاهلة أن يحكموا أتباعهم بهذه القسوة الطائشة والظلم الجارف، ولقد ضاعت مصر بين ضعف الدولة العثمانية وجهلها، وغباوة المماليك واستبدادهم، إن مصر اليوم تحكمها طائفة من اللصوص الأشقياء، الذين لا يقف شيء أمام جشعهم، ولا يزعهم شرف ولا دين، نهبوا كل ما في أيدي المصريين ولم يعطوهم شيئا، فالوباء المتفشي في الناس أشد من ظلم المماليك، والجهل الذي عطل عقولهم أشد من هذين. - هذا بلاء محيق لا كاشف له إلا الله، فالناس يثورون في كل يوم، ولكنهم لا يلاقون إلا الجلد والقتل، والتعذيب وهتك الحرمات، حتى لقد فر كثير من الأسر إلى دمياط والقاهرة لعلهم يجدون متنفسا. - يفرون من المقلاة إلى النار، كما نقول في بلادنا، المماليك مماليك في كل أرض وبلد. اشنقوه، اقتلوه، أحرقوه، كلمات خفت على ألسنتهم وتكررت كأنها تراتيل القساوسة، أرأيت كيف يسيئون إلى الإفرنج في كل حين، على الرغم من أن لهم قناصل يحمونهم، فكم صادروا متجر «فارسي» الفرنسي ومتاجر سواه، وحينما كتبنا احتجاجا إلى دولنا بأوربا لم يزدهم هذا إلا إيغالا في العسف وإغراقا في النكاية. - إنهم يبغضون الفرنسيين ويجاملون غيرهم أحيانا، ألديك أخبار جديدة عن الحرب بين الدول؟ - قرأت أمس في جريدة إيطالية صدرت منذ شهر أن العداء شديد مستحكم بين إنجلترا وفرنسا، وأن الحرب قائمة بينهما على أشد ما تكون عنفا وقسوة، وأن أساطيل إنجلترا تجوب البحار لحماية شواطئها وحصر فرنسا وحليفاتها، ومنع أي مدد يصل إليها، وأن الفرنسيين بعد أن فتحوا إيطاليا والنمسا وخافتهم بقية الدول الضعيفة في أوربا، وأصبحوا يصيحون في كل شارع في زهو وشموخ قائلين: إلى إنجلترا ... إلى إنجلترا ... وكلما مر نابليون بونابرت ذلك القائد الجديد الذي تمخضت عنه ثورتهم من حيث لا يعلمون، صاحوا: إلى النصر، إلى إنجلترا، إلى العالم! - هل تظن أن مصر ينالها شيء من شرار هذه الحرب؟ - لقد أصابها الشرار فعلا يا بني، ألا ترى الكساد الذي نحن فيه وانقطاع الصادر والوارد؟ - إذا هجم هذا البونابرت على بلادك، أتسرع للدفاع عن حوزتها؟ وماذا يكون من أمر لورا؟ أتأخذها معك؟ إني أرى من الخير أن تدعها عند خالتي أم زبيدة فإنها تكون إذا بين أهلها. - لن أستطيع أن أسافر يا محمود بعد أن أصبح البحر شعلة من نار، ثم إني واثق أن بلادي لن تنال، وأن لها من قلوب أهلها وشجاعتهم سورا من فولاذ يصد عنها كل فاتح، إن غزوها محال، ولكن الذي يهمني ويقض علي مضجعي، أن يكون في الأمر خدعة، والذي يخيل إلي أن هؤلاء الفرنسيين يظهرون أنهم يستعدون للهجوم على إنجلترا، ليدفعوها إلى التفكير في حماية ثغورها والتفرغ إلى الاستعداد في بلادها، وليصرفوها عن النظر في أية خطة أخرى، ثم هم من وراء ذلك يتجهون بجيوشهم وأساطيلهم إلى ناحية لم تخطر للإنجليز ببال، ويغلب على ظني أنهم بعد أن عجزوا عن غزو إنجلترا سيوجهون ضربتهم إلى مصر، ليسدوا طريق التجارة الهندية في وجه إنجلترا بالسيطرة على البحر الأحمر، وربما خطر لهم، أن يتخذوا مصر طريقا لغزو الهند نفسها، لذلك أعددت لكل شيء عدته منذ أشهر، فأسرعت في جمع ما على عملائي من ديون، وعقدت شركة مع عامل متجري «أورلندو» وهو رجل أمين أثق به، حتى إذا صح حدسي، ونزل الفرنسيون مصر، فررت من المدينة، وتركت له تجارتي، وهو إيطالي لا يمسه الفرنسيون بسوء، أما أنا والإنجليزية لغتي، وإنجلترا موطني، فلو بقيت بعد دخولهم يوما واحدا للقيت منهم شر ما يلقى المرء من عدوه: من مصادرة واعتقال وإذلال، وربما هان على نفسي كل هذا في جانب ما أخاف على لورا. - أنت رجل قوي الخيال يا نيكلسون، والذي يستمع لحديثك هذا يظن أن أعلام سفنهم تخفق اليوم على ميناء الإسكندرية. - إن الإنجليز يا محمود قد يصفهم الناس ببطء الفهم، ولكنهم إذا فهموا لم يخطئوا شاكلة الصواب، وهم قوم يجمعون الحوادث والمظاهر ويدرسونها درسا دقيقا، ليستنبطوا منها نتيجة قل أن تخطئ، والحوادث التي درستها من شهر تنبئني بأن أعلام سفنهم ستخفق على ميناء الإسكندرية، وكيفما يكن الأمر فلست أرى في الحذر والحيطة بأسا، فالسفينة التي سأسافر بها راسية الآن أمام المتجر، حتى إذا حانت الساعة نقلت إليها ما أحتاج إليه، وخرجت من المدينة بلورا على حين غفلة من أهلها، أين تسهر هذه الليلة؟ - إنني أسهر عادة عند السيد إبراهيم الجمال، حيث نتحدث في التجارة ونتعرف أخبار المدينة وحوادثها، وكثيرا ما يجرنا الحديث إلى تعداد مظالم عثمان خجا وافتنانه في ضروب العسف، وهو حديث طويل محزن لولا ما يتخلله من فكاهات الحاج عبد الله البربير، وطرائفه ومضحكاته. - إن اليوم عيد ميلاد لورا وقد أعدت لنا الليلة وليمة، وألحت علي أن أدعوك إليها فهل تستطيع أن تزورنا بعد الغروب؟ - إنني أسر لكل ما يسر لورا، وسأكون عندكم في الموعد الذي ذكرت، وما أتم عبارته حتى سمع ضجيجا وصياحا وجلبة، فنظر فإذا جمع حاشد كأنه البحر المائج، فيه الرجال والنساء والأطفال وهم يصرخون ويولولون، وأمام هذا الجمع علماء المدينة وقد اتجهوا جميعا نحو ديوان الحاكم، فوثب محمود واندمج بينهم، فلما انتهوا إلى الديوان زاد الضجيج وعلا الصياح، وأخذ الأطفال يصفقون ويرددون عبارات يسجعونها وينغمونها مثل:
موجه رايحة وجية موجه
غرقنا ظلمك يا خوجه
ومثل:
ما فينا إلا العريان
إيش راح نعمل يا عثمان
ودخل العلماء الديوان وهم في حزن وغضب على ما أصاب مدينتهم، فلما رآهم عثمان خجا - وكان متكئا على أريكة - لم يتحرك للقائهم وبادرهم قائلا: لقد سئمت هذه اللعبة ومجتها نفسي كلما هممت بعمل في هذه المدينة رأيتكم تتصدون لمعارضتي، وتقفون في طريقي، حتى لم يبق علي إلا أن أستشيركم في كل خطوة أخطوها، فتقدم إليه الشيخ صديق - وكانت إليه زعامة البلد - وهو عالم تقي زاهد، ذرب اللسان قوي العارضة، يجبه الناس بالحق ولا يخاف في سبيله أحدا، فقال: يا حضرة الأغا: كان يجب عليك أولا أن تقوم إجلالا للعلماء وتكريما لهم، والعلماء ورثة الأنبياء كما جاء في الأثر الشريف، فالذي لا يبجل العلماء لا يبجل الأنبياء والعياذ بالله، وإذا رضيت لنفسك بهذا فإننا لا نرضى أن يقيم بمدينتنا من يتصف بهذا الوصف. ثم انفجر صائحا: قم للعلماء أولا، ثم تكلم بما شئت، فإن لكل كلام كلاما.
فأحس الأغا بما يحيط به من خطر، ورأى أن الشيخ جاءه من ناحية الدين، وأن أية كلمة يقولها ستنقلب عليه وبالا، فتعلثم وقال: يا مولانا، إن العلماء سادة الناس جميعا، وإني أول من يتقرب إلى الله بإرضائهم، غير أن صياح هؤلاء العوام وما تجرءوا عليه من قذف الديوان بالطوب والأحجار، سلبني صوابي وقلب ميزان تفكيري، ثم أخذ يصافح العلماء في أدب ورعب، فابتدره الشيخ قائلا: قلت يا حضرة الأغا: إنك سئمت هذه اللعبة، فسميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه الدين على كل مسلم ومسلمة: لعبة، وهذا تعد على الشرع الشريف، واستهزاء بأحكامه، واعلم يا حضرة الأغا أننا سنستمر فيما تسميه: لعبة، ما دمت مستمرا فيما نسميه ظلما وإرهاقا، ثم قلت مستنكرا: إنه لم يبق عليك إلا أن تستشيرنا في كل خطوة تخطوها، وقد أمر الله أشرف الخلق وسيدهم محمد بن عبد الله، أن يستشير قومه وأين أنت من هذا المقام الأسمى؟ وإذا كنت تأنف أن تتشبه بالنبي الكريم، فتلك مسألة أنت تعرف سوء مغبتها.
إنك لم تدع في المدينة رطبا ولا يابسا، لقد عصرت كل شيء حتى الأحجار والخشب، ولم يبق في الناس إلا رمق خافت تريد اليوم أن تأتي عليه، إن العلماء قرروا وقف الدروس في المسجد وإغلاقه، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، ثم هم الشيخ والعلماء بالخروج فتشبث بهم عثمان خجا، وهو يقول في تلعثم الخبيث اللئيم، الذي يريد أن يؤجل الضربة إلى فرصة قريبة: هذا أمر مراد بك الكبير وليس لي فيه يد، وسأرسل إلى القاهرة اليوم رسولا لأرى رأيه في الأمر.
فأجابه الشيخ صديق: ترسل أو لا ترسل، إننا سنذهب إلى بيوتنا وسنغلق أبوابها، وسنلتجئ إلى الله مستغيثين داعين أن يكشف عنا وعن أهل المدينة تلك الغاشية، وبينما العلماء نازلون من السلم؛ إذ هدأ الجمع المحتشد حول الديوان، وإذا صوت يجلجل في الفضاء خشنا مرعبا وهو يصيح: خراب يا بيت خجا خراب، خراب يا بيت خجا خراب!
كان ذلك صوت الشيخ علي سريط ، وهو شيخ كان أول أمره طالبا ذكيا نابغا، بمسجد زغلول، ثم تجرد لكتب التصوف وأكثر من قراءتها، فاختلط عقله وأدركته جذبة، فكان يقضي ليله ونهاره ماشيا في طرق المدينة وهو عاري الجسم، إلا خرقة يلفها حول وسطه، وكان للناس فيه اعتقاد راسخ ينقلون عنه كثيرا من الكرامات، ويرون أنه من أهل الله المقربين، وأنه له لمحات يكشف بها ما خلف ستار الغيب، فلما سمع الجمع نداءه انطلق يردد ما يقول كما يقصف الرعد: خراب يا بيت خجا خراب!
الفصل الثالث
كانت لورا تخطو إلى الثالثة والعشرين من سنها، يزينها جمال فاتن وطلعة مشرقة، وهي شقراء أميل إلى الطول منها إلى القصر، معتدلة القد خفيفة الروح والحركات، لها شعر ذهبي لماع كأنه إكليل من نضار توجها به الجمال، وعينان زرقاوان فيهما السحر وفيهما الفتنة، وفيهما الوداعة وكرم الخلق وصفاء الضمير، وكان لها جسم بض كأنه البلور المذاب، يكاد لصفائه تنعكس عليه الأشباح والصور، ولدت لورا في مدينة «بليموث» من مقاطعة «ديفنشير» بإنجلترا، حيث كان يقيم أبوها وأمها، وكانت أمها من أسرة ميسورة تشتغل بصناعة السفن، وما مر على ولادتها أربعة أعوام حتى مرضت أمها ولم ينجع في علاجها دواء، فماتت، وحزن عليها نيكلسون حزنا أوشك أن يقضي عيه، وأقسم ألا يتزوج بعدها، وأصابه شيء من الذهول كاد يكون خبلا، فأشار عليه أبو زوجته أن يرحل من إنجلترا، فغادرها إلى مصر، وأخذ يتجر في الصوف والحرير، وترك لورا بإنجلترا عند جدتها لأمها، فرأت فيها جدتها صورة من بنتها فشغفت بها وبذلت أقصى جهودها في تهذيبها وتعليمها، وبعثت بها إلى المدرسة في سن السادسة، فبرزت مواهبها وفاقت أتبرابها، واشتهرت بين التلميذات بالذكاء والأدب الجم وحسن المعاشرة، ولما بلغت الخامسة عشرة أتمت الدراسة وألمت بكل ما يجب أن تعرفه البنت من نظام البيت وشئونه، وسافر أبوها من مصر إلى إنجلترا في صيف سنة 1790م فوجد ابنته وقد نضجت ثمرتها، وبدت فيها صورة ناطقة من أمها، ورأى أن بعده عنها في بلاد الغربة قد كدر عليه صفو حياته، وجعله عرضة للسأم والحنين والهواجس، فعاد بها إلى رشيد، وأخذ يلقنها العربية ويعمل على اتصالها ببنات الأسر العريقة بالمدينة، فالتقطت اللهجة الرشيدية صحيحة واضحة بعد سنة أو أكثر، وأصبحت تتكلم بها في طلاقة ويسر، وأغرم بها نساء المدينة وبناتها، فكانت قبلة أنظارهن وسمر مجالسهن، وطابت للورا الحياة في هذا المجتمع، وطبعت نفسها بكثير من عاداته وآدابه، وكانت إذا خرجت لزيارة صديقاتها تلبس الحبرة السوداء والبرقع الكثيف، الذي ليس به إلا ثقبان صغيران للعينين فلا يكاد يميزها أحد من بنات المدينة.
وكانت تختلط بمحمود العسال لكثرة زياراته لأبيها للمسامرة والحديث في التجارة، ولأنها كثيرا ما كانت تراه عند زياراتها الكثيرة لأمه أو لزبيدة بنت البواب، وكان محمود على ما وصفنا من وسامة ورجولة وخلق عظيم، فأحسست نحوه أول الأمر بشيء من الإكبار، كما يعجب الأطفال بأبطال القصص التي تروى لهم، ثم زاد هذا الإحساس قليلا فصار رغبة في مقابلته ومجالسته والحديث معه، ثم نما فصار شغفا بالتحدث عنه والإكثار من ذكره، حتى كادت تسئم خادمتها الحاجة مبروكة، ثم انقلب هذا الإحساس ولوعا وحبا بالغت في كتمانه، واستعانت بكل ما تستطيع المرأة من رياء لكبته ودفنه في صدرها، فلم يره أحد، ولم يشعر به أحد، وبقي سرا غامضا في سويدائها لا تبوح به إلا لأحلامها، ولا تهمس به إلا لوسادتها، حينما تتقلب على سريرها قلقة تتمنى الأماني وتتوجس العقبات: لم تسمع أن مسيحية تزوجت بمسلم، وهي لا يمكن أن تفرط في دينها من أجل حب، وإذا كان قاتلا، ثم إذا جاز في الإسلام أن يتزوج المسلم بمسيحية، فمن أين لها أن تعلم أن أباها سيرضى عن هذا الزواج ويباركه؟ وإذا رضي أبوها فهل يحبها محمود كما تحبه؟ وهل يطغي على المأثور من العادات في سبيل ضمها بين ذراعيه؟ إنه لم ينظر إليها نظرة مريبة، ولم تظفر منه كلمة فيها أقل تورية أو تلميح، وكل ما في أمره أنه يختلط بالأسرة اختلاط الصديق الوفي الطاهر القلب، الذي يجري على سجيته ولا يبدو في كلماته أو لمحاته أو أعماله إلا اللطف والحنان، إنه لم يعرف الحب، ولم تهتز له أوتار قلبه، إنه ملك كريم، والملائكة لا يعشقون.
شغفت لورا بمحمود وكتمت غرامها، وأصبحت تعلل نفسها برؤيته بين الحين والحين، فطلبت إلى أبيها أن يدعوه لوليمة عيد ميلادها، واجتهدت في أن تجعلها حافلة بالألوان متقنة الطهو، فقضت النهار كله مع مبروكة وخادمها عبد الدايم في إعدادها، وأكثرت من أنواع الكعك، وتأنقت في عمل «البودنج» حتى إذا جاء وقت العصر تفرغت لزينتها ولبست أجمل ما لديها من الحلل، ونظرت في مرآتها، فرأت صورة للجمال الإنجليزي الفاتن، ثم نظرت في مرآة خيالها فبدا لها محمود العسال وهو صورة للجمال المصري الرائع، فتمنت لو اجتمع الشرق والغرب، وودت لو تدانى البعيدان، وتعانقت الصورتان!
أذن مؤذن جامع «الإدفيني» للمغرب، واتجه «نيكلسون» إلى داره حزينا مفكرا، حتى إذا قابلته لورا أخفى ما في نفسه وغمرها بالعناق والقبل، وقال باسما: ماذا صنعت لنا سيدة الدار في هذه الليلة؟ إني أشم روائح مشهية لألوان مختلفة، وأكاد من السرور والجوع ألتهم السيدة الطاهية قبل أن ألتهم ما طهته من أصناف الطعام. - إن السيدة الطاهية تحكمت اليوم في مال أبيها، وبذرت فيه تبذيرا. - إن الأب والمال لك يا فتاتي الحلوة، فافعلي بهما ما شئت. - نحن هنا يا أبي في الشرق موطن الكرم وحسن الضيافة، وقد أردت أن أحاكي زبيدة فيما تصنع من ولائم، فأكثرت من الألوان وخاصة بعد أن دعونا محمودا العسال، أوعدك بالحضور يا أبي؟ - إنه أجاب مغتبطا مسرورا، هذا الشاب أحبه كما أحبك يا لورا، لم أر فيه منقصة ولم أقع له على زلة، وله أخلاق تقرب كثيرا من أخلاقنا: فيه الشهامة والصراحة، والصدق والغضب للحق، ونصرة الضعيف، إنه شهم يا لورا، وطالما تمنيت لو يكون لي ولد مثله. - لو كان ذلك لفزت بأخ كريم! وهنا سمعت دقات على الباب ودخل محمود فحياهما، وهنأ لورا فابتسمت له ابتسامة مشرقة، وصاحت بخادميها أن يعدا المائدة، وكان نيكلسون بادي السرور والمرح ، كثير النوادر والنكات، مسرفا في الضحك، أما محمود: فقد استولى عليه وجوم عجز عن إخفائه، وحاول كثيرا أن يندمج في الحديث والضحك فظهر تكلفه، وبان تصنعه، فمال عليه نيكلسون قائلا: ما بال بطلنا الليلة منقبض الأسارير على غير عادته؟ - هذه الحوادث التي جرت اليوم أزعجتني. - حوادث شغب العوام وقذفهم ديوان الوالي بالأحجار؟
هذا يا بني يحدث في كل يوم حتى اعتادته النفس، ولو حزنا لكل ما نراه لقضينا العمر غما وأسفا، لا يا بني! أظن أن شيئا آخر يحزنك، فإني ما رأيتك إلا باسما مستبشرا، وهذه ليلة لورا فكان عليك أن تكون فيها على أحسن ما تكون. - الحق أن هناك مسألة تنغص علي حياتي كلها، ولست بغريب مني يا نيكلسون، ولا أعد لورا إلا أختا لي لا يكتم دونها حديث، لقد برح بي حب بنت خالتي زبيدة، وكثيرا ما كاشفتها بهذا الحب وهي تروغ مني وتلتمس المعاذير، حتى إذا كدت أيأس منها وأيأس من نفسي ذهبت إليها في هذا الصباح لأظفر منها بوعد أو خيال من وعد، فلم أنل منها إلا المماطلة والتسويف، والإحالة إلى الأقدار.
سمعت لورا ذلك فأحست بقذيفة تنفجر في قلبها فتذهب به بددا، فشخصت عيناها في ذهول، وأوشكت أن يغمى عليها، لولا عزيمة جبارة انتشلتها من يد العواطف الثائرة، ثم نظرت إلى محمود في شغف وألم وحسرة، وقد طارت آمالها مع الرياح، ودك ما بنته من الآمال والأحلام دكا، ورأت أن قلب حبيبها قد شغل عنها بسواها، وأنه لم يبق به زاوية صغيرة يلجأ إليها غرامها العنيف القاتل، وأن من عجائب القدر أن يشغف محمود بزبيدة أحب صديقاتها إليها، وأقربهن إلى هواها وعطفها وحنانها، إن حبها له يحملها على صرفه عن زبيدة والضن به عن أية امرأة كيفما كانت، ثم إن هذا الحب نفسه وما فيه من حنان، يفرض عليها أن تبذل كل ما في قدرتها لإسعاده وهناءته، ولن يسعده إلا أن ينال يد زبيدة، فهل يدفعها حبها إلى التضحية بآمال حبها؟ وهل يستطيع ذلك الحب أن يبلغ ذروة الشرف فيكتم ناره في قلبه، ويقضي على الغيرة الطبيعية التي تمزقه، ويقنع بأن يرى حبيبه هانئا سعيدا؟ إن اجتذاب الحبيب بالإغراء وسيلة رخيصة لا تليق بحبها الطاهر، والحب الذي لا ينال إلا بغمز العيون ومضغ الكلام، قليلا ما يدوم، وهناك مسألة أخرى: تلك أن تكون زبيدة مرائية ختالة، وأن فرط حبها به يحملها على فرط الإدلال عليه، فإذا عملت لورا على اجتذابه إليها فرقت بين عاشقين هما أحب الناس إليها، وأقربهم إلى قلبها.
نظرت لورا إلى محمود وهذه العواطف الجامحة تعتلج في نفسها، ولكن عزيمتها الإنجليزية أبت أن يظهر منها أي أثر على وجهها، وقالت: مسكين يا محمود!! لم أعرف أنك متعلق بزبيدة، ولكني أعرف أنها تهتم بذكرك، وتكيل لك الثناء والمديح كيلا. - يظهر أن الثناء غير الحب، ويظهر أن شيطانا عنيدا يتحكم في رأس زبيدة، ويحذرها من التزوج بي. - هذا عجيب! إن مثلك يا محمود تتمناه وتشرف به أية فتاة رشيدية. - الذي يهمني أن أعرف هذا السر الذي يحول بينها وبيني. - مسكين يا محمود! ثم قالت وقلبها يكاد يتقطع حسرة وألما: سأكون سفيرتك في هذا الأمر يا محمود، وسأبذل جهد الأخت الشقيقة حتى تفوز بأمنيتك، دع الأمر لي فإننا في هذا المجال أمهر من الرجال وأشد تأثيرا. - جزاك الله خيرا يا لورا، وأرجو أن توفقي حيث خبت وتقطعت حبائلي وأشراكي.
وهنا أطل نيكلسون من النافذة، فرأى في الشارع طوائف من الناس يلغطون، فظن أنهم يتحدثون في شأن عثمان خجا، ولكنه سمع أحدهم يقول: «إنه جاء من الإسكندرية، ويقال: إن السيد محمد كريم هو الذي أرسله» فظهر عليه الاضطراب، وبرقت عيناه واصفر وجهه، وقال لمحمود: يظهر أن الواقعة وقعت، وأن شيئا جللا حدث بالإسكندرية، هلم يا محمود لنعرف جلية الخبر، في وديعة الله يا لورا، وسأعود بعد ساعة.
ارتبكت لورا وظهر عليها الخوف، وألحت على أبيها أن يكشف لها عن حقيقة الأمر، ولكنه أسكتها بقبلتين، وأثار شكوكها بدمعتين سقطتا على خديها، وانصرف مع محمود مسرعين.
أخذ محمود يسأل المجتمعين عن سبب ضجيجهم، فقال له أحدهم: إن صديقا أكد له أن الإفرنج نزلوا الإسكندرية وامتلكوها، وأن رسولا أرسله السيد محمد كريم محافظ الإسكندرية إلى عثمان خجا ليخبره بالأمر، وأن الناس يذهبون أفواجا إلى الديوان.
فأسرع محمود ونيكلسون إلى الديوان - وكان الزحام حوله شديدا - فاخترقا الصفوف حتى دخلا، فرأيا عثمان خجا ومعه الأعيان والتجار - لأن العلماء أبوا أن يستجيبوا لدعوته - وقد جلسوا وهم صموت يبدو عليهم الذعر والحيرة، ورأيا رسول السيد محمد كريم واقفا أمامهم، فاتجه عثمان خجا، وقد جف ريقه وارتعدت أوصاله وقال للرسول: نبئنا بخبر هذه الداهية مفصلا.
فقال: وصلت بالأمس إلى مياه الإسكندرية عمارة فرنسية عند مطلع الفجر، فلما ارتفع النهار رآها أهل الثغر وقد غطت سفنها مياه البحر، ولكنها لم تقف بالميناء بل اتجهت إلى ناحية العجمي، فأرسل السيد محمد كريم طوائف العربان إلى هذه الجهة، فرأوا أنها أخذت تنزل الجنود بالزوارق عند المكس بعد منتصف الليل، حتى إذا تجمع الجيش سار في ثلاث فرق نحو الإسكندرية، وحاول بعض عربان الهنادي مناوشة الجنود فلم يفلحوا إلا قليلا، وجمع السيد محمد كريم كل رجاله وجنوده فانهزموا لقلة عددهم وسلاحهم، وقدم مدافعهم وتهدم حصونهم، ودخل الإفرنج المدينة في صباح اليوم بعد أن قاومهم الأهالي فمزقوهم بقذائفهم. أما رئيسهم: فيدعى: نابليون، وهو شاب صغير السن نحيف الجسم، ولكن جميع قواده يبجلونه ويخضعون له خضوع العبيد للسيد، وهو يدعي أنه صديق الدولة العثمانية، وحبيب الإسلام والمسلمين، وأنه لم يأت إلى مصر إلا لإنقاذ أهلها من ظلم المماليك، ويبلغ جيشه نحو الثلاثين ألفا، ومعهم من آلات الحرب ما لا عهد لنا به، وقد أظهر السيد كريم الخضوع لنابليون وشرع يساعده في الظاهر في جمع الخيل والجمال، ودعوة العربان إلى مناصرته، وأرسلني إليكم سرا لتأخذوا حذركم وأسلحتكم وتحصنوا المدينة، وتجمعوا الجنود والأهلين للقاء هذا الطاغية، فقد يسقط جيشه على رشيد في أي يوم، فقال عثمان خجا: لا بد من المقاومة والاستماتة في الدفاع، وربما استطعنا أن نلقن هؤلاء الإفرنج درسا لا ينسى.
فقال السيد محمد البواب، وكان شيخا في الخمسين فارع الطول متين بناء الجسم، جريئا شجاعا: إن حصون المدينة ضعيفة وأسوارها مهدمة، ومحال أن يستطاع تقويتها في زمن قصير.
فقال خجا غاضبا: هذا دأبكم دائما يا أبناء العرب، لا تثبتون على الشدائد. - نحن أثبت على الشدائد من الجبال، ولكنا نحمل الآن أوزار ظلمكم وعبثكم بشئون البلد، أتظن يا أغا أن في المدينة رجلا واحدا يرضى أن يشد أزرك في قتال؟ لقد زهدتهم في الحياة، وأخمدت في نفوسهم البطولة وحب الوطن، حتى أصبحوا يؤثرون في قرارة نفوسهم أن يحكمهم مجوسي أو وثني، لقد زرعتم الحنظل واليوم تجنون ثماره، وقتلتم كل نازعة للرجولة في كل نفس، ثم جئتم تستنهضون الهمم بعد أن ماتت الهمم، إنما يدافع عن وطنه من يشعر أنه ملهى صباه ومصدر مجده، ومقر سعادته وموئل حريته، وأن ما فيه من أرض وماء وهواء ملك له ولسلالته من بعده، أما من يعذب في وطنه ويحرم خيراته، ويساق إلى العمل كما تساق البهائم لينعم غيره وهو جائع، فلن يعرف معنى للوطن، أو معنى للدفاع عن الوطن.
فبهت عثمان أغا والتفت إلى التجار، وقال: أهذا رأيكم في رجال مدينتكم؟ فانبرى إليه الحاج أحمد شهاب وقال: إن هذا ليس عارا على أهل المدينة، إنما العار على من يطلب من المذبوح أن يدفع عن نفسه، وهنا قام السيد محمد البواب وقام الأعيان منصرفين خلفه، وتركوا عثمان خجا يتحرق غيظا، ولو استطاع أن يقبض عليهم ويذيقهم صنوف النكال لفعل، ولكن اضطراب المدينة واقتراب الأعداء لم يدعا له سبيلا لشفاء نفسه، ومال نيكلسون في الطريق على أذن محمود يقول في صوت خافت: سأرحل الليلة فقد أعددت كل شيء، ثم أسرعا إلى الدار وأحضرا من يحمل المتاع إلى السفينة، وغير نيكلسون ملابسه وتزيا بزي المغاربة، وحمل في منطقته مسدسين وأكياسا بها من الذهب ما يزيد على ألف محبوب، ولبست لورا حبرتها والدموع تتساقط من عينيها، وسارت معهما إلى السفينة، وهناك ودع نيكلسون صديقه وداع الأب الشفيق للولد البار، وهمس في أذنه: إذا قدمت القاهرة فسل عن الحاج محمد السوسي بسوق المغاربة. وتقدمت لورا نحو محمود باكية الطرف دامية القلب وهي تقول: إلى اللقاء القريب يا محمود! ثم أقلعت السفينة وهبت الريح شمالية فدفعتها إلى الجنوب، ووقف محمود حزينا يقلب كفيه أسفا، وقد أحس أنه كان له جناحان فرماه الدهر فيهما، ثم نظر فرأى السفينة وقد التقمها اليم وطواها الظلام.
الفصل الرابع
في يوم الثلاثاء الثالث من شهر يولية سنة 1798م كانت رشيد كالبحر المائج المضطرب، عصفت رياحه وتواثبت أمواجه، فكنت تسمع جلبة في كل مكان، وترى أفواجا من الأهلين تساق بالسياط، وجنودا من الفرسان تعدو بخيولها هنا وهناك، والبنادق في أيديهم يهددون بها كل من لاذ بداره أو حاول الفرار، فقد أصدر عثمان خجا أوامر قاسية، بأن يقوم كل رشيدي بالمعاونة في تجديد الأسوار وتقوية الأبواب والحصون، وأن يعد كل رشيدي سلاحا كيفما كان نوعه لقتال الغزاة الغاصبين، ولم تستثن أوامره طفلا ولا شيخا هما ولا مريضا زمنا، وكان سليم بك رئيس العسكر، وعلي جاويش مساعده، يمران على الجند لحثهم على بذل أقصى الجهد في حشد الناس، واتخاذ كل وسائل الشدة والعسف في سوقهم إلى العمل، فوثبوا على المنازل واستباحوا حرمتها، وقبضوا على النساء لدفع أزواجهن أو آبائهن إلى الظهور، وقتلوا كثيرا ونهبوا من مدخرات البيوت كثيرا، كانت رشيد في هذا اليوم وما تلاه من أيام جحيما أججها الظلم وأشعلها الغباء، فكنت لا تسمع فيها إلا رنات السياط على الظهور، وقصف المدافع والبنادق ممتزجا بصراخ الأطفال وولولة النساء.
وفي صبيحة يوم الجمعة السادس من شهر يولية، رأى الناس من المآذن - وكانوا يصعدون إليها في كل يوم - جيشا يبلغ عدده نحو ألفي مقاتل يزحف على رشيد بعد أن غادر أدكو، وهنا أعد عثمان خجا جنوده، وكانوا لا يزيدون على مائة من الإنكشارية وبعض الباشبوزق، وانضم إلى هؤلاء بعض الأهلين كارهين، وقد سلحوا بالعصي والسكاكين، وهجم الجنرال «دوجا» بجيوشه وآلاته الحديثة على رشيد عند الظهيرة، وما كان أشد دهشته حين رأى جيش المماليك يفر من غير أن يجرد سلاحا، وحين رأى الأهلين يرحبون بقدومه ويحيونه تحية الفارس المنقذ الذي أرسله الله لخلاصهم من ظلم المماليك، أما عثمان خجا وسليم بك: فقد كانا في الفرار أسرع من جنودهما، فركبا النيل إلى دمياط.
دخل «دوجا» رشيد دخول الفاتحين، وبقي بها يومين أو ثلاثة حتى قدم الجنرال «جاك فرنسوا مينو» الذي عينه نابليون حاكما لرشيد، فهرع الأعيان وعظماء المدينة إلى استقباله، وأظهروا البشر والسرور، وتلقوه بالزمر والطبول، وأطلت النساء من النوافذ ومن فوق سطوح الدور، يحيينه بالأغاريد، وسلم إليه علي جاويش مفاتيح المدينة في حفل حافل، وقف فيه مينو فألقى خطبة مسهبة لخصها ترجمانه «إلياس فخر» فقال: إن جناب الجنرال لن يتدخل في الحكم الداخلي للمدينة، ويطلب من الأعيان وكبار البلد أن يؤلفوا منهم ديوانا للنظر في شئون الناس، ثم إنه يؤكد أن كل ما يشترى للجيش يصرف ثمنه للتجار ذهبا، ويعلن ميله وميل دولته الشديد للإسلام، وأنه سيكون أول من يذهب إلى المساجد للصلاة، وأن حكم الجمهورية الفرنسية مؤسس على الإخاء والمساواة، وأنه جاء لينشر العدل ويبدد ظلام الجهل والظلم.
كان مينو في نحو الثامنة والأربعين من عمره، ربعة في الرجال غليظ الوجه ثقيل الملامح، أشقر الشعر دب الشيب إلى فوديه قليلا، وكان سريع التأثر، يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، سريع الغضب والرضا ومعتدا بنفسه كثير الزهو بذكائه، يعتقد أن حكمة الدنيا وفلسفتها أنزلت عليه وحيا، وأن محجبات الغيب دانت لعبقريته طوعا، وقد أدى به ذلك الاعتقاد إلى الصلف واحتقار آراء غيره، ودعاه إلى العجلة وسرعة البت في الأمور الخطيرة بلا أناة أو تفكير أو مشاورة، فجر عليه ذلك بغض زملائه ومرءوسيه، وسخطهم عليه والسخرية منه، وكان من أسرة نبيلة بفرنسا، وربما زاد هذا النسب في كبريائه على أنداده من رجال الحملة، وربما أبطره عطف نابليون عليه عطفا حار في تعليله المؤرخون.
اجتمع العلماء والتجار وأعيان المدينة بمنزل السيد محمد البواب، لينظروا في هذا الحادث الجلل، بعد أن صرح مينو بسياسته ، فقال الحاج أحمد شهاب: يظهر أن الله أراد الخير لهذا البلد المسكين، فأرسل هؤلاء الفرنسيين لإنقاذه،
فقال الشيخ الخضري: أفتى بعض العلماء تيمور لنك بأن الحاكم الكافر إذا كان عادلا، خير من الحاكم المسلم إذا كان ظالما، وهنا زفر الشيخ صديق: صدق الله العظيم:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
فاتجه إليه الشيخ الخضري وقال: يا مولانا لقد سمعناه اليوم يقول: إنه سيترك الحكم لأهل البلد، وإنه يحب الإسلام، وإنه سيؤدي الصلوات، فتنحنح الحاج عبد الله البربير وقال:
قد بلينا بأمير
ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فينا
يذكر الله ويذبح
وهل يصلي بهذا السروال المقمط، وهذه القبعة التي تشبه زنبيل الأرز!!
فوقف محمود العسال وقال: إني لشديد العجب من أن أرى قوما يرحبون بغاز لبلادهم، مغير على وطنهم كيفما كان جنسه أو دينه أو خلقه، إن الرجل منكم إذا غالطه جاره في حد من حدود أرضه، أو فتح نافذة على أرض خربة يملكها، أقام الدنيا وأقعدها، وراح يثير عليه الحكام ويصب عليه صنوف الانتقام، ولكني أراكم وقد ضاع الوطن العزيز واستبيح حماه، وديس عرينه وتمكن من رقبته عدو جبار، تسرون وتفرحون ويهنئ بعضكم بعضا بهذا الفتح المبين والنصر المؤزر، إننا نبغض المماليك ونضج من ظلمهم وطغيانهم، فهل معنى هذا أن نترك الدفاع عن البلد لنستريح منهم بدخول عدو جديد؟ عار أيها الناس وأي عار أن يقال: إن رشيد لم تدفع عن حوزتها دفاع الأسود، وإنها قابلت فاتحيها بالطبل والزمور! عار وأي عار أن يقال: إن شرذمة قليلة من الفرنسيين لا تزيد على الألفين، فتحت مدينة حصينة آهلة بسكانها، وإن هذه المدينة التي سيسخر منها التاريخ قابلت أعداءها بنثر الأزهار والرياحين، كما يقابل الغزاة الفاتحون، نحن نبغض المماليك حقا، فهل كانت تقصر همتنا - ونحن نستطيع أن نجمع عشرين ألفا من أشداء الرجال - عن القضاء على المماليك والفرنسيين معا، وأن نقتنص هذه الفرصة الطائرة لنغسل عار رشيد بدمائهم جميعا؟ كان علينا ألا نقبع في دورنا حتى يصلوا إلينا، فقد قال ابن أبي طالب: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، بل كان يجب أن نقابلهم في الرمال المحرقة فنبيد جموعهم في الصحراء بين رشيد والإسكندرية، ولكن لن يصلح قوم لا قائد لهم! والأمم إباء وكبرياء، فإذا مات الإباء وذلت الكبرياء بادت الأمم، قال هذا وخرج مسرعا وقد عصف به الحزن والغضب، وترك القوم واجمين ذاهلين، وإذا صوت الشيخ علي سريط يملأ جوانب الفضاء وهو يصيح: إذا ذهب الذئب وجاء الأسد، فيا ضيعة المال والولد!!
وبعد أيام أنشأ مينو ديوانا للأحكام عين به بعض العلماء والأعيان، والفرنسيين والمترجمين، وأظهر في أول عهده العدل والتسامح، وبالغ في الاختلاط بالأهلين، فكان بيته في كل ليلة مثابة للعظماء والعلماء، وكان يتحدث في هذه السهرات في عظمة فرنسا وقوتها، وأنها اجتاحت الممالك وقهرت الأمم، وكثيرا ما كان يمازح الشيخ البربير ويبادله النكات، وكان من بين المتزاحمين على مودته والتقرب إليه السيد علي الحمامي أخو زبيدة من أمها، فإنه بعد أن عين عضوا في الديوان أخذ يملأ الدنيا ثناء على الفرنسيين، ويضع «الجوكار» وهو شعار الجمهورية على صدره فخورا تياها، حتى سماه بعض خبثاء المدينة «الأوفيسيال علي»، أما محمود العسال: فكان يرأس جماعة الساخطين من شبان المدينة، وكان يجهر برأيه في حكم الفرنسيين غير هياب حتى لقد شكاه الضابط «لوي أوجست» نائب الحاكم العام إلى مينو مرات، فكان يشفع له علي الحمامي، والسيد محمد البواب.
وكانت زبيدة في هذا الحين مريضة طريح فراشها، فإنها منذ رفضت مكرهة خطبة محمود ضاقت نفسها عن احتمال ما هي فيه من حب ورياء، وأمل كاذب، فتوالت عليها الأوهام وتزاحمت الآلام، ومضت الأيام والأسابيع، وهي لا تزيد إلا سقما، ولا تجد إلى الشفاء من سبيل، وكانت تنتعش قليلا لزيارة محمود ويعود إلى وجهها شيء من نضارة الحياة، حتى إن أمها كانت ترجوه أن يزورها في كل يوم ، وما كان في حاجة إلى رجاء، ولم تبق أمها دواء ولا بخورا ولا حجابا ولا تميمة، إلا بذلت فيه المال الكثير طامعة راضية، ولكن المرض كان يطغى بزبيدة ويعصف بشبابها، زارها يوما محمود وقد كاد يبلغ بها الوصب غايته، فأطفأ بريق العيون ومحا نضارة الخدود، ولم يبق منها إلا هيكلا من جمال قديم، فنظرت إليه في شغف ويأس، وقالت: مسكين يا محمود! إن الزهرة التي سقيتها بدمعك، وأدفأتها بزفراتك، وغرستها في سويداء قلبك، وكنت تغار من النسيم أن يمسها، ومن الطل أن يلثمها، ومن الشمس الضاحكة أن تداعب أوراقها، وكنت تباهي بها الأزهار وتتحدى البساتين قد هبت عليها عاصفة هوجاء فتركتها هشيما، واصطلحت عليها الأنواء فغادرتها حطاما، انظر إلي يا محمود فهل تراني كما كنت أكون، أو كما كنت تحب أن أكون! الشباب والصحة جمال الجمال، والشباب والصحة جمال الروح، والشباب والصحة جمال الحياة، إني أحس وأنا راقدة في فراشي أن هذا السرير يعدو بي إلى الموت عدوا، وأود أن أملأ عيني من كل شيء في الحياة، قبل أن أفارق الحياة!!
كان محمود حزينا مطرقا، يغالب دموع عينيه ويكبت زفرات صدره، فالتفت إليها وقد تكلف الابتسام قائلا: أنت تفارقين الحياة؟ هذا مستحيل! إن الله أرحم بعباده من أن يفجعهم بهذه الفجيعة، إن روحك يا زبيدة متصل بكل روح، وقلبك يرسل الحياة والأمل إلى كل قلب، فهل تظنين أن الله سيطفئ روحا بها حياة الأرواح وأمل القلوب؟ إن زهرتي إن ذبلت اليوم فإن في جمالها الكامن ما يتحدى العواصف والأنواء، وسنراها غدا، وهي تتخايل فوق غصنها ناضرة فتانة، إن الشمس يا زبيدة لا تموت، ولكنها إذا جاء الأصيل درجت إلى سريرها فنامت الليل كما تنامين فوق هذا السرير، ثم بزغت في الصباح متلألئة باسمة.
وهنا ألقت بيدها النحيلة بين يديه، وقالت: هذا كلام لطيف يا محمود ولكني أشعر بما لا تشعر به، وكثيرا ما سررت وأنا في غمرة أحزاني من أني لم أسرع إلى إجابة خطبتك، حتى لكأني كنت أقرأ ما دونه القدر، فما كان أعظم الكارثة علينا لو دهمني الموت بعد زواجنا، فشرقنا بكأس النعيم، وذهبت الحياة ونحن في أول نشوة من خمر الحياة!
وماذا يكون من أمرك حين تدفن العروس بثوب جلائها، ويسلبك القدر ريحانة لم تنعم طويلا بشذاها؟ وحين يكاد يختلط بسمعك لقرب ما بينهما عزف الراقصات بلطم النادبات، وضحكات المغنيات بولولة الناعيات؟!
فقاطعها قائلا: رفقا بي يا زبيدة ولا تسترسلي في هذه الناحية المظلمة القاتمة، ارحميني يا حبيبتي، ودعي ذكر الموت والنادبات، أتذكرين حين خرجنا يوم شم النسيم الماضي وقضينا يوما سعيدا ضاحكا مع أمك وأخيك علي ولورا، إني لن أنسى هذا اليوم، وأشعر واثقا أننا سنعيد ذكراه معا وأنت في أنضر ما تكونين صحة ومرحا وشبابا، فانتعشت زبيدة وقالت: ما كان أجمله يا محمود! خرجنا في ذلك اليوم في غبش الفجر، وقد كنا أعددنا كل شيء، وكان أبي نائما، فكانت أمي تمشي على أطراف أصابعها خشية إيقاظه كما تمشي الناقة العرجاء، ثم طافت بوجهها ابتسامة خفيفة واستمرت تقول: وقد أدرك أمي سعال فكانت تكتمه بيديها، وأخي يلطم خده ويقول: ضعنا والله، لو استيقظ ما سمح بخروج النساء. - وقد مشينا في هذا اليوم على شاطئ النيل والنسيم يهب خفيفا بليلا كأنه هبات الأمل في نفوس البائسين، حتى إذا اجتزنا دوائر الأرز ذهبنا جنوبا بين تلك الحدائق الزهر الباسمة، وأشجار الفاكهة التي أحست بالربيع فتفتحت أنوارها لتقبيله، وامتدت غصونها لعناقه. - وقد نظرت حينئذ فلم أجد أحدا، فخلعت ملاءتي أنا ولورا وذهبنا نمرح بين الأغصان كأننا طفلتان صانتهما الطفولة من خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أتذكر حين تسلقت لورا شجرة الجميز ثم قبضت بيديها على أحد فروعها، وأخذت تتأرجح به ضاحكة لاهية، وأمي تحت الشجرة تصرخ وتستحلفها أن تكف، وتضرب بيدها على صدرها خوفا وذعرا؟
لقد كان ذلك منظرا بديعا حقا، حتى إذا جاوزنا الحدائق ظهر لنا (كوم الأفراح). - ما أجمل هذا التل العالي يا زبيدة، وما أنقى رماله، وما أروع أن تشاهدي من فوقه النيل وهو يلتف حول الرمال كما يلتف السوار؟! - لقد غاصت رجلي في الرمل يومئذ فحاولت إخراجها فتهورت من أعلى التل إلى سفحه، وكنت أصرخ وأضحك في آن، وأعجبت لورا هذه اللعبة فتدحرجت خلفي، ثم وصلنا إلى مسجد «أبي منظور» ونحن أشد ما نكون جوعا فكنا نتخاطف الطعام في عبث ولهو ومجون. - ثم صعدنا في المئذنة فرأينا مدينة رشيد تحتنا بمآذنها وقبابها ومنازلها السعيدة الهانئة، والنخيل تحيط بها كأنها حراس من جنود الله، يدفعون عنها كل سوء. - أذكر كل هذا يا محمود كأنه مثال أمامي، ما أجمل الحياة وما أجمل أن يشعر المرء بجمالها! ثم انتقلنا إلى قارب يمخر بنا في النيل جيئة وذهابا كأنه الحوت الضخم ضل مكان أليفته، فجال يبحث عنها هائما مضطربا، وكان المراكبي شيخا هرما فلم يمنعه هرمه من أن يرسل إلي وإلى لورا عينين جائعتين كادتا تلتهماننا التهاما، إن شباب القلوب وضعف الأجسام كارثة الشيوخ يا محمود، وجلست لورا في القارب وأخذت تصف لنا جمال بلادها وأخلاق أهليها، واطمئنان نفوس الناس لحكامها، وأن النساء هناك سافرات يخالطن الرجال ويقضين شئونهن بأنفسهن، إنه كان يوما سعيدا يا محمود، لم نرجع منه إلا بعد أن غابت الشمس، وكان أبي حازما فلم يسأل سؤالا واحدا؛ لأنه رأى من صون كرامته أن يغضي إغضاء المتجاهل، إن ذكرى ذلك اليوم جددت الحياة في نفسي وجعلتني أحس أن كتاب حياتي لم ينفد بعد، وأنه لا يزال به صحف كثيرة من بيض وسود، أين لورا؟ إنها لم تعدني؟ - لقد سافرت مع أبيها منذ دخول الفرنسيين، ولا أعلم أين استقرت بهما النوى. - إنها أجمل فتاة رأيتها خلقا وخلقا، ولو أنها كانت مسلمة لكانت خير زوجة، إنها الحنان والعقل لفا في أبدع صورة من صور الجمال، فهل نراها مرة أخرى؟! - إن سفن الحياة تفترق وتلتقي في بحر العمر المائج، والحب كفيل بألا يطيل الفرقة بين الشتيتين.
وهنا دخلت أمها فرأتها باشة مستبشرة، فانصبت على خدي محمود تقبلهما كالمجنونة وهي تقول: أنت شفاء ابنتي يا محمود، وكأن فيك سحرا يبعث في جسمها العافية.
فالتفت إليها محمود قائلا: تعالي يا خالتي نتحدث في الأمر حديث جد وصراحة، هذه الأحجبة وهذا البخور لا تفيد شيئا، إن زبيدة لا تشكو إلا من وعكة تزول إن شاء الله، إذا اتخذت الوسائل الصحيحة لعلاجها، أتمانعين في أن يراها الطبيب «شوفور» الفرنسي؟ - أيجوز يا بني أن يرى الطبيب الإفرنجي بنتي، وأن يكشف عن جسمها كما يفعل بالرجال؟ - كان يقول لنا شيخنا الخضري: «إن الضرورات تبيح المحظورات» وسلامة زبيدة من أشد ضرورات الدنيا، أنا ذاهب لأدعوه، ثم انطلق كما ينطلق السهم وعاد بعد ساعة ومعه الطبيب «شوفور» وهو رجل قضى برشيد أكثر من عشر سنوات، وعرف أهلها واختلط بأسرها، فلما فحص زبيدة اتجه إلى محمود وقال: إن حال زبيدة لا تقضي الانزعاج بتاتا، إن كل أجهزتها سليمة طبيعية، ويغلب على ظني أنها مصابة بمرض الأعصاب، وهي تحتاج إلى الهدوء وإلى كل ما يبعث السرور في النفس: وسأرسل لها دواء أرجو أن يكون شافيا، ثم ضحك وقال: لا تخافوا شيئا إنها بخير، وبعد أن أطرق إطراق المفكر قال: أظن أن تغيير الجو الذي هي فيه، والسفر إلى مدينة أخرى سيكون لها أشفى من ألف دواء، فقالت أمها: إن خالتها زوج السيد أحمد المحروقي بالقاهرة قد أرسلت منذ يومين رسالة تتشوق فيها إليها وتلح في طلبها. - هذا خير ما يكون، وبالقاهرة من أشهر أطباء الحملة الطبيب «ديجنت» فلو توصلتم إلى أن يراها لشفاها في أقرب وقت.
ثم انصرف الطبيب بعد أن ترك وراءه في الدار روحا من الأمل والابتهاج، ورأت نفيسة ووافقها محمود وجوب سفر زبيدة إلى القاهرة، وأقنعت الأم السيد محمدا البواب بذلك فاقتنع، وكانت سفينة عظيمة محملة بالأرز على وشك السفر، فأعدت بها غرفتان، وسافرت بها زبيدة وأخوها علي الحمامي، وبعد سفرها أحس محمود بالوحشة والقلق، وضايقه جواسيس الفرنسيين، فوطد العزم على الرحيل إلى القاهرة، فسافر إليها بعد عشرة أيام.
الفصل الخامس
حينما جاوزت السفينة بنيكلسون وابنته لورا معالم رشيد، أحست لورا بكثير من الحزن على فراق وطنها الثاني، وموطن حبيبها الأول، وذكرت أيام سرورها ومجالس البهجة والأنس بين صديقاتها، وتفتت قلبها حسرة على فراق محمود؛ لأنها رأت في لحظة أن صروح آمالها قد تهدمت مرتين: مرة بانصراف هواه إلى زبيدة، ومرة بتلك الضربة القاسية التي قضت بتفريقهما وحرمانها أن تتمتع بمشاهدة وجهه الوضاح، وسماع حديثه الساحر. وجلس نيكلسون مهموما مفكرا كثير القلق، وأخذ يستحث النوتي على الإسراع ونشر جميع القلوع، ويمنيه الأماني إذا سابق الرياح ولم يعوق؛ لأنه كان يريد أن يصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة إليها. وصلت السفينة إلى شاطئ بولاق بعد سبعة أيام، فنزل نيكلسون ولورا واستأجرا حميرا لحملهما وحمل أمتعتهما إلى خان بالقرب من مشهد سيدنا الحسين، حتى إذا استقرا فيه يومين، كان نيكلسون قد اهتدى إلى دكان صغير بسوق المغاربة وضع فيه قليلا من البضائع، واستأجر دارا صغيرة بالكحكيين فانتقلا إليهما. وكانت تخدمهما صاحبة الدار، وهي أرملة عجوز ورهاء غاب وحيدها منذ سنوات ولم تقف له على أثر، فأصابها مس من الجنون خيل إليها أن السيدة عديلة بنت إبراهيم بك هامت بحبه، فاختطفته واحتجزته بقصرها. وحينما وضع نيكلسون قدمه بالقاهرة رآها في هرج واضطراب وذعر، فقد وصل إليها الرسل الذين بعث بهم السيد محمد كريم إلى مراد بك، وعقد اجتماع بقصر إبراهيم بك حضره مراد بك وأبو بكر باشا والي العثمانيين، وقواد المماليك، وكبار العلماء وهم المشايخ: الشيخ عبد الله الشرقاوي، وسليمان الفيومي، ومصطفى الصاوي، ومحمد المهدي، وخليل البكري، والسيد عمر مكرم وغيرهم، وفي هذا المجلس أظهر المماليك الغرور والاعتداد بالقوة، فقرروا سجن قنصل فرنسا وجميع التجار الفرنسيين بقلعة الجبل، وأن يستعد مراد بك للسفر لمقاومة الفرنسيين ودحرهم قبل أن يصلوا إلى القاهرة، وفي اليوم التاسع من شهر يولية زحف مراد بك من الجيزة، وكان بالجيش كثير من المدافع والبرود، وقد بلغ عدد جنوده من فرسان المماليك ومشاة الإنكشارية ما يزيد على ثمانية آلاف، وصحبه في النيل نحو خمس وعشرين سفينة مسلحة، يقودها علي باشا الطرابلسي، ونحو خمس وثلاثين من السفن التي تحمل الجنود والذخائر والمئونة، وبقي إبراهيم بك الكبير معسكرا في بولاق في ألفين أو أكثر من المماليك، ينضم إليهم بعض الجنود المرتزقة والعربان والأهلين المتحمسين، ووصلت الأخبار بعد أيام بهزيمة مراد بك في موقعة شبراخيت، واحتراق ذخائره بقذيفة ألقتها العمارة الفرنسية على إحدى سفنه، وعلم أهل القاهرة أن طلائع التمرد بدت في جنود نابليون، لطول الشقة وقلة الغذاء، وشدة الحر وقحول الأرض، حتى وصلوا بعد جهد إلى قرية أم دينار في اليوم التاسع عشر من يولية، ورأوا الأهرام شامخة متحدية، وفي اليوم التالي رأوا جيش المماليك على ضفة النيل اليسرى، وقد امتدت صفوفهم بين إمبابة وسفح الأهرام، وكانوا في نحو أربعين ألفا، وكان الفرنسيون في نحو ثلاثين ألفا، وهنا وقف نابليون يستحث جنوده، ويشير إلى قمم الأهرام وهو يقول قولته المشهورة: «إن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليكم».
ولكن الأهرام التي سمعته أرسلت إليه نظرة ساخرة من مؤخر عينيها، ثم ابتسمت في ازدراء وأنفة لهذا المخلوق الذي توهم إنه يستطيع أن يخرق الأرض، وأن يبلغ الجبال طولا. ولو أن إنسانا استطاع أن يسمع الحديث الصامت لسمعها تقول لنابليون: ومن تكون أيها المعتز بقوتك؟ وما هذه الشراذم التي ضللت بها في سبيل غنم كاذب ومجد موهوم؟ وما هذا الذي مسك فقذفت بخيرة رجالك في شرك لا خلاص لهم منه؟ نعم إن أربعين قرنا مني تنظر إليكم، ولكنها تنظر دهشة مبهوتة؛ لأنها ترى أن حب العظمة والسلطان لا يزال ينقلب في الناس هوسا وجنونا، إنك لو نظرت في سفحي وكان في استطاعتك أن تميز الأجناس البشرية من جماجمها، لرأيت جماجم الفرس مبعثرة يعفرها التراب بين جماجم الهكسوس واليونان، والرومان والعرب، والفاطميين والأيوبيين.
ذهبوا جميعا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ من أنت إلى جانب هؤلاء؟! وماذا يكون جيشك بين هذه الجيوش! تريد أن تكون خليفة الإسكندر الذي بكى كما يبكي الطفل المدلل؛ لأنه يريد أن يلعب بكرة الأرض فلعبت به، وكان كل نصيبه منها في النهاية حفرة لا تزيد على أربع أذرع في ذراعين! إن مصر يا هذا بلاد الفراعنة والسحر، وموطن الرسل والأنبياء، يرد الله عنها كل سهم، ويقصم كل من أرادها بسوء، وهي مقبرة الجبارين وقاصمة العتاة الطاغين.
خرج نيكلسون صباح اليوم الحادي والعشرين إلى معسكر إبراهيم بك ببولاق مع طائفة من المغاربة، فرأى الطرق وقد ازدحمت بالذاهبين إليها؛ لأن جميع المتاجر والحوانيت بالقاهرة أغلقت في هذا اليوم، ولم يبق منها إلا النساء والأطفال والشيوخ، وبدأت المعركة بين الفرنسيين وجيش مراد بك عند الظهيرة، وفتك الفرنسيون بالمماليك، وتم لهم الغلب عند الغروب، وفر مراد بك إلى الجنوب، وتقدم نابليون ببعض قواده حتى وصل إلى قصر مراد بك بالجيزة، وكان قصرا فخما رفيع البنيان، ثمين الأثاث والرياش به كثير من مخازن الزاد والذخيرة، ولما وقعت الواقعة رجع نيكلسون مع الراجعين والهموم والأحزان تخيم على الجموع، والذعر يعصف بالقوم عصفا، فلا تسمع إلا نادبا أو محوقلا، أو ساخطا على المماليك، أو ضاربا بكف على كف، أو مستنجدا بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين.
ذهب نيكلسون إلى داره فطرق الباب، فأسرعت لورا ففتحته وهي ترتعد من الخوف، وقد طار الدم من وجهها، فلما رأت أباها رمت بنفسها بين ذراعيه، ولم تستطيع أن تحبس عاصفة من البكاء كانت قد كبحتها طول يومها فضمها أبوها إلى صدره في رفق وحنان وتركها تبكي لتروح عن نفسها وتخفف من أعباء أحزانها، ثم أخذت تضحك كالمحموم، وتملأ وجه أبيها قبلا، حتى إذا هدأت النوبة التفتت إلى أبيها كالمتفرسة وقالت: أنت بخير يا أبي؟ - بكل خير أيتها الفتاة المحبوبة المعربدة، الباكية الضاحكة. - إن أفواجا من الناس مروا منذ لحظة من الحارة وهم يلطمون وجوههم ويصيحون يا لطيف ... يا لطيف ...
ومن أحوج منهم إلى الاستغاثة بالله يا فتاتي، بعد أن قضي الأمر وامتلك الفرنسيون مصر؟! - انهزم المماليك؟! - شر هزيمة! فقد هجم مراد بك بنحو خمسة آلاف من فرسانه على فرقة «دوجا» فصدته مدافعها، ثم هجم على فرقة «ديزيه» وكان هجوما شديدا، فحصد ديزيه المماليك حصدا، فانقلبوا إلى فرقة «رينييه» فقابلتهم بنار حامية، وهنا ثبت المماليك وزلزل الفرنسيون زلزالا شديدا، وكانت المدافع تقصف كالرعد، ودخانها يسد الأفق، ولكن الفرنسيين صبروا وصابروا حتى حصروا المماليك بين فرقتي «ديزيه» و«رينييه» فأخذهم الموت من كل جانب، وقذف كثير منهم بأنفسهم في النيل واستطاعت شرذمة قليلة أن تفر مع مراد بك إلى الجنوب، بعد أن أحرقوا سفنهم، فسقط في يد الجيش كله، واستولى الفرنسيون على مدافعه وأسلحته ومئونته، وكانت النكبة ماحقة، أما إبراهيم بك ومماليكه بالشاطئ الشرقي: فقد فروا بأموالهم وذخائرهم إلى بلبيس ثم إلى الشام، عندما تبينت لهم الهزيمة، ولا أدري لم فرق المماليك جيوشهم على الشاطئين؟ ولم تهاونوا فلم يدهموا نابليون في طريقه بين الإسكندرية ودمنهور، حينما كان الجوع والظمأ والقيظ قد فك عزائم الجنود وأوهن قواهم؟! - يا للخيبة؟ لقد كان مراد يظن أن ضربة من سوطه تكفي لسوقهم إلى بلادهم! - إن المماليك متنافروا القلوب مفككو العزائم، وقد استناموا إلى الراحة منذ عهد بعيد وأهملوا الاستعداد لكل مفاجأة، ثم إنهم اعتادوا الحرب على نمط قديم، فلم يستطيعوا الوقوف أمام فنون أوربا وآلاتها الحديثة. - وأين نابليون الآن؟ - نائم يا حبيبتي ملء جفنيه، على سرير مراد بك بعد أن ملأ بطنه من شهي طعامه وشرابه، وسيدخل القاهرة غدا فاتحا منصورا. - مساكين هؤلاء المصريين! لقد أصبحوا نهبة لكل ناهب، ولم جاء نابليون إلى مصر يا أبي؟ - جاء ليسد على إنجلترا طريق الهند أو ليفتح الهند كما يزعم، ثم ابتسم ابتسامة حزينة وقال: عجيب شأن هذا الرجل المغامر! كيف يترك أوربا الآن ومراجلها تغلي بالثورات والفتن والحروب، ليطوح بجيشه في بلاد بعيدة، بينها وبين فرنسا بحر يتحكم فيه الإنجليز بأساطيلهم؟ والأدهى والأمر أنه ضمن الخلود في مصر قبل الوصول إليها، فأحضر معه طوائف من العلماء والفنانين في أكثر شعب العلوم والفنون. - وهل تغضي عنه إنجلترا، يا أبي، وتترك له الحبل على الغارب، يتحكم في بلاد الله كما أراد؟ - سنرى أيتها السياسية الخطيرة، ثم قرص خدها في حنان وقال: ولو كنت في كرسي «وليم بت» فماذا كنت تصنعين؟ - لا تسخر مني يا أبت، فلو كنت في كرسي وليم بت لدرست الموضوع من جميع أطرافه، وقررت ما يهديني إليه رأيي، بعد استشارة رجال الجيش والأسطول. - وإذا هداك رأيك بعد كل ذلك إلى ترك نابليون، أتتركينه؟ - أتركه ولا أدع عيني تفارقه حتى يحين حينه، وحتى يفتل لنفسه حبلا ليشنق به رقبته. - حقا إنك إنجليزية إلى أطراف بنانك! إن إنجلترا لن تغضي طويلا على رجل يريد أن يعبث بسيطرتها على البحار. - والمصريون! أينامون على الضيم؟ - إن المصريين سيكونون أشد ويلا على الفاتح من الإنجليز؛ لأن دخول الفرنسيين في نظرهم ليس مشكلا وطنيا فحسب، وإنما هو مشكل ديني قبل كل شيء، وقد ظن نابليون أنه يستطيع أن يضحك من ذقونهم بالمنشورات التي يعلن فيها أنه يحب الإسلام ويبغض المسيحية، ويدين بالاحترام والطاعة للدولة العثمانية، رأيت اليوم طالبا من الأزهر يقرأ منشورا من هذه بين جمع حافل من إخوانه، فلما انتهى من قراءته قال ساخرا: ما شاء الله! إن الشيخ الشرقاوي سيجد له منافسا في مشيخة الأزهر. وقال ثان: ما أحقرها حيلة! إنه يبيع دينه ليلتهم مصر، ثم يظن أننا نصدقه. وقال ثالث: هنيئا للمسيحية حين نقصت واحدا، ويا ويلتا للإسلام بزيادة هذا الواحد!
هذه يا حبيبتي نفسية هذه الأمة الهادئة الوادعة، إن فيها ذكاء مكبوتا، وفيها بطولة مدفونة، وهي كالنار تحت الرماد تضطرم وتستشري إذا مستها جائحة في دين أو عرض أو وطن، فاصبري قليلا فتري كثيرا. - كيف حال محمود العسال يا ترى في وسط هذه العواصف؟ - إني لشديد الخوف عليه، فإنه عظيم الأنفة قوي الشكيمة، مخاطر في حب وطنه، وقد سبق هذا الشاب أوانه، فظهر فيه كثير من صفات البطولة التي تعز في سواه، وتفتح ذهنه عن لمحات بعيدة المرمى قل أن ترى في أنداده. - لا تخف عليه يا أبي، فإنه إلى ذلك حازم حذر، لا يضع قدمه إلا حيث ترى عيناه. آه، لقد كانت أيام رشيد هانئة سعيدة، ولقد لقينا فيها أهلا بأهل ، وأوطانا بأوطان. - إن نظام الكون مؤسس على الإعادة والتكرار، فالشمس تعود، والقمر يعود، وفصول السنة تعود، فهل من البعيد أن نعود كما كنا إلى رشيد؟ - وماذا ستعمل الآن يا أبي حيال هذه الكارثة المصرية الإنجليزية؟ - سأخدم وطني، وسأخدم مصر بكل ما في مكنتي من فكر وقوة وحيلة، وسأنتظر ما تجيء به الأيام.
قضى نيكلسون وابنته لورا هذه الفترة في القاهرة، في درس الحوادث وتتبع ما يجول في نفوس المصريين من اضطراب وغضب، وفي أثناء هذه المدة دخل نابليون القاهرة واستقبله علماؤها وأعيانها بما يستقبل المغلوب الضعيف غالبه القوي الظافر، ونزل بيت محمد الألفي الكبير، وكان قد تم بناؤه وتأثيثه قبل الحملة بأيام، وأظهر البشر والمجاملة والعطف على المصريين، ورأى أن يجتذب إليه العلماء وكبار البلد، فألف منهم ديوانا للأحكام، وأغدق عليهم، مدعيا أنه يدع للأمة حكم نفسها بنفسها، ثم عين من قواده حكاما لأقاليم الوجه البحري، وترك «دوجا» يتعقب مراد بك بالصعيد، وكان نيكلسون يختلف في كل يوم إلى قهوة مجاورة للأزهر، ليلتقط الأحاديث، ويتعرف نفوس الشعب، فكان لا يسمع إلا سخطا على الفرنسيين، وسخرية من وعودهم، وحنقا على العلماء وعلى كل من يمد يدا لمعونتهم، وفي ذات يوم دخل القهوة حشد من طلاب الأزهر، يتقدمهم الشيخ إسماعيل البراوي، وهو عالم أزهري ضخم الجثة، عرف بالجرأة والسلاطة وبغض الفرنسيين، فما جلس الشيخ حتى صاح: أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة، أسمعتم الأخبار اليوم؟ إنها كارثة الكوارث، وقاصمة الظهر لهؤلاء الفرنسيين! لقد سمع بعض الناس اليوم من أحمد الزرو التاجر بوكالة الصابون، أن عمارة إنجليزية حطمت أسطول الفرنسيين بأبي قير في الثامن عشر من شهر صفر وقتلت قائده وكثيرا من بحارته، حتى لم يبق منه إلا أربع سفن صغيرة، فشمل الفرح كل مكان، وهبت رياح الثورة في كل إقليم، والآن ماذا بقي لهؤلاء الفرنسيين إلا أن نصيدهم كما تصاد الفيران؟
فقال أحد الحاضرين: إنني سمعت أن رئيسهم ذهب مع جيشه لمحاربة إبراهيم بك في الصالحية.
فقال الشيخ البراوي: لا بد أن يسرع إلى القاهرة، وإذا كان بالقاهرة رجال حقا يحبون دينهم ووطنهم، فإنه لن يبقى بها يوما أو بعض يوم.
فتهللت وجوه الحاضرين: وصاحوا: نحن معك يا شيخ إسماعيل، ولا بد من استئصال شأفة هؤلاء الغزاة.
وهنا أسرع نيكلسون ليبلغ لورا الخبر السار، وبعد أيام قدم نابليون من الغزو، فبهت حين ألقي إليه خبر دمار الأسطول، ثم عاد إلى جلده واستخفافه بالشدائد، وأراد أن يهون الكارثة على الجنود، فخطب في قواده خطبة حماسية جاء فيها: «إذا قضي علينا أن ننشئ مملكة في الشرق، فلننشئها أشداء فاتحين، وإذا فصلت البحار بيننا وبين بلادنا، فإنه ليس ثمة بحار بيننا وبين إفريقية وآسية، ولا نزال في عدد وعدة، وفي استطاعتنا أن نتخذ من أبناء هذه البلاد جنودا أقوياء، وفي استطاعة «شامبي» و«كونتيه» أن يمدانا بما شئنا من ذخائر وعدة، فلنكن عظماء، ولنعمل العظائم، ولنرفع رءوسنا، ولنصعد فوق الموجة، ولنهزأ بالزعازع، فقد يكون القدر قد كتب لنا أن نغير صحيفة الشرق، وأن نضم أسماءنا إلى أسماء عظماء الرجال الذين خلد التاريخ ذكراهم»، ثم أراد أن يظهر أمام المصريين بمظهر القوي الذي لا تنال منه الخطوب، فاحتفل بفتح الخليج احتفالا باهرا، ثم بالمولد النبوي، ثم بعيد الجمهورية الفرنسية.
الفصل السادس
وصلت السفينة إلى شاطئ بولاق مقلة زبيدة وأخاها عليا الحمامي، ولم تمض ساعة حتى بلغا بيت السيد أحمد المحروقي، بالقرب من الفحامين، وكان المحروقي في ذلك الحين رئيس التجار، وكان عظيم الثروة والجاه، سخي الكف نهاضا بالأعباء، عالي الهمة، ذكي الفؤاد واسع الحيلة، ولما دخل الفرنسيون القاهرة فر مع إبراهيم بك، ولكنه عاد إليها واستطاع بدهائه وماله أن يجتذب إليه قلوب الفاتحين، وأن يستعبدهم بإحسانه وإغداقه.
مدت أمينة خالة زبيدة إليها ذراعيها في شوق وشغف، فطوقتها بهما وهي تقول: أهلا بزهرة رشيد الناضرة، التي لم تتحل بمثلها بساتين القاهرة، إن نسيم البحر الأبيض إذا تزاوج بنسيم النيل الهفاف، ولدا ذلك الجمال البارع الذي يتحدى ريشة كل رسام، فضحك السيد أحمد المحروقي وقال عابثا : إنها يا زبيدة امرأة لعوب فاحذريها، إنها تتخذ منك وسيلة لإطراء نفسها، والمباهاة بحسنها، ألم تري أنها بحركة لولبية سريعة حصرت الجمال كله في رشيد؟ فابتسمت أمينة ابتسامة خفيفة ونظرت في المرآة بحركة لا تحس، وقالت: هذا دأبك دائما، تسيء التأويل، وتوجه الكلام إلى غير وجهه، وهل لامرأة عجوز مثلي في السابعة والثلاثين - ثم لمحت المرآة ثانية - أن تتحدث عن جمالها؟ ولكني أعتقد أن رشيد وهي ميناء أقطار الشرق والغرب، توافد عليها النزلاء من كل صوب: بين تركي وجركسي وشامي ومغربي، وامتزجوا بأهلها وأصهروا فيهم، فأخرجوا نسلا قويا جميلا، إن السلالات البشرية تضعف وتتضاءل إذا لم تختلط بها العناصر والأجناس، وشتان بين الوردة يتيمة منعزلة، والوردة في طاقة تجمع فواتن الورود والأزهار! - دعينا من هذه الفلسفة أيتها العجوز الفاتنة، وحدثينا يا زبيدة عن رشيد وأحوالها، فقاطعته زوجه متعجلة واتجهت إلى زبيدة: لقد هدت رسالة أمك قواي حين قالت: إنك مريضة. ولكني لا أرى للمرض عليك أثرا، فما حقيقة الأمر؟ - لقد كنت مريضة أشد المرض، ولكن الطبيب «شوفور» وصف لي علاجا وأشار علي بالرحلة إلى القاهرة، فما كدت أقضي بالسفينة أياما حتى أحسست دبيب العافية. - حماك الله من كل مكروه يا حبيبتي، وكيف حال أمك وأبيك؟ - أما أمي فبخير، وأما أبي فإنه كثير الوجوم والحزن منذ دخول الفرنسيين.
وهنا قال المحروقي: أظنهم لا يظفرون بحب أهل رشيد. - لا أدري، لقد كنت مريضة عند دخولهم، وأظن أنهم لا يبلغون في الظلم مبلغ المماليك، وهنا دخل ابن خالتها محمد المحروقي، وكان فتى وسيما في التاسعة عشرة من عمره، فحيا زبيدة وجلس وهو يلقي إليها نظرات طويلة، فيها ذهول وفيها إعجاب، وفيها نهم الشباب، والتفتت أمينة إلى الفتى، ثم همست في أذن زوجها فهز رأسه وقال: نعم الفكرة نرجو الله أن يهيئ لنا الخير. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلم يا بني، فقد آن أن نراجع دفاتر حساب اليوم.
وانفردت أمينة ببنت أختها كالمشغوفة الوالهة؛ لأنها أثارت في نفسها ذكريات عزيزة عندها، أثيرة لديها ، فقد شاهدت في زبيدة صورة شبابها الغض، الذي كان فتنة العيون، وشرك القلوب، وعادت بخيالها إلى الماضي منذ أكثر من عشرين عاما، فرأت نفسها في بيت أبيها بشارع البحر برشيد، وهي تنظر إلى النيل من خلال مشربية أدق الصانع صنعها، وكان النهار قد أخذ يولي؛ لأن شمس الأصيل ألقت بشعاعها على زجاج المنازل ذهبيا هادئ الوميض، ثم ترى نفسها وهي تتجه بعينيها إلى اليسار فترى أباها في طلاقته وبشاشته وجميل زيه، يحادث رجلا غريبا قد يكون تخطى الثلاثين، تظهر عليه دلائل النعمة والجاه، وهو إلى ذلك جميل القسمات حلو اللفتات، يصغي إلى الحديث ويبتسم، وربما زاد بين الكلام كلمة أو كلمتين، ليدل على العناية وحسن الإضغاء، ثم تتخيل نفسها وقد أسرعت دقات قلبها، ودبت في جسمها نشوة عجيبة لم تعرف لها كنها، ولم تدر لها تأويلا، وشعرت بحافز عنيف لا تستطيع صده، يدفعها إلى إطالة النظر إلى هذا الرجل الغريب وملء عينيها منه، فتنظر ثانية فترى أباها وقد دخل به إلى الدار، وتسمع حركة الخدم والجواري التي اعتادت أن تسمعها كلما زارهم ضيف عظيم، ثم ترى «زهرة» الجارية وهي تدخل على سيدتها لاهثة، بعد أن قطعت السلم وثبا وهي تقول: لقد بعث سيدي يخبرك بأن ضيفه الليلة السيد أحمد المحروقي أكبر تجار القاهرة وأعظمهم جاها، فيجب ألا يدخر جهد في أن يكون العشاء لائقا بمثله ومثل سيدي، ثم ترى الدار بمن فيها وقد نهضت نهضة واحدة لإعداد العشاء، وتستمر أمينة في هذه الذكريات ساهمة تقلب صفحة من كتاب خيالها وتنظر في أخرى، فتتراءى لها تلك الليلة التي باتت فيها على سريرها، وهي تفكر في الضيف، وتدهش لم تطيل فيه تفكيرها، وتحاول أن تختار من ماضيها صورة تمحو بها صورته، فإذا بها تعود إليه قوية شديدة، فتمحوا ما جهدت في تذكره من صور، ثم تنظر في صفحة ثالثة، فيتجلى لها ذلك الصباح المشرق الذي زاده انعكاس أشعته على النيل بريقا ولألاء، وقد دخلت عليها أمها باسمة مشرقة الوجه كالصباح، وهي تقول : مبارك يا أمينة ، لا تنسي أن تقرئي لنا الفاتحة في السيدة زينب، ثم تتخيل ما أصابها من الوجوم والذهول، وتذكر ما كان يهمس به قلبها وهي تبكي أمام أمها حين قالت لها: لقد عرفت كل شيء من النظرة الأولى أيتها الماكرة المتجاهلة، إنه الحب ... إنه الحب ... إن للحب إلهاما لا يكذب فلم توارين؟ ابكي كما شئت أمام أمك، فهذا دأبكن يا بنات حواء، تتخذن من البكاء لغة مبهمة لكل ما يجول في نفوسكن حتى لا تفهمن، وحتى تبقين سرا في البشرية غامضا.
تخيلت أمينة كل هذه الصور في ثوان، ثم اتجهت إلى زبيدة وقالت: علمت من أمك أن محمودا العسال يلح في زواجك وأنك تأبين، إن محمودا شاب تطمح إليه عيون الفتيات، ولكن للقلوب أسرارا لا تدرك، ولهواها سرائر لا تعلم، ولعل لك آمالا تسمو بك عن رشيد وأهلها، ولعلك تودين أن تكوني بالقاهرة كخالتك، جليسة نساء الأمراء والكبراء وأرباب الدولة، إنني أرحب بك يا زبيدة في هذه الدار سيدة مسيطرة، وأقصى أماني أن أراك زوجا لابني محمد، وهو شاب كريم الخلق، رفيع المنزلة، يمهد له أبوه السبيل من بعده، ويمد له أسباب الشهرة مدا، ألا تحبين أن أكون أما لك ثانية؟! إن شمسك في رشيد لا يتسع لها الأفق، أما هنا فستنفذ أشعتها بعيدة وضاءة، وسيتحدث كل بيت من بيوت الأمراء والأعيان، وكبار الفرنسيين أنفسهم عن زبيدة وجمال زبيدة.
أطرقت زبيدة وطال إطراقها، وجال بخاطرها سريعا أن العرض مقبول، وأن زواجها بابن المحروقي سيكون من ورائه الثروة والشهرة، والجاه العظيم ما في ذلك شك. ولكن أين هو من محمود العسال كيفما أطنبوا في وسامته وكريم خلقه؟! لا شيء. إن في محمود تلك الرجولة الخشنة التي تشتهيها كل فتاة، لتكمل بها ما في أنوثتها الناعمة من نقص، لا ... شتان ما بين الرجلين! ثم ما لها ولمحمود وغير محمود، إن للعرافة نبوءة يجب أن تتحقق، وهي واقعة لا محالة إذا أطالت لها عنان الصبر، فرفعت رأسها إلى خالتها وقالت: يجب يا خالتي أن ننسى الحديث في الزواج الآن، حتى تزول تلك الغمة التي أطبقت على مصر، وحتى نرى آخر سفينة وهي تحمل الفرنسيين إلى بلادهم، إن زواجي بابن خالتي شرف لا يناله مثلي، ولكن الزواج الآن أشبه بالضحك في المآتم، والرقص في بيت يحترق، فنظرت إليها أمينة نظرة الخبيرة الطبة بالنساء وخداعهن، ثم تنهدت وقالت: كثيرا ما يرغب الإنسان عن الثمرة الدانية ويأبى إلا أن يتسلق لغيرها! ومن يدري؟ ثم ضحكت وقالت: تعالي أيتها الفتاة المقدرة المدبرة فقد أعد الطعام.
مرت أيام فسافر علي الحمامي إلى رشيد، وبقيت زبيدة في بيت خالتها، تلاقي فيه صنوف الكرامة والعطف، وتزور بها خالتها سيدات القاهرة وكرائم أسرها، فزارت السيدة نفيسة المرادية زوج مراد بك ورأت في قصرها من الفخامة وأبهة الملك ما يقصر دونه البيان، وشاهدت في السيدة نفسها صورة بارزة للعظمة غير المتكلفة، التي لم يستطع زوال الملك أن يغض منها، وزارت بيت الشيخ خليل البكري، وهفت نفسها إلى زينب البكرية، التي كان لها من الجمال والإدلال وحسن الحديث وسحر الأنوثة، ما يفتن ويغري، فأحبتها وأكثرت من ازديارها.
وبينما هي جالسة ذات صباح مع خالتها إذا إحدى الخادمات تقول: إن سيدي محمودا العسال قد حضر وهو يصعد في السلم، فأسرعت زبيدة إلى شعرها تسويه، وإلى ثوبها تصلح من غضونه، وقد دق قلبها واحمر وجهها، ولمحتها خالتها فتنهدت، ثم دخل محمود مشرقا بساما، فحيا زبيدة وقبل يد خالته أمينة، التي أخذت تصب عليه وابلا من عبارات الترحيب ومختلف الأسئلة، فقص عليهما كل ما لديه من أخبار رشيد، وهنأ زبيدة بسلامتها، ثم اتجه إلى السيدة أمينة قائلا: لقد أدهشني اليوم أن أرى حوانيت المدينة مقفلة، وأن أرى الناس في الشوارع جماعات يتهامسون كأنما حزبهم أمر، أو حلت بهم كارثة. - لقد توالت عليهم المظالم يا محمود، وكانت قاصمة الظهر تلك الضريبة الأخيرة التي لم تترك فقيرا ولم تبق على غني، فالذي رأيته اليوم مظهر من مظاهر سخطهم، فإنهم إذا فدحهم ظلم أغلقوا متاجرهم والتجئوا إلى الأزهر يستغيثون برجاله.
فهز محمود رأسه في حزن وألم وقال: وبمن يستغيث رجال الأزهر يا ترى؟
ثم أحس أن المجلس طال به، فتحفز للانصراف، وودعته خالته وذهبت معه زبيدة خطوتين أو ثلاثا، فنظر إليها نظرة طويلة وقال: متى يا زبيدة؟ فأسرع إلى نجدتها عذرها التي خدعت به خالتها، فمست كتفه في رفق وقالت: حتى يخرج الفرنسيون يا محمود.
الفصل السابع
ذهب محمود إلى سوق المغاربة غاضبا آسفا، يفكر في هذا العذر الجديد الذي سدت به عليه زبيدة طريق الأمل، وسأل عن الحاج محمد السوسي فأرشد إلى دكانه، فرآه مغلقا، ثم سأل عن داره فوصفت له، فطرق بابها ففتحت له العجوز خائفة مرتابة، فقد تكرر في هذه الأيام تطفل الجند على المنازل. ولما سمعت لورا صوته كاد يجن جنونها ويضطرب ميزانها، وشعرت بنار مشتعلة تدب في أوصالها، وودت لو أنها قطعت السلم بوثبة واحدة، لتقع بين ذراعي حبيبها، وتغمر وجهه بالقبل، ولكنها كبحت جماحها جهد ما تستطيع، واستنجدت بالطبيعة الإنجليزية الرزينة، وقالت دون أن ينم صوتها عن شيء: أبي! إني أسمع صوت محمود العسال بالسلم. فنهض نيكلسون فرحا وصاح: أهلا بولدي، أية ريح سعيدة طوحت بك إلينا؟ لن أحس بعد اليوم ألم الغربة والنفي. ثم عانقه طويلا وشد على يديه في محبة وشوق وتقدمت إليه لورا تتكلف الابتسام وتجاهد عينيها ألا تهتكا لها سترا، وقالت في تلعثم: مرحبا يا محمود، إنك صورة من رشيد التي أحبها، فاليوم أراها كما هي ولا أشعر بلوعة نحو أهلها. ثم جلسوا إلى القهوة بعد أن أعدتها لورا، وبدأ نيكلسون الحديث فقال: كيف حال الفرنسيين في رشيد؟ فأجاب محمود وقد زاد سخطه عليهم وعزم على أن يبذل نفسه في مقاومتهم، بعد أن سمع من زبيدة اليوم أنهم الحائل بينه وبين التزوج بها: لقد أرسلوا إلينا بحاكم مضطرب الرأي، يلين مرة حتى تظنه ماء زلالا، ويقسو أخرى حتى تحسبه نار الجحيم، لم يف بوعد واحد من تلك الوعود التي ملأ بها خطبه وأحاديثه، والرشيديون في جمهرتهم لا يثقون به ولا يلقون إليه بقياد، وهم كتلة مخيفة من العصيان والتمرد، فقد فرض على الأهلين - ولم يكد يستقر في كرسي الحكم - ضريبة فادحة، قوبلت بثورة صاخبة وعصيان جامح، ولولا هذه المدافع الجديدة ما استقر لهؤلاء الغزاة أمر، وفي مساء يوم رأى أحد العلماء الذين قدموا مع الحملة - ويسمونه دينون - من برج أبي منظور العمارة الإنجليزية وهي تهجم على العمارة الفرنسية بأبي قير، وتصليها نارا حامية، وسمع أهل المدينة الضرب عنيفا متواصلا، وطارت إليهم الأخبار بأن الإنجليز دمروا جميع سفن الفرنسيين، فوثبوا من الفرح، وطاشت عقولهم، ومشوا في جماعات يصيحون ويهللون ويكبرون، ولم يستطع مينو أن يعمل شيئا فأغضى إغضاء الذئب الضغن الحقود. - حقا إنه كان نصرا مبينا يا محمود، فإن هذه الموقعة ستسد الطريق بين نابليون وبلاده، وستقضي على آماله في ضرب إنجلترا وإنشاء دولة شرقية فرنسية، وستشد من عضد المماليك الضعيفة بأوربا وتدفعها إلى محاربة فرنسا وتحديها. - لله الحمد والشكر: ثم قام أهل رشيد بثورة عنيفة، حينما وصلت السفينة التي تحمل السيد محمد كريم مصفدا ليشنق بالقاهرة. - إن هذا السيد بطل من أبطال التاريخ يا محمود، وكل جريمته عند الفرنسيين أنه جاهد في سبيل وطنه، وكتب سرا إلى مراد بك يدعوه إلى صدهم ومحاربتهم، ولقد علمت أنه لقي الموت شهما كريما، وأن الفرنسيين راودوه على أن يفتدي نفسه بثلاثين ألف ريال، فأبى في ازدراء وشمم، وأجاب فانتور كبير تراجمة الحملة وهو يلح عليه في قبول الفدية، ويلحف: «إذا كان مقدرا علي أن أموت فلن يعصمنى من الموت المال، وإذا كان في الكتاب أن أعيش كان بذل المال عبثا»، ثم ضرب بالرصاص في ميدان الرميلة فلقي ربه شهيدا، فلمعت عينا محمود وقال: إن البطولة لن تموت، وهذا معني قوله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون . - هذا صحيح يا محمود، أعندكم هذا في كتابكم؟ - نعم، وكم في القرآن من أدب وتشريع وحكمة وهداية، ثم إن الذي يزيد في سروري ويبعث في نفسي نشوة الأمل، أن مينو قلق به مكانه في رشيد وأحس بالحرج، فقد قبض أحد العربان على رسول له إلى كليبر حاكم الإسكندرية، فرأى معه رسالة ترجمها لنا أورلندو، يلح فيها على كليبر في إمداده بالرجال؛ لأن حاميته لا تزيد على أربعمائة رجل، ويخبره فيها أن العرب يزعجونه ليلا ونهارا، وأن الأهلين يثورون عليه لأقل سبب، وأنهم استخفوا بسلطة الفرنسيين بعد نكبة أسطولهم، ثم يقول: لقد تحرج مقامي هنا، فإنني ما جئت من فرنسا لأدفن في هذه المدينة، أو لأقوم فيها بجمع الضرائب. - سمعنا أنه أحرق قرية السالمية. - نعم، فقد قتل بعض رجالها ثمانية من جنده، فأمر بقتل كل من يحمل السلاح فيها، وصادر جميع ما بها من الماشية، ثم أضرم النيران في القرية. - هذا أمر له ما بعده يا بني، وسيف الظلم مفلول دائما، هلم لنشهد اليوم اجتماع الناس بالأزهر، فقد أخبرني الشيخ إسماعيل البراوي أن مرجل الثورة يغلي بالقاهرة، من أجل هذه الضريبة الجديدة الفادحة، التي ستأتي على كل ما بقي عند الناس من صامت وناطق.
ثم سارا صوب الجامع الأزهر فسمعا المؤذنين وهم يؤذنون لصلاة الظهر، ويتبعون أذانهم بدعوة ملتهبة إلى الثورة والجهاد، فدخلا المسجد فإذا هو يدوي بمن فيه من الحشد العظيم، وقد ارتفعت أصوات الغضب، وبسرت الوجوه، وأخذ كل شخص يتكلم ويسمع في آن، وجلس إلى جانب القبلة الشيخ السادات، والمشايخ: يوسف المصيلحي، وإسماعيل البراوي، وعبد الوهاب الشبراوي، وسليمان الجوسقي، وأحمد الشرقاوي، وهم مساعير الثورة ومؤججوها، ثم وقف الشيخ يوسف المصيلحي، وكان ذرب اللسان ملتهب الوطنية قوي التأثير وقال: «يظن الفرنسيون أن مصر أقفرت من الرجال، وانحلت فيها العزائم وكلت الهمم، وأنها شعب من نساء لا يميز فيه الرجل من المرأة إلا عمامة ولحية، وأن أهلها قطيع من الغنم نام عنه رعاته وتركوه نهبا للذئاب، وهم يتندرون في مجالس مجونهم وعلى كئوس شرابهم، بجبن المصري وهلعه من السيف والمدفع، وأنه إذا رأى جنديا فرنسيا في الطريق أقعى له في ذلة وخنوع كما يقعي الكلب، فهل هذا صحيح ؟».
فهزت أصوات جوانب المسجد صائحة في غيظ وغضب!
كلا. كلا. - «نعم، كلا، وكذب ما يظنون، فإنني أرى في هذه الوجوه غضبة الأسود لعرينها، وحمية الشجاع الباسل لعرضه ودينه، أنتم أبناء الفاتحين، ولأجدادكم سجل من المجد والجهاد لا ينقصه إلا أن تنقشوا تحته أسماءكم بسلاحكم، فهلموا إلى المجد والشرف هلموا، هلموا إلى الجنة والشهادة هلموا، فلا نامت أعين الجبناء، ولا هدأت قلوب المعوقين والمنافقين! لقد طال بكم أمد الصبر فماذا بقي لكم أن تصبروا عليه؟ لقد ألزموكم حمل شارة الفرنسيين، وافتنوا في فرض الضرائب، وهدموا أبواب الحارات حتى لا يعوقهم عن الهجوم عليكم في ظلمة الليل عائق، هل نحن أمة محمدية؟ هل نحن أمة جعل الله الجهاد في مقدمة فروضها؟ أيها الشجعان البسلاء: ثوروا لكرامتكم ثوروا لوطنكم، ثم ثوروا لتاريخكم»! وهنا انفجرت حماسة محمود العسال ونفدت طاقته العصبية فصاح: كفى كفى بالله عليك يا مولانا، فلن ترى منا مصر بعد اليوم إلا رجالا أرواحهم في أسنة رماحهم، ثم اتجه إلى الناس ونادى: هلموا معي إلى الجهاد، فرددت الجموع الزاخرة صوته: إلى الجهاد! إلى الجهاد! وتزاحموا إلى أبواب الجامع يتقدمهم محمود ووراءه نيكلسون، وما كان يشك من رأى هذه الأمواج المتدفقة من الناس في أن أيام الفرنسيين بمصر أصبحت تعد على أصابع اليدين.
اشتعلت الثورة بالقاهرة وتقدم محمود الثوار، فأخذوا سمتهم إلى مخافر الجنود الفرنسية فقبضوا عليهم، وازدحمت بالناس شوارع الموسكي والغورية والنحاسين وغيرها، وجاء الجنرال «ديبوي» حاكم القاهرة ليصد الثوار مع طائفة من فرسانه، فأطبقوا عليه، وأصابه أحدهم بطعنة من رمحه فخر صريعا مجدلا، فزادت بذلك حميتهم، وتكاثر عددهم بمن انضم إليهم من أرباض القاهرة، واستولوا على المواقع الحصينة: كباب الفتوح، وباب النصر، والبرقية، وباب زويلة، وباب الشعرية وأخذوا يحفرون الخنادق وينشئون الحصون، ويطلقون منها النار على الفرنسيين.
وأدرك الفرنسيون الخطر المحدق بهم، فجمعوا جموعهم وعزموا على استئصال الثورة بالحديد والنار، وقضى أهل القاهرة الليل في تأهب وإصرار، وكان محمود يمر على من بالخنادق والمتارس حافزا للعزائم، مثيرا للهمم، حتى إذا بزغت شمس اليوم الثاني كان الفرنسيون قد احتلوا جميع المرتفعات خارج المدينة، ونقلوا إليها مدافعهم وذخيرتهم، فأرسلوا منها القذائف متتالية مرهبة على نواحي الأزهر والصنادقية، والغورية والفحامين، حتى أوشك الأزهر أن يتداعى من شدة الضرب وأن يسقط على الجماهير الحاشدة به، وصارت الأحياء المجاورة صورة من الخراب والدمار، فتهدمت البيوت، ومات تحت أنقاضها آلاف من السكان البائسين، وطال الهول واشتد، وبددت قذائف المدافع قوة العزائم، ويئست الحماسة الوطنية من أن تقاوم جهنميات العلم الحديث، وعجز الإيمان الأعزل أن يقف أمام الطغيان المسلح، فسقط في أيدي المصريين ودارت عليهم الدائرة، واستشفعوا بالمشايخ عند نابليون أن يرفع عنهم سخطه وغضبه، ولكنه بعد أن أسكت عنهم أصوات المدافع أطلق جنوده تعيث في القاهرة كما تشاء، وتتحكم في الناس كما تشاء، فدخلوا الأزهر بخيولهم وعبثوا بما فيه من كتب وخزائن.
إن نابليون كسب المعركة وقضى على الثورة، ولكنه قضى معها على كل أمل له في اجتذاب المصريين، وعلى كل عاطفة تنبض بها قلوبهم.
وخرج محمود من الثورة كالسيف المحطم: تحطم جسمه، وتحطمت روحه، وتحطمت آماله، فأسرع إلى بيت ابن عمه يائسا حزينا، وانطلقت شياطين الجواسيس من عقالها تقبض على كل من كان له ضلع في الثورة، واعتنقت آلة الإعدام كل من حامت حوله شبهة فقضت عليه، ومل الفرنسيون تكلفهم المودة للمصريين فصارحوهم العداء ومشوا لهم الضراء، وعرف المصريون بعد هذه الكارثة أن الخطب والمؤامرات شيء، والسيف والمدفع شيء آخر.
وذهب نيكلسون إلى بيته يحمل لابنته لورا حوادث الثورة، وما رآه من جرأة محمود وبطولته، وقذفه بنفسه بين براثن الموت، ثم زفر وقال: لقد كان بطلا حقا، ولكن ماذا تفعل العصا أمام السيف الحسام؟ - لقد كنت أتوجس خيفة عليكما، وكلما سقطت القذائف من القلعة وقمم المقطم، كنت أدخل تحت السرير فأسجد وأصلي لكما، أهو بخير يا أبي؟ - بخير وعافية، ولكن شعوره بالهزيمة يكاد يقضي عليه. - هذه طبيعة الشرقيين، فمتى يعرفون أن الهزيمة دائما أول حافز إلى الظفر؟ أتصدق يا أبي أني مسرورة بنتائج هذه الثورة ، إنها لم تنجح في مرآى العين، ولكنني أعتقد أنها بلغت غاية النجاح، وأن الفرنسيين لن يتم لهم أمر بعدها في مصر؛ لأنك إذا وضعت هذه الثورة إلى جانب تحطيم نلسون لأسطولهم، رأيتهم في مصر كأنهم في بيت يحترق، وقد حرموا كل وسائل النجاة.
وتوالت الأيام، وخرج محمود من مخبئه، وأكثر من زيارة نيكلسون، ورأى من لورا عطفا سحريا شفى مريض نفسه، وبعث فيها أملا جديدا، فحديثها حلو، وخلقها كريم، ومعدنها ذهب نضار، ثم هو إذا رفع إليها عينه رأى الجمال الهادئ المطمئن، الذي لم يحاول مرة أن يكون جميلا فبز كل صنوف الجمال، كان ينصت إليها فيسمع أدبا وحكمة، ويتعلم كثيرا عن الدنيا وأحوالها، والدول وسياساتها، وكانت تنظر إليه نظرة حنانة حالمة، فتلتقي بها نظرته فيحس بأريحية يكاد ينتفض لها جسمه، سمه ميلا، أو سمه حبا أخويا، أو سمه ما شئت فإنه شيء لذيذ وكفى، أكثر محمود من زيارة لورا واصطحبها لزيارة زبيدة كثيرا، وكانت زبيدة تسر بلورا وتأنس بها، حتى لقد كانت تلزمها البقاء معها ببيت خالتها أياما.
وفي صبيحة يوم قدم السيد علي الحمامي من رشيد، وأخبر زبيدة بأن أمها في شوق إليها، وأنها مريضة منذ حين، وأنها ألحت عليه أن يسافر إلى القاهرة ليعود بها، فلم تجد زبيدة بدا من السفر، فنزلت في سفينة إلى رشيد، فودعها محمود العسال ولورا بين الزفرات والتنهدات، ومال محمود على أذنها، فأجابته في ضحكة متكلفة: لم يبق إلا القليل.
الفصل الثامن
جلس مينو في صدر إيوان بيته في رشيد تحفه تلك العظمة الحبيبة إلى نفسه، والأبهة التي تميل إليها غرائزه، والجنود والديدبانات الفرنسية تحيط بأسوار الدار شاكي السلاح، في أزهى ملابسهم وأروع ما به يظهرون، والخدم والأغوات يذهبون ويجيئون في اهتمام وخشية، يدلان على جلالة شأو المخدوم وشدة صرامته، واحتفاله بصغائر الأمور، جلس مينو في صدر الإيوان جلسة الأمير المدلل، الذي يشعر أن الدنيا في يده، والخلائق طوع أمره، والقضاء والقدر من جنده، وقد قوى عنده هذا الخيال ما كان يراه في حاشيته من رءوس خاضعة، وظهور منحنية، وتسليم وإعجاب بكل ما يقول، كأنه وحي من السماء، وكان في مجلسه ذلك اليوم الجنرال «مارمون» و«دينون» الأديب الكاتب الفرنسي، و«دولوميو» الرسام، وهما من أعضاء لجنة العلوم والفنون، والطبيب «شوفور».
بدأ مينو الحديث في شيء من التضجر والسأم عما يحيط برشيد من الثورات التي لا ينطفئ أوارها، ثم هز كتفيه وقال: عجيب أمر هذه الثورات، إنها مع حقارتها وهوان خطرها، تشغل منا وقتا كان أولى بنا أن نصرفه في عظائم الأمور.
فهز «مارمون» رأسه وقال: إننا نكاد نكون قد أخطأنا الطريق في سياسة هؤلاء المصريين، وقد كان عدد الجنود الذين فتحنا بهم مصر يمكن أن يكفي، لو أن الطريق بيننا وبين فرنسا بقيت مفتوحة آمنة، أما الآن، فقد اضطررنا إلى تشتيت هذه القوة الصغيرة في الصعيد لمحاربة مراد بك، ثم في جميع أنحاء مصر السفلى؛ لأن الثورات لا تكاد تنقطع فيها، وبذلك تمزق الجيش وقتل من الجنود عدد عظيم.
وهنا قال دينون: ومن العجيب أن يترك نابليون هذا الأتون الملتهب بالثورة والعصيان، ويقتطع من هذا الجيش الضئيل ثلاثة عشر ألف جندي مع كبار قوادهم، ليذهب لغزو سورية! كأن مصر قد استقر بها كل شيء، واستقام بها كل شيء، واستقام بها كل أمر.
فنظر مينو إلى دينون نظرة المغضب وقال: أنت لا تعرف نابليون: إن سر عبقريته إنما هي في تحدي الأقدار والسخرية من الكوارث، إنه ليس رجلا مثلك أيها الفنان الأديب، إن العقول تستطيع أن تعلل الأشياء في مدى محدود، أما أعمال العباقرة ففوق منال العقول.
وهنا أطرق مارمون وقال: إن المقامر قد يلقي بما بقي له من مال ليكسب الدست، فقال مينو: لا يا مارمون، إن المقامر ليست له بصيرة نابليون التي تكشف الغيب، ثم إنكم تبالغون في شأن هذه الثورات، ولو كنت على رأس خمسمائة جندي لأطفأتها جميعا، ولكن هذه الدنيا تعطي السيف دائما لصاحب المحراث! ثم زفر وقال: عجيب ألا يختارني نابليون وكيلا له بالقاهرة بدل «دوجا» ولكن يظهر أن حماية الثغر أهم وأعظم.
فأجاب دولوميو: من غير شك.
ثم انصرف القوم عدا الطبيب شوفور، وبقي مينو مطرقا، وطال إطراقه، فقال شوفور: إن سيدي يكثر التفكير ويبدو عليه القلق، وقد لحظت منذ أيام أن صحته ليست على ما أحب له.
فرفع مينو رأسه وقال: إنني أعيش هنا يا شوفور عيشة الأسير، وهذا الجو المحدود أضيق من أن يتسع لآمالي، وكلما أطلت التفكير في أمري برح بي الحزن واشتملني عارض يشبه الخيال، إنني خلقت للعظمة والمرح، أما العظمة: فقد لقيتها هنا في صورة ضئيلة لا تكاد تتعدى حدود رشيد، ولو أنني ملكت فرنسا كلها ما قنعت بها نفسي، وأما المرح: فقد تركت ورائي منه في باريس ما لا يمكن أن يعود. - لا بد للنفس الكبيرة والعقل الدائب المفكر من المرح واللهو، ولو لم يغسل عبث الليل ولهوه آلام كدح النهار وكده، لتبلد العقل وقتله الإعياء. - وأين منا السبيل إلى اللهو في مدينة نصفها مساجد، ولأهلها عيشة الرهبان والراهبات في الصوامع؟ - السبيل الزواج يا مولاي. - الزواج؟ وهل لرجل مثلي من أعرق الأسر الشريفة بفرنسا، أن يتزوج بفتاة إفريقية شوهاء، ليس لها قدم في المجد، ولا لآبائها ذكر في التاريخ؟! - أما الفتاة الإفريقية الشوهاء فلا وجود لها في رشيد، إن بهذه الدور التي يمر بها مولاي فوق جواده لآلئ بشرية لم تقذف بمثلها كنوز البحار، وإن فيها من الجمال النادر ما يعجز عن تحديه أفخم القصور بباريس وفلورنسا وروما، إن الحسن الرشيدي يا مولاي صورة في هذه الأرض لجمال الجنة وما فيها من نعيم، ورب فتاة ملففة مختبلة في ملاءتها، لو أسفرت لفضحت جميع ما تخيله روفائيل من فنون الجمال، أنا طبيب يا سيدي وتقتضيني صناعتي أن أرى الوجوه، وقد رأيت من حسنها هنا ما زهدني فيما بالغ فيه الشعراء وأبدع فيه المثالون، وأما الشرف: فإن في رشيد منه ما في فرنسا، إن الشرف هنا لا يكون بالانتماء إلى بطل، وإنما يكون باتصال النسب بالنبي الكريم، وهذا خير ضروب الشرف والنبل . - في رشيد من الأسر من ينتمي إلى النبي محمد؟ - كثيرا جدا؛ لأن أهلها من قريش نزحوا إلى رشيد بعد فتح العرب بقليل، ولكننا نريد شيئين: الشرف والجمال، وهذان لا يجتمعان في رأيي إلا في أسرتين: أسرة الشيخ الجارم، وأسرة السيد محمد البواب فاتجه إليه مينو في شغف وقد أعجبه الحديث وقال: حدثني عنهما يا شوفور حدثني ... - أما رقية وآمنة بنتا الشيخ إبراهيم الجارم: فجمالهما فوق وصف الواصف، وأما زبيدة بنت السيد محمد البواب فإنها في الحق ساحرة فاتنة.
فجحظت عينا مينو وقال: هذا بديع جدا، ولكن ماذا أفعل بخليلاتي اللاتي يخطئهن العد بفرنسا وإيطاليا، إن أظافرهن لن تقنع بتمزيق جلدي! - وأين هن منك اليوم وبينك وبينهن المهامه الفيح والبحار الخضر؟ إن الفرنسيين سيؤسسون بمصر مملكة شرقية واسعة الأطراف، وسيكون لك فيها الشأن الأول والملك العظيم. - هذا ما تحدثني به نفسي، وإذا لا بد من الزواج، وبمن أتزوج؟ سأختار بنت الشيخ الجارم؛ لأنه فوق شرفه النبوي من أكبر علماء المدينة. - غير أن في الأمر عقبة يجب أن تذلل، تلك أن الإسلام يحظر تزوج المسيحي بمسلمة. - ألست مسلما؟ ألم يشهدني أهل رشيد في مسجد المحلي وأنا أقوم وأقعد حتى كدت ألهث من التعب في صلاة التراويح؟ - أظن أن هذا لا يكفي، فإن عقد الزواج في مثل هذه الحال يجب أن تسبقه وثيقة مسجلة بالإسلام، على أننا نستطيع أن نسأل مفتي المدينة في هذا الأمر.
فوثب مينو يصفق بيديه يدعو مملوكه الخاص «إينال» فلما مثل بين يديه، أمره أن يدعو إليه الشيخ أحمد الخضري.
حضر الشيخ الخضري بعد قليل، وهو خائف يرتعد لهذه الدعوة التي فاجأته في جوف الليل، وأخذت شفتاه تتمتمان بالأدعية وضروب الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، فسلم على الجنرال، وجلس بعد أن جمع ثيابه وتكور في عباءته كأنه صوان ضخم للثياب، وبعد أن هدأت نفسه قليلا اتجه إليه مينو سائلا: ما قول مولانا المفتي في مسيحي أسلم، أيجوز أن يتزوج بمسلمة؟ - نعم يجوز شرعا إذا ثبت إسلامه لدى مسجل العقود بالطرق الشرعية . - وما الطرق الشرعية ؟
الإقرار والبينة، وأقوم السبل أن يقدم هذا الرجل إلى المسجل وثيقة شرعية بإسلامه. - إننا في فرنسا لا نتشدد هذا التشدد، فالناس أحرار في عقائدهم وتصرفاتهم. - إن الإسلام أيها الجنرال يدعو إلى الحرية، ولكنه يحيطها بسياج حتى لا يضر بعض الناس بعضا بتصرفاتهم، والله جل شأنه يقول في كتابه الكريم:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . - هذه حكمة يجب أن تكون أساسا لجميع القوانين، لقد أفدتنا كثيرا يا مولانا، وقد دعوتكم لأن جدلا قام بيني وبين شوفور فيما سألتك عنه، يا إينال مر بعض الجند أن يكون في خدمة الشيخ حتى يصل إلى داره.
مضى بعد ذلك يومان قضاهما مينو في التفكير وتقليب وجوه الرأي، وذهب في أثنائهما الشيخ الخضري إلى الشيخ إبراهيم الجارم ليقضي السهرة بداره على عادته، وجاء ذكر الفرنسيين وأعاجيب أفعالهم، كما كان يجيء في كل ليلة، فقال الشيخ الحضري: دعاني الجنرال ليلة أمس بعد أن ذهبت إلى فراشي، فلما كنت عنده سألني سؤالا عجيبا، فقال الشيخ الجارم: عن أي شيء سألك؟ - سألني عن صحة زواج المسيحي الذي أعلن إسلامه بمسلمة. - ما شأنه بهذا؟ - لا أدري يا شيخ إبراهيم.
فأحس الشيخ الجارم - وكان بعيد النظر نافذ البصيرة - أن وراء هذا السؤال داهية دهماء، توشك أن تسقط على المدينة، ودفعته غريزة الحذر أن يكتم عن الشيخ اهتمامه فقال: إن هذا الرجل أخطأته عمامة الفلاسفة، وقد خرف القدر فسماه جنرالا، ولعل اهتمامه بسؤالك عن الزواج وغيره خطرات من وساوسة التي لا يفيق منها.
وانقضت السهرة وودع الشيخ ضيفه، وجلس واجما وقد حمل رأسه براحتيه، وتواردت عليه الأفكار والهواجس، وأخذ يحدث نفسه: هذا المينو يريد أن يتزوج ما في ذلك من شك، ثم هو يريد أن يتزوج بمسلمة، وهذا بديهي أيضا، وما شأني أنا بهذا؟ فليتزوج فلن أستطيع دفعه! ولكنها مصيبة ستحل بأسرة في رشيد، وبأي الأسر تنزل؟ بأكبر الأسر وأرفعهن شأنا، لقد قرب الخطر مني، وأخذت النار تمتد إلى ثيابي، إن لي بنتين فيا للكارثة ! كيف أدفع هذا العار عني، إن كلمة «لا» أصبحت في عرف الفرنسيين لا تفيد النفي، وإذا استطاع شجاع أن يقولها فلن تكون نهايته إلا الذل والدمار، إن هذا الجنرال سيظن أن زواجه بأكرم بنت في المدينة تنزل منه وتواضع، وشرف عظيم وتفضل واسع على من يصاهره، فالويل كل الويل لمن يرد هذا الشرف المزعوم في وجهه، أو تبدو منه أية رغبة عن هذا الفضل العظيم! أليس من مفر؟ أليس من حيلة؟ ليتني زوجتهما منذ حين، وليتني لم أذد عنهما الخطاب كما يذود حارس البستان الطيور عن ثمره! إنني واثق أن إسلام الجنرال رياء، ولو كان مسلما حقا، وأخلاقه أخلاقه التي أعرفها، ما رضيته زوجا لأية فتاة تتصل بي من بعد أو من قرب، لا، لا، لا، إن هذا لن يكون، ثم رفع رأسه وبدا في عينه بريق الظفر، وهدأت نفسه هدوء من يهتدي إلى حل أمر عسير، فنادى بخادمه وقال: اذهب الآن مسرعا وادع إلي الشيخ عثمان شبايك، والشيخ حسنا أبا السعود، أتعرفهما؟ إنهما الطالبان اللذان يجيئان هنا في عصر كل يوم لتلقي الدروس، واذهب بعد أن تدعوهما إلى بيت الشيخ محمد غرا، واطلب منه أن يعجل إلي.
وأقبل الطالبان بعد قليل فحياهما الشيخ وقال: إنما دعوتكما في هذه الساعة لأعرض عليكما زواج بنتي، فقد أدركني الهرم وخشيت إن أنا مت أن يزوجهما أخوهما من غير العلماء، وقد تعجبان من هذا العرض المفاجئ، ولكن لو علمتما ما أحاط بي من الوساوس والهموم لزال عجبكما، فنظر الطالبان إليه في ذهول، وقال أولهما: هذا شرف كبير يا مولانا يطير اللب ويثير العجب، وإنما نحن خادماك اللذان يتنافسان في حمل نعليك، فإذا تفضلت علينا بهذه الكرامة، فليس لنا إلا أن نشعر بأن ما أصبناه من خير إنما هو بركة من بركاتك، ونفحة من نفحاتك، ثم انقضا على يديه لثما وتقبيلا، وهنا دخل الشيخ محمد غرا، فطلب منه الشيخ أن يدون عقدي زواج؛ لأنه زوج الشيخ شبايك برقية بنته، والشيخ أبا السعود بآمنة، فانزعج الشيخ غرا وشرع يتلعثم، ولكن الشيخ صوب إليه عينين غاضبتين، فاستل قلمه وكتب.
وفي بكرة النهار أقبل أعوان مينو يتواثبون إلى دار الشيخ الجارم حتى ملئوا رحبتها، وهم يتعجلونه إلى مقابلة الجنرال، فخلل الشيخ لحيته بأصابعه - وقد كانت تلك عادته إذا أحس بظفر أو كتم شماتة في عدو - ثم وجد نفسه وهو ينشد:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض
على الماء خانته فروج الأصابع!
وركب الشيخ بغلته وسار معهم وهو يردد في همس خافت استغاثته التي أغرم بترديدها:
نحن بالله عزنا
والحبيب المقرب
بهما عز نصرنا
لا بجاه ولا منصب
والذي رام ذلنا
من قريب وأجنبي
سيفنا فيه قولنا
حسبنا الله والنبي
حتى إذا كان بحضرة مينو فجأه الجنرال بمحاضرة طويلة الذيول عدد فيها أجداده الأبطال، وما كان لهم من أثر مجيد في تاريخ فرنسا، وأطال في إطراء شرف محتده ونبل أعراقه، والشيخ مطرق يخلل لحيته بأصابعه، ولسانه لا يفتر عن قراءة القرآن، ثم انتقل مينو إلى غايته فقال: وقد أردت ألا أضن على هذا البلد بما يصلني بأهله، فعزمت على إعلان إسلامي والإصهار من أسرة شريفة، يتصل نسبها بالسلالة النبوية، وعلمت أن لك بنتين فلم أجد علي من عار إذا تزوجت بكبراهما، إن الناس سيدهشون حقا لهذه المصاهرة، ولكنهم لو علموا أن التواضع من أول صفات الجنرال مينو ما عجبوا، فرفع الشيخ رأسه وقال: هذا يا سيدي شرف عظيم، ولو كنت أعلم ذلك الحظ السعيد الذي ينتظرني ما زوجت ابنتي بالأمس. - هذا شيء يؤسف له فقد كنت أرضى أن تكون لي صهرا. - ذلك تقدير العزيز العليم.
وهنا وقف مينو وفي وجهه دلائل الحقد والغضب، فوقف الشيخ وسلم وانصرف.
ولم يستقر مينو في مجلسه حتى أرسل في طلب السيد محمد البواب، والسيد علي الحمامي، فلما دخلا عليه دهمهما بطلب الزواج بزبيدة، فكاد البواب يصعق لهول ما ألقى عليه، وراعه الموقف وأصماه سهم القضاء، وأخذ الحمامي يسهب فيما سينالهم من الشرف والجاه بهذه المصاهرة، فأفاق البواب وقد سمع نفسه وهو يقول في خوف وتلعثم: إني كنت أتمنى أن أنال هذا الشرف لولا ... ولكن الحمامي أسرع فقال في صوت مرتفع حجب كل صوت: إننا يا سيدي الجنرال طوع أمرك، وإن نزولك إلى مصاهرتنا واختصاصنا بهذه الكرامة دون غيرنا، فضل دونه كل فضل، وكرامة ليس بعدها كرامة، وهنا هز مينو رأسه في كبر وأنفة وقال: سيكون الزواج بعد أسبوع، فقال الحمامي: إنها الآن بالقاهرة، وسأسرع غدا إليها، وفي يوم حضورها يتم الزواج.
خرج الرجلان من دار مينو، فقال السيد محمد البواب للحمامي في ذهول: لقد قتلتني يا رجل وجلبت علي عار الأبد. - إن هذا الزواج سيرفع من شأنك ويجعلك سيد المدينة. - إني لن أشتري سيادة الدنيا بهذه الوصمة. - هون عليك يا عم، فلن يضيرك أن تكون صهر أكبر جنرال فرنسي، ولن تلبث حتى يتزاحم عليك وفود المهنئين من كل مكان. - لن أبقى في المدينة حتى أرى واحدا منهم! - لن تبقى؟! - نعم. - سألتك بالله أن تتريث يا عم، فإن الوهم يلعب برأسك، ويصور لك من حادث يتمناه الناس جميعا خطبا فادحا. - لن أبقى برشيد لأرى الناس يراءونني، ولو كشف عنهم الغطاء لبدت قلوبهم وكلها زراية بي واحتقار وسخرية، ماذا تظنني يا رجل؟
إنني لن أعيش في مدينة كل ما فيها ومن فيها يذكرني بأن ابنتي في عصمة إفرنجي مغتصب. - ولكنك ستقتل أمي. - إن الموت قد يكون أحيانا خيرا من الحياة. - يا للمصيبة وماذا نعمل الآن. - ماطل الرجل إن استطعت ومنه الأماني، فلعل الله يعقب بعد عسر يسرا. - لن أستطيع يا عمي، إنني إن فعلت فتك بنا جميعا وصادر أموالنا، فإنه إذا تملكه الغضب انقلب أسدا هصورا. - الله أقوى منه، سأرحل الآن حيث لا يعلم أحد مكاني، وقد أعددت العدة للسفر قبل أن أذهب لمقابلة الرجل، فإني أوجست منه شرا، ثم انفلت هائما نحو غرب المدينة، فاكترى بغلا سار به في طريق الإسكندرية، منطلقا في عجلة كأنه الصيد المذعور.
وسار الحمامي إلى أمه حزينا، ولكنه ما زال بنفسه في الطريق حتى مسح عنها الحزن، وصور لها ما يستقبله من الثروة والجاه ورفيع المنزلة فاطمأنت، ثم طغى عليه سيل من الأماني والأحلام فسخر من عمه، وهزئ من تزمته وتحرجه، واعتقد أنه رجل لا يفهم الحياة ولا يهتبل الفرص، وما دام الزواج شرعيا فأي شيء فيه من العار الذي يتخيله الأغبياء المتحذلقون؟!
دخل على أمه ضاحكا مرحا، وألقى إليها الخبر في جذل وابتهاج، وأخذ يسهب في وصف الجنرال وكرم أخلاقه وشدة تمسكه بدينه، وأن كرائم الأسر في رشيد ستحسد أخته على هذا الشرف الباذخ، الذي طالما ترامت على أعتابه فلم تظفر منه بطائل. - وهل قبل أبوها؟ - قبل مسرورا، وسافر ليعد لزبيدة جهازا يليق بالجنرال. - إنني لا أعرف ما يعرفه الرجال، ولكني غير مسرورة لهذا الزواج؛ لأنه زواج غير عادي، ولا أظن أنه ينتهي بخير. - دعي الأمر لله. - آمنت بالله لا رب سواه.
وأسرع الحمامي إلى القاهرة في غد يومه، واحتال لأخذ زبيدة، فادعى أن أمها مريضة، ثم مضت أيام وصلت بعدها إلى رشيد، وكانت أمها مريضة حقا؛ لأن غيبة زوجها أقلقت بالها وأقضت مضجعها، وجعلتها تظن الظنون، فدخلت عليها زبيدة فقبلتها باكية، وحين سألت عن أبيها أخبرتها بأنه سافر منذ حين، وسيعود قريبا، وحينما فجأها أخوها بخبر خطبتها تلقته ذاهلة أول الأمر، وطاف بها خيال محمود وما له في سويداء قلبها من حب مكين، ثم طاف بها خيال العرافة رابحة، وتنبهت فيها غرائز الطموح، وقضت الليل كله تحمل ميزانا من الوهم، تضع مينو في إحدى كفتيه ومحمود في الأخرى، فمرة ترجح هذه، ومرة ترجح تلك، حتى كادت تصاب بالجنون، وكانت تثب من سريرها وتقول: هذه هي الموقعة الفاصلة في حياتي، فأي الرجلين أختار؟ مينو ليس الآن ملك مصر ولكنه قد يكون، ومحمود أحب الناس إلى قلبي وأقربهم إلى نفسي، مينو إفرنجي يقولون: إنه أسلم، ولكني لا أعرف أخلاقه وصفاته، وهو ليس من جنسي ولا من قبيلي، ومحمود ترب صباي وشقيق روحي، وفيه صفات الأبطال وخلائق سكان السماء، ولكن ليس لديه ملك وليس لديه عرش، وليس لديه صولجان، مسكين يا محمود، لو كنت ملكا! ولكن ما لي وللملك أسلك إليه طريقا مظلمة موحشة مجهولة؟ أأتزوج بفرنسي لأكون ملكة؟! ومن يضمن لي هذا؟ إنه حاكم رشيد، والثورات تحيط بالفرنسيين من كل مكان، فماذا يكون الأمر إذا جاء الترك وطردوهم، وبقي هذا الفرنسي المسمى مينو معلقا برقبتي؟ تلك هي الطامة الكبرى والكارثة العظمى، وهنا يصدق قول خالتي أمينة بأنني أزهد في الثمرة الدانية لأتعلق بالأشواك، ثم أين أبي؟ أليس في أكبر الظن أنه فر من ذلك العار الذي لطخته به يد القدر العاتية؟ لا، لن أتزوج بهذا الفرنسي ولو انطبقت السماء على الأرض، ولكن من يدري فقد يكون هذا الرجل مطيتي إلى ما أريد؟ إن العرافة لم تكذب قط، فلم تكذب في أمري وحدي؟ إن الفرنسيين سيبقون بمصر، وإن مينو سيكون حاكم مصر، وهكذا ظلت زبيدة تخلط وتهذي حتى بزغ النهار، وحينما ملأت الشمس الأفق غصت دار البواب بالزوار، وكان بينهم الحاج حسين الميقاتي، والسيد علي الحمامي، والسيد أحمد النقرزان، والسيد إبراهيم النقرزان، فطلبوا من زبيدة توكيل الحاج حسين في تزويجها بمينو، فوكلته أمام الشهود في تردد ووجل، وكان مينو أشهد على إسلامه قبل ذلك أمام القاضي الشرعي، وسمى نفسه عبد الله جاك مينو، واختار أن يكون الحاج أحمد شهاب وكيله في الزواج، فاجتمع الوكيلان والشهود والمفتون بالمحكمة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وعقد لعبد الله مينو على زبيدة، ولا تزال وثيقة هذا الزواج في محفوظات محكمة رشيد الشرعية إلى اليوم.
وزفت المسكينة الطموح إلى مينو بعد أسبوع، فقذفت بسفينة حياتها في خضم قاتم مضطرب الأمواج، لا يهديها فيه إلا شعاع من أمل متقطع كاذب، ولو نفذ إلى سمعها صوت من بين هذه الأمواج الصاخبة حولها، لسمعت قهقهة القدر وهي تجلجل في شماتة وسخرية.
الفصل التاسع
بقي محمود العسال ونيكلسون بالقاهرة يترقبان الحوادث ويتصلان بجماعات الثوار، ويبتكران الوسائل للانتقاض على الفرنسيين وزعزعة حكمهم في مصر، وذهب محمود ذات صباح إلى متجره بخان الخليلي الذي يشرف عليه ابن عمه، وبعد أن جلس قليلا رأى آثار الحزن والوجوم بادية في وجه ابن عمه فحاول أن يتغافل عما بدا له؛ لأن عبوس الوجوه وانقباضها ليس بالشيء الغريب في هذا الزمن الغريب، ولكن حسينا زاد ارتباكه وانصرافه إلى الأمور التافهة وتجنبه النظر في وجه محمود، فابتدره قائلا: هل من جديد يا حسين؟ - فتلعثم الفتى وحاول أن يبتسم فلم يستطع، ثم نظر في وجه محمود نظرة حزن وإشفاق وقال: إن سعدا الشباسي المراكبي جاء اليوم من رشيد. - وماذا في هذا؟ أماتت أمي؟ - لا قدر الله، إنه يقول: إن سيدتي زينب بخير. - هذا شيء يسر، فلم أراك عابسا حزينا؟ - إن ما قص علي من أعمال الفرنسيين برشيد أثار أحزاني. - هذا شيء لا يقابل بالحزن، وإنما يقابل بالجهاد وجمع الكلمة وتوحيد الرأي. - أخشى ألا نستطيع جمع الكلمة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن تداس كل كرامة، فإن قلبي ليتفتت حينما أرى النساء المتبذلات، وقد مزقن حجابهن، وركبن الحمير مع جنود الفرنسيين يذهبن معهم كل مذهب، ويجلسن معهم في القهوات دون نكير من أزواجهن أو آبائهن، وإن الحسرة لتمزق فؤادي حينما أرى بعض الناس الذين تأبى الإنسانية أن ينسبوا إليها يساعدون الفرنسيين ويتملقونهم ويذللون لهم السبل. - إنهم ليسوا بأكثر ملقا واستخذاء من العلماء أعضاء مجلس الديوان الذين يحملهم الفرنسيون كل يوم على كتابة منشور مملوء بالآيات القرآنية لتأييد حكم الغاصب ودعوة الناس إلى طاعته، آه يا حسين، إن مصر كانت مريضة بأهلها، فلما جاء الفاتح لم يجد بها مناعة تصد الداء الوبيل الذي رماها به، وماذا برشيد من أفانين مينو؟ - علمت أن نزعته الجديدة أن يزج بنفسه في الأسر الكريمة. - كيف؟ يكثر من زيارتها؟ - يكثر من زياراتها أو يصهر فيها. - يا للكارثة! يتزوج بمسلمة شريفة؟ إن دون هذا وتسيل الدماء! من يقبل أن يزوجه ابنته؟ - ليست المسألة مسألة قبول، إنما هي إلزام وقهر، ومن يستطيع أن يقف في وجهه؟ - أتزوج فعلا؟ - نعم. - بمن؟ - فتنهد حسين وغلبه دمعه وقال: بزبيدة.
فوجم محمود وذهل ، وألقى برأسه بين راحتيه، وترك عينيه شاخصتين كأنهما عينا المحتضر وقد جمد الدمع فيهما، وتملكه حزن وغضب حبسا لسانه عن الكلام والأنين، بقي أكثر من نصف ساعة على هذه الحال، ثم هب واقفا وقال: ما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب، ثم قال: كنت أحارب الفرنسيين للوطن، واليوم أحاربهم للوطن والشرف والانتقام، ثم انطلق مطرق الرأس كمن به جنة، ولزم داره أياما ليبث حزنه لنفسه، ويرسل الدمع مدرارا دون أن يخاف رقيبا أو مليما.
غاب محمود ولم يزر نيكلسون أياما، فقلقت لورا ولعبت بظنونها الأوهام، فقالت في هيئة من عرض له أمر غير خطير، غير أنه يريد أن يتحدث، وكانت تملأ فنجانة القهوة لأبيها. - هل سافر محمود إلى رشيد؟ - ما أظن يا بنيتي، فإنه لو عزم على السفر لأخبرني، إنني لم أره منذ أربعة أيام وقد شغلني عنه انصرافي إلى استهواء ذلك الضابط الفرنسي حتى أصبحت جميع أخبار القيادة العليا ملك يميني، وفي متناول كفي. - عجيب أن يبوح ضابط بهذه الأسرار، كيف استملته يا أبي؟ - الجنود يا لورا ساخطون على البقاء في هذه الديار، وبخاصة بعد أن هددتهم الثورات وحوادث الاغتيال، وهم يعتقدون أن قدومهم إلى مصر لم يكن إلا لإشباع نزوة لنابليون المولع بأن يجلجل اسمه دائما بين الطبول والزمور، ولو أورد جنوده موارد التلف، ثم إنه ضللهم ودفعهم إلى الاعتقاد بأنهم سيجدون في مصر باريسا أخرى، فلم يجدوا من ذلك شيئا.
عرفت هذا الضابط أول ما عرفته بحانة للإفرنج بحارة الرويعي، فرأيت فيه فتى وسيم الطلعة، يدل حديثه وملامحه على أنه من الطبقة المتوسطة بفرنسا، وعلمت من خادم الحانة أنه مرافق «ياور» الجنرال دوجا الذي قام مقام نابليون بعد سفره إلى سورية، رأيته جالسا وقد خيم على وجهه الحزن والسأم، فبدأت الحديث في الجو، وكان لي بالفرنسية إلمام حسن فأطلقت سراح كلماته لتشم الهواء وتتمتع بنعمة الظهور، فابتسم نحوي في وداعة وتأفف وقال: إن جو مصر خداع كنسائها، فإنه يصفو لك يوما ليذيقك عذاب الجحيم أياما وشهورا. آه يا شيخ! لقد ذقت حرارة الجو حينما قدمنا مصر واخترقنا هذه الصحراء الملعونة بين الإسكندرية ودمنهور. عند ذلك قربت من خوانه، ومددت يدي إلى كرسي فجلست بجانبه، ودعوت الخادم أن يأتي بكوبين من الجعة، وطال بيننا الحديث في جمال باريس وجمال نسائها، وقبح القاهرة وقذارتها وانتشار الأمراض بها، وجدبها من مسارح اللهو والتسلية، وبغض سكانها للفرنسيين، وقد أعلمته في غضون الحديث أني مغربي وأني مولع بالفرنسيين أحب فيهم الشهامة والشرف وخفة الروح، وأعتقد أن ثورتهم التي قاموا بها في بلادهم للحرية والإخاء والمساواة ستخلد أمتهم على الدهر، وستبقى مثلا عاليا في العالمين، فقبض على يدي وهزها في جذل ونشوة، واقتنصت الفرصة وأخرجت خاتمي الثمين من إصبعي، وقلت: هذا يا سيدي ... فعاجلني وقال: ألبير، ألبير، فقلت: هذا يا سيدي ألبير سيكون رابطة الصداقة والمحبة بينك وبين صديقك السوسي، فالتقطه ألبير مبتهجا وأخذ ينظر إليه دهشا وقال: هذا لي؟ قلت: نعم يا صديقي، ولي من الثروة ما لا يعد هذا بجانبه شيئا، ثم قمت بعد أن واعدني على أن نلتقي عصر كل يوم بالحانة. - وهل أخبرك بشيء يا أبي؟ - أخبرني أنه بعد أن سافر نابليون إلى سورية ظهر التمرد والانتفاض في أكثر بلاد مصر السفلى، لكثرة ما دهى الناس من عبث الجنود ومصادرتهم لماشيتهم وحاصلاتهم، فشبت الثورة بالشرقية، وانضم خلق كثير تحت لواء مصطفى بك أمير الحج الذي خرج على الفرنسيين، ثم سرت نيران العصيان متأججة مخيفة إلى ميت غمر، والبلاد التي حولها، ثم اشتد الهياج في منطقة رشيد، وظهر بالبحيرة رجل ادعى المهدية ودعا الناس إلى الجهاد، وانضم إليه رجال القبائل وغيرهم، وقد هزم الفرنسيين مرات حتى تكاثروا عليه آخر الأمر فقتلوه، وكان الفرنسيون إذا تغلبوا على مدينة فتكوا بمن فيها ودمروها. - هذا منطق مقلوب يا أبي، أن قلوب الأمم لا تملك بالقسر والقسوة. - إن هؤلاء القوم يظنون يا فتاتي أن السيف هو قانون أمم الشرق، ولم يعلموا أن هذه الأمم هي التي علمت أوربا في القرون الوسطى قوانين سياسة الأمم، وأرسلت إليها شعاعا وهاجا من المدنية والعلم، لا يزال ينير لها الطريق إلى اليوم، وبينما هما يتجاذبان الحديث إذا طرق خفيف على الباب، فقام نيكلسون يفتحه فرأى محمود العسال فلم يملك إلا أن يعانقه مرحبا، ثم صاح: لورا هاهو ذا محمود العسال الذي أقلق بالنا بغيابه طول هذه المدة، فأسرعت لورا فرحة بلقاء محمود، ومدت إليه يدها في حب أخوي صادق، وقالت: لا يا محمود ... إن مثلثنا المتماسك إذا غابت منه ضلع عاد خطا منكسرا! ثم قالت في مرح لطيف: وإهمالك زيارتنا ذنب لا يغتفر، فلا بد أن تؤدي لنا حسابا دقيقا عما كنت تفعل في هذه الأيام. حياها محمود تحية ملؤها الشكر، وجلس واجما ينكت الأرض بعصاه، وهنا قال نيكلسون: ما لي أراك اليوم منقبض الأسارير يا محمود؟ - لخبر هائل وصل إلي من رشيد منذ أيام، ثم طفرت دمعتان من عينيه لم يستطع لهما حبسا، وأخذ يصل الحديث فقال في تمتمة المذهول: علمت أن الجنرال مينو تزوج بزبيدة. سمعت لورا الخبر فدارت بها الغرفة كأنما ركبت فوق محور، وماجت بنفسها إحساسات عنيفة مبهمة، وعجيب شأن هذه الإحساسات، فإنها تهجم عليك كتلة مجتمعة، ثم تنحل إلى عناصر منفردة تترجمها النفس في سرعة البرق، سمعت لورا الخبر فأحست بشيء من الفرح يمتزج بالحزن الأليم، تزوجت زبيدة حبيبة محمود فأصبح خالصا لها، لا يزاحمها في حبه شريك. والأثرة أول صفات الحب؛ لأنه دائما غيور حذر، إذا يئس محمود من زبيدة تفتحت أمامه السبيل إلى حب آخر، وقد رأت منه في الأشهر القليلة الماضية ميلا كاد يكون حبا، وحنانا جاوز حد الحنان، وقرأت في نظراته ما لا تستطيع ترجمته إلا النساء، ولحظت أنه يكثر من الزيارات ويصغي في شغف إلى أحاديثها، نعم إنها جذوة صغيرة خامدة تحت الرماد ولكن لا يصعب عليها إشعالها، تمر هذه الصور سريعة خاطفة بذهن لورا فتسر وتبتهج، ولكن صورا أخرى في سرعتها ومضائها تدهمها قوية جياشة فتبتئس وتحزن، إن محمودا في ألم شديد فكيف تسر وحبيبها يتألم؟ إن بطلها قد خاب أمله، وعبثت بعواطفه فتاة كانت تغذي حبه بوعود خلابة كاذبة، وإلا فلماذا لم تتزوجه، وهو زينة الفتيان وفخر أبناء الزمان؟ ولكن من يدري؟ فقد تكون زبيدة المسكينة قد رميت بهذه الداهية على الرغم منها، وقد يكون أهلها قد غلبوا على أمرهم فزوجوها بهذا الفرنسي مكرهين، وهنا يجب أن تحزن لزبيدة أيضا، فهي صديقتها وأختها، وقد كانت تحب محمودا حبا جما، فيا لنكبة العاشقين! ويا لمصيبة الحبيبين! لا لا، إنها لا تفرح لمصائب الآخرين، فكيف بنكبات أصدقائها المخلصين؟ هكذا كانت الأفكار تتزاحم على لورا، وهكذا كانت عواصف الوجدان تطوح بها من ناحية إلى أخرى؛ لذلك اتجهت إلى محمود وقالت: إنها لكارثة حقا، مسكين يا محمود! ولكن الرجال لا يبكون، ومثلك من يحمل الأرزاء فخورا باحتمالها. وقال نيكلسون وقد برح به الهم: عجيب أن يصهر الفرنسيون من المصريين، وخناجرهم في جنوبهم، ولكنني أعتقد أن زبيدة أرغمت على هذا الزواج إرغاما، وأنه لم يعقده قاضي المدينة إلا بعد أن عقده السيف والمدفع، هون عليك يا بني فإن هذه المصيبة سيمحوها ما هو أشد منها ما دمنا في هذا الزمن الأغبر، ارفع رأسك يا بني وكن رجلا، فقال محمود: نعم سأكون رجلا، وسأعمل بوصاتك ووصاة لورا، وسأثور على الفرنسيين لوطني وشرفي، هلم يا نيكلسون فقد علمت أن نابليون سيعود اليوم من الشام وقد أقاموا له الزينات وأعدوا الطبول والزمور، واعتقادي أنه هزم شر هزيمة على الرغم من منشورات الديوان، ومن تلك الرايات التي رفعوها على مآذن الأزهر، ومن كل ما يذيعه أبواق الفرنسيين، هلم معنا يا لورا فإن النظر إليك ينسينا ما نحن فيه من هموم، فارتدت لورا حبرتها وغطت وجهها بنقابها، واتجه ثلاثتهم إلى باب النصر ينتظرون قدوم الفاتح العظيم، حتى إذا وقفوا هناك مع الجماهير المتزاحمة ورأوا فرسان الجند يذهبون ويجيئون في تيه وعظمة، قال أحد القاهريين لمجاوره: أما والله لولا هذه البنادق التي يتسلحون بها، وتلك المدافع التي ينصبونها فوق القلاع لقضينا عليهم في ساعة من نهار، فأجابه صاحبه حزينا: آه يا أخي لقد ضيعنا المماليك وفروا، إنهم لم يعملوا منا أمة، ولم يحصنونا من عدوان الأمم، ثم مر عليهم جماعات من عظماء المدينة يركبون البغال المطهمة.
فسألت لورا محمودا عنهم، فقال: أما هذا يا لورا فهو الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان الخصوصي شيخ العلماء، وهو رجل أذله حب المال والجاه، فتعلق بأذيال الفرنسيين لا يهمه أخربت البلاد أم عمرت، وهذا هو الشيخ محمد المهدي وهو داهية واسع الحيلة، يقتنص العصفور من بين براثن النسور، ويختطف الزبد من فم الثعلب، يتملق الفرنسيين ليجتلب رضاهم، ويصانع المصريين بالدفاع عنهم، والسعي في تخفيف ويلاتهم، أما هذا الشيخ الأسمر النحيل الجسد فهو رجل عظيم يا لورا، إنه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ الكبير، علمت أنه يدون الحوادث كل ليلة قبل أن يذهب إلى فراشه، وله حكم دقيق عادل على الوقائع والأشخاص، ولو علم الفرنسيون بتاريخه لأحرقوه مع هذا التاريخ، وهذا الشيخ الضئيل هو الشيخ خليل البكري نقيب الأشراف، أما الشيخ الوقور الراكب إلى يمينه فهو السيد محمد السادات وهو رجل خطير الشأن، يبغض الفرنسيين ويبغضونه، وقد يرجى أن تكون له يد في إنقاذ مصر، وهذا الذي ترينه منحنيا على قربوس بغلته، وقد وشيت جبته بالذهب، هو المعلم جرجس الجوهري القبطي كبير المباشرين والكتبة، وله في هذه الدولة نفوذ عظيم، وانظري يا لورا إلى هذا العتل الزنيم الراكب وراءه، إنه برثلمي الرومي، وهو نكبة مصر في لأوائها، كان من أسافل جند المماليك فعينه الفرنسيون وكيلا لحاكم القاهرة فطغى أشد الطغيان، وأصبح صورة بشعة للقسوة والنهب وسفك الدماء والتجسس على الناس، ثم مر في الطريق السيد أحمد المحروقي والسيد أحمد محرم والشيخ الصاوي وغيرهم من الكبراء والأعيان فكان محمود يعرف كلا منهم للورا بكلمة موجزة.
ودخل نابليون في عظمته وجلاله من باب النصر يتبعه الجيش، فاخترق شوارع الجمالية وبين القصرين والموسكى، حتى وصل إلى ميدان الأزبكية بين قصف المدافع ودق الطبول، وكان سير الموكب بطيئا، فاجتاز هذه المسافة في خمس ساعات.
ولما انفرد محمود بنيكلسون ولورا قال: أشهد أن نابليون هزم في هذه الموقعة وعاد مدحورا، أرأيتما كيف كانت عيناه تنطبقان أحيانا لكيلا تؤلمه رؤية هذا الاحتفال الكاذب؟ أرأيتما جيشه خلفه وهو يكاد يسقط من الإعياء؟ إني أقسم أنه فقد نصف عدده، أرأيتما هذا النفر الضئيل الذي يسميه أسرى؟ هؤلاء يا لورا من باعة الصابون الفلسطينيين الذين يتجرون في مصر، وفي ظني أنه ظفر بهم وهم قادمون فزين له عجبه أن يتخذهم أسرى، فقالت لورا: أعتقد أن المبالغة في الاحتفاء به وحدها هي أوضح دليل على خذلانه، وقال نيكلسون: صدقت أيتها الفيلسوفة الصغيرة، ولكني أقول: إن عودته وحدها من سورية برهان نكبته؛ لأن نابليون كان يرجي بعد فتح عكا أن يزحف إلى دمشق وحلب، وأن يصل منهما إلى الأناضول فيحتل إستانبول ويقوض أركان الدولة العثمانية، ثم يمضي بجيوشه نحو النمسا ويصل منها إلى باريس ظافرا منصورا بعد أن امتلك الشرق والغرب، فعودته بعد أن طاحت هذه الآمال خيبة ليس وراءها خيبة، على أننا سنسمع الخبر اليقين من ألبير غدا، فقال محمود: ومن ألبير هذا؟ - ضابط فرنسي ساخط على بقاء الفرنسيين بمصر.
وكانوا بلغوا منزل نيكلسون فودعهم محمود وانصرف.
قضت لورا ليلتها في أحلام مضطربة، فمرة ترى زبيدة غارقة في نهر ومحمود يحاول إنقاذها فيحول بينهما تيار جارف شديد، ومرة ترى محمودا وهو متعلق بفرع شجرة عالية، وقد كلت ذراعاه وأشرف على الهلاك، فتسرع إليه بسلم عال فينحدر به إلى الأرض، وهكذا كانت كلما خرجت من حلم دخلت في غيره حتى أشرق النهار.
وقضى نيكلسون اليوم في رسم خريطة للقاهرة تبين شوارعها ودروبها وأشهر معالمها، حتى إذا جاء وقت العصر غادر داره متجها نحو دكان محمود، فرآه جالسا قلقا ينتظره، فسارا معا حتى بلغا الحانة ورأى نيكلسون ألبير جالسا في إحدى زواياها، وهو يذود الذباب عن وجهه ضجرا مغتاظا، وقد تواثب عليه من كل ناحية، فلما رآه ألبير صاح مبتهجا: أدركني يا صاحبي المغربي! فإنه يظهر أن ذباب مصر ملتهب الوطنية ، وأنه حينما رأى أن المصريين لم يستطيعوا إخراجنا من مصر، أراد أن يقوم بالأمر عنهم، واعتقادي أنه سيفوز بالتغلب علينا وقذفنا في البحر، فابتسم نيكلسون وقال: إن الذباب يسقط على ما يحب لا على ما يكره. - إنه حب من النوع القاتل، فقد نكب هذا الحب جنودنا بالرمد المصري والزحار وأنواع لا تكاد تحصى من الحميات القاتلة.
الشاعر العربي يقول:
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
والشهد هنا هو النيل، فمن أراد أن يمتلكه ويتمتع بعذب مائه فليصبر على ما بشاطئيه من حشرات وأمراض، ثم التفت إلى محمود وقال: هذا ابن أخي، فنظر إليه ألبير مبتسما وقال: ولكنه يتزيا بزي المصريين. - لأنه يريد مجاملتهم لتروج تجارته بينهم، أوصلت إليك السجادات العجمية؟ - أنت لم تمهلني لشكرك، وهذا الذباب قد علمني سوء الأدب فلم أسارع منذ رأيتك إلى إظهار ما يملأ نفسي إعجابا بك وبهديتك الغالية، حقا إنها سجادات يزدهي بمثلها قصر الشاه بإيران. - هذا شيء قليل يا صديقي، أشهدت الاحتفال بمقدم نابليون بالأمس؟ لقد كان غاية في العظمة وجلالة الملك. - نعم لقد كان احتفالا فخما، ولم ندخر وسعا في أن يكون صورة لقوة فرنسا وضخامة سلطانها. - ولكني كنت أحب أن يصل نابليون إلى أبعد من عكا. - فابتسم ألبير ابتسامة فاترة حزينة وقال: هذا ما كان يتمناه نابليون ويتمناه كل فرنسي معتقل في أرض مصر، فإنه بعد أن سد علينا طريق البحر بتدمير أسطولنا حاول قائدنا أن يسخر من العقبات، وأن يشق لنا طريقا برية تصلنا بفرنسا، فوقف القدر في وجهه فلم يجد إلا أن يعود أدراجه إلى مصر. - إنها محاولة جريئة، لن يقوم بها إلا نابليون العبقري. - ولكن الثمن كان غاليا جدا، والنكبة فادحة جدا، ولمح نيكلسون غلام الحانة فأمره بإحضار كأس من الخمر، وفنجانتين من القهوة ثم قال: إنهم يقولون: إن نابليون عاد منتصرا، ولكن ألبير مط شفته السفلى في غيظ وأسف، وقال: إن للسياسة يا صديقي لغة لا يفهمها الناس، وحضر الغلام فاحتسى ألبير كأسه دفعة واحدة، وأمر له نيكلسون بأخرى، وهنا مال ألبير نحوه برأسه وقال هامسا: لقد أصبحت لي يا سوسي أخا وحبيبا، ولقد رأيت فيك ميلا للفرنسيين وحبا خالصا لهم، وليس من حرج أن أكشف لك خبيئة كل أمر، لقد اطلعت بالأمس على رسالة طويلة كان بعث بها الجنرال «رينييه» إلى دوجا منذ أسبوع يصف فيها هذه الحملة وصفا دقيقا فيقول: إنهم تغلبوا على الجيش العثماني في العريش، ثم ملكوا خان يونس وغزة والرملة واللد، واستولوا على يافا بعد حصار شديد ومعركة عنيفة، وإن الجنود ارتكبوا في يافا من القتل والنهب ما تقشعر له الأبدان، وفي هذه المدينة انتشر بين الجند وباء ماحق كاد يقضي عليهم جميعا، وفيها أمر نابليون بإعدام ثلاثة آلاف من الجنود العثمانيين دفعة واحدة بعد أن ألقوا السلاح، وبعد أن تعهد لهم بعض ضباطه بسلامة أرواحهم إذا سلموا، ثم استأنف الجيش سيره فاحتل حيفا، ثم اتجه نحو عكا وهي مدينة محصنة بها جيش قوي من العثمانيين يقوده أحمد باشا الجزار، وهو قائد شديد المراس قاس، ذكي الفؤاد، خبير بشئون الحرب، وأخذ نابليون يحاصر عكا من اليوم التاسع عشر من مارس 1799م إلى اليوم الحادي والعشرين من مايو فضرب أسوارها ومعاقلها، واشتعلت المعارك بينه وبين الجزار طاحنة شديدة الأوار، ولما طال الحصار وضعف جند نابليون وعظمت خسائره، ارتد عنها بالبقية الباقية من جيشه، وزاد في قوة عكا أن الأسطول الإنجليزي بقيادة سدني اسمث كان يظاهر جيش الجزار ويحول دون وصول السفن الفرنسية بالذخائر إلى الشاطئ، وقد أسر منها سبعا كانت قادمة من مصر تحمل مدافع الحصار وكثيرا من الذخيرة، فضمها إلى أسطوله، وهكذا عاد نابليون إلى مصر حزينا يائسا بعد أن فقد خيرة رجاله، وبعد أن اضطر أن يترك بيافا جنوده الذين أصيبوا بالطاعون فريسة في أيدي أعدائه، وأن يتخلى عن كثير من مدافعه وذخائره في الطريق لوعورته وضعف جنوده عن جرها، وقد طغى عليه الغضب فأحرق القرى بين يافا وغزة، هذه يا صديقي حملة سورية التي كنا نريد أن نجعل منها بابا خلفيا إلى أوربا. - لقد أحزنتني يا ألبير، إنها حقا لكارثة جائحة تشبه كارثة الأسطول الذي دمره نلسون، ولكن نابليون رجل خلاق للفرص يتخذ دائما من خذلانه ذريعة لفوزه وانتصاره، وسنسمع عنه بعد حين ما ينسينا نكبة سوريا. - إنه يحارب في غير ميدانه يا صديقي، ويحاول اغتصاب بيت بعيد عنه، وهو غافل عن بيته الذي كادت تلتهمه النيران، ويضيع جهوده في صحراء قاحلة بينما يترك جنات أوربا يتواثب عليها الأعداء! هل يعرف الآن ماذا يحصل في أوربا أو في فرنسا من الحوادث الجسام بعد أن انقطعت عنه أخبارها شهورا؟ أنا قد أكون رجلا غبيا، ولكني مع غباوتي هذه أستطيع أن أفهم البديهيات التي لا يدركها سادتنا الأذكياء النابغون.
وطال المجلس فوقف نيكلسون ومحمود وودعا صاحبهما وانصرفا، وأجمل نيكلسون لمحمود ما حدثه به ألبير فاغتبط وقال: هذه ضربة قاصمة ستليها بحول الله ضربات، فقال نيكلسون: أغلب ظني أن نابليون لن يستطيع البقاء في مصر طويلا بعد هذه النازلة، وعلى المصريين أن يهتبلوا الفرصة ويثبوا على الأسد وهو يلعق جراحه.
مضت أيام والمصريون في صورة نفسية عنيفة يكتمها الحذر بعد أن شاعت الأخبار بينهم بهزيمة نابليون بسورية وارتداده عن حصون عكا، ثم ملأت الإشاعات جو القاهرة بنزول الجنود العثمانية بأبي قبر، وأحس نابليون بالحرج وأدرك ما في الموقف من خطر، وبخاصة بعد أن علم أن أسطول سدني اسمث يرافق العمارة العثمانية، فأرسل أوامره إلى قواده ووثب بجيشه على العثمانيين واشتد الصراع وطال أمده، حتى انتهى بهزيمة الأتراك والاستيلاء على مدافعهم وذخائرهم.
ما كاد محمود يتنفس الصعداء ويستبشر بقدوم العثمانيين، حتى دهمه الخبر بهزيمتهم فلزم داره أياما، وحين برحت به آلام الوحدة ذهب إلى نيكلسون بداره يشكو إليه بثه وحزنه، ولكن نيكلسون لاقاه ضاحكا مستبشرا وقال: قربت النهاية يا بني فلا تبتئس. ثم أخرج من صندوق أمامه جريدة إنجليزية وقال: بودي لو كنت تستطيع قراءة هذه الجريدة يا محمود. قابلت بالأمس ألبير وبعد أن تحدثنا طويلا، وهممت بالانصراف أدخل يده في جيب معطفه وأعطاني هذه الجريدة، وقال: اقرأ هذه يا صديقي تعلم أن كل ما تخيلته منذ أيام كان صحيحا. فسألته من أين له بهذه الجريدة فقال: إن سدني اسمث قائد الأسطول الإنجليزي - وهو من نوابغ الإنجليز وكبار عباقرتهم - اغتنم فرصة ذهاب ضابطين بعث بهما إليه نابليون للتحدث في تبادل الأسرى، فأحسن لقاءهما، وزودهما ببعض الصحف الإنجليزية التي كان منها هذه الجريدة، وما كان يريد سدني اسمث بهذه الهدية الغالية إلا أن يطلع نابليون على ما أصاب أوربا من الاضطراب، وما دهيت به جيوش الفرنسيين في إيطاليا من الهزائم، وأن البنيان الذي أقام قواعده في فرنسا بقوة عزيمته وصدق بلائه أخذ ينهار، وأكبر ظني أن نابليون لن يقيم طويلا في مصر بعد أن وصلت إليه أنباء هذه الكوارث.
ثم أخذ يقرأ علي فقرات مما جاء بالجريدة فكان منها أن الفتن اشتدت بألمانيا والنمسا وإيطاليا، وأن السخط وبوادر الثورة على حكومة فرنسا عام شامل، وأن إنجلترا لا تفتأ تشن غاراتها على أملاك فرنسا بالبحار، وأنها اجتذبت إليها روسيا وتركيا فصارحتا فرنسا بالعدوان. وهنا قال محمود: إن خروج نابليون من مصر فرار من الميدان، واعتراف صريح بأن السيف والنار لا يستطيعان أن يملكا القلوب أو ينهنها من عزيمة أمة عزلاء أمضت إرادتها أن تعيش عزيزة لا تلين قناتها لغاصب، هذه الأخبار يجب أن يطلع عليها الشيخ السادات، فهلم بنا إليه.
الفصل العاشر
لقيت زبيدة من زوجها مينو أول الأمر شغفا وهياما وطرقا في الغزل وشكوى الصبابة لا عهد لها بها، فكان يجثو أمامها في ذلة واستعطاف كما يجثو الراهب في محرابه، ويتمتم في أذنها بأحاديث من الحب والوله تختلط بإشارات وحركات ينتفض لها قلب كل فتاة، وقد أتقن مينو هذا الفن بعد أن تدرب عليه طويلا في مجتمعات باريس، وكان كثير من شبان أوربا في هذا الحين الذي كثرت فيه الثورات، وخرجت فيه الأمم على كل قديم، وتغلب فيه المذهب الأبيقوري، يعدون إغراء المحصنات بأساليب الختل والكذب فنا رفيعا وثقافة عالية، لا يكمل الرجل بغيرها، فالذي لا يغازل أبله، والذي لا يستنزل فضيلة المرأة البتول من قمة قدسها إلى أسفل درك لا يعد رجلا كامل الذوق واسع العلم بالحياة، وكلما صعب نيل الفريسة زادت مهارة الصائد، وكلما مزقت الحجب كان العمل فتحا مبينا، وإذا تنافس فرسان العصور الوسطى في الشجاعة وإغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف، فإن فرسان أوربا في هذا العصر كانوا يتنافسون في نصب الحبائل للغيد الفاتنات، ولقد سرى الداء إلى النساء فلم يعد الطهر طهرا، ولا العفاف عفافا، حتى إن المرأة كانت تباهي بكثرة عشاقها، وتحاول بكل وسائل الإغراء أن تزيد في عددهم، وفتحت الأبواب في كل قصر لتلاقي الأخدان واجتماع الخلان في جهر وعلانية، وأجاد الشبان دروس الغزل، وأعدوا لكل نوع من النساء نوعا خاصا منه، كأنهم باعة ثياب يبيعون لكل مستام ثوبا على قده، وقد قطعوا الصلة بين اللسان والقلب، وبين الوجه والضمير، فهم يتحدثون عن الحب وليس في قلبهم منه إلا فتكات اللص وشهوات البهيم، ويبكون في ضراعة ووجد وضميرهم يسخر ويقهقه من غرور المرأة وقرب وقوعها في الشرك.
ولكن مينو كان زوجا، عقد له على زبيدة بكتاب الله وسنة رسوله بعد أن أعلن إسلامه وسجله بالدفاتر، فلماذا يعصف به الحب ويدلهه الغرام، ومحبوبته بين ذراعيه، وهي له وحده لا يزاحمه في حبها مزاحم؟ ألأن النشوة الأولى بهرت الرجل ولعب بلبه ما رأى من زوجته من سحر وفتنة، وهو من أخبر الناس بفنون الجمال؟ أم لأن الرجولة كانت عاتية طاغية فلم يملك إلا أن يجد لما يجيش في نفسه متنفسا بالغزل وبث الغرام؟ أم لأن العادة جرفته فأخذ يكرر في بيت الحاكم برشيد تلك الدروس التي حفظها وأجاد إلقاءها في حفلات فرنسا؟
وكانت زبيدة بعد زفافها في بحر مائج مضطرب من الأفكار والهواجس، أترضى بما قسمه لها القدر، وتقنع بهذا الزوج الذي سيجلسها على عرش مصر، فتجزي زوجها حبا بحب؟ أم تسخط على صلة دفعها إليه أمل كاذب مغرر فتنكمش بقدر ما يحسن بها الانكماش، ولا تعطي هذا الفرنسي إلا ما تسمح به الفتاة الملول؟ لم يكن في الجنرال مينو شيء يغري المرأة بالرجل قط: وجه غليظ دميم القسمات ثقيل الملمح، وجسم بدين إلى القماءة أقرب، وكرش بارزة كأنها الزق المنتفخ، ثم هو وقد خطا نحو الخمسين لم يبق فيه مأرب للنساء ولو كان في جمال يوسف الصديق، فكرت زبيدة طويلا وقدرت طويلا، وسار بها الفكر في شعاب مترامية البعد كثيرة الالتواء، فجال بخاطرها محمود وما أنعم الله به عليه من كمال في الخلق والخلق، وجمال في النفس والجسم، ورجولة ناضجة تهوي إليها قلوب النساء، وعقل راجح يلعب بألباب الرجال، جال ذلك بخاطرها فثار حبها القديم، وهاجت عواطفها الكامنة، وتأججت بفؤادها نار من الوجد طالما أخمدتها بماء دموعها؛ لأنها لن تصل بمحمود إلى ما تريد من ملك مصر، ولأن حبه لا يحقق لها تلك الأحلام الذهبية التي منتها بها رابحة العرافة، وماذا تعمل وقد خلقها الله من آمال وطموح، وسلحها بعزيمة ماضية الحد ترد عنها كل ما يصدها عن هذه الآمال؟ محمود ريحانة قلبها ونور عينيها ومطمح غرائزها، وهي لو أرادت أن تعيش كمثيلاتها لم ترض به بديلا، ولنعمت في ظل حنانه بالحب والنشوة الحلوة والسعادة التي تصبو إليها كل فتاة، ولكنها لا تريد أن تكون كمثيلاتها ولو أحرق الوجد فؤادها، وجشمها إسكات غرائزها النهمة عناء طويلا، وأين الحب وأين لذته، وأين محمود وأين جهارته، من ملك سامق البنيان عزيز السلطان تعنو إليه الوجوه وتنحني الرءوس؟ هكذا مضت أيام زبيدة، وهي تفكر وتثير غبار الماضي، لا يمر بخاطرها ذكر محمود حتى تثور عليه حزينة متألمة، فإذا نسيته أو شغلها عنه شاغل حنت إليه وتشبثت بخياله تبثه وجدا متأججا وحبا كمينا، ولكنها أبت في النهاية على الرغم من طموحها وتضحيتها في سبيل هذا الطموح بكل غال، أن تمنح قلبها رجلا جر العار إليها وإلى أهلها، فقد فر أبوها من المدينة يوم خطبتها، وبخع الحزن نفس أمها أسفا، وجانبتها عشيرتها فأصبحت أشبه بأسيرة في جيش الأعداء، وإن أحاطت بها صنوف النعيم، ثم هزت رأسها في تصميم وقالت: محال أن يظفر هذا الفرنسي بحبي، وفي ذات صباح أطلت من نافذة قصرها فرأت الجنود والحراس وقد التفوا حول امرأة في ملاءة بالية، وهي تصيح في وجوههم وتقذفهم بأبلغ ما تضمنته معجمات العامة من شتائم، فأطالت زبيدة النظر فإذا هي رابحة العرافة، فأرسلت في عجل إحدى وصائفها لتأمر الجند بإدخالها، وبعد قليل دخلت رابحة وهي تصخب وتلعن، والنساء دائما أشد جرأة على الجنود الغزاة من الرجال؛ لأنهن يتسلحن بالضعف، ويملكن من وسائل التشهير والصراخ والولولة ما ليس في مكنة الرجال، دخلت رابحة على زبيدة مربدة الوجه، وبعد أن تنهدت طويلا، قالت: أسعد الله صباح الملكة. - الملكة؟ هكذا مرة واحدة يا رابحة؟ إن الفرنسيين لم يدعوا في مصر ملكا ولا ملكة ولا أميرا ولا أميرة. - نعم، ولكن كل هذا لن يحول دون أن تكوني ملكة، إن علمي لن يكذب أبدا، اللهم إلا إذا محيت خطوط كفك اليمنى. - وهل تمحى خطوط الكف؟ ليتها تمحى! - لن تمحى؛ لأنها صورة في كتاب القدر. - ولكن أين أنا الآن من هذا الملك الموهوم؟ وهل زواجي هذا الفرنسي يقربني خطوة إليه. - لا أدري؛ لأنني أعرف الغايات ولا أعرف الوسائل، وكثيرا ما دهشت لأعاجيب القدر، وكثيرا ما كتمت ما أراه من لمحاته حتى لا يسخر الناس مني، وكثيرا ما توقعني صناعتي في مشكلات يصعب منها المخرج، أذكر أني قبل أن يدخل الفرنسيون البلد بسنة واحدة كنت مارة بهذا القصر، وكان به عثمان خجا حاكم المدينة فوسوس إليه شيطانه وزين له غروره أن يدعوني لأبصر له كفه حتى يتسلى بالضحك مني والاستخفاف بتكهناتي، فدخلت عليه وهو متكئ في صلف وكبرياء على مقعد طويل، والجند حوله شاكو السلاح، والرهبة تطبق على أنحاء المكان، والشيخ البربير يحتال جهده على أن يستل ابتسامة خفيفة من بين شفتيه لكثرة ما يقص من نوادره المضحكة ونكاته البارعة. دخلت فلم أسلم عليه؛ لأن الدماء البريئة التي كان يريقها كل يوم ظلما، والأموال التي يغتصبها اغتصابا حبست لساني ودفعتني إلى ازدرائه واحتقاره، كيفما كانت سطوته وكيفما علا مقامه الزائف، وما أنا والخوف من سطوته، ونحن الضعفاء الفقراء قد حصننا الضعف وصد عنا الفقر يد الظالمين؟ دخلت فلم أسلم فجمجم الحراس مستنكرين في رياء وملق فلم أبال بهم، ثم قلت: ماذا تريد مني يا عثمان؟ أتريد أن أبحث في كفك عن مدينة أخرى تخربها بعد أن أتممت خراب رشيد؟ فنهرني سليم بك، وكان في المجلس، وهم بطردي، ولكن الشيخ البربير قال شيئا من الشعر معناه أن طنين الذباب لا يضير، وأن السحاب لا يضرها نبح الكلاب، وهو في قرارة نفسه يريد أن يذود عني هؤلاء الكلاب. فضحك الحاكم كأنه فهم الشعر، ومد إلي كفه قائلا: انظري يا محتالة لعلك ترين في كفي أني سآمر بقتلك. فنظرت في خطوط كفه وهالني ما نظرت! رأيت خطا فيها لا يظهر إلا في كف من يموت مصلوبا، فوجمت وتمتمت، وترددت بين الصراحة وفيها الضرب والهوان أو الموت، والمداجاة وفيها الخلاص من براثن هذا الأحمق. ولكني عاهدت الله وعاهدتني أمي أن أكون أمينة على علمي، فرفعت رأسي في اعتزاز وجرأة وقلت: أيها الحاكم إنك ستموت، فضحك من بالمجلس وصاح الشيخ البربير قائلا في سخرية مصنوعة: أفادك الله يا رابحة! ما كنا نظن أن أحدا مخلدا في الأرض: و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
هاتي كفك يا رابحة، إني أرى فيك أنك ستموتين، ولكني لويت عنه وجهي وقلت: أيها الحاكم إنك ستموت في هذا البلد بعد سنتين، وسيكون موتك بين السماء والأرض. فضحك سليم بك، وقال الشيخ البربير ساخرا: أخشى يا سيدي الأغا أن يكون لك جناحان تخفيهما تحت ثيابك، ثم التفت إلي وقال: انصرفي يا رابحة، إن شيطانك اليوم ساخط عليك، يأبى أن يطلعك على لمحة من الغيب، فانصرفت بعد أن لمحت في وجه الحاكم الفزع والغضب فعلمت أنه فهم ما قلت على الرغم من سخرية أصحابه بي واستخفافهم بقولي. - ولكن عثمان خجا فر بجنوده يوم دخول الفرنسيين المدينة، وأكبر الظن أنه لن يعود ما داموا فيها. - إنه سيعود حتما، وسيعود بعد أيام، وسيصلب في رشيد. - وإنني سأكون ملكة حتما؟ ومتى؟ - قريبا وإن كنت أعتقد أن حكم الفرنسيين لا يدوم طويلا. - لا يدوم طويلا! إذا متى أكون ملكة؟ - ستكونين ملكة فلا تخافي. - وكيف لا أخاف وقد عقد القدر مآلي بمآلهم بعد أن أصبحت زوجة لأحد كبرائهم؟ - هذا ما لست أدريه، لكن الذي أعلمه حقا أنك ستكونين ملكة مصر، والله وحده هو الذي يصرف الأسباب ويقلب الليل والنهار، لقد زرت أمك منذ أيام فساءني ما رأيت من ذبولها وشدة حزنها لاختفاء أبيك، أما أعجب العجب فابتهاج أخيك علي الحمامي وازدهاؤه بصهره الجديد! لقد نسي المسكين كل معنى للرجولة بعد أن أغدق الجنرال عليه وجعله رئيس التجار وموضع الشفاعات، وأجرى عليه النعم، فهو اليوم يركب جواده في كبر وتيه، وأمامه ثلة من الجنود الفرنسيين توسع له الطريق، ولن تذهب سفينة إلى القاهرة أو الإسكندرية إلا بإذن منه، ولن يصدر هذا الإذن إلا بمال يكاد يصل إلى قيمة ما تحمله السفينة، كل هذا ثمن أسرك يا فتاتي في هذا السجن الجميل المشرف على نهر النيل المبارك. وبينما هي في الحديث إذا صوت جهير تتردد صيحاته في الأفق تبينتا فيه صوت الشيخ علي سريط وهو يقول: «طأطئوا الرءوس، للعروس، وإن ذهب الإسلام، وعبث الذئب بالأغنام».
فتجهمت زبيدة ووجمت رابحة ثم قامت وهي تقول: سأطأطئ الرأس للملكة، أما الإسلام فله رب يحميه، وانفلتت كأنها الطائر المروع، وبعد خروجها دخل المترجم إلياس فخر ليلقن زبيدة درسا في اللغة الفرنسية، وقد عهد إليه مينو في ذلك، فكان يلقي عليها جملا بالفرنسية مع بيان معانيها بالعربية ويطلب إليها تكرارها، وكان لهذه الجمل سبيل واحدة، فكلها من أمثال: أحبك، لقد ملأ حبك قلبي، لقد ملكت فؤادي، إن غيابك يؤلمني، إلى غير ذلك من أمثال هذه الترهات، وكانت زبيدة تكرر هذه الجمل ذاهلة حزينة كأنها بريء من العصور الوسطى يحمل على الاعتراف بوسائل التعذيب، وبعد انتهاء الدرس أخذ المترجم كعادته يفيض في عظمة الجنرال وشرف محتده وعلو منزلته، ويصور لها ما ينتظرها من المجد الشامخ والعز السامق، وهي تهز رأسها بحركات آلية لا أثر للحياة فيها، وبعد قليل سمعت أصوات الأبواق، وعلا صياح الجند بالتحية لقدوم الجنرال مينو، واصطف الحراس واهتزت أرجاء المكان، ودخل مينو القصر في عظمة وجبرية، فسار توا إلى حجرة زبيدة فانحنى أمامها يقبل يدها، وحيا إلياس فخر بإيماءة من رأسه، وقال: كيف تلميذتك اليوم؟ إنها أدهشتني بالأمس، فقد فهمت كل ما ألقيته في أذنها من الجمل اللطيفة، ثم التفت إلى زبيدة قائلا: ألم تكن لطيفة يا حبيبتي؟ فأسبلت عينيها في ضجر يشبه الخفر، وقالت بعد أن تنهدت: نعم لطيفة، ثم قامت تتعثر في أذيالها كما يمشي الحالم، وغادرت الغرفة، وهنا التفت مينو إلى إياس وقال: سيكون يوم الجمعة يوما تاريخيا في رشيد، أتعرف حاكم رشيد التركي عثمان خجا؟ - كيف لا أعرفه يا سيدي وفي كل بيت في هذه المدينة من ظلمه دماء ودموع؟ - أرسل إلي نابليون من عشرة أيام كتابا من أبي قير يخبرني فيه بانتصاره على مصطفى باشا كوسه، وأنه أسر من جيشه عددا عظيما بينهم عثمان خجا هذا. - ولكن عثمان خجا كان قد فر إلى إستانبول عند دخول الفرنسيين. - نعم ولكنه عاد مع جيش مصطفى باشا ليطردنا من مصر، ويقضي على البقية الباقية من رشيد، قاتل الله هؤلاء الترك! نريد أن نصانعهم فيأبون إلا الانضواء تحت راية أعدائنا الإنجليز، أرسل إلي نابليون كتابا كما قلت يشيد فيه بانتصاره الحاسم، ويطلب مني أن أجمع مجلسا من العلماء والأعيان لإصدار فتوى بقتل عثمان خجا، وقد اجتمع المجلس وأصدر الفتوى، وسيصل المسكين إلى رشيد بعد أسبوع، ثم أخرج من جيبه ورقة فقرأها إلياس، وترجم لسيده ما فيها، فكانت هذه عبارتها لم تغير فيها حرفا: «وصلتنا مكاتبتكم، بالأمر أننا نستخبر ونكشف عن جميع الأعمال التي حدثت في طرف عثمان خجا كردلي، وننظر إن كان حصل منه الشر أكثر من الخير، وبموجب هذا الأمر بحضور: حضرة سيدنا شيخ الإسلام العالم المتورع الشريف أحمد الحضري المفتي، ونقيب الأشراف المكرم المحترم الشيخ بدوي، وقدوة الأعيان أحمد أغا السلحدار، والمكرم علي شاويش كتخدا، وقدوة التجار إبراهيم الجمال، والشريف علي الحمامي، والشيخ مصطفى طاهر، والشريف إبراهيم سعيد وبحضور جماعة المسلمين خلاف المذكورين أعلاه.
ثم حضر رمضان حموده، ومصطفى الجيار، وأحمد شاويش عبد الله، والحاج حسن أبو جوده، وبدوي دياب، وحسن عرب، وثبت من إقرارهم ومن شهاداتهم أن عثمان خجا المذكور كان ظلمهم ظلما شديدا بالضرب والحبس بدون وجه حق، ونهب أملاكهم، وخلاف ذلك سئل جماعة من المسلمين الحاضرين في المجلس إن كان حصل من عثمان خجا الشر أكثر من الخير، فكلهم قالوا بلسان واحد: إنه حصل من عثمان خجا الشر أكثر من الخير، وبسبب ذلك يقطع رأس عثمان خجا حاكم رشيد سابقا».
وبعد أن أتم إلياس قراءة هذه الفتوى، دخل علي الحمامي فحيا الجنرال كما تحيا الملوك، وانتحى ناحية قاصية في الغرفة حتى إذا أومأ إليه مينو بالجلوس جلس مطرق الرأس يجمع أطراف ثوبه في أدب وذلة، ويخفي قدميه تحت الكرسي مبالغة في الخضوع، فلما اطمأن به المجلس سأل مينو: هل سافرت السفن إلى القاهرة؟ - نعم يا سيدي سافر اليوم عشرون سفينة محملة بالأرز الأبيض، فيكون ما بعث به إلى القاهرة في هذا الشهر سبعين سفينة، منها ثلاثون محملة قمحا. - هل تألم التجار من إرسال هذا المقدار العظيم؟ - إنهم دائما يتألمون يا سيدي، ولو ترك لهم الأمر ما سمحوا بسفينة واحدة؛ لأنهم يبيعون أردب القمح خفية بسبعة عشر ريالا، في حين أنه يباع للجيش الفرنسي بثلاثة ريالات، أما الأرز فكثيرا ما ضبطت السفن وهي ذاهبة به إلى دسوق ليباع هناك بسعر مرتفع، ثم التفت إلى المترجم ليعينه في ترجمة ما يصعب على الجنرال فهمه، وقال: هؤلاء التجار يا سيدي لا يملأ عيونهم شيء، وهم يعلمون حق العلم أن هذه الحبوب ترسل إلى الجيش الفرنسي الذي يدفع عنهم فتك الترك ونهب العرب، ومع هذا لا يخرجون شيئا من الأرز أو القمح إلا بعد التهديد والتعذيب، ولولا الخوف الذي يملأ نفوسهم ما جادوا على الجيش بحبة واحدة، ومن الغريب المعجب أني كنت بالأمس عند الحاج سالم الغزولي، وهو رجل ماكر ختال واسع الحيلة، عبقري في تزويق الكذب وإحاطته بإطار من الأيمان التي تغمس صاحبها في النار، لذلك أعددت العدة لمكره ومحاله، فبعثت حوله العيون وأصحاب الأخبار حتى علمت أنه يخبأ قدرا عظيما من الأرز في مخازن داره، فلما ترادفت عندي الأخبار ذهبت إليه في دائرته بعد أن أرسلت إلى داره طائفة من العمال والحمالين لينقبوا جدار مخازن الدار، ويستخرجوا منها ما يجدونه من أرز وقمح، فلما رآني تهلل وجهه بشرا، ونثر فوقي من عبارات الترحيب والشوق ما تعجز عنه أم عاد إليها وحديها بعد لوعة وإياس، والعجيب أن لألفاظه رنين الذهب الخالص الذي لم يشبه زيف، ولم يخلط به ما يكدر معدنه الكريم، ثم وثب مع التحية إلى امتداح الفرنسيين والإشادة بعدلهم وسماحة حكمهم، وأخذ يوازن بينهم وبين الترك في ذلاقة لا يستطيعها سواه، ثم التفت إلي وقال: كن معهم يا سيدي الشريف كما أنت، ولا تبال ما يقول الناس، فإنهم اعتادوا الظلم فإذا رفع عنهم تشوقوا إليه، وأسفوا على أيامه الماضية، إن الخفافيش لا تعيش إلا في الظلام، فإذا سطع عليها النور اضطربت ولاذت منه بالفرار، وهؤلاء العبيد الذين نسومهم الخسف لو أطلقنا سراحهم في الصباح لعادوا إلينا في المساء، ولحنوا إلى الذل الهنيء في ظلال ساداتهم، ثم انطلق إلى حديث ثان وثالث، وأظنه كان يتوجس أني جئت لطلب شيء فأخذ يملأ الحجرة حديثا حتى لا يتسع فيها قول لغيره، وحتى يصرفني بسحر محاضرته عن أن أنبس بكلام، ولكني قاطعته وهو ينتقل إلى موضوع فسيح يستطيع أن يتكلم فيه اليوم كله، وطلبت منه مائة إردب أرز للجيش الفرنسي، فقال: آه يا سيدي هؤلاء الفرنسيون لو أطعمناهم المن والسلوى ما كافأناهم، ولو شوينا لهم فلذات أكبادنا ما وفينا ديننا لهم! من يضن على هؤلاء المجاهدين بقوته وقوت عياله؟ إنه لن يكون إلا حجرا صلدا لا خلاق له من الرجولة والإحساس الكريم.
ولو أن لقمة كانت في أذيال السحاب، وكان لي نهوض الطائر لحلقت حولها واختطفتها لأضعها في فم فرنسي، إن ما نحن فيه من نعمة واطمئنان وثروة لم يكن إلا منحة أيديهم وفضل سماحتهم، دع مسألة الدين بالله عليك يا سيدي، فإن الدين لله، وأنف العمامة راغم، وأنف العلماء راغم، على أن صفات الوفاء والاعتراف بالجميل وشكر المحسن على إحسانه لا تعرف مذهبا ولا جنسا ولا دينا، من يا سيدي لا يبذل كل ما عنده للفرنسيين؟ ولكني أقسم بذات الله العلية، وقدرته الصمدانية، وبقبر المصطفى صاحب المقام المحمود، والشفاعة العظمى في اليوم المشهود، إني لا أملك حبة أرز ولا أحوز حبة قمح، وإليك الدائرة يا سيدي الشريف ففتش كل مكان فيها إن شئت، ولقد كنت أتمنى أن تمتلئ هذه المخازن سمنا وعسلا وحبا لأهبها جميعا للفرنسيين! آه ما أشد حزني حين أريد فلا أقدر، وقد كنت في أيام الترك أقدر ولا أريد! ليت الأرض تمور بي مورا، وليت الموت ينسفني نسفا، بعد أن عجزت عن أن أعمل شيئا يكون آية إخلاصي للفرنسيين وفنائي في حبهم، وبينما هو منهمر في حديثه كالسيل الهدار؛ إذ أقبل أحد عماله صائحا في ذعر وهلع: يا سيدي إن بعض عمال السيد علي الحمامي نقبوا جدار المخازن بالدار، وهم الآن يحملون كل ما فيها من أرز وقمح، فبهت الرجل وهو ممن لا يبهتون سريعا، غير أن المفاجأة خلطت عليه أمره وأذهلته لحظة عن نفسه استطاع بعدها أن يثوب إلى طبعه، فالتفت إلي وأخذ يقهقه ويضرب الأرض بقدميه، ويهز كتفي هزا عنيفا، ويقول والضحك يفصل كل كلمة من كلماته عن صويحباتها: كنت أختبر ذكاءك يا سيدي! وكنت من الغرور بحيث أظن أن حلاوة منطقي وبريق ألفاظي يذهلانك عن الحق، وأقسم بذات الله العلية، وقدرته الصمدانية، ولو أنك خدعت لاحتقرتك وازدريتك، وحزنت أشد الحزن أن يكون سليل النبي الكريم فدما مغفلا، أما الآن فالحمد لله ثم الحمد لله على أن لم يضع أملي فيك وأنت صديق ابن صديق، وعزيز ابن عزيز، خذ ما حمله رجالك من مالي حلالا وإن شئت فادفع ثمنه أو فدع.
فعجبت من حسن انفلات الرجل وسرعة عارضته، ودفعت له الثمن وهو مرح ضحوك، وهنا قال الجنرال: هذا رجل ذكي دوار ولكني أخشى ألا نكون قد تركنا لأهل البلد من الحبوب ما يكفيهم. - الواقع يا سيدي أنهم في ضائقة، ولكن غلة العام القابل ستكون وافرة.
وفي هذه اللحظة دخل إينال مملوك الجنرال الخاص وقال في صوت خافت: حان وقت الجمعة يا سيدي الجنرال، والجنود على استعداد لموكب الصلاة التي ستكون في مسجد زغلول، فظهر على وجه مينو الامتعاض الذي يظهر على وجه مريض تقدم إليه جرعة لا تساغ، وقام في تثاقل وهو يقول: الصلاة، الصلاة، دائما الصلاة، ولا شيء غير الصلاة! ثم خرج فإذا موكب حافل من فرسان الفرنسيين وجنود المماليك والترك، وقد حمل كل فارس الراية الفرنسية خفاقة في الهواء متخايلة في الفضاء، والموسيقى تعزف النشيد الوطني الفرنسي، وكان مينو في وسط الموكب فوق جواد كميت يختال في مشيته كأنما سرى إليه زهو صاحبه، حتى إذا بلغ الركب المسجد دخل مينو حاسرا عن رأسه، فتلقاه الإمام وفي يده عمامة خاصة به كانت تحفظ في خزانة بالمسجد، فلما وضعها على رأسه طافت حول شفتيه ابتسامة خفيفة مبهمة، تذكر عندها باريس، وتذكر ملاهيه في مرسيليا وبوردو، وعجب من الضرورة التي دفعته إلى دين لا يعرفه بعد أن طلقت فرنسا كل دين، وتذكر هنري الرابع الذي اعتنق المذهب الكاثوليكي ليفوز بملك فرنسا وقال: ليس بغال أن يشترى عرش فرنسا بقداس، تذكر كل هذا فتملكه زهو الملوك، وطاف بنفسه أنه فوق طبقة البشر، غير أن صوتا جهيرا في هذه اللحظة انطلق من المئذنة فصك أذنيه صائحا: الله أكبر! الله أكبر! فلم يلبث المسكين أن نكس رأسه في استخذاء، وعلم أنه لا شيء.
الفصل الحادي عشر
انفردت زبيدة في حجرتها بعد أن تركت مينو، وقد ساءها كثيرا حديث العرافة وتكهناتها، وهجم عليها هم جاثم لا تستطيع له دفعا ، وهالها أن تصطدم آمالها بصخرة من الحقائق لا ترحم حزينا ولا تواسي بائسا، وبينما هي تحملق في صور ماضيها الجميل، وهي تمر بخيالها متتابعة، وتود لو تستطيع أن تطيل وقفة هذه الصور المرحة الضاحكة قليلا، أو أن تحول دون ظهور أية صورة من ماضيها القريب الذي كله هموم وأحزان، إذا خادمها سرور يدق الباب ويعلن قدوم سيدته نفيسة، ولم يمض إلا قليل حتى دخلت أم زبيدة وقد برح بها المرض حتى أصبحت لا يكاد يعرفها من رآها، فقد زادت غضون وجهها، وانطفأ بريق عينيها، وانحنى ظهرها تحت ما يحمل من أرزاء وأعباء، دخلت فقبلت وجنتي بنتها في شغف واحتراق، ثم حاولت أن تكتم ما يبدو من جزعها بضحكة مصنوعة أو نكتة بارعة فلم تستطع، ولكنها قالت في النهاية: كيف حالك يا زبيدة؟
فتنهدت زبيدة طويلا وقالت: تسألين عن حالي يا أماه؟ أو تريدين حقا أن تعريفها؟ إذا فاسمعي: لقد كنت يا أمي في سفينة بين أهل وأحباب، حديثهم ابتسام، ومناجاتهم غرام، ينعمون فيها بنعيم الروح ولذة الجسد، بين روح وريحان، وضحك من القلوب لا من الأفواه، وحب تعجز أن تعبر عنه الشفاه، كأن الدنيا لم تخلق إلا لهم، والسعادة لم ترف إلا عليهم، ألغوا الزمن فلا ليل ولا نهار، وألغوا الفكر فلا خوف ولا حذر، وألغوا الغيرة فلا حقد ولا دخل، وبينما كانت هذه السفينة الفردوسية تمخر العباب يا أماه مزدهية مختالة، تجري فتداعبها اللجج، وتجر ذيلها فتقبله الأمواج، إذا عاصفة عاتية هوجاء كالجنون، مدمرة كالموت، ترفع البحر ثم تقذف به، ثم ترفعه ثم تقذف به، ثم ترفعه ثم تقذف به، كأنه كرة في يد مارد جبار، فلم تلبث السفينة يا أماه أن ذهبت بددا، وتمزقت قطعا، وهالني الأمر، وأخذ مني الهلع فنسيت التدبير، ونسيت الرأي، ونسيت الحيلة، وتشبثت بقطعة من السفينة خائرة قذفتني بها الأمواج إلى جزيرة فيها أشجار، وفيها أنهار، ولكن ثمر أشجارها زقوم، وماء أنهارها سموم، وهي قفر من بني الإنسان إلا مخلوقا غريب السمة جاء يتودد إلي ويتخذني له زوجا، أما أهلي، وأما أحبائي، فقد تفرقوا أيدي سبا، وبقيت وحدي في هذه الجزيرة الملعونة مع هذا المخلوق الغريب، هذه حالي يا أمي، وكيف حالك أنت؟ - أنا كنت في ركاب هذه السفينة، وقذفت إلى جزيرة أخرى ليس فيها أحد من بني الإنسان، ولكنها ملأى بوحوش من هموم وآلام، أما أبوك فرماه الموج إلى جزيرة نائبة لا نعرف إليها طريقا. - وابن خالتي محمود في جزيرة رابعة!! آه يا أماه! هل يلتقي هذا الجمع الشتيت؟ وهل تعود تلك الأيام التي كانت حلما هنيئا؟ - تعود عندما تهدأ العاصفة، ويسكن البحر المائج، وتجري فيه السفن مرة أخرى، حينئذ يستطيع كل منا أن يلوح لإحدى السفن بطرف ثوبه لتنتشله من جزيرة الأحزان، إلى الدار التي كانت تجمعنا في ظلال العز والنعيم، لهفي على محمود! لقد وضع بين يديك حبا لو فرق على الناس جميعا ما ترك في صدر غلا ولا حفيظة؛ فنبذته في قسوة وعزوف، فلم ييأس بل ثنى يده على قلبه صابرا وفيا وقلبه يقطر دما، وراح يناجي الطير لما صرفت عنه أذنيك، ويضاحك الآمال لما أقصاه عنك العبوس، وقد كنت عنده رضيت أم غضبت، وصلت أم هجرت، القدس الطاهر الذي لا يطلب على حبه ثوابا. - كفى يا أمي إنك لا تعرفين، قاتل الله رابحة العرافة، وقاتل الله الطموح الكاذب، وقاتل الله الخيال الخصيب الذي جعلني أبيع عزا حاضرا، وحبا طاهرا، بأمل عقيم وأمنية حمقاء، فقدت ما في يدي لأقبض على برق خلب يلمع في أجواز الفضاء! - أكنت تحبين محمودا حقا؟ - كنت أحبه؟ كنت ولا أزال ولن أزال، وسأموت شهيدة حبه، وسأردد للملكين عند سؤال القبر أني أحبه. - ولماذا رضيت بهذا الفرنسي؟ - لأن القدر هو الذي رضي به لي، على أنني أظن أني ساعدت القدر بجنوني وتسويفي وتمسكي بخرافة بعت بها روحي وجسمي للشيطان، بالله دعي الحديث في هذا يا أمي، فإنني أتخيل دائما أن شبابي ميت مسجي، وأنني بجانبه أنثر عليه الدموع. - ولكن هذا يقتلك يا بنيتي، فاطوي الماضي، وأصلحي من شأنك بالطمأنينة لحكم الله، إن حسن الأشياء وقبحها أمران خياليان: فالنفس الجميلة الراضية ترى كل شيء جميلا، والنفس الساخطة الصاخبة ترى كل شيء قبيحا، انظري إلى ما أنت فيه من عز وجاه، وإلى هذا القصر الفخم والرياش الفاخر، ثم إلى هؤلاء الخدم والعبيد وقولي: إني سعيدة، وأقنعي نفسك بأنك سعيدة تكوني سعيدة حقا. - هيهات يا أمي! هذا كلام لطيف براق، إن الجائز أن يقنع الإنسان غيره بما يحس أنه حق، أما أن يقنع المرء نفسه بعكس ما يحسه فهو محال، إن محمودا خلق ليكون لي زوجا، وخلقت لأكون له زوجة، ولكن القدر الساخر أراد أن يتحكم في طبائع الأشياء، وأن يعبث بالغرائز والميول، فاستهوى غرائزي وخدع ميولي، فأغلقت باب سعادتي بيدي، وسننت السكين لقطع كل صلة بيني وبين السعادة والحب والحياة، ويحي عليك يا محمود! إنك تظنني امرأة غادرة فاجرة، ولك الحق في أن تظن ما تشاء، أفنيت كل أساليب الاستعطاف والغزل والتذلل والاستجداء أمام قلب صخري كان عنك ذاهلا تغويه الأحلام، وتصده دونك الأوهام، لم لا أطير إليه في القاهرة وأحطم هذه القيود الظالمة التي يسمونها قيود الزوجية؟ وهل كانت الصلة بيني وبين هذا الفرنسي شرعية؟ وهل ينعقد زواج فتاة فر أبوها فاقتنصتها طائفة من أصحاب المنافع من أهلها فكتبوا ما كتبوا وسجلوا ما سجلوا؟ وهل يعد قبول فتاة في هذيان حمى الأوهام، وجنون الطموح المأفون قبولا؟ لا يا أماه، إن الناس جميعا يعدونني خليلة لهذا الفرنسي، وإن ائتمار طائفة من العمائم بفتاة مسكينة، وتدوين عقد زواج في محكمة، لا يغير من المسألة شيئا، إن الشرع الشريف كما أخبرني الشيخ صديق يوجب الكفاءة بين الزوجين، وأول ما أفهمه من معنى الكفاءة إنما هو تماثل الأخلاق واتساق الطبائع، وأين ذلك التماثل بين فتاة مصرية في رشيد وشيخ فرنسي من باريس؟ وقد كان محمود العسال يقول لي: إن زوج الرجل يجب أن تكون قطعة منه، ويكرر الآية الكريمة
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فالقرآن ينص على أن الزوجة من نفس الرجل، ويجعل ذلك سببا للسكون إليها والسعادة في كنفها، وتبادل المودة والرحمة والحنان بين الزوجين، وأعتقد أن هذه الآية صورت في إيجاز ما يريده الفقهاء من معنى الكفاءة الزوجية؛ لأن المرأة إذا كانت من نفس الرجل وجب أن يتماثلا في الحب والعادات والأفكار والميول. وأين أنا من هذا الفرنسي؟ شرق وغرب بينهما أميال وأميال! وتباين كامل في كل شيء، حتى لنكاد نكون من صنفين مختلفين، فهل بعد هذا أخضع لهذا الزواج؟ وهل بعد هذا أرضى بهذا السجن الموحش ولا أفر إلى محمود؟ - بالله عليك يا زبيدة لا تضمي إلى حرننا حزنا جديدا، فقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى. - إن الفرار من العار ليس بعار. - ولكن فرار الزوجة من بيت زوجها إلى بيت رجل آخر عار أي عار، ثم من هو زوجك؟ هو رجل نافذ الأمر قوي السلطة شديد البطش، فلو فررت منه في أنفاق الأرض، أو أبراج السماء لامتدت إليك يده، ولنكل بك وبنا وبابن خالتك محمود، على أن فرارك سيثير الفضيحة من جديد، وينبه العقول إلى أمر أوشكت أن تنساه، ويجرئ الأيدي القاسية على العبث بجرح أخذ يندمل. - ليس لشيء من هذا يا أمي أخشى الفرار، فما أبالي الناس ولا آبه لحديثهم إذا ظفرت بمحمود، واختبأت معه بقرية مجهولة نائية، لا تصل إليها عيون الفرنسيين. ولكني أخشى الفرار لشيء واحد كلما مر بخاطري وددت أن الأرض ابتلعتني، أو أن السماء أقلتني، ويلاه يا أمي! إني أخشى ألا يمر بنا هذا الحادث دون أن يضع وصمته. - ماذا تقصدين يا زبيدة؟ - أقصد أن المرأة إذا عاشت مع رجل شهورا ففي أغلب الظن أن ينشأ بينهما ثالث. - وهل شعرت بما تشعر به الحامل؟ - لا، ولكن من يدريني؟ - صانك الله يا ابنتي من كل سوء، وكشف عنك كل ضر. - ليس لنا إلا أن نلجأ إلى الله، فإن في الالتجاء إلى رحمته راحة للمحزونين، أسمعت شيئا عن أبي؟ - لا يا زبيدة ، وقد كتبت إلى أختي أمينة وإلى محمود فكان جوابهما أنهما لم يعثرا له على أثر بالقاهرة بعد طول البحث، وأخشى أن يكون ... - لا تقوليها يا أمي! فيكفي ما نحن فيه من مصائب وأحزان.
وهنا دخل سرور في أدب وتردد، وجثا على قدمي نفيسة باكيا وهو يقول: سيدتي لا تحرمي سيدتي الصغيرة من زيارتك فإني أراها دائما حزينة كاسفة البال، فإذا جاء الجنرال تكلفت الجلد والابتسام، وهذا التكلف كما تعلمين أشد عليها من الحزن، وأنكى من البث والبكاء، أراها دائما ساهمة حزينة فيتقطع قلبي، ويشتد ألمي؛ لأنها ابنتي، ربيتها على كتفي، وكنت أطعمها فأشبع، وأسقيها فأروى، إنها تغلق عليها باب الغرفة طيلة النهار لتنفرد بأحزانها وبكائها، وماذا يجدي البكاء؟ وهل ينفع حذر من قدر؟ بالله عليك لا تغيبي عنها يا سيدتي حتى تمسحي عنها بعض آلامها؟ إنها ليست بنتي زبيدة التي أعرفها من حين أن كانت في مهدها، أين ضحكاتها المجلجلات، وبسماتها الساحرات، وأحاديثها الفاتنات؟ لا تغيبي عنها يا سيدتي؟
فقاطعته نفيسة وقد وضعت يدها على كتفه في حنان، وقالت: لن أغيب عنها يا سرور، إنني لم يبق لي من الدنيا إلا زبيدة وأنت، فاحرسها لي يا سرور، واسهر عليها وصنها بروحك ودمك، إن أول شيء اشترطته عند زواجها أن تكون معها، فهي وديعتي عند الله وعندك، وهذا هو الذي يهدئ نفسي، ويخفف من شجوني، ثم أسرعت فقبلت زبيدة، وحيت سرورا، وخرجت وهي تخفي تحت نقابها سيلا من الدموع.
الفصل الثاني عشر
كان يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس سنة 1799م يوما مشهودا في رشيد، فقد اجتمع له الناس في الصباح أسرابا، وحشروا أرسالا، وانطلقوا إلى ظاهر المدينة ينتظرون قدوم عثمان خجا من أبي قير، فازدحم الرجال والنساء والأطفال ازدحاما لم يترك مجالا لقدم، ولا حركة لذراع، فكانوا كتلة من البشر تلاصقت أجزاؤها، وارتفع ضجيجها، وعلا صياحها، وغصت سطوح الدور بمن فوقها حتى كادت تنقض، وامتلأت النوافذ بمن فيها، وكلما تقدم الناس خطوات رأيت بحرا عب عبابه، واضطربت أمواجه، وتذكرت يوم النشور، يوم ينفخ في صور ، ويبعث من في القبور.
تقدم هذا الخضم المائج حتى إذا وصل إلى الكثبان الرملية بالجانب الغربي من المدينة فاض فوقها، وسال بين شعابها، فخف التزاحم قليلا، ووجد الناس متنفسا، فجلسوا ينتظرون الضيف الكريم الذي قضوا ليلتهم يفكرون في خير الوسائل لاستقباله، فمنهم من أعد نعلا بالية، ومنهم من تسلح بمكنسة من عراجين النخل، ومنهم من أخذ يتمرن على ملء فمه بصاقا لينضح به وجهه الوسيم، والتنافس في الشر غريزة في الناس، وللشعب إذا اجتمع نفسية خاصة لا تجدها في الفرد، فهو إذا صال جريء مخاطر حقود بطاش، في حين أن كل فرد من أفراده فسل جبان منخوب الفؤاد، وإذا غضب الشعب المجتمع فليس يعلم إلا الله ما ينتهي إليه غضبه من وحشية وجنون، والشعب الثائر طفل كبير، له عقل الطفل وتدلله وعبثه وتدميره، والشعوب تخضع للقوة الغاشمة وتخشاها، ثم تعتادها، وقد تتملقها أحيانا، وقد تستعذب عذابها أحيانا، ولكنها لا تنسى ظلما، ولا تفر منها إساءة، وكأن للشعب المقهور نفسين: نفسا تجامل وتصانع، ونفسا تدون وتسجل، حتى إذا ضعفت القوة التي تكبته قامت النفس المدونة المسجلة تعد سيئات الماضي وتشهر بمظالمه، ووثبت وثبة الذئاب الضارية تنهش القوة نهشا، وتضرسها تضريسا، والجماهير مخادعة ختالة، تحمل اليوم على الأعناق من ستضرب به الأرض غدا.
بقي الناس ينتظرون قدوم عثمان خجا، ووقف الجند يستعدون للموكب الحافل، وجلس العلماء والأعيان بعيدا على رصيف مسجد العرابي، حتى إذا مر نحو ساعتين ظهرت طلائع القادمين، وذاعت البشرى بين الجمع الحاشد، فترددت صيحات المتجمهرين تهز الأفق، وغلت دماؤهم بالغيظ وتواثبت قلوبهم للتشفي والانتقام.
وكان عثمان خجا في حلقة من الفرسان الفرنسيين والمماليك، وقد شهروا السيوف، وتنكبوا البنادق، وهو بينهم قميء القامة، طويل الوجه، أشقر اللون، صغير العينين، قليل شعر العارضين، مطرق الرأس، تذهب حدقتاه يمنة ويسرة في حيرة وذهول، كأنه الهر المطارد سدت دون فراره السبل، وكان يلبس عمامة طويلة عليها شاشة حمراء، وحلة من الحرير الأخضر واسعة الكمين، وسروالا أزرق زينت ساقاه بشريط مطرز بالذهب.
وقف الفرسان ونزلوا عن خيولهم، وأقبل رئيسهم فكبل يدي خجا، وهنا سمعت ضجة من بعيد فتصايح الناس: أقبل مينو، أقبل مينو، فانفرجت الصفوف، ومشى الجنرال وخلفه العلماء والأعيان، فلما وصلوا إلى عثمان خجا وقف الشيخ أحمد الخضري وأخذ يتلو حكم المجلس عليه بالقتل، وفي أثناء القراءة طفرت من شفتي عثمان خجا ابتسامة خفيفة مبهمة تصعب ترجمتها، فيها سخرية، وفيها امتعاض، وفيها ذعر، وفيها استخفاف بالموت.
وما كادت تنتهي القراءة حتى تواثب الناس لتمزيق الأسير المسكين، فحال الجنود بينهم وبينه، لا شفقة عليه، ولا رحمة به، ولكن ليطيلوا تعذيبه، وليشفوا النفوس من السخرية منه، فأركبوه حمارا على وضع مقلوب، وعلقوا في عنقه أجراسا «ويسمون ذلك التجريس» وسمحوا للناس بالبصق في وجهه وتلطيخه بالأقذار، وكان الشيخ بركات منادي المدينة يصيح بصوته الجهير: هذا جزاء الظالمين، هذا يوم الانتقام من المماليك السفاكين، أيتها القبور تحدثي عمن فيك، وأيتها الأعراض اشتفي اليوم ممن دنسك تدنيسا، ويا أيتها الأموال المنهوبة قولي كيف وصلت إلى خزائن الناهبين!
ووثب «عطية البحطيطي» وهو قراد المدينة ومضحكها إلى عثمان خجا فاتحا ذراعيه وهو يقول: أين كنت يا حبيب عيني، وأنيس وحدتي، وباب رزقي؟ لقد حزنا عليك طويلا حين غبت عنا، واستوحش إخوانك القرود لبعدك الطويل، أين كنت يا جلجل؟ أين كنت يا يدي ورجلي؟ فهم الجنود بطرده، ولكنه صاح في غضب مصنوع: إنه قردي جلجل الذي فر مني، فساءت حالي، وكسدت صناعتي، إنه قرد نجيب جدا، يكفيه الإيماء ليقوم بأحسن الألاعيب، الحمد لله على السلامة يا جلجل! ثم جذبه إليه ووضع في عنقه حبلا وهوى فوق رأسه بالسوط، وأخذ يحمله بالضرب العنيف على القيام بألعاب القرود.
ثم سار الموكب حتى وصل إلى شارع دهليز الملك، وهناك رأى عثمان خجا أمام بيته مشنقة أعدت للقائه، فجر إليها جرا، ووضع الحبل في رقبته، وكانت رابحة العرافة قريبة منه، فلما شد الجلاد الحبل صاحت: الله أكبر! لقد صدقت كهانتي، ومات اللعين بين الأرض والسماء!
وفي مساء ذلك اليوم اجتمع فريق من الأعيان والعلماء بمنزل الحاج أحمد شهاب، وتذاكروا حوادث النهار، فقال الشيخ صديق: كنت أود أن يكون القصاص من عثمان خجا مطابقا للشرع الشريف، فقال السيد أحمد بدوي: إن المجلس يا سيدي سمع شهادة الشهود وكانوا كلهم إجماعا على أنه كان سفاكا غاشما، على أن رجال المجلس يعرفون من ظلم عثمان خجا وفتكه بالأموال أكثر مما يعرف الشهود. - إن الشرع يشترط في مثل هذه الوقائع أن تقام الدعوى من أولياء المقتول، فهل أقيمت؟ ويشترط أن يكون المدعى عليه حاضرا بمجلس القاضي ليرد الدعوى إن استطاع، فهل كان عثمان خجا حاضرا؟ أنا لا أقول: إنه لا يستحق القتل، فقد كان شيطانا مريدا، ولكني أرى أنه لا يصح أن يحكم القاضي على رجل بالقتل؛ لأنه يعلم أنه يستحق القتل، فإن من الأصول الثابتة أن القاضي لا يقضي بعلمه، هذه ناحية الشرع، فإذا اتجهنا إلى ناحية الأخلاق كانت الطامة أعظم، والمصيبة أفدح، أليس هذا الرجل هو عثمان خجا حاكم رشيد الذي كنا نحن العلماء وأعيان البلد نتملقه، ونزين له أعماله، ونقبل يديه، والدماء تقطر منهما؟ أئذا تنكر له الدهر فلوى عنه وجهه، اجتمعنا في مجلس الشرع الشريف ننبش قبور ماضيه، ونحاسبه على ما كان قد اقترف من سيئات؟ ولو كان اجتماعنا بوازع من أنفسنا، وغيرة صادقة على الحق والدين، لكان لنا بعض العذر، فقد يقول الناس: إنهم حينما قدروا فعلوا، ولكن المؤلم حقا، والمثير للشجن حقا، إننا لم نجتمع إلا بإيعاز من الفرنسيين، وأخشى أن أقول: إننا لم نحكم بالقتل إلا لإرضاء الفرنسيين، فقال الحاج أحمد شهاب: ليس من شك في أنه يستحق القتل يا مولانا. - أنا لا أجادل في هذا! ولكني أنظر إلى ناحيتين لو حافظ المسلمون عليهما لبقي الإسلام عزيزا كما كان، هما: الدين والأخلاق، أليس كذلك يا مولانا الخضري؟
فبهت الشيخ، واصفر وجهه؛ لأنه كان يستمع لكلام الشيخ صديق واجما، فقد كان شيخ المجلس الذي أصدر حكم القتل، ولكنه بعد أن تردد قال: القضاء يا سيدي الشيخ في هذه الأيام ابتلاء، وإننا نعمل في هذا العصر الأنكد بمذهب من يجيز التقية، فنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم.
وحينئذ رأى الشيخ البربير الشاعر بلباقته أن يوجه الحديث إلى مجرى آخر فقال: اسمعوا ما قلته اليوم فلعل فيه شيئا من السلوى، فنشط إليه الجماعة، وكانوا ملوا الحديث في الأخلاق والدين وقالوا: قل، فقال:
قالوا هوى رأس عثمان فقلت لهم
نفستم الكرب عنا بعض تنفيس
مضى بنو الترك فارتاحت سرائرنا
فهل رحيل قريب للفرنسيس؟
فضحك القوم وتسارع بعض الشبان إلى كتابة البيتين، فأشار إليهم بيده وقال اكتبوا أيضا:
مضى ابن عفان إلى جنة
وابن خجا عثمان للنار
هذا شهيد الدار أكرم به
وذا قتيل الخزي والعار
ثم اتجه السيد إبراهيم الجمال إلى البربير سائلا: أرأيت عثمان خجا على الحمار؟ - رأيته فلم أدر أيهما الحمار؟ - وهل قلت في ذلك شيئا؟ - لا يا سيدي لقد كان «الموقف» صعبا، والمسألة لا تحتاج إلى «تعليق» فعلا الضحك من كل ناحية، فلما هدأ المجلس التفت السيد بدوي إلى الجمال وقال: أرسلت خادمي اليوم إلى ساحة القمح لشراء إردب من القمح فلم يجد بها حبة واحدة! فأسرع البربير قائلا: إن القمح يا سيدي أندر اليوم من اللؤلؤ، وقد علمت أن النساء يتخذن منه قلائد في نحورهن، فقال الشيخ صديق: لقد أصبحت الحال لا تطاق، ومن العجيب أن يعين الفرنسيين طائفة من أهل البلد، فصاح الشيخ البربير قائلا: مدد يا حمامي مدد!
صاهرت مينو فلم تترك لجائعنا
بزا نصون به نفسا من العطب
متنا ومات بنونا بين أعيننا!
جوعا وعريا فرفقا يا أبا نسب!
فظهر الألم والحزن في وجوه القوم، وبينما هم سكوت واجمون، إذا صوت يجلجل في فناء الدار، هو صوت الشيخ علي سريط، وكان يقول: القاتل والمقتول سواء، وقد يتأخر الجزاء، طال الليل، وظهرت تباشير الصباح، ولكل غدو رواح، والرحيل الرحيل، بعد قليل قليل، فنظر بعض القوم إلى بعض، وقال الشيخ البربير: إن الشيخ عليا شديد التفاؤل هذه الليلة، أرجو أن يحقق الله رجاءه، ثم أخذوا في الانصراف.
الفصل الثالث عشر
نعود بالقارئ إلى القاهرة بعد أن قضينا معه وقتا طويلا في رشيد، شهدنا فيه بعض حوادثها الجسام، نعود به إلى القاهرة لنرى أن الخطوب فيها ما زالت تتلاحق وتتعاقب، وسحائب الكوارث ما فتئت تتجمع وتتراكم.
فقد غادر نابليون القاهرة على حين غفلة من جيشه ومن أهلها، في الثامن عشر من أغسطس 1799م بعد أن رأى آماله ركاما، وأطماعه أحلاما، وبعد أن سمع بأذنيه ضحك القدر، وأحس بسخرية الأيام، فانطلق به النيل إلى أحد شاطئيه بالقرب من الإسكندرية حزينا مهموما، يرى في كل موضع قدم قبرا، وفي كل لجة من لجج البحر شركا، انطلق به النيل وطفق يجري ويمور كما كان يجري ويمور منذ القدم، وأخذت أمواجه تقهقه من طموح الإنسان، وتحديه أحكام الزمان. نابليون يعود أدراجه إلى بلاده مخاطرا بنفسه، بعد أن انقطعت به إليها السبل، وربضت له بوارج الإنجليز في البحر تنتظره، كما ينتظر الأسد الطاوي فريسته! جاء إلى مصر فلم يظفر بشيء، وأضاع كل شيء، فكم وعد وكم صانع، وكم تنمر وهدد، فلم تفتح له مصر قلبها، ولم تلق أمام قوته سلاح ضعفها، قامت الثورات في كل مكان فعجز بطل إيطاليا وقاهر النمسا، والفارس المعلم في فرنسا، أن يخمد نارها أو يطفئ أوارها، ولم تغن عنه عدده وآلاته الحديثة شيئا أمام عصي المصريين المخلصين، الذين قذفوا بأنفسهم للموت في سبيل وطنهم، ثم ذهب إلى الشام فلقنه الجزار درسا أطار من نفسه ذلك الزعم، الذي سول له أنه رجل الدنيا وواحدها، نظر - وهو يغادر مصر - إلى جنوده المغاوير، فإذا هم حفنة من المهازيل الساخطين، أكلت الحروب والثورات والطواعين خيرة رجالهم، وحصدت نخبة أبطالهم، ثم التفت فرأى الجوع والفقر والسخط في ظل سياسته، يمزق أوصال مصر ويهدد كيانها، وأن قوانينه وفلسفته لم تجعل مصر سعيدة، وأن ما جمعه من الضرائب والمكوس لم يكف لنفقة جنده، وأن إيراد مصر أيام المماليك الجهلة الأغبياء كان أربعة أمثال إيرادها في عهده المتلألئ الزاهر! ثم فكر في فرنسا وفيمن فيها ، فإذا هم أعداء ألداء قذفوا به في أتون مصر، ليستريحوا من توثبه وطموحه، وإذا زوجه «جوزفين» التي ألقى بحبه تحت قدميها، تدوس ذلك الحب وتنسى ذكراه، كأنها أضغاث حالم، ذكر كل هذا وهو واقف إلى جانب قصر القياصرة، على شاطئ البحر بالإسكندرية، فبكى ملء عينيه، وأن أنين البائسين، ولو أن مصورا ماهرا رسم صورته عند قدومه مصر، وهو ينزل من قصر مراد بك ليعبر النيل إلى القاهرة، فاتحا متحديا مرتفع الصدر أصيد العنق، كأن الأرض لم تنجب غيره، والتاريخ لم يظفر بسواه، ثم رسم صورته وهو ينزل إلى السفينة بالقرب من المكس، فيلقي بنفسه بين أيدي الأقدار، مطرق الرأس مثقلا بالأحزان؛ لظهرت قدرة الله وعزته، ولعلمنا أن الحياة سراب، وكأن هاتفا كان يهمس في أذنه وهو يجر رجليه إلى السفينة قائلا: انزل أيها الفاتح المغوار، وانج من البحر كما يشاء لك الله أن تنجو، وادخل فرنسا مؤزر الجانب عزيز السلطان، واقهر المماليك، وأذل الملوك كما يزين لك الطموح، وكن إمبراطورا لفرنسا، وتطلع لحيازة الدنيا بحذافيرها، فلن تفلت من مخالب القضاء، واعلم أن في نهاية المحيط جزيرة قاحلة تسمى «سنت هيلانة» لا تزال فاغرة فاها لالتقامك.
سافر نابليون إلى فرنسا بعد أن جعل الجنرال كليبر خلفا له بها، وكان كليبر شديد الاعتداد بنفسه، مولعا بمظاهر الملك، وقد فدح المصريين في أول عهد بفنون من الضرائب اعتصرتهم اعتصارا، فزاد سخط الناس، وتأججت الصدور بالغيظ، وكثرت الاجتماعات السرية والمؤامرات، وكان محمود العسال في ذلك الحين لا يزال بالقاهرة، وكان يكثر من زيارة لورا ونيكلسون، وقد آن لنا أن ندون هنا أن هذه الزيارة المتكررة، إلى قنوطه من التزوج بزبيدة، إلى ما كان يحسه من عطف لورا ورقتها وقوة جاذبيتها، جعلته يحن إلى بيت نيكلسون ويشعر عند مشاهدة لورا والجلوس إليها بلذة روحانية عجيبة، أبى عليه كبره أن يعللها؛ لأنه كان يريد أن يقبر حب زبيدة في قلبه، وأن يعتز به، ويتسلى بذكرياته، وإن كان حبا يائسا عميقا، وحينما رأى نيكلسون تكرار هذه الزيارات ، وقرأ في وجه ابنته ابتهاجا بها ، عرض عيه أن يساكنهما في هذا الزمن المضطرب بالمخاوف والأحداث، فقبل محمود شاكرا، وانتقل من بيت ابن عمه حسين إلى بيت لورا بالكحكيين، وكان يخرج مع نيكلسون لزيارة المتآمرين على الفرنسيين، أمثال: الشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والسيد المحروقي، وغيرهم، وكانا يسقطان بين الحين والحين على الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، ليلتقطا منه أخبار القاهرة والأقاليم، فغشيا داره بالصناديق ذات ليلة، فوجداه منحنيا على بعض الأوراق وقد وضعها على فخذه، وأخذ يكتب فيها ما دون في صحف انتثرت حوله، فلما دخلا ذعر الشيخ أول الأمر، وانكب على الصحف يجمعها ويخبئها تحت سجادته، ولكنه حين عرفهما أخذ يقهقه ويقول: لا تؤاخذاني يا سيدي، فإننا أصبحنا في زمان نخاف فيه من خيالنا في المرآة، أسعد الله مساءك يا سيدي محمودا، ثم اتجه إلى نيكلسون وقال: كيف حال الحاج السوسي؟ هل من أخبار؟ - الأخبار عندك أنت يا مولانا. - عندي أخبار سارة، ويا حبذا لو صحت الأحلام؟ فأسرع محمود سائلا في لهفة واضطراب: وما هي يا مولانا الشيخ؟ - علمت اليوم فقط من المعلم نقولا الترك المترجم، أن كليبر في أول ولايته كتب إلى الصدر الأعظم للدولة العثمانية رسالة مطولة يطلب فيها الصلح بين الدولتين، وأن تعقد معاهدة لخروج الفرنسيين من مصر.
فقال نيكلسون: هذا ما ظننته، فإن موقعة أبي قير الأولى التي حطمت سفنهم، لم تترك في نفوسهم خيالا من أمل في البقاء بمصر.
ثم قال الشيخ الجبرتي: وبلغني أن الأتراك بعد أن قابلوا هذا الطلب بالازدراء، أرسلوا بسفنهم وجنودهم - كما تعلمون - إلى دمياط، فهزمهم الفرنسيون شر هزيمة، فقال محمد: نعم يا سيدي إن كارثتنا بأصدقائنا أنكى من كارثتنا بالفرنسيين، فاستمر الشيخ وقال: ولكن الفرنسيين - على الرغم من انتصارهم - ألحوا في طلب الصلح من العثمانيين، وقد علمت أن معاهدة وضعت شروطها باتفاق الفرنسيين والترك، والإنجليز والروس، وأن خير ما في شروطها أن يخرج الفرنسيون من مصر، وأن يؤمن سفر الجيش الفرنسي الذي يبحر من مصر بأسلحته وأمتعته إلى فرنسا .
فقال محمود: يا فرج الله!
وقال نيكلسون وهو يهز رأسه هزة نفي واستنكار: يخرج الجيش الفرنسي آمنا بعدده وآلاته، ليشعل نار الحرب من جديد على إنجلترا؟ ما أظن إنجلترا ترضى بهذا.
فقال الشيخ الجبرتي: إن «سدني اسميث» أمضى هذه الشروط. - ما أظن، وهنا قال محمود لنيكلسون: يا سيدي إذا أرادت إنجلترا أن تمزق جيش فرنسا فلتخرجه من مصر أولا، ثم تمزقه في أي مكان آخر! - أتمنى يا محمود أن يحقق الله ما تريد، فقد نزل بمصر من الويلات ما يدك الجبال، وإذا لم توافق إنجلترا على هذه المعاهدة، فستكون الكارثة أفدح والبلاء أعظم، ولكني أعرف سياسة إنجلترا، وقليلا ما تكذبني ظنوني.
وصدقت الأيام ظنون نيكلسون، وأبت إنجلترا أن توافق على المعاهدة فنقضها الفرنسيون، وبرز «كليبر» بجيوشه لمحاربة العثمانيين عندما بلغت جيوشهم «عين شمس».
عندئذ اجتمع عدد عظيم من المتآمرين بدار السيد عمر مكرم، وكان بين الجميع الشيخ السادات، والسيد أحمد المحروقي، والشيخ الجوهري، ونيكلسون ومحمود العسال.
وبعد أن طال الاجتماع وزاد اللغط والجدال، دخل الحاج مصطفي البشتيلي زعيم الثوار ببولاق فقال: إن العثمانيين دخلوا القاهرة وانتصروا على الفرنسيين في موقعة عين شمس، فصاح محمود العسال: يجب أن نقضي على الحامية الفرنسية الباقية بالقاهرة، وألا نبقي على أحد منهم، فصمم الجميع على الجهاد، وأرسلوا المنادين يدعون الناس إلى إقامة المتارس وحفر الخنادق، وبعثوا البعوث في شمال مصر وجنوبها لبث روح المقاومة والعصيان في كل مكان، وزاد في حماسة المصريين دخول ناصف باشا قائد جيش العثمانيين إلى القاهرة، وحوله عدد من كبار قواد المماليك، وكان من أشد الناس نهوضا بالأمر وتعصبا له أعرابي ملثم، أخذ يعدو بجواده بين أحياء القاهرة محرضا مشجعا داعيا إلى الموت في سبيل الله والوطن، ومن المحزن أن نقرر هنا: أن هزيمة الفرنسيين كانت أكذوبة خدع الترك والمماليك بها سكان القاهرة، وأن كليبر انتصر على الترك انتصارا حاسما ورد جيوشهم إلى الصالحية، وانقلب إلى القاهرة بجنوده ليطفئ ثورة الثائرين.
ذهب نيكلسون ومحمود إلى دارهما بعد أن انفض الاجتماع ، وقد هالهما ما رأيا وسمعا، وتوجسا خيفة من عواقب الأمر، وخشيا أن تبوخ الثورة كما باخ غيرها، وتعود مصر إلى الأسر المهين.
قابلتهما لورا مذعورة وقالت: ما هذا يا محمود؟ إني رأيت من النافذة رجال الحي جميعا يتسلحون للقتال، وشهدت فارسا أعرابيا يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم على قتال الفرنسيين!! - هذه الثورة يا لورا، وهي آخر سهم في الكنانة، فإذا أخمدت فقدنا كل شيء. - لن تخمد، وليست هي آخر سهم في الكنانة، إن الشجاع دائما يخلق من اليأس أملا؛ لأن اليأس فيه معنى الموت، ولأن في الشجاعة معنى الحياة، ادخلا وأخبراني بكل شيء، فقال نيكلسون. - إن الأمة أجمعت على الجهاد يا فتاتي، وإن الفرصة مواتية، فلم يبق من جنود الفرنسيين عدد يؤبه له، أو يستطيع الصمود أمام الكثرة والتضحية. - هذا صحيح يا أبي، ثم عادت إليها غريزتها النسوية، وما تشعر به المرأة من الخوف والإشفاق على من تحب، فقالت: وهل تحارب يا محمود؟ - سأكون في أول الصفوف، وإذا بترت يميني انتقل السيف إلى شمالي، إنني يا لورا كلما فكرت في أنك من أمة عزيزة مهيبة الجانب لا يداس لها عرين، ولمحت ما فيك من الاعتزاز بقومك الذين لا يحوم بخيال غاصب أن يقترب من شواطئهم، أدركني ما يشبه الحسد، ووددت أن أفخر ببلادي وقومي كما تفخرين. - ستفخر يا محمود ببلادك، وهي خالصة لأمتك لا يتحكم فيها غاصب، وإذا لم يتنفس لك العمر، فسيفخر التاريخ بك وبأمثالك المجاهدين، وأنت يا أبي ماذا سيكون شأنك؟ - سأكون بجانب محمود، وسأجاهد في سبيل مصر جهادا يحسدني عليه أبناؤها.
ثم قامت لتعد الطعام، وهي في خوف ووجل وإشفاق، وتمنت لو ظفرت بمحمود وبحب محمود في بلد هادئ أمين! وهل من العسير على القدر أن يحملهما معا إلى «بليموث» مقر أهلها، ومهد صباها، ليعيشا في ظلال الحب وادعين؟! وصورت لها الهواجس صورا مخيفة ملأت نفسها رعبا، إن محمودا مقدام مخاطر، وهو إذا حمي وطيس الحرب أدركه جنونها فقذف بنفسه للموت سمحا كريما، ولكن هذا الخلق هو الذي تحبه فيه، وهو الذي تعشقه من أجله، فكيف تذوده عما تحب؟ ولو أنه أطاعها لعاد في عينيها فسلا مسلوب الرجولة هزيلا.
وأشرقت شمس اليوم الحادي والعشرين من مارس سنة 1800م على مصر كلها أشأم شروق وأنحسه، وكأن حمرتها عند البزوغ دماء الشهداء الذين كتب عليهم أن تحصدهم المدافع وتنوشهم السيوف البواتر، وكأن أشعتها وهي تضرب في الأفق، أسباب المنية امتدت فجمعت أبناء مصر المساكين في شباكها.
خرج نيكلسون ومحمود في هذا الصباح، وودعتهما لورا والهة حزينة، تظهر الجلد بقدر ما تستطيع، فإذا غلبها الدمع قهقهت لتزعم أن دموع الحزن من دمعات السرور، خرجا فوجدا القاهرة في هرج وحركة دائبة، واستعداد للوثوب واستخفاف بالموت، وخلت البيوت من قطانها، واختلط الحابل بالنابل، وتسلح كل من يستطيع بما يستطيع: فمنهم من كان يحمل سيفا، ومنهم من كان يحمل بندقية، ومنهم من كان يلوح بعصا غليظة في الفضاء، ومنهم من تسلح بسكين ماضية، أما الأطفال والنساء: فملئوا حجورهم بالأحجار وساروا خلف الشجعان المجاهدين، يتنغمون بأناشيد نظمتها الفطرة الساذجة، فأذكت من نار الحماسة ما تعجز عنه بدائع الأشعار، وقد قسموا أنفسهم فرقا، وأقاموا المتارس في جميع أحياء القاهرة وبولاق، ووثب بعض الثوار وفي مقدمتهم نيكلسون ومحمود على معسكر الفرنسيين في ميدان الأزبكية كما تثب أمواج البحر الخضم على الشاطئ لتتكسر ثم تعود، وكان الفرنسيون - وقد امتلكوا القلاع والتلال حول المدينة - يصبون عليها وابلا لا ينقطع من النيران والقذائف، يدك أرجاءها دكا، وينشر الذعر والموت في كل مكان، وشمر الترك والمماليك عن سواعدهم وصالوا في المدينة وجالوا، وأخذوا يرسلون النجدات ويقوون العزائم، وبينما كان نيكلسون ومحمود عائدين إلى دارهما في أصيل ذلك اليوم؛ إذ لمح محمود الأعرابي الملثم، وهو يخوض بفرسه في جحيم المعامع ويصيح: إني أرى الجنة وقد فتحت أبوابها للمجاهدين، ولم تبق إلا ساعة من نهار لتنجو مصر وينجو أبناؤها، فهلم إلى الموت! هلم إلى الموت! فالتفت إليه محمود - وكانت حماسته قد حسرت من لثامه - فإذا هو زوج خالته السيد محمد البواب! فتملكه الدهش ووثب حتى أخذ بعنان فرسه وصاح: خالي ! أنت هنا؟ أنت بالقاهرة؟ إني لم أدع ركنا في المدينة إلا بحثت عنك فيه، ثم حبسه البكاء عن الكلام، فوثب السيد البواب إليه وعانقه، وارتفع البكاء والنشيج، ولغة الوجدان دائما أفصح من لغة اللسان، حتى إذا هدأت نفساهما قليلا، قال محمود في صوت خافت حزين: لم تستطع البقاء في رشيد يا خالي؟ - إن حياة الكريم ليست نفسا يذهب ويجيء، وليست طعاما وشرابا، وإنما هي شرف وكرامة، فإذا امتهن الشرف وضاعت الكرامة كان الكريم بين إحدى خلتين: إما أن يموت؛ وإما أن ينتقم، وقد جئت إلى القاهرة لأنتقم، ولأغسل غيظي بدماء أعدائي. - ذلك ما أفعله أنا الآن، وهذا ما سأموت في سبيله، وكيف جئت يا خالي؟ - غادرت رشيد ومعي مقدار من المال، فسافرت إلى بادية البحيرة، وكان لي بين عرب «الهنادي» صديق قديم هو الشيخ عويس معوض، فنزلت بخيامه وأخبرته بفاجعتي، فأظهر لي من حسن المواساة وكرم الضيافة ما هو خليق بالعربي الكريم، ثم غيرت زيي عنده، ورحلت مع ثلاثة من أتباعه، حتى وصلنا إلى القاهرة فنزلت بخان جعفر بخطة سيدنا الحسين، وعزمت على إخفاء أمري والجهاد في سبيل الله، حتى ألقى الله. - لا يا خالي، لا بد أن تنزل عندنا، ثم أشار إلى نيكلسون وقال: هذا صديقي وأخي في الجهاد الحاج محمد السوسي، انظر إليه فهل تعرفه؟ فحدق فيه السيد البواب طويلا وقال مرددا: أعرفه ...؟ أعرفه ...؟ وكيف لا أعرفه؟ إنه الخواجة نيكلسون تاجر الصوف والحرير برشيد، ثم طوقه بذراعيه في شوق وحب صادقين وهو يردد: كيف حالك يا خواجة نيكلسون؟ أو إن شئت: كيف حال الحاج محمد السوسي؟ ما كدت أعرفك لولا أن نبهني محمود، لقد تغيرت كثيرا يا نيكلسون في زمان تغير فيه كل شيء.
ثم ألح عليه محمود أن ينزل معه بدار نيكلسون فقال: دعني يا بني فإني أستأنس بوحشتي، وأرتاح إلى وحدتي، ثم انساب كما ينساب الهم فلم يريا إلا غبار جواده، وعاد نيكلسون ومحمود إلى دارهما، فأخبرا لورا بحوادث اليوم، وكان نيكلسون حزينا شديد التطير، وأخبرها محمود بما كان من لقاء زوج خالته، وبما كان يظهر عليه من الحزن وحب الانتقام، فعجبت لورا وقالت: السيد محمد البواب أصبح فارسا مغوارا؟ هكذا تخلق الحوادث الرجال!! وهنا قال نيكلسون لمحمود: أرأيت اليوم كيف يخدع المماليك الشعب المصري الأعزل المسكين. - كيف؟! - زعموا أولا أن الجيش الفرنسي انهزم بعين شمس، وكان كل ذلك كذبا وزورا، ثم إن نصوحا باشا كان يخدع الناس اليوم، حينما أرسل المنادين في أرجاء البلد يصيحون بأن يوسف باشا الصدر الأعظم للدولة العثمانية، سيصل غدا أو بعد غد بجيشه اللهام، ليستأصل شأفة الفرنسيين، والصدر الأعظم - كما أعلم علم اليقين - فر بجيشه إلى الصالحية ولن يعود. - تبا لهم من قتلة سفاكين!! والآن وقد لعق الشعب لجامه، وأطارت الثورة عقله، وأصبح من العسير أن يكبح، ماذا ترى يا نيكلسون؟ - أرى أن العاقبة غير واضحة، وأنه يجب علينا ألا نجبن أو نعتزل القتال، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا! وقالت لورا: لن يصح شعب يقتله طبيبه، وهؤلاء المماليك يبنون من جثث المصريين جسرا لمأربهم: يفرون من الميدان عند أول صيحة، فإذا انتصر المصريون تسارعوا إلى انتهاب الغنائم، وإذا هزموا أو قتلوا فليس الأمر عندهم بذي خطر، وما شأنهم بفراشات ضعيفة جاهلة تهافتت على النار فاحترقت؟ وزفر محمود، وهز نيكلسون رأسه، وقام كل إلى سريره لينام إن استطاع النوم.
وهكذا توالت الأيام والثورة مشتعلة الأوار، وفي كل يوم يضعف المجاهدون، ويقوى الفرنسيون، واستمرت المدافع تصب حميمها على المنازل ليلا ونهارا، فهجر الناس بيوتهم، وتهدم أكثر من نصف المدينة، وبذل المصريون جهد اليائسين: فأنشئوا معملا للبارود في بيت قائد آغا بالخرنفش، ومصنعا لإصلاح الأسلحة وصب المدافع وجمعوا كل ما استطاعوا الحصول عليه من حديد ونحاس وخشب، ولكن كل ذلك لم يغن فتيلا أمام قوة الفرنسيين الجبارة، ومما زاد الحال سوءا حصار المدينة وامتناع وصول الأقوات إليها، فجاع الناس، وانتشرت الأمراض، وخرجت النساء مولولات صاخبات باكيات، يصورون الهزيمة والذعر، والمسغبة وضيعة الأمل.
وبينما كان الفرنسيون في اليوم الثاني عشر من إبريل يحاولون احتلال كوم أبي الريش بالفجالة، بقيادة الجنرال روبان؛ إذ رأى محمود العسال زوج خالته فوق جواده وهو يصول بين الفرنسيين غير هياب، ورصاص بنادقهم يبني فوقه ظلة من الموت، فذعر محمود وتقدم لإنقاذه، ولكنه قبل أن يصل إليه رآه يترنح فوق فرسه، وقد أصابته رصاصة في العنق، فأسرع إليه فاختطفه من سرجه، وحمله فوق كتفيه، وما كاد يسير قليلا حتى أصابته رصاصة في فخذه، فسقط على الأرض بحمله، وفي هذه اللحظة وثب نيكلسون فجر الرجلين إلى مكان أمين، وكان محمود شديد التألم من جرحه، أما السيد محمد البواب فكان يجود بأنفاس قصار، ويردد كلمات أقصر من أنفاسه ويقول: الحمد لله! قتلت خمسة هذا اليوم! شفيت نفسي، وأطفأت غلي، ما أهون الحياة في سبيل الشرف! ثم فاضت روحه شهيدا كريما، فاكترى نيكلسون حمارين واتجه بالرجلين نحو داره، فلقيته لورا مذعورة، وجاء بعض الجيران فحملوا الجريح والقتيل، وكانت الشمس قد غابت في الأفق، فشمل القاهرة ظلام دامس، يزعجه قصف المدافع، وندب الثكالى، وأنات الجرحى، وصياح الأطفال الخائفين الجائعين.
الفصل الرابع عشر
جهز الميت الشهيد ودفن في الصباح، وأخذت لورا تبذل ما يستطاع في علاج محمود وتمريضه والهم يكاد يعصف بفؤادها، ودهمت محمودا الحمى ثلاثة أيام لم تغمض فيها جفنا، ولم تحبس دمع عين، وأراد أبوها أن يتناوب معها السهر عليه، فأبت وقالت في سخرية مصنوعة: ما أكثر طمعكم أيها الرجال!! لم تكتفوا بمنع المرأة من الجهاد في ميدان القتال، حتى جئتم تشاركنها في نصيبها القليل من العناية بالجرحى! دعني يا أبي فإن للمرأة صبرا ليس للرجال، ثم ضحكت وقالت: وإن للمرأة قوة روحانية تبعث في المريض الأمل وحب الحياة.
أفاق محمود من الحمى ضعيفا هزيلا، ورأى من رعاية لورا له وحدبها عليه، وتفرغها لخدمته، وافتنانها في تسليته، والترويح عنه - ما ملأ قلبه حبا لها، وإعجابا بخلقها، ثم نظر فرأى جمالا يأخذ باللب، ويملأ العين والقلب، وقد كان إليها قبل ذلك دائم الحنين، ولم يكن يحول بينه وبين مصارحتها بحبه، إلا كبر موهوم ، وعزيمة كاذبة، هي أن يصوب قلبه لحب زبيدة، وألا يزحمه بحب جديد.
ولكن أين زبيدة الآن؟ وأين الثريا من يد المتناول؟ إنها زوجة، إنه فقدها إلى الأبد، إنها بعد أن تزوجت بالأجنبي أصبحت لا تصلح له ولا يصلح لها، وإن التشبث بحبها خيال شعري، لا يستطيع أن يثبت أمام قسوة الحقائق ... جالت كل هذه الخواطر بنفس محمود وهو ينظر إلى لورا، وقد كانت تغسل جرحه وتعد له الأربطة واللفائف فقال: لقد أزعجتك يا لورا وأتعبتك. - أنت دائما رجل متعب يا محمود، وإذا أردت أن تريحني فباعد بينك وبين الخطر. - وهل يسوءك أن يدفع المرء عن وطنه؟ - لا، وهذا خير ما أحبه فيك، ولكن يسوءني أن يمسك سوء. - ولماذا؟ - هكذا أنت دائما كالأطفال، تحب أن تعرف كل شيء. - أتخافين علي حقا؟ - إنني أخاف دائما على الأبطال. - وتحبينهم يا لورا؟ فثارت عواطفها، وطفرت من عينيها دمعتان، وأسرعت فقالت: وأحبهم. - وإذا كانوا يحبونك يا لورا ويقدمون قلوبهم بين يديك، فهل تحبينهم حبا آخر؟! - وهل الحب أنواع؟ - الحب أنواع وأشكال: حب الرجل للوطن، وحب الأم لولدها، وحب الجندي لقائده، وحب الفتى للفتاة.
فتلعثمت لورا وقالت: وما شأنك بهذا الحب الأخير؟! - هو حبي لك يا لورا الذي فيه حياتي وشرفي، وفيه نعيمي وجنتي.
ثم مد إليها ذراعيه وجلا مستعطفا، فسقطت بينهما باكية وهي تتمتم: أحبك يا محمود، وأحبك من حين أن رأيتك، وأحبك لأني أرى فيك كل ما يصوره خيالي للرجل الكامل، من بطولة وكرم ودين، أحبك، أحبك.
فقبلها محمود بين عينيها وقال وهو يلهث: وهل تقبلينني زوجا؟ - ذلك كان أملي في الحياة.
ثم أخذا في الحديث والضحك والقبل، وبعد قليل دخل نيكلسون يسأل عن المريض، فصاحت لورا: احذر يا أبي أن تزعج زوجي بكثرة الأسئلة! فبهت نيكلسون وأخذ يتأمل فيهما مشدوها، وهما يضحكان، فقال محمود: نعم زوجها بكتاب الله وسنة رسوله. ووثب نيكلسون على لورا يقبلها ويقول: تهنئاتي ودعواتي يا لورا، نعم الصهر ونعم الكفء محمود. هذا أسعد يوم في حياتي، كان هذا الخاطر السعيد يطوف بخيالي فأظنه بعيدا، وكنت أعتقد أن ابنتي لورا لا تصلح إلا لمحمود.
ثم اتجه نحو كرسي ليجلس عليه، فصاح به محمود: لا تجلس يا رجل! الآن تجد جارنا الشيخ محمدا الصعيدي في داره، وتستطيع أن تتفضل بدعوته ليعقد العقد، فخرج نيكلسون غير متباطئ وأحضر الشيخ الصعيدي وتم العقد، وأصبح محمود العسال ولورا نيكلسون زوجا وزوجة.
ومضى على الثورة ثلاثون يوما، وهي تحصد الأرواح حصدا، وتدمر كل شيء تدميرا، ولما اشتد الخطب، وعظم الهول، وبلغت القلوب الحناجر، قام وفد من العلماء وألح على ناصف باشا وإبراهيم بك وغيرهما أن يضعا حدا لهذه الفاجعة، وتم إبرام الاتفاق بين الترك والفرنسيين في الحادي والعشرين من إبريل سنة 1800م على أن يغادر العثمانيون مصر، وعلى أن يصدر كليبر عفوا عاما عن جميع سكان القاهرة، وعاد النفوذ للفرنسيين كما كان وزادهم الظفر تمكنا وسلطانا.
وفي هذه الأثناء تماثل محمود وعادت إليه قوته، وبينما كان في منزله في أحد الأيام؛ إذ سمع طرقا على بابه، فلما فتح رأى سرورا خادم زبيدة فدهش لرؤيته، واستقبله استقبال الصديق، وشد على يديه في شوق وترحيب وقال: أهلا بسرور، ما كنت أترقب أن أراك بالقاهرة! كيف حال أهل رشيد؟ ثم تردد قليلا وقال: وكيف حال بنت خالتي زبيدة؟ - كلنا بخير يا سيدي والحمد لله على سلامتك، لقد انتقل الجنرال مينو من رشيد وعين حاكما للقاهرة، وجئنا منذ عشرة أيام، وجاءت معنا سيدتي نفيسة، وسكنا بالقلعة، وقد أحبت سيدتي زبيدة وسيدتي نفيسة أن ترياك، فسألنا عن منزلك وجئنا، وهما الآن بالحارة تنتظران.
فلما سمع محمود ذلك أسرع إلى الباب وثبا، وحينما وصل إلى الحارة رأى زبيدة وأمها، فحياهما في تكريم وحفاوة وشوق، وقادهما إلى مسكنه، وأقبلت لورا فمدت ذراعيها لزبيدة وملأت وجهها بالقبل، ثم مالت إلى يد السيدة نفيسة فقبلتها وقالت: من كان يظن أن يجمع الله الشتيتين بعد أن حالت بينهما الخطوب والأحداث؟ فالحمد لله على السلامة يا زبيدة، شرفت يا سيدتي نفيسة، لقد أراد الله بكما خيرا أن كنتما بعيدتين عن القاهرة في أثناء الثورة، لقد قضينا ثلاثين يوما كنا نموت فيها ونحيا في كل يوم ألف مرة.
فقالت زبيدة في ضجر وألم: وهل نجت رشيد من الثورة؟ إن جميع البلاد المصرية كانت شعلة من النيران، فأشارت لورا إلى محمود وقالت: لقد كدنا نفقد في الثورة هذا الولد المدلل المخاطر، فنظرت إليه زبيدة، والشوق إليه يكاد يفضحها، وقالت: لقد خلق محمود جريئا لا يبالي بالأخطار، ولا بد له من يد حكيمة حازمة تكبح جماحه، فضحك محمود وقال: إني سأتعب يدك كثيرا يا لورا؛ لأنني فرس جموح، فهال زبيدة ما تسمع، وراعها أن ترى تلك السهولة في الحديث بين لورا ومحمود وقالت: أظن أن يجدر بك يا محمود أن تذهب إلى رشيد بعد هذه الغربة الطويلة والجهاد الممض، فإن أمك تتحرق لرؤيتك.
فأجابت لورا: إنه أقسم ألا نعود إلى رشيد إلا بعد أن يغادر الفرنسيون أرض مصر، فقالت نفيسة: أتنوين العودة إلى رشيد يا لورا؟ فأطرقت لورا في حياء وقالت: أنا سأكون دائما حيث يكون محمود، وهنا أسرع محمود فقال: لقد نسيت أن أخبركما أننا أصبحنا زوجين، فقالت نفيسة وقد دهمها الخبر: مبارك، مبارك ... أرجو أن يكون زواجا سعيدا، ثم تنهدت وبلعت ريقها، واحتالت على ابتسامة خفيفة تخفي بها ما أصابها من ألم وحسرة، أما زبيدة: فقد أخذتها عاصفة من الذهول والحزن والغيرة، فأطرقت واجمة كأنها كانت تسمع صحيفة الحكم عليها بالموت، إنها تحب ابن خالتها حبا يقهر كل حب، وتهيم به هياما يعصف بكل هيام، وهو لها دون غيرها، وهو تمثال غرامها الطاهر، فكيف تمتد إليه يد؟ وكيف تجرؤ امرأة أخرى على أن تنعم بحبه؟ ولكنها هي التي نبذت هذا الحب، وأغلقت بابها دون ذلك الهيام، وحطمت ذلك التمثال بيديها، كل ذلك في سبيل أمل موهوم وأمنية كاذبة ... إن لورا لم تعمل شيئا، وإن محمودا لم يعمل شيئا، وهي وحدها التي نفسها تلوم، هي وحدها التي دمرت سعادتها، وهي وحدها التي انتزعت قلبها من صدرها وقذفت به في التراب.
رفعت زبيدة رأسها بعد لحظات وقالت: مبارك يا محمود، ثم أخذت تخوض في حديث آخر فقالت: إننا جئنا إلى القاهرة وأحببنا أن نراك فأرشدنا ابن عمك حسين إلى منزلك، فقد كنا نود أن نراك يا محمود، وهنا قالت نفيسة: إن زوجها الجنرال لا يقبل زيارة أحد من أقاربها، فقال محمود: إن كل سعادتنا أن نعلم أن زبيدة هانئة سعيدة.
فقالت زبيدة: أما السعادة والهناء فبيني وبينهما سدود وأسوار، ولكني راضية بالقضاء خيره وشره، وقد علمتني الأيام ألا أجرؤ على تغيير القدر، وألا أفسد حياتي بآرائي وآمالي. وهنا تنهدت نفيسة طويلا وقالت: هل عثرت يا محمود على مكان خالك؟ فأطرق مليا وانساب الدمع من عينيه غزيرا وقال: أعظم الله أجرك فيه يا خالتي، فقد نال شرف الشهادة، ومات في ميدان الجهاد شجاعا كريما، وانتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا. وما كاد يتم قوله حتى ارتفع البكاء والعويل، وكادت نفيسة يغمى عليها من هول الخبر، وأخذت زبيدة تبكي وتعدد مآثر أبيها ونبله وشرفه، وتصيح كما يصيح الهاذي المحموم: إنه مات من أجلي ... إنه مات من أجلي ... لقد قتلته ... لقد قتلته! ولما هدأت الأصوات قليلا رفعت نفيسة رأسها وقالت: هلم يا زبيدة، إن المرء لا يستطيع أن يمحو ما كتبه القدر، هلم يا بنتي، إننا لا نملك من أمرنا شيئا، وليس لنا إلا الصبر، وقد يكون ما نحن فيه اليوم خيرا مما نلاقيه غدا، ثم ودعتا لورا ومحمودا وانصرفتا.
الفصل الخامس عشر
في اليوم الثاني والعشرين من إبريل سنة 1800م استيقظت القاهرة على موكب حافل؛ أراد به كليبر أن يظهر عظمة ملكه وقوة بطشه، وأن يحتفل بالنصر المؤزر الحاسم.
فخرج من داره بالأزبكية في جمع خضم من مشاته وفرسانه، وقد انتضوا سيوفهم فكان لها بريق يكاد يذهب بالأبصار، وخفقت فوقهم رايات الجمهورية يداعبها نسيم الربيع، وجرت أمامهم المدافع الثقيلة التي تركت القاهرة ركاما، وخلفت قصورها أطلالا، وقد سار في طليعة الموكب نحو خمسمائة قواس في أيديهم العصي الغليظة ينادون بأصوات تكاد تثقب آذان السماء، كلها حمد وتمجيد للقائد العظيم، ويأمرون الناس بالقيام وحني الرءوس، وموسيقى الجيش تصدح بالأناشيد الفرنسية، وكان الجنرال يمتطي جوادا أشهب عربي السلالة، وقد بدا في وجهه العبوس والأنفة، وامتلأت خياشيمه عظمة واعتدادا.
سار الموكب يشق أحياء المدينة وأسواقها، فاختفى الناس - وقد أكمدهم الحزن - في بيوتهم، وسدوا أبوابهم دون هذا المشهد الذي عدوه احتفاء بموتهم، والمصريون بغريزتهم وفي كل أطوار تاريخهم يحبون الطبل والزمر، ويتزاحمون على المواكب كيفما كانت، ولكنهم في هذه المرة عزفوا في إباء عن أن ينقلوا في هذا الموكب قدما، أو يمدوا إليه عينا.
في هذا اليوم نفسه - والجنرال في قمة مجده - كان يجلس بفناء المسجد الأقصى بمدينة القدس، شاب في الرابعة والعشرين، نحيل الجسم شاحب اللون، حائر العينين مستطيل الوجه، أنافي، رث الثياب، يكثر من هز رأسه في حزن واضطراب، كان طالب علم، وكان فقير الحال، وكان عصبي المزاج كثير التأمل والتفكير، وكان موغلا في دينه، حريصا على إحياء السنن وإماتة البدع ومحاربة المنكر وإن لاقى في سبيل ذلك أشد الجنف، وكثيرا ما كان يدخل الحانات فيحطم زجاجها ويريق خمورها، غير مبال بما يصيبه من أذى، أو يناله من مكروه.
جلس هذا الطالب مفكرا حزينا، فمر بخياله صلاح الدين بن أيوب وجهاده وبلاؤه في محاربة الصليبيين، وخطر له أنه لولا هذا الكردي، ولولا عزائمه التي كانت أقوى من جيوشه، ما سمع للأذان صوت في هذه النواحي، وما استطاع هو أن يجلس كما يجلس الآن في فناء المسجد الذي بارك الله حوله، فكان مثابة الرسل ومهبط الرحمات، وبينما كانت هذه الخواطر تتواثب إلى نفسه، رمى ببصره فرأى طائفة من الجنود العثمانيين تتجه إلى مسجد الصخرة، وقد نهكهم التعب، وأكلهم السغب، وتمزقت ثيابهم وجللها الغبار، فهاله أن يرى جنود الإسلام على تلك الحال من المسغبة والمهانة، وحز في قلبه أن يئول أمر حماة الدين الذي يقول قرآنه:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ، إلى ذلك الخور والصغار، رأى تلك الطائفة من الجنود فقام يسعى إليهم، وما كاد يقترب منهم قليلا حتى رأى بينهم ضابط كان يعرفه بحلب، هو أحمد أغا، فحياه في شوق وحفاوة، ثم قال: يبدو عليك وعلى أصحابك يا سيدي أنكم قدمتم من سفر طويل. - لم يكن السفر طويلا يا سليمان، ولكن ... ثم لوى وجهه في ألم واستخذاء كأنه يريد أن يحجب ما قد يبدو عليه من دلائل الضعف النفسي. - وماذا وراء (لكن) هذه؟ - وراءها الخزي والهزيمة.
فبادره سليمان سائلا: كيف؟! - هلم يا صاحبي نجلس إلى جانب هذا الجدار، فقد يطول بنا الحديث، وكان النهار شديد القيظ مختنق أنفاس النسيم، استظلت فيه بومة بشجرة زيتون، وأخذت تنعب وتولول، كأنما كانت تبكي ملك سليمان، وبعد أن جلسا قال أحمد أغا: خبرني أولا عن شأنك أنت، فإن آخر عهدي بك كان بمدينة حلب منذ أربع سنين. - نعم كان ذلك منذ أربع سنين، ولن أنسى كريم عنايتك بأبي وحدبك عليه، ومنذ ذلك الحين نزعت نفسي إلى أن أكون جنديا، وكان الجهاد في سبيل الله أقصى ما تهفو إليه آمالي، وزادتني قراءة سير أبطال الإسلام شغفا بلقاء الموت، وكانت تتناوب خيالي صور رائعة للمجد الذي ينتظرني، حتى كدت أجن جنونا، فطالما أيقظتني من غفوتي أصوات الجماهير، وهي تصيح: الله أكبر! الله أكبر! لقد أنقذ سليمان الحلبي الإسلام من أعدائه، وروى سيفه من دمائهم! فكنت إذا دهمتني هذه النوبة، أجلس في ظلام الليل الدامس حزينا باكيا، أتلفت فلا أجد سيفا ولا رمحا، وأتسمع فلا أسمع إلا سكون الليل وهدوءه، والسكون صوت موحش، هو صوت الموت والفناء، ثم أحاول أن أهز ذراعي لأستأنس بما قد يكون بهما من قوة على الجهاد، فلا أهز إلا ذراعين ناحلتين، لا تقويان على قتل ذبابة، فيزيد بكائي ويطول أنيني، وكثيرا ما كان يستيقظ أبي، وتستيقظ أمي، فيسرعان نحوي مذعورين واجفين، وما كان أشد حنان كف أمي، وهي تمسح على رأسي وجبهتي، وتتمتم بآيات من القرآن مبدلة ملحونة، لتطرد عني الجن والشياطين، حتى إذا زاد ما بي، وطال الأمر علي، وخفت أن أوصم بالجنون، ذهبت إلى إبراهيم باشا والي حلب. - ويل له من ظالم غاشم!! - دعك من هذا فلسنا الآن بصدد الحديث عن الناس، فإن الناس أضغاث بجانب إنهاض الدين وإعادة الإسلام إلى سابق مجده، ذهبت إليه في قصره، فسخرت في نفسي مما رأيت من جنود وأعوان، وخدم وخصيان، وأبهة كاذبة وعظمة جوفاء، يعرف هؤلاء الأتراك كيف يصطنعونها بإطالة الشوارب وكثرة ما ينتطقون به من خناجر، ويتنكبونه من بنادق، وبذلك الصوت الخشن المفزع، الذي يظنون أنه يغني عن جرأة القلوب وصدق العزائم، فلما حاولت أن أجاوز الباب تواثب علي الحراس والأجناد من كل مكان في عجب ودهشة، وانطلقت السيوف من أغمادها، وركض الفرسان من مواقفهم، وأقسم لو أنهم دعوا ليوم كريهة، ما كانت لهم هذه الوثبات ولا تلك الحماسة المتأججة، نظروا إلي مشدوهين، كيف جرؤت؟ وكيف جال بنفس بعوضة مثلي أن تخترق هذا الحصن المنيع والحرم الحرام؟! وكيف يصح لفتى فقير ممزق الثياب من أبناء العرب، أن يتحدى ذلك الملك الذي لا ينال، ويطأ بقدميه فناء تلك العظمة الشماء؟! وقفت أنظر في وجوههم، وفي لمحات وجهي شيء غير قليل من السخرية، فصاح بي كبيرهم قائلا في اشمئزاز: ماذا تبغي يا عربي؟! قلت: أريد أن أقابل الوالي، فابتسم في صلف وقال: أنت تقابل الوالي؟! قلت: نعم، قال: ألا تدري أن ذلك ممنوع؟ قلت: الذي أعرفه أنه الوالي، وأنه يجب عليه أن يقابل من هم في ولايته، قال: وماذا تريد منه؟ قلت: ذلك ما أوثر أن أحدثه به بنفسي.
وكان الباشا حينما سمع ضجيج الحراس أطل من نافذة غرفته، وسأل عن الخبر، فلما علم بأمري دعاني إليه، وقابلني عابسا، ثم قال بصوت يشبه الزجر: ماذا تريد يا فتى؟! قلت: أريد أن ألحق بالجندية لأجاهد في سبيل الله، فضحك حتى سقطت عمامته، وجلس بعد أن كان قائما، ولما التقط أنفاسه، قال في رفق يتعمده الناس عند مخاطبة المجانين: تريد أن تجاهد في سبيل الله؟! آه ... آه ... قلت لي ... هذا شيء عظيم! وأنا يا بني أريد أن أطير الآن إلى زوجتي وأولادي بإستانبول، وأريد أن أضعك في علبة «النشوق» هذه، وأسد فتحتها بالرصاص والحديد، حتى لا أسمع منك هذا الهذر! أنت رجل لو نفخت فيه الآن نفخة لطار إلى الغرفة التي أمامي، من الذي وضع في رأسك فكرة الجهاد هذه؟! الجهاد يا بني منزلة لا ينال شرفها إلا الرجل القوي الضخم ذو المتن الأزل والساعد المفتول، ولو فتحنا باب الجهاد لأمثالك لأنشأنا جيشا جرارا للهزيمة والعار، تتزاحم فيه النساء قبل الرجال، ماذا بك بالله؟! وماذا فيك للجندية؟! ذلك الجسم النحيل الشاحب الملتوي، وهاتان العينان الزائغتان، وذلك الصدر الذي هو أصغر من أفحوص القطاة؟! لعلك تخيلت نفسك وأنت في زي الجندية رشيقا فتانا تتسابق إليك الفتيات وتجتذب نظراتك الغانيات! لا يا فتى!! لقد كذبتك نفسك، لن تكون في ثياب الجند إلا مثار ضحك القيان، وسخرية الصبيان.
قال كل ذلك وأنا واجم مفكر، وقد تطلعت لأجد حولي خنجرا أغمده في صدره لأستريح من زهوه وعتوه، فلم أجد، ثم رفعت رأسي إليه في كبر واعتداد وقلت: هون عليك يا سيدي، إن ميدان الجهاد أوسع من ميدان القتال، وسأختار الميدان الأول ولله في كل ذلك شأن هو مقدره. - وماذا فعلت بعد ذلك؟ - خرجت من عنده، وعزمت وأنا في الطريق على أن أتجرد لدراسة علوم التصوف والتاريخ، لأستبين منها خير سبيل للجهاد، ذهبت إلى أبي، وطلبت منه أن يعينني على الدراسة بالجامع الأزهر، فزودني بما أردت وذهبت إلى مصر، وقضيت بالأزهر ثلاث سنوات، قرأت فيها على كثير من علمائه، ولما دخل الفرنسيون مصر، ورأيتهم يصبون على الأزهر حاصبا من قذائفهم، تحركت في نفسي عوامل الانتقام وعزمت على أن أقتل كبيرهم «بونابرت» ولكني جبنت، واجتذب الشيطان السكين من يميني فلم أجد لي عزما، وعندئذ غادرت مصر وأقمت بالقدس حيث تجدني، والآن حدثني عن نفسك، فقد علمت طوية أمري.
فزفر أحمد أغا وقال: إن حديثي لن يطول وإن كان ألمي طويلا : قمنا من غزة لغزو الفرنسيين بمصر بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا ضياء، وحاصرنا قلعة (العريش) حتى استولينا عليها بعد جهد، وعندئذ شرع الفرنسيون يفاوضوننا في الصلح على أن ينزحوا عن البلاد، وسمعت من بعض الضباط أن المعاهدة تمت وأنها وقع عليها منا ومنهم، ولكني علمت بعد ذلك أن الإنجليز لم يرضوا عن هذه المعاهدة، وأن ساري عسكر كليبر استأنف القتال، فالتقى بجيشنا عند عين شمس، فانهار الجيش أمامه كما ينهار الطلل البالي، وتقهقرنا إلى بلبيس، ثم إلى الصالحية، وتفرق جنودنا بددا؛ وهاموا على وجوههم في الصحراء أذلاء مهزومين حتى وصلت اليوم مع طائفة منهم إلى القدس. - وانتصر الفرنسيون وعادوا إلى ملك مصر كما كانوا؟! - نعم وا حسرتاه!! - وكان إبراهيم باشا والي حلب يسخر مني ومن ضآلة جسمي؟ فماذا يقول اليوم في جنوده الأشداء؟! - حقا إنه كان مخطئا، إن النفوس هي التي تحارب لا الأجسام. - لقد أصبحت أعتقد أن سيوف الترك أضعف من أن تنال من الفرنسيين منالا؛ لأنني علمت أنهم يحاربون بأساليب جديدة وبآلات جديدة.
وهنا جلس أحمد أغا على ركبتيه وقال: سليمان! ألا تستطيع أن تعمل عملا عجز عنه الجيش؟! - هذه هي آمالي منذ سنوات، ولكن النفس الإنسانية تتبلد باليأس وتثبيط العزائم. - إن نفسك فوق النفوس، وهي أبعد من أن تنالها يد اليأس، لقد قرأت كثيرا في سير الأبطال، وتشوقت كثيرا إلى كأس الشهداء وما أعد الله لهم من نعيم مقيم، ما هذا يا رجل؟! إن الإسلام يدعوك لنصرته، وإذا ضاعت مصر ضاع الحجاز وانقطع السبيل إلى بيت الله، وضريح رسول الله. - آه يا أحمد!! إن مما يؤلم حقا أن تريد فلا تقدر، إن نفسي تريد، ويدي لا تقوى.
وهنا خاف أحمد أن تفلت الفريسة من يديه، فاتخذ منهجا آخر في الإغراء وقال: ألعلك تخاف الموت؟! ما كنت أظن أن للخوف عليك سلطانا، ولكني أرى اليوم أن الضعف الإنساني لم يجاوزك، ما هذا؟! أين تلك النفس الوثابة، وأين التهافت على الجهاد، وأين تلك النفحات الربانية؟! لقد عاد الضياء ظلاما ، والعزم أوهاما، والسيف الصارم كهاما!! وأصبحت مخلوقا أرضيا حقيرا ، بعد أن كنت تسبح في سماء كلها إشراق ونور، وقد كنا نرفع إليك الرءوس لنراك فأصبحنا نطأطئها لنبحث عن مكانك في الحضيض. - أنا لست في الحضيض وإن التصق به جسدي الفاني. - جسدك الفاني فيه روحك الباقية، فإذا رفعته ارتفع، لقد كنت أفخر بمثلك، وكان الدين يستعد لشدائده بمثلك، والناس يدعون في صلواتهم أن يفيض الله لهم رجلا مثلك لكشف الضر عنهم، وحينما قرأت في بعض الكتب أن بعض الأولياء قال للشيخ كمال الدين الدميري: إنه سمع قائلا يقول: إن الله يبعث على رأس كل مائة لهذه الأمة من يجدد لها دينها - لم أشك في أنك بطل هذه المائة، وأنك ستعيد الإسلام إلى جدته ونضارته.
فتألقت عينا سليمان، وتجمعت أسارير وجهه وتقبضت شفتاه شأن العازم المصمم وقال: وماذا أعمل يا أحمد؟! - تأخذ هذا الكيس وفيه مائة محبوب ذهبا، وتذهب اليوم إلى ياسين أغا حاكم غزة، ليذلل لك سبيل السفر إلى مصر.
ثم أخرج خنجره من منطقته وقال: وإذا بلغت مصر فأغمد هذا الخنجر في صدر كليبر قائد الجيش الفرنسي.
فقذف سليمان بالكيس في وجه صاحبه، وقال وهو ينتفض: إن المجاهد في سيبل الله لا يحتاج إلى مال، حسبي هذا الخنجر وسأهز به الدنيا هزا، وسأترك فيها دويا.
سافر سليمان الحلبي إلى غزة، وبقي بها أياما ينتظر قيام قافلة للتجارة تقصد إلى مصر، حتى إذا قامت صحبها، فبلغ القاهرة بعد ستة أيام، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من مايو، وكان يعرف القاهرة من قبل، ويعرف طرقها المعوجة، وحاراتها الضيقة، فحمل خرجه واتجه صوب الأزهر ليقيم برواق الشاميين، وقضى وقتا وهو يحضر الدروس، ويعيش من نسخ الكتب، وكانت الفكرة تنتابه كما تنتاب الحمى صريعها فينتفض انتفاضا، ويمس خنجره الذي أخفاه في طيات ثيابه، ويهم بإنفاذ خطته، ولكنه يعود فيقعده الخور، وتصده النفس المطبوعة على حب الحياة.
وهكذا بقي ريشة في مهب العواصف، وكرة تتقاذف بها العواطف، فكان بين إقدام وإحجام، وثورة وخمود، وشجاعة وجبن، «وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن»، ولما ضاق بالأمر صدره أفشى بعض سره إلى الطلبة من أصدقائه، وهم: محمد الغزي، وأحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي - فسخروا منه، وهزءوا به، ورموه بالجنون، وقال له عبد الله الغزي: إنك يا سيدي البطل المغوار أعجز من أن تقتل ذلك الفأر الذي يزعجنا في كل ليلة بالوثوب على وجوهنا! فزاد ذلك من غيظه وحفزه على التصميم، فخرج في صباح اليوم الثالث عشر من شهر يونية إلى الجيزة، يمشي مطرق الرأس مذعورا، كما يمشي الكلب المسعور، باحثا عن كليبر في كل مكان كما يبحث الصائد عن طريدته، فعلم بعد طول التساءل من نواتي سفينته، أنه يتمشى في كل مساء في حديقة قصره بالأزبكية، فرجع إلى القاهرة وكان قد أظله الليل، فحاول أن يصل إلى حديقة القصر فلم يستطع، فقضى ليلته في مسجد قريب، ولما أصبح تتبع خطوات الجنرال وسار في إثره إلى «الروضة»، ثم عاد خلفه إلى القاهرة، واستطاع التسلل إلى الحديقة فكمن فيها خلف ساقية، وكم جال بخياله في هذه اللحظة من صور: جال بخياله سخرية والي حلب، وجال بخياله ما فعل الفرنسيون بيافا، وجال بخياله أن الملائكة يستعدون الليلة للقائه في جنة الخلد بين المجاهدين والشهداء، وجال بخياله أن ذلك الخنجر الذي ترتعش به يده، سينقذ أمة كاملة من ويلات الذل والاسترقاق، ثم جال بخياله أن اسم سليمان الحلبي المغمور المجهول، سيجلجل في الآفاق ويدونه التاريخ بين أسماء أبطاله الأمجاد، وهنا أغمض عينيه وتشهد، وأخذ يتلو آيات من القرآن في الجهاد وفي ثواب المجاهدين، وما كاد يفتح عينيه حتى دخل كليبر ومسيو «بروتان» المهندس الحديقة، فنهض سليمان واقترب من الجنرال في ذل متصنع، فظنه مستجديا فلم يأبه له، ولكن سليمان وثب عليه كما يثب النمر الجائع، وطعنه بخنجره طعنة قاتلة فسقط مضرجا بدمائه، وهم مسيو بروتان أن يتعقب القاتل، فلما أمسك به طعنه سليمان ست طعنات، خر بعدها لليدين والفم، ثم عاد إلى كليبر فطنعه ثلاث طعنات ليقضي على آخر مسكة من حياته، ولم تحدثه نفسه بالفرار، ولكن غريزة حب البقاء دفعته إلى جدار في الحديقة فاختفى عنده، وجاء الحراس فرأوا قائدهم وقد أسلم الروح، فهالهم الأمر وتملكهم الجزع، وأقسموا على الانتقام من مصر وأهلها، وأن يدكوا أركانها دكا، ونفخوا في أبواقهم ليجمعوا شتات الجنود المنتشرين بالقاهرة، واهتزت أرجاء المدينة وزلزلت للحادث الجلل.
الفصل السادس عشر
كانت القاهرة يلفها غبش الظلام، حينما انطلق جنود الفرنسيين في أنحائها غاضبين مهددين بمحو القاهرة من صحيفة الوجود، وقد تسابقوا إلى القلاع والتلال، وصوبوا مدافعهم نحو المدينة المسكينة، واعتزموا أن يجعلوها نسفا وألا يبقوا بها نفسا، ووصل الخبر المشئوم إلى السكان المنكوبين فهرعوا إلى ديارهم ليفروا من الموت إلى الموت، وعلا الضجيج، وصاح النساء من نوافذ المنازل مولولات ناعيات، وبكى الأطفال مفزوعين لهذا الهول العظيم، وتذكر الناس ما أصابهم في الثورة القريبة العهد من فوادح فأخذتهم الرجفة، وانطلقوا في الطريق يصيحون: يا لطيف ... يا لطيف!
وكان نيكلسون ومحمود بقهوة بخطة سيدنا الحسين، فلما وصل إليهما الخبر بهتا وأخذهما أول الأمر ما يشبه الذهول، ثم قال نيكلسون: من يكون القاتل يا ترى؟ - يكون من يكون، فلن تفلت مصر من أكبر نكبة في تاريخها، وتكون النازلة أعظم إذا لم يعثروا على القاتل. - ويل للقاهرة ثم ويل لها! لقد أصبحت منذ دخل الفرنسيون غرضا لا تخطئه السهام، هلم بنا إلى الدار فقد تركنا بها لورا وحيدة، وأخاف أن يمسها سوء.
وبينما هما في الطريق قابلهما السيد أحمد المحروقي، وصاح بهما: لقد وجدوا القاتل، فعاجله نيكلسون: وأين وجدوه؟ - الحق أنه هو الذي أوجد نفسه، فإنه - كما يبدو لي - لم يحاول الفرار، ولم يغادر حديقة القصر، وقد علمت أنه طالب علم حلبي، والفرنسيون يعتقدون أن وراء الأكمة ما وراءها.
فقال محمود: غدا يتبلج الصبح لذي عينين، إن القاهرة في هذه الليلة لن تنام، وكيف تنام من تنصب له أشراك الحمام؟!
ثم انطلقا حتى بلغا دارهما، فوجدا لورا لدى الباب والهة حزينة، حتى إذا رأت محمود سقطت بين ذراعيه ، وأخذت تبكي وتضحك في آن، ثم اتجهت إلى أبيها وقالت: لقد قتلني طول انتظاركما في هذه الليلة الليلاء، وقد أصمت صفارات الفرنسيين أذني وهم يجوسون خلال الطرق في شبه جنون محموم، هل قتل كليبر حقا؟
فقال محمود: نعم قتل حقا، وهو فيما أعتقد آخر ركن للفرنسيين في مصر، قتله شاب حلبي فدائي فيما يظهر، وإني أمقت الوسيلة وإن ارتحت إلى الغاية. - حسنا يا محمود، وإن كان بعض الناس يرى أن الغاية تبرئ الوسيلة.
فقال نيكلسون: هذا رأي فائل شديد الخطر، لو أخذ به لهدمت الأخلاق جميعا، ولتحول الناس إلى ذئاب وثعالب، إن الغدر ليس من الشجاعة في شيء، وإن من الرجولة أن يجبه الرجل خصمه في نزال شريف، لا أن يكمن له كما تكمن الصلال.
فقالت لورا: هذا صحيح يا أبي، ولكني أظن أن الأمر يختلف إذا اختلف الخصمان في القوة، تصور يا أبي عدوا يسلط عليك السيف وأنت أعزل حتى تخضع له مرغما مقهورا، ثم يأخذك بأساليب الإذلال والقسوة، أليس من حقك في هذا الحين أن تكيد له، وأن تثب عليه في الظلام؟ هؤلاء الفرنسيون غزوا بني مصر بسلاح جديد، وأذلوهم بالمدافع الحديثة الابتكار، وقد كان قصارى ما يعرفه المصريون من الحرب، أن يجول الفارس من المماليك بفرسه مزهوا متحديا، ثم يثب على خصومه ليجالدهم بالسيف، فهل من العدل أن نصمهم بالخيانة والغدر، إذا هب أحدهم من وراء جدار فأغمد خنجره في ظهر خصمه العنيف الجبار؟ ليس للأخلاق يا أبي ميزان واحد؛ لأنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والحوادث، فالعمل الشريف في حال، قد يكون دنيئا في أخرى، وإنما هو العقل الحكيم الذي يقدر الأمور، ويحكم على الأحوال.
فقال نيكلسون: لم نتمتع بسماع فلسفتك منذ عهد بعيد يا لورا، ولكني أعتقد أن القتل الشريف لا يكون إلا في القصاص، وفي ميدان القتال. - إن مصر لم تكن منذ دخلها الفرنسيون إلا ميدان قتال، وهذا الشاب الحلبي قتل كليبر في ميدان القتال.
فقال محمود: إنه قتله غدرا، فقالت لورا: وأكثر القتل في الميدان لا يكون إلا غدرا، إن الفارس يتحين غفلة من صاحبه فيفجؤه بالطعنة، أسمعت فارسا يقول لخصمه: خذ حذرك يا صاحبي فإني سأضربك في جنبك الأيسر؟ ما هذا الكلام يا محمود؟ إن الحدود بين الأخلاق مائعة متموجة، فقال أبوها: أنت تحكمين العقل يا لورا، ونحن نحكم الضمير. - ما الضمير؟ كلمة جديدة أخرى من الكلمات التي ابتدعوها، لو طلبت من «سقراط» تحديدها ما استطاع، هذا ضميره يؤنبه؛ لأنه قبض على قاتل وساقه إلى القضاء، وهذا ضميره يؤنبه؛ لأنه لم يقبض عليه، وهذا ضميره يحزنه؛ لأنه ضرب ابنه وعنف عليه، وهذا ضميره يخزه؛ لأنه لم يضربه، ما هذه الفوضى وما هذا الارتباك الخلقي؟ وأظن أنني سمعت منك يا أبي، أن القضاء الإنجليزي لا يصدر أحكامه عن قانون مدون، وإنما يحكم القاضي في كل مسألة على حسب الأحوال المحيطة بها؛ ذلك لأن لكل حال حكما، فقال نيكلسون: هوني عليك يا بنيتي، ودعينا - كما يقول الإنجليز - نتفق على أن نختلف، أتظنين أن الفرنسيين سيصبون نقمتهم على البلد؟ - ما أظن بعد أن قبض على القاتل وتبين أنه حلبي.
وقال محمود: أخشى أن يجرهم البحث إلى تتبع المتآمرين الذين كانوا يغشون بيت الشيخ السادات، وحينئذ فعلي وعلى نيكلسون وعلى السيد عمر مكرم، والسيد المحروقي - السلام، فقال نيكلسون: لا يا محمود إننا كنا نتآمر على إخراجهم من البلد لا على قتلهم غيلة، الذي أظنه أن موجة العذاب ستزحف على الأزهر؛ لأن القاتل كان أحد طلابه، ثم دلفوا إلى مضاجعهم، والقاهرة ساهدة ناصبة، ومر يومان تم فيهما تحقيق الحادث الجلل، وحكم على سليمان الحلبي بقطع يمينه التي صوبت الخنجر إلى صدر القائد العظيم، وبصلبه فوق مخزق وترك جسمه لجوارح الطير تتخطفه، وبقتل الطلبة الأربعة الذين أفضى إليهم بسره، ثم احتفل الفرنسيون بجنازة المقتول احتفالا ضخما، ودفنوه بحديقة قصر العيني.
وحينما قتل كليبر، أطل الجنرال مينو برأسه من الغمرة التي كان فيها ووثب إلى قيادة الجيوش الفرنسية، وأصبح حاكم مصر المطلق، لا لموهبة ممتازة أو لعبقرية نادرة أو لنبوغ في ميدان الحرب أو ميدان السياسة، ولكنه وصل إلى هذه القمة قضاء وقدرا، كما وصل من قبل إلى المراتب السامية في الجيش، دون أن يفتح فتحا، أو يحرز انتصارا، وصل إليهما كما نقول اليوم بالأقدمية لا بالكفاية؛ لأنه كان أقدم قواد الفرق في الخدمة، وانتقل من القلعة إلى قصر القائد العام بالأزبكية، وأظهر من العظمة والبذخ والتباهي ما لا يستطيعه غير «مينو».
أما زبيدة: فإنها حينما وصل إليها الخبر، وعلمت أن زوجها أصبح حاكم البلاد، وأنها أصبحت ملكة مصر كما زينت لها «رابحة» العرافة منذ سنتين - أخذتها نوبة مبهمة مختلطة، يمتزج فيها السرور بالحزن، والرضا بالسخط، والتصديق بالسخرية والازدراء، وفتحت عينيها كأنها تستيقظ من حلم مخيف مفزع، وأخذت تناجي نفسها في أسى ممض قاتل: أهذه غاية المطاف؟! وتلك هي الأمنية الخداعة التي أطفأت بها سراج حياتي؟! ولهذه الصفقة الخاسرة بعت جسمي ونفسي؟! ولذلك الاسم الأجوف ضحيت بحب محمود الطاهر النقي؟! ذلك الحب الملائكي الذي لو مس الهاجرة لعادت نسيما، أو امتزج بالماء لكان تنسيما؟! كيف صدقت هذه الخرافة؟ وكيف أغواني الشيطان بتصديقها؟! أنا ملكة مصر؟! ثم أخذت تضحك كما يضحك الأبله المأفون، أنا ثانية شجرة الدر بمصر؟! مرحى!! مرحى!! مرحى!! أين عرشي، وأين وزرائي، وأين جيشي وأين أمري ونهيي؟ ملكة من أوهام، وعرش من أحلام، وجيوش من حطام، ثم أين مصر التي أنا ملكتها؟ رسوم وأطلال، وأخلاق بالية وأسمال، وأشباح كالظلال، أنا ملكة مصر؟ ولن أستطيع أن أخرج من داري، أو أجرد حملة على طاهي مطبخي الفرنسي!! يا لضحك القدر ويا للسخرية ويا للعار!! كيف صدقت أن أكون ملكة مصر؟ حقا إن بين من يدعون العقل كثيرا من المجانين، وإن شر الجنون ما كان خفيا مستورا، وهذه العرافة «رابحة» - قطع الله لسانها - هي التي خدعتني، ورأت في عقلي مسلكا إلى الجنون فسلكته، هؤلاء العرافون قد تكون لهم لمحات من الغيب، ولكنهم لا يحسنون تفسيرها، يقولون لرجل: أبشر ستكون لك شهرة ولاسمك ذيوع، فيذيع اسمه في جريمة! ويقولون لآخر: إنك ستنزل في بيت الحاكم، فيسجن! قالت رابحة: إنك ستكونين ملكة مصر، ولم تقل: إنك ستعتقلين في بيت حاكم مصر الأجنبي، ويحي على شبابي، وويلي من خيالي وأوهامي!! لقد فقدت كل شيء، ونكبت بكل شيء، وحصلت وأنا ملكة على غير شيء.
ودخل «سرور» فرآها باكية حزينة فقال لها: ما هذا البكاء يا سيدتي؟ نحن مؤمنون، وإن الله لا يغير في لوح القدر ما كتب فيه. - أعلم ذلك يا سرور، ولذلك أبكي. - هوني عليك يا سيدتي، إن الله مع الصابرين.
هكذا كانت حال زبيدة عندما أصبحت سيدة نساء مصر، وقد روح عنها قليلا أن زوجها انصرف عنها إلى شئون الدولة، وترك لها وقتا غير قصير تنعم فيه بالبعد عنه.
وتوالت الأيام، وأظهر كل يوم منها تعثر «مينو» في سياسته، وأبان كل حادث «خلقا من أبي سعيد عجيبا»: فقد عبث بقواد الجيش كما شاء حقده، فعزل منهم من عزل لسخائم في نفسه، ورفع من رفع من غير حق، فذعر القواد لهذه الفوضى وسخط الجنود، وتبددت وحدة الجيش، وألف ديوانا جديدا للأحكام، جعل بين أعضائه صهره العزيز السيد عليا الحمامي، ثم اتجه إلى أهل مصر فأرهقهم بالضرائب الفادحة، وأكثر من المصادرة وسجن الأبرياء وهدم الدور، حتى محيت أحياء بأكملها، وأصبح معظم القاهرة قفرا يبابا، وبلغت القلوب الحناجر، وضاق بالناس الخناق، فأخذوا يهجرون القاهرة أفواجا، وزاد في سخط الجيش أن زبيدة وضعت له غلاما فسماه: سليمان، شماتة في كليبر، وتنويها باسم قاتله.
وفي مارس سنة 1801م ذاعت بين الناس ذائعة تلقفتها الأفواه ورددتها المجامع، وتنفس الناس لها الصعداء، وكان نيكلسون ومحمود العسال يزوران السيد المحروقي في داره، فوجدا عنده الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، فسأله نيكلسون: ما هذا الخبر الغريب يا مولانا؟ - لم يصبح الخبر غريبا يا سيدي السوسي، فقد وصلت عمارة إنجليزية إلى أبي قير، فهزمت الفرنسيين ونزلت إلى البر، ودارت معركة بالإسكندرية بالمكان الذي يدعونه بقصر القياصرة، كانت الغلبة فيها للإنجليز أيضا، وسافر «مينو» إلى الإسكندرية، لتتم الهزيمة. - أواثق أنت من هزيمة الفرنسيين. - كما أثق بالعدل الإلهي، إن الفرنسيين ليسوا كما كانوا أيام بونابرت، وقد قضى مينو على البقية الباقية من حماستهم واجتماع كلمتهم، وراح يبدد جيشه في كل أنحاء مصر، فكيف يستطيع بفئة قليلة أن يلاقي جيشا عظيما؟ - ما رأي سيدنا الشيخ في الإنجليز؟ - أخاف أن تكون لهم نية في مصر، وأنهم يركبون الترك مطية لأغراضهم. - إن الإنجليز قوم شرفاء. - وما شأن هذا بالشرف؟ إن للكون نظاما، والفوز دائما للقوي يا سيدي. - هذا الذي يسميه أهل أوربا: نظام بقاء الأصلح. - سبقهم إلى ذلك القرآن الكريم:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، وقال عز شأنه:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
وانفض المجلس وتوالت الإشاعات في كل يوم، ورقص عوام القاهرة وطربوا لكل خبر جديد، وأنشد الصبيان الأناشيد في المكاتب والطرق، وخرج شذاذ «الحسينية» و«العطوف» و«الرميلة» في جموعهم يتحدون الفرنسيين، ولم تمض أيام حتى وثب جيش من الترك والإنجليز على أرباض القاهرة، فذعر الجنرال «بليار» نائب «مينو» وعقد مع المغيرين معاهدة من شروطها أن يغادر الجيش الفرنسي بلاد مصر في أقرب ما يكفي من الزمان لرحيله.
أما مينو فاضطرب أمره بالإسكندرية وركب رأسه، وقذف بجنوده في غير حزم إلى موت محتوم حتى إذا سقط في يده، ورأى أنه ضل الجادة وتقطعت به وسائل الدفاع سلم سيفه مهزوما، وعاهد الترك والإنجليز في السادس والعشرين من أغسطس سنة 1801 على مغادرة مصر، فأقيمت معالم الأفراح في كل مكان، وأشرقت الشمس بنور ربها فبددت غياهب الأحزان، ونظر الفرنسيون إلى الجنوب وهم مبحرون من الإسكندرية، بعد أن تمزقت آمالهم، فإذا أبو الهول لا يزال يبتسم!!
الفصل السابع عشر
كانت زبيدة ذات صباح في غرفتها، وهي في هم ناصب وحيرة قاتلة: أتفرح لجلاء الغاصبين عن بلادها، أم تحزن لجلائها عن بلادها؟ ولماذا تفارق أهلها وديارها إلى قوم هم عنها غرباء وهي فيهم دخيلة؟ ألهذا الزواج الذي عبث بنسبتها فأصبحت لا شرقية ولا غربية، وبتر ما كان لها من صلات محبوبة من الحب والسعادة والشباب، ونقلها من بيئتها التي فيها نشأت ، وفي جوها نمت، وفي ظلال آمالها تفيأت إلى بيئة أعجمية أصبحت فيها غريبة الوجه واليد واللسان، كما ينقل النبات من مصر الدفيئة الضاحكة إلى مثالج سيبريا الباكية الحزينة؟ لماذا تفارق أرضها وديارها؟ إن زواجها كان خطرة من وسواس مينو ذي الخيال الخصيب والعقل العجيب، ولبانة أراد قضاءها في مصر، حتى إذا نبت به مصر، وأزمع عنها الرحيل، تركها وراءه كما يقذف الطفل بلعبته الأثيرة عنده إذا رأى غيرها.
وهنا تنهدت وقالت: كنت لعبة مصرية، وسيجد القائد العظيم بفرنسا لعبا كثيرة تحسن القفز والرقص، وتعرف كيف تستهوي الرجال الذين لهم عقول الأطفال، وبينما هي تغوص وتطفو في هذا الخضم المائج من الأخيلة والأفكار؛ إذ صاح ابنها سليمان وكان نائما، فهرعت إليه حدبة مشفقة مدللة، وأخذت تناغيه وتناجيه بألفاظ عذبة، تعرف الأمومة العطوف كيف تصوغها، ثم شرعت تحدثه كأنما تحدث فتى يافعا وتقول: ستبقى معي هنا يا فتاي العزيز إذا ذهب أبوك إلى فرنسا، سنعيش هنا يا سليمان سعيدين، وستنال من حبي أضعاف أضعاف ما كنت تناله من حب أبيك، إن في قلبي حبا قديما مكظوما كتمته وأحكمت سده، وقد كنت في أول يوم من الأيام أريد أن أسعد به كما تسعد الفتيات، فجاء أبوك في طريقي فسددته عنه وعن الناس جميعا، فخذه كله يا سليمان، فإنه حب نقي كماء الغمام، طاهر كصحائف الأبرار، عظيم كموج البحر، إنك إن تذوقته أغناك عن حب أبيك، إنه حب فتاة والهة ضاع أملها، وأم رءوم تحيا مرة أخرى في وحيدها.
وهنا ضحك الطفل - وكان في شهره السابع، وحرك يديه، فقبلته وقالت: أتضحك من أمك يا سليمان؟! اضحك منها كما تشاء فقد ضحك منها أبوك، وضحك منها الناس جميعا، ولكنك ستبقى لي على كل حال، ريحانة حياتي وقرة عيني، وإذا طلبك أبوك فقل له في رجولة وشهامة: سأبقى مع أمي فاذهب أنت حيث شئت، إن أبناء النيل لا يبغون بمائه الطاهر بديلا! أنت مصري يا سليمان ... أنت مصري بلا شك؛ لأني مصرية، وأنت فلذة مني، فدع أباك الفرنسي يذهب إلى بلاده كما يريد، وتعالى نعد إلى دارنا في رشيد ونجمع حطام تلك الذكريات الحلوة، التي عبثت بها العواصف وبددتها الخطوب.
ثم طافت بوجهها جهومة قاتمة وقالت: وإذا حتم أن تذهب معه إلى فرنسا فماذا تفعل؟ أتذهب معه؟ إنك إن فعلت قتلت أمك يا سليمان، إني أوثر أن تنزع روحي من جسمي على أن تنزع أنت من يدي، وهنا طرق الباب خادمها «سرور» وكان معه «روفائيل» المترجم جاء يترجم الرسالة وكانت موجزة جافة يأمر فيها زبيدة بالرحيل العاجل إلى رشيد، لتدرك السفن التي ستقل جيش الجنرال «بليار» إلى فرنسا، ويهددها في آخر رسالته بأنها إن أبت الرحيل، فعليها أن تسلم ولدها إلى مسيو «إستيف» مدير الشئون المالية، ليحمله إلى أبيه بالإسكندرية.
وما كادت زبيدة تسمع الرسالة، حتى جن جنونها، وصاحت في وجه روفائيل: اذهب وقل لسيدك: إن مخلوقا في الأرض لن يستطيع أن يأخذ مني ولدي، ثم قل لسيدك: إنه لم يعد حاكما على مصر حتى يتبع معي أساليبه التي قضت عليه وعلى ملكه، ثم قل له مرة ثالثة: إن زبيدة مصرية، وإن ابنها مصري، رغم أنف القوانين التي تأنقتم في وضعها.
وحينما سمعت أمها صياحها أقبلت مذعورة، وكانت في غرفة بعيدة مع ابنها علي الحمامي، فلما علمت الخبر انفجرت بالبكاء، ووقف إلى جانبها «سرور» وهو يدافع الدمع فلا يستطيع، وأخذت زبيدة تذكر تاريخها الأسود، وتعدد ما أصابها من النكبات بين بكاء يمزق الصخر، ونشيج يذيب الحديد، وكان المترجم «روفائيل» قد خرج بعد أداء رسالته مسرعا، فلحق بالمسيو «إستيف» في دار ديوان الأحكام وأخبره الخبر، فأسرع إستيف إلى قصر مينو وطلب مقابلة زبيدة، وكان ينتفض من الغضب، فلما قابلها قال لها في حزم وتصميم: إن زواجها بالجنرال لم يكن لعبة لاعب أو سخرية ساخر، وإنما هو زواج شرعي له كل مطالب الزواج الشرعي ونتائجه، أما أن الجنرال لم يعد حاكما لمصر، فتلك مسألة ليست للنساء أن يخضن فيها، ولكن الذي يعلمه، والذي يجب على السيدة أن تعلمه ، أن من مطالب الجنرال مينو الأولى عند الاتفاق على نزوح الفرنسيين عن مصر أن تتخذ الوسائل الأمينة لسفر زوجه وابنه إلى فرنسا، فإذا كان مينو حاكم مصر أو لم يكن، فإن الترك والإنجليز سينفذون هذا المطلب، رضيت السيدة أم أبت، وإذا بلغت بالسيدة رقة العاطفة بحيث لا تستطيع أن تغادر وطنها، فإننا لن نجرؤ على مس تلك العاطفة النبيلة، ولكننا نكتفي بحمل ابن الجنرال إليه؛ لأنه فرنسي السلالة، بمقتضى المادة الحادية عشرة من عقد الاتفاق المسجل بمحكمة رشيد.
سمعت زبيدة هذا الحديث أو هذا التهديد فصعقت، وتطلعت إلى مسيو إستيف في استعطاف يفتت الصخر، فلم تجد في وجهه إلا عبوسا ويبسا، ثم تنهدت وقالت: ألا ينتظر الجنرال سنة حتى ينمو الطفل قليلا ويتحمل مشاق السفر؟ فقال إستيف في إيجاز: السفر غدا.
وهنا هزت زبيدة رأسها وقالت في شمم اليائس: سأسافر غدا، ويفعل الله ما يشاء، ثم كفكفت دموعها وقالت لسرور: أعد كل شيء يا سرور، وهمت أمها بالبكاء فصاحت بها: ليس هذا وقت البكاء يا أماه، إنما هو وقت الصبر والتسليم لأحكام القدر.
فأعد سرور كل شيء للرحيل وحتمت والدة زبيدة عليه أن يسافر مع سيدته إلى فرنسا؛ لأنها لا تطمئن على سلامتها إلا وهي في حياطته وحراسته، وذاع خبر سفر زبيدة بين أهلها بالقاهرة، فاجتمع في الصباح بالقصر: السيد المحروقي، وزوجته أمينة، وابنته وابنه، ومحمود العسال ونيكلسون، ولورا، وكانت فترة من الحزن تعلو وجوههم كأنهم جاءوا لتشييع جنازة، ونزلت زبيدة من السلم وحولها أمها وأخوها وسرور، وخادمة تحمل ابنها سليمان، فسلمت على مودعيها واحدا واحدا في صمت وتجلد، ولما جاءت للسلام على ابن خالتها محمود لم تملك إلا أن تعانقه، وتطبع على جبينه قبلة صامتة، ثم ترسل زفرة حزينة فيها كل معجمات اللغة من الحب والحنان، ولما همت لتركب المحفة إلى ساحل بولاق، اتجهت نفيسة إلى سرور وهي تحمل في يدها كيسا ثقيلا وقالت: هذا الكيس يا سرور به ألف محبوب، فاحفظه معك ولا تنفق منه شيئا، فإذا وقعت سيدتك زبيدة في ضائقة فأنفق منه ما تشاء لتخليصها، نحن لا ندري يا سرور ما يكون، ولكن إياك أن يمسها سوء وأنت معها، أنت خير أمين عليها يا سرور، ابذل روحك ومالك في أن تنجيها لوالدتها الحزينة، في وديعة الله ... في وديعة الله!
وركبت زبيدة المحفة بين بكاء الباكين وعويل المعولين، واختفت عن الأنظار كما يختفي حجر صغير يقذف به في بحر خضم.
وسار محمود ولورا مع خالته نفيسة حتى بلغا دارهما، وحينئذ قالت لورا: لم يعد لنا بقاء بالقاهرة يا محمود. - إن سرورنا بخروج الفرنسيين ضيع نشوته حزننا على زبيدة، وقد أقمنا بالقاهرة لمناجزة الغاصبين، لذلك أرى ما ترين.
فأسرع نيكلسون قائلا: لنسافر غدا إذا مع السيدة نفيسة، ولما عقد الاتفاق على السفر، خرج محمود إلى ابن عمه حسين فأخبره بما عزم عليه، ووجد عنده سعدا الشباسي المراكبي، فعلم منه أنه سيسافر إلى رشيد بعد يومين، فتركهما محمود وأخذ في الاستعداد للسفر، حتى إذا جاء اليوم الموعود ركبوا في السفينة إلى رشيد.
الفصل الثامن عشر
وصلت السفينة إلى رشيد بعد ستة أيام، والتقى محمود بأمه بعد طول الغيبة، فرآها لا تزال ملازمة فراشها، ولكنها انتعشت لرؤيته ودب فيها دبيب الحياة، ثم قدم إليها لورا، فقبلت يدها في أدب وحياء، وأخذت السيدة زينب تحدد النظر إليها وتصوبه ثم صاحت: هذه ابنتنا لورا؟ أين كنت يا بنيتي كل هذه المدة؟ أيجمل بك أن تتركي خالتك المريضة دون أن تروحي عنها بزيارة قصيرة؟ حقا إن البعيد عن العين بعيد عن القلب.
فقال محمود: إنها كانت في القاهرة يا أمي منذ دخول الفرنسيين مصر، وقد كانت ترعى ابنك محمودا بعطفها، وتمرضه وهو جريح، حتى عاد إليك رجلا قويا يحملك هكذا، ويقبلك هكذا، ثم حملها وأخذ يغمر وجهها ويديها بالقبل، وهي جذلى فرحة تتصنع الصياح والعربدة، ثم قالت وقد التقطت أنفاسها: إنك لا تزال غلاما شقيا كعهدي بك، وأين أبو لورا؟ - ذهب إلى منزله الذي كان يسكنه «إلياس فخر» المترجم؛ لأنه رحل مع الفرنسيين ... وعادت إليه خادمته مبروكة، وخادمه عبد الدايم، فاتجهت إلى لورا وقالت: لقد كان منزلك جميلا يا لورا، كنت كلما زرت مقام سيدي الإدفيني عرجت عليه لأجلس بجانب إحدى نوافذه الشمالية، لأتمتع بشميم أزهار الحدائق حوله، فأسرع محمود وقال: إنه لم يعد منزل لورا يا أمي. - ألم تقل: إن المترجم رحل عنه، وإن الخواجة نيكلسون عاد إليه! ... - نعم، ولكن لورا يحول الآن بينها وبين سكناه حائل عظيم. - حائل عظيم!! ما هو؟
فابتسم نحو لورا وقال: الشرع الشريف والحب الشريف.
فقالت أمه: أنا لا أفهم هذه الألغاز! - وهذا بعض ما تستحقين، فطالما ربكت عقلي بالأحاجي (الفوازير) وأنا صغير لا قبل لعقلي بها. - دع هذا يا محمود وخبرني جلية الخبر. - إن لورا تزوجت. - ألف مبارك يا لورا، بمن؟
فقال محمود: بمن لا يحب في الدنيا إلا امرأتين: هي ... وامرأة أخرى تجلس في سريرها. - رجعنا إلى الألغاز ... بمن بحقك؟! - بابنك محمود.
فاتجهت زينب إلى لورا ومدت إليها ذراعيها، وأخذت تقبلها بين الضحك وانهمار الدموع، ثم قالت وهي تداعبها: عرفت سر تكرار زياراتك لخالتك المريضة حينما كنت برشيد، ثم ضحكت وقالت: هؤلاء البنات لا يغلبهن غالب حينما يردن، وقد خلقت لهن أمهن حواء تلك الشبكة المحكمة الأطراف التي تصيدت بها أباهن آدم، ألف مبارك، ألف مبارك يا لورا، من مثلي الآن في رشيد؟ لي ولد وبنت صورهما الله من جمال وحسب وخلق كريم! الآن لا أحب أن أموت
ثم أمرت الخدم أن يعدوا لهما غرفا خاصة بهما، وبعد قليل هجس بنفسها هاجس أليم انقبض له وجهها فقالت: لقد علمت بخاتمة نكبة بنت خالتك يا محمود، إنها لمصيبة أخف منها الموت، وكيف حال أختي نفيسة؟ - جاءت معنا من القاهرة وذهبت إلى دارها. - مسكينة!! لن تجد بدارها أنيسا إلا إذا ائتنس البائس بما يؤلم من الذكريات!! مسكينة!! مات زوجها الشهم الذي لم تشرق شمس رشيد على مثله، وضاعت بنتها غنيمة للفرنسيين، حتى كأنهم لم ينزلوا مصر إلا لاختطافها، وبقي لها ... ماذا بقي لها؟! الثكل والجزع، وابنها علي الحمامي. - آه يا أماه!! إن رزيئتنا في زبيدة فوق الاحتمال.
فأرسلت أمه نظرة خاطفة إلى لورا وقالت: ذلك قضاء الله يا بني ... من كان يظن أن الشرقي يتزوج غربية، والغربي يتزوج شرقية!! آمنت بالله، وآمنت بالقدر خيره وشره!!
وفي هذا اليوم غير نيكلسون زيه فارتدى ملابسه الإفرنجية، وطلق اسم الحاج محمد السوسي إلى غير عودة، وقابل شريكه «أورلندو» فضبط معه حسابه مدة غيبته، وعاد إلى متجره بشارع البحر كما كان، مغتبطا مسرورا برحيل الفرنسيين، مزهوا فخورا بأن قومه هم الذين أجلوهم عن البلاد.
واستبشر أهل رشيد بعودة محمود العسال ونيكلسون صديقهم القديم وتوافد عليهما المهنئون، وكان حديث بطولتهما ملء المسامع والأفواه، وزواج محمود بلورا موضع جدل ونقاش بين الفتيات والأمهات.
ومرت سنوات ست على محمود حتى أظلته سنة 1807م وهو هانئ سعيد بزوجته وقد زاد بها تعلقا وزادت به حبا، وفي خلال هذه السنوات اضطربت الأحوال بمصر، واشتد الصراع بين الترك والمماليك، وشايع زعماء المصريين محمد علي باشا، فاختارته الأمة واليا على مصر، وتجرد لمحاربة المماليك واستئصال شأفتهم.
وفي ذات ليلة بينما كان محمود ولورا يزوران نيكلسون، دخل حسين العسال ابن عم محمود، وقال وهو يلهث من التعب: لقد بحثت عنك يا محمود في كل مكان، جئت اليوم من الإسكندرية وهي في أشد أحوال الكرب والاضطراب، فقد نزل بها بالأمس جيش إنجليزي واحتل المدينة، والناس في حال يرثى لها؛ لأنهم لم يكادوا يفيقون من صدمات الفرنسيين، حتى سقطوا في أيدي الإنجليز، وقد علمت من الشيخ المسيري أن قائد هذه الحملة يدعى: فريزر، فبهت محمود وقال في ذهول: جيش إنجليزي؟ - نعم، فإني أعرف الراية الإنجليزية، وأميز ملامح الإنجليز من أي جنس آخر. فقال محمود: ولماذا قدموا يا ترى؟ فأجاب نيكلسون وقد أدرك حرج موقفه: إنهم لم يجيئوا لامتلاك البلاد، والذي أعلمه أن الدولة العثمانية حالفت نابليون، وقطعت صلاتها بإنجلترا، فخاف الإنجليز أن يستغل الفرنسيون صداقتهم الجديدة للترك فيعودوا إلى احتلال مصر ، فجاءوا لدرء الخطر الفرنسي عن مصر، وربما كان مجيئهم استجابة لدعوة من المماليك. فقال محمود ساهما: هذا كلام حسن يا صاحبي، وأرجو أن يكون الأمر كما تقول.
فقال نيكلسون: هذا هو الذي أظن.
وبعد أيام كانت رشيد في قلق واضطراب، فقد شهد الناس من مئذنة مسجد زغلول جيشا مقبلا على المدينة، ولم يكن برشيد من العدة وآلات القتال ما تستطيع أن تدرأ به جيشا غازيا، ولم يكن لها من الأسوار إلا أطلال عصفت بها الرياح والأنواء، وما كانت إلا ساعة من نهار، حتى دخل الإنجليز المدينة بغير قتال، فثار السكان وغضبوا، وقام الخطباء يستحثون العامة على الدفاع، وكان محمود العسال في حيرة بين واجبه وحبه، فما كان يصح في عقله أن يقتحم المغيرون مدينته وهو واقف مكتوف اليدين، ولكن لورا؟ أيحارب قومها؟ لقد كاد قلبه لشدة شغفه بها يتسع لحب الإنجليز جميعهم.
جلس حزينا مفكرا، وأصوات الناس وعجيجهم تملأ أذنيه، وهم مسرعون للقتال، فدخلت عليه لورا وقالت: في أي شيء تفكر يا محمود؟ - أنا في حيرة يا حبيبتي. - وفيم الحيرة؟ - أنا في حيرة بينك وبين وطني. - بيني وبين وطنك؟ إن قومي بخير يا محمود، وإن قومي يمجدون الشهامة كيفما كانت، حتى إنهم يمجدونها في أعدائهم. وإنني لم أحبك إلا لبطولتك وإقدامك وغيرتك على بلادك، فإذا تخليت عن هذه الصفات لأجلي فقد تخليت عن حبي، إن زوجي محمودا الذي أحببته فوق كل حب، وملأت به قلبي غراما، وفمي إعجابا وفخرا، لن يجلس في داره كما تجلس العجائز وطلقات رصاص الفاتحين تصم المسامع، إنه إن رضي بهذا فإن زوجته لورا لن ترضى، وماذا يقول الناس، وبم يهمسون؟ سيقولون: لقد كان محمود محمودا قبل أن يتزوج، لقد كان بطلا يلاقي الموت جريئا بساما، فلما فتنته الإنجليزية سلبته كل صفات الرجولة، فأصبح فسلا رعديدا خائر العزم قليل الغناء، أتحب أن يقول الناس هذا عني وعنك؟ ثم قهقهت وقالت: لا يا زوجي الباسل أنا أعرف أن شيئا في الأرض أو في السماء لن يحول بينك وبين الذود عن وطنك، ولو كان ذلك الشيء حبي، ولكنك تجاملني يا محمود، تجامل زوجتك التي ليس لها سواك، والتي تحب فيك الهمة ومضاء العزيمة. - نعم أجاملك يا لورا، ولكني لم لو أنل رضاك لسرت إلى القتال مشتت القلب مثقلا بالهموم. - لا يا حبيبي على بركة الله مجمع القلب باسم الوجه، وعد إلى زوجتك الوالهة مظفرا منصورا.
فوثب إليها يقبلها وتقبله في شغف وحنان، وقد امتزجت الدموع بالدموع، وتلاقت الزفرات بالزفرات، ثم اختطف بندقيته وقفز إلى باب الدار ليلحق بالجموع الزاخرة التي شمرت للدفاع عن المدينة.
وكان الحشد عجيبا حقا: اجتمع فيه الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وكانت العصي والحجارة أكثر ما يزهى به هذا الجيش من عدد القتال، فتقدم محمود الجمع، ودعا إلى الهجوم بين تهليل المهللين وتكبير المكبرين، وكان القتال في الحارات والبيوت، واستمرت المعركة ساعات سقط فيها عدد غير قليل من الجانبين، ولما احتدم القتال ولاح النصر في جانب أهل المدينة، ورأى محمود رابية لا تزال تتحصن بها ثلة من الجنود، فدعا بعض الفتيان إلى محاصرتهم، ولكنه لم يكد يتقدم منهم قليلا حتى رماه أحد برصاصة اخترقت صدره فسقط على الأرض صريعا.
وهنا ثار السكان ووثبوا وثبة رجل واحد، فتراجع الغزاة وغادروا المدينة، وعاد الجموع يحملون جثة محمود بين البكاء والعويل، حتى وصلوا إلى بيته، فهرعت لورا المسكينة إلى زوجها المقتول نادبة باكية، ورمت بنفسها عليه تعانقه وتقبله، وتخاطبه كأنما هو حي مدرك، بألفاظ تقطع نياط القلوب، وعبارات تستنزف ماء العيون، حتى إذا حاول أبوها وحسين العسال أن يواريا عنها الجثة، صاحت بهما غاضبة صاخبة: اذهبا إلى شأنكما، ودعاني أقبله فإن الحب لا يعرفه إلا من يكابده، ودعاني أحدثه فإنه يأنس لحديثي ويطرب لنبرات صوتي، ثم انكبت عليه ثانية، وهي تقول: محمود يا حبيبي: أحقا عدت منصورا وجئت إلى زوجتك الحبيبة تطلب أجر بطولتك؟ هذه قبلة، وهذه قبلة أخرى، أهذا يكفيك يا نور عيني؟ لا يكفي؟! أنت ولد طماع جشع! خبرني بالله ماذا فعلت؟ تقدمت الصفوف كميا شجاعا ، وسخرت من الموت جريئا تياها، وذكرت زوجتك الغالية فوثبت غير هياب لتحظى بحبها وإعجابها؟ لم يبق لي حب أدخره يا محمود، لقد أخذته كله، ولم أترك في نفسي إعجابا إلا توجت رأسك به، إنك لم تمت يا محمود، قل إنك لم تمت!! هؤلاء المساكين الذين حملوك إلي، يظنون أنك ميت لا ترجى!! كذبهم يا محمود، وقل لهم: إنك حي، وإن مثلك لن يموت.
ثم حمل البطل إلى الدار، وبقيت لورا طول الليل إلى جانبه تحادثه وتقبله، حتى خاف أبوها عليها الجنون، فأخذ يهدئ من نفسها، ويذكرها بما يجب من التسليم لأحكام الله، ويدعوها إلى الجلد والصبر، فسكنت بعض السكون، واستسلمت إلى البكاء، وفي البكاء شفاء المحزونين.
وفي الصباح هرع الناس للاحتفال للجنازة، وأخذ المؤذنون فوق المآذن يشيدون ببطولة الراحل ويمجدونه، ويستمطرون عليه الرحمات، وازدحم مسجد المحلي بالجموع التي أقبلت للصلاة عليه واجمة حزينة؛ ووقف الحاج عبد الله البربير، فأنشد قصيدة في رثائه، بكى فيها وأبكى الناس، كان من أبياتها:
محمود إن حمد العزاء فإنه
في يوم خطبك ليس بالمحمود
لم يبق في سوى الدموع فهاكها
دفاقة والجود بالموجود
ثم حمل أعيان المدينة النعش على أعناقهم إلى مدفن شهاب، وعاد المشيعون يرددون الدعوات ويرسلون الزفرات.
أما لورا: فقد أصابها طائف من الذهول، فكانت تخرج في كل صباح مع خادمتها مبروكة ذاهلة مأخوذة كأنها تمشي في حلم مزعج مخيف، فتذهب إلى الحدائق لتجمع أنضر أزهارها، ثم تتجه إلى قبر زوجها فتنثرها فوقه، وتجلس مطرقة صامتة حتى يظلها الليل، فتعود مع الخادمة، وقد اعتاد الناس هذا المنظر، فكانوا إذا مرت بهم أطرقوا في خشوع، واتجهوا إلى السماء يسألون لها الصبر، ولبطلهم الرحمة، وكان الأطفال يسمونها: بالسيدة الحزينة، ولقد طالما تسابقوا إلى جمع الأزهار لها، ليظفروا منها بتلك النظرة الباكية الحنون.
وفي إحدى الليالي الممطرة المظلمة، سمعت السيدة نفيسة طرقا على باب دارها، فأيقظت خادمتها لفتح الباب، وما هي إلا لحظة حتى صعد سرور ومعه سيدته زبيدة، فلما رأت زبيدة أمها سقطت بين ذراعيها باكية، وطفقت تقبلها وتهتف بكلمات متقطعة، أما أمها: فقد أدهشتها المفاجأة ، فأخذت تهذي وتبكي، ثم تفتح عينيها واسعتين لترى أفي يقظة هي أم في منام، فلما سرى عنها قليلا تأملت فتاتها المحبوبة، فرأت هزالا وسقما، ووجها شاحبا شاعت فيه الغضون، وبحثت عن جمالها الرائع فلم تجد منه إلا بقية من آثار جالدت المصائب فلم تستطع أن تعصف بها فهزت رأسها في شجن وأسى واتجهت إلى سرور فقالت: قل لي كل شيء يا سرور، فزفر سرور، زفرة طويلة ثم قال: سافرنا من رشيد إلى فرنسا ثم لحق بنا الجنرال مينو بعد شهر، وأقمنا بباريس، وفي هذه المدينة تبدلت أخلاق الجنرال، فكان خشنا، كثير الصخب سريع الغضب، وقد انصرف إلى سهرات الليل وغشيان الحانات، وكنت دائما أوصي سيدتي بالصبر، وأدعوها إلى مقابلة هذه الجفوة بالازدراء، ثم رحلنا إلى إيطاليا في مدينة يسمونها «تورينو» فزادت حدته، وتضاعف احتقاره لسيدتي بما لا يحتمل، ثم هجر المنزل، وترك سيدتي تقاسي غصة الفقر وألم المهانة، ولم تصبر هذه المدة الطويلة على هذا الأذى، إلا من أجل ابن سيدتي سليمان، ولكن الجنرال شمر أخيرا على ساعديه، وضرب الضربة القاصمة فأرسل ابنه إلى فرنسا ليضعه في إحدى الأسر الشريفة لتثقيفه وتعليمه، وعندئذ لم يبق في قوس الصبر منزع، ولم تجد سيدتي في البقاء بإيطاليا - بعد أن انتزع ابنها منها - إلا موتا بطيئا تحيط به الهموم والأحزان، فعزمنا على الفرار، وأخرجت كيس المال الذي أودعته عندي يوم رحيلنا، فسافرنا خفية في ظلام الليل إلى مدينة تسمى «نابلي» ومنها ركبنا سفينة إلى الإسكندرية، فوصلنا إليها أمس، ثم اكترينا بغلين إلى رشيد، فتنهدت نفيسة وقالت: نعم ما صنعت يا زبيدة!! - إن عودتي يا أمي لن تصلح شيئا مما تهدم من حياتي. - ستعيشين بجانب أمك هانئة سعيدة، وستمحو الأيام تلك الذكريات القاسية، فإن كل شيء ينسى يا بنيتي في هذه الحياة. - إلا الشباب الضائع. - كوني سلوى لأمك يا فتاتي، ولا تزيدي بالله في أشجانها. - كما تشائين يا أمي، كيف حال ابن خالتي محمود؟
فوجمت نفيسة وسقط في يدها؛ لأنها ما كادت تظفر بتهدئة بنتها حتى اصطدمت بسؤال يثير الآلام، ولكنها جمعت شجاعتها وقالت: إن هذه الدنيا لا يركن إليها يا زبيدة. - ما معنى هذا؟ - لقد قامت حرب بالمدينة منذ شهر، كان محمود بطلها المغوار. - أجرح؟ - نعم جرح جرحا بالغا. - وكيف حاله الآن؟ - إنه الآن لا يتألم يا زبيدة، إنه في جنات النعيم!!
فشهقت زبيدة شهقة كادت تودي بها، ثم اشتدت بها نوبة بكاء، وأخذت تهرف وتهذي وتقول: إنه كان حياتي يا أمي، لقد وهبت له حبي وقلبي على الرغم من قسوة الأقدار، ووقوف الدهر بينه وبيني، لا أمل في الحياة بعد محمود، ولا طعم للحياة بعد محمود!!
فعادت أمها إلى تهدئتها وتسكين ثورتها، وانقضى الليل كله في بث وبكاء، ومحاولة للتصبر والعزاء.
وعندما بزغت الشمس سألت زبيدة أمها عن مكان قبر محمود، وأخذت معها سرورا، فانطلقت إلى القبر هالعة جازعة، حتى إذا بلغته رأت امرأة جاثية عنده، مطرقة ذاهلة، فلم تتبين وجهها، فجثت قبالتها في صمت وخشوع، ثم غلبتها الزفرات فتنبهت المرأة ورفعت رأسها، وحين نظرت زبيدة إليها من خلال الدموع صاحت: لورا؟ أنت لورا؟ ونظرت إليها لورا نظرة المذهول وقالت: زبيدة؟ أحقا أنت زبيدة؟ ثم غلبهما البكاء فأطرقتا، وطال هذا الإطراق، حتى إذا قلق سرور لطول صمتهما قام فرأى لهوله أنهما فارقتا الحياة، فأسرع إلى سيدته فأخبرها الخبر الأليم.
وشاع الأمر في المدينة، فجاء السيد علي الحمامي وجاء نيكلسون، وتزاحم الناس فحملوا الجثتين، وبعد صلاة الظهر احتفل أهل رشيد لجنازتهما، ووضعوهما في نعش واحد، ودفنوهما في قبر واحد.
وإذا ذهبت إلى رشيد اليوم وقصدت إلى مدفن شهاب، رأيت قاعة طال القدم على جدرانها، بها قبر نثرت عليه الأزهار، ورأيت رخامة كتب عليها بخط الثلث الجميل: (هذا قبر الشهيدتين)
Unknown page