ولقد جئت هذا الرجل لأكتب سيرته فوجدته - على عادته في القتال - قد قطع علي الطريق فدونها هو في مذكرات، وأمر هذه الدفاتر والوثائق معروف لدى أصدقائه وأعدائه؛ «ففي سنة 1949 جاءني الأخ مدلول عباس، وهو ضابط عراقي، وقال لي: لقد وكل إلي أمر سرقة مذكراتك يا باشا لقاء عشرة آلاف ليرة لبنانية ، قلت: «لماذا لم تقبضها يا ...؟»
وفي سنة 1950 كانت هذه المذكرات مودعة في بيت الأخ علي ناصر الدين في بيروت، فإذا بأربعة مسلحين يداهمون البيت في الليل للحصول على هذه المذكرات، ولولا بطولة الخادمة التي علا صراخها رعبا لتمكنوا من اختطاف مذكراتي. ولما فشلت هذه المحاولة أرسل «س... ال... ال... أ... ال... لقتلي أربعة أشخاص، فجاء أحدهم في يقظة الضمير - وكان قد سبق له أن قاتل تحت قيادتي - واعترف لي بالمكيدة، على مسمع من رجال الأمن اللبناني الذين دونوا هذه الحادثة في سجلاتهم. ولقد بدأت هذه المذكرات في بغداد عام 1936؛ إذ كان يلح رفقائي أن أكتبها، وتواعدنا أن نبدأها في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 23 يناير 1936، فما إن جلسنا لنبدأ العمل، ورشفنا أول رشفة من القهوة، حتى انتصب أمامي مفوض الشرطة يدعوني إلى مواجهة مدير الأمن العام، فيرسلني هذا إلى المنفى. والآن ما كدنا نتحدث عن هذه المذكرات حتى مرض طفلي «بركان». (ومن الغريب أن مجرمين أحرقوا مطابع «البناء» قبل أن تبدأ هذه المطابع بطبع مذكرات القاوقجي بأيام قليلة.)
قلت لعل هذه المذكرات تحمل ميكروب الكوارث. أجاب ضاحكا: «الحياة ليس فيها كوارث، إن فينا معتقدات توهمنا أن بعض الأحداث هي نكبات.»
إذن، وقد دون هذا الرجل مذكراته، فما شأني أنا، وما هي مهمتي؟
لقد اكتشفت في القاوقجي تلميذ فلسفة اجتماعية. إن ثقافته الكتبية لا بأس بها؛ فهو مطلع على الحوادث، وهو مطالع الكثير من الكتب والصحف، ولكن ثروته الثقافية هي في غنى التجاريب اكتسبها في ميادين الصراع، فاختزنها في عقله وقلبه، وكمنت في أنحاء نفسه، كما كمنت هذه الشظايا التي لا تزال مستقرة في رأسه وصدره وساقه. وإن عين الفنان وأذنه ترى وتسمع، ومهمته أن ينقلها. إن أجمل ما في الأدب الصدق، وإن الأديب ليصبح مجرما إن هو حاول أن يلون بقلمه تاريخا خطه جندي بدمه.
سبق لي في «رفة جناح» أن قلت: «لكل سيرتان؛ واحدة برسم النشر وثانية ليوم الحشر.»
هذه الأقوال التي نقلتها عن محدثي هي للنشر وليوم الحشر. ولكننا ونحن أمام تاريخ وضمير قومي أود أن أثبت أنه لا بد من إغفال بعض آراء، وطمس بعض حوادث. إن كان في هذه الصفحات من جريمة اقترفتها فهي جريمة الحذف. على أنني سأثبت ما أغفلته وأودعته في مكتبة الجامعة الأميركية على أن يفض في مستقبل الأيام.
غير أنني ما استثنيت من مذكراته شيئا. إن الذي لم أنشره هو بعض آرائه التي أفضى بها إلي.
وبعد، فالقاوقجي قاتل في جيوش نظامية، وحارب عصابات. فهذه الملاحظات التي أدونها بعضها له ترتيب نظامي وبعضها عصابات أقوال لا تدري متى تختفي ومتى تنقض.
قال لي: «لقد جاءني الكثيرون يطلبون مني أن يكتبوا سيرتي وينشروا حوادثي. وبعضهم تقدم بعروض مالية مغرية. بعض هؤلاء تعمدوا أن يدونوها قصة، ويطمسوا ذكر صاحب القصة. فأما أكثرهم فأراد أن يسلسلها قصة في جريدة. قد يكون هذا أهم الأسباب التي حملتني على الرفض. وقد قلت لآخرين لا أريد رواية بوليسية أو خيالية. نحن أمام وقائع حدثت، ما أعطي ليد أن تغيرها. وليس الغرض من نشر كل هذه الآراء إلا أن تصبح دليلا يهدي جنديا سواي، إلى خزان القوة في أمتنا فيغرف منه.»
Unknown page