فاكتفى الرئيس بذلك وقد لحظ أن في نفس عامر شيئا يريد كتمانه، فتشاغل بحصى كانت في جيبه جعل يعدها بين أصابعه في داخل الجيب، وكانت هذه الحصى تقوم مقام السبحة عند الرهبان في تلك الأيام؛ لأنهم كانوا يفرضون على أنفسهم صلوات معدودة في اليوم فيضعون في جيوبهم من الحصى بقدر ذلك العدد، وكلما فرغوا من صلاة رموا حصاة حتى يفرغ الجيب، فيكون هذا دليل إتمام الفرض، ولم تتخذ السبحات في النصرانية إلا في القرن الثالث عشر للميلاد، فتشاغل الرئيس بتلك الحصى وحول الحديث إلى موضوع آخر فسأل: في كم يوم قطعتم الطريق من الكوفة إلى هنا؟
قال عامر: قطعناها في عشرين يوما مع القافلة.
فقال الرئيس: وهل تكبدتم هذا السفر الطويل للاتجار بهذه الثمار؟! إنها لا تباع بما يساوي تعبكم في حملها.
فاشتم عامر من سؤال الرئيس رائحة الارتياب ولم ير بدا من إزالة كل شك في نفسه فقال: صدقت يا مولاي، ولو كان الأمر لبيع هذه البضاعة فقط ما تكبدنا المشقة من أجلها، ولكننا نبيعها ونبيع الجمال أيضا، وهي تباع بثمن غال وأرباحها أضعاف أرباح التمر، وفي عودتنا نتجر في تجارة أخرى نحملها من دمشق إلى العراق، ثم تذكر أن مجيء سلمى معه غير عادي، فراح يبرره بقوله: أما سلمى فأرادت أن تأتي معنا للتفرج على دمشق ومعالمها، فرأينا ذلك أولى لها من البقاء في الكوفة وحدها في أثناء غيابنا. •••
وكان عامر والرئيس يتحدثان وسلمى تنظر إلى شيخ متكئ في زاوية الباحة وبجانبه كلب كبير الهامة أسود اللون قوي البنية أقعى على مؤخره، وقد نصب يديه واعتمد عليهما كأنه أسد رابض، واتجه إلى سلمى كأنه يتأمل وجهها وعيناه تتلألآن كالمصباح.
وأما الشيخ المتكئ فإنه استلفت انتباه سلمى بنوع خاص لغرابة هيئته وخشونة لباسه، ولم تكن قد رأت مثل ذلك الرجل قط ولا سمعت بمثله؛ إذ كان من الشيخوخة بحيث لم يبق في رأسه ووجهه شعرة سوداء حتى يخيل إلى الناظر إلى رأسه عن بعد أنه عمامة بيضاء قد برز منها أنف وعينان سوداوان غائرتان أحدق بحدقتيهما قوس الشيخوخة، يعلوهما جبين متجعد، ومما يزيد منظره رهبة أنه لم يمشط شعره ولا غسل وجهه منذ أعوام، فأصبح الشعر ملبدا لا يسلك فيه مشط، وكان ساعة رأته سلمى يحك لحيته ورأسه، يحاول تمشيطهما بأظافر مستطيلة كالمناجل! وأغرب من ذلك أنها لم تر عليه من اللباس إلا ثوبا من نسيج الشعر كالمسوح التي يلبسها النساك، أو هي عباءة أصبحت لقدم عهدها لا يعرف لها لون.
وكان الشيخ متكئا بجانب الكلب وقد غلبه النعاس، فكان يغمض جفنيه فينام وهو لا يريد أن ينام، وكلبه بالقرب منه، وكلاهما مستأنس برفيقه.
وكان عبد الرحمن أيضا مأخوذا بذلك الشيخ الهرم وبكلبه، ينظر إليهما مفكرا، فلما ذكر عامر اسم سلمى انتبهت والتفتت إليه والدهشة ظاهرة في وجهها، وأشارت إلى ذلك الشيخ وهي تقول: أدهشني أمر هذا الشيخ، وأرى عبد الرحمن قد استغربه مثلي.
فسمع عبد الرحمن اسمه فالتفت لفتة تدل على تعجبه مثلها، فأشار الرئيس إليهم بإصبعه وعض شفته، ودنا منهم فتطاولوا إليه بأعناقهم فقال لهم همسا: إن هذا الشيخ أشبه الناس بالنساك والمتعبدين، ولكنه يخالفهم في أمور كثيرة وكأن به خبلا! جاءنا منذ أعوام فأقام عندنا، وهذا الكلب الأسود قلما يفارقه ليلا ولا نهارا، ولم نره مرة غسل وجهه أو قلم أظافره أو غير ثوبه، ومن غريب أمره أنه لا يأوي إلى غرفة ينام فيها؛ فهو يتوسد يوما هذه الزاوية، ويوما تلك، وآونة يبيت في الغوطة على بعض الأشجار أو تحت بعضها، ومن أغرب ما فيه أنه لا يذوق اللحم ولا الخبز، ولا يأكل شيئا غير الفاكهة، فيطوف البساتين يقطف الثمار بيده ويتسلق الأشجار لهذه الغاية لا يعترضه معترض منا رحمة به وشفقة على حاله، والفاكهة هنا كثيرة.
فقال عامر: لا بد أن يكون ذا كرامة؛ لأن أمثال هذا الرجل يعدون عندنا من أصحاب الكرامات.
Unknown page