يوم طوقنا القصر الجمهوري في الفلبين
رامز صعب
لبنانيان في استقبال الفاتحين
صديقي الحميم ماك آرثر ...
غريب بلا بسطبورزو
زلزال الفلبين
يا شهيد المالكية
طوربي
في المرحوم الأستاذ بولس الخولي
وانبلج الفجر!
طنبرجي وبغل
نجية وانفلتت
إلى صلاح لبكي
مقدمة لمذكرات فوزي القاوقجي
أشيائي المفقودة والمردودة
معاقل سوف ننسفها
إلى سعادة
سنة 1952: قطع طفت منها على الزمن
من مغترب عاد للبنان
سفري إلى الفلبين
كلمات هزتني
يوم طوقنا القصر الجمهوري في الفلبين
رامز صعب
لبنانيان في استقبال الفاتحين
صديقي الحميم ماك آرثر ...
غريب بلا بسطبورزو
زلزال الفلبين
يا شهيد المالكية
طوربي
في المرحوم الأستاذ بولس الخولي
وانبلج الفجر!
طنبرجي وبغل
نجية وانفلتت
إلى صلاح لبكي
مقدمة لمذكرات فوزي القاوقجي
أشيائي المفقودة والمردودة
معاقل سوف ننسفها
إلى سعادة
سنة 1952: قطع طفت منها على الزمن
من مغترب عاد للبنان
سفري إلى الفلبين
كلمات هزتني
غدا نقفل المدينة
غدا نقفل المدينة
تأليف
سعيد تقي الدين
يوم طوقنا القصر الجمهوري في الفلبين
وقابلنا الرئيس «روهس» بالقميص والكلسون
بين أوراق رئيس الجمهورية اللبنانية عشرات تلغرافات تبادلتها وإياه يوم كان رئيسا للوفد اللبناني لدى منظمة الأمم في الدورة التي سلخوا فيها فلسطين عن بلادنا. هذه البرقيات تبادلتها معه في شهر تشرين الثاني 1947، وقد كنت سنتئذ في «مانيلا» عاصمة الفلبين.
إني فخور بهذه البرقيات، ويشوقني أن تنقش على قبري، وتتلى في حفلة رثائي، هذا إن كان من المقدر علي أن أصاب بنكبتين: الموت والحفلة الرثائية.
ولكن القصة لا تبدأ هنا، إنها تبدأ في بيت المرحوم كامل حمادة، وقد جلسنا إلى طاولته، وانبسطت على الطاولة صينية كبة. وصينية الكبة في الفلبين أندر من «الكافيار» في خيام اللاجئين. والسيدة وديعة حمادة - زوجة كامل - لا تعدها إلا للأصدقاء الغالين. كان منهم «طام نجار» السوري الأميركي، رابعنا على الطاولة. وفيما نحن نتغنى بما نرى وننشق، رن التليفون؛ فنهضت على عادتها السيدة وديعة لتجيب، والتفتت بنا وقالت: «من نيويورك!» وبعد لحظة سألتني: من هي أدال أرسلان؟ قلت: «لا أدري.» قالت: «لعلها مقطوعة في نيويورك، وتريد القدوم إلى الفلبين.» وبدأت المحادثة على التليفون، وكان في صوت السيدة وديعة نزق، فهرعت إلى التليفون، وتناولت الحديث عنها. قلت: «من المتكلم؟» أجاب: «عادل أرسلان.» أجبت: «أنا سعيد تقي الدين.» قال: «أطمنك إلى إخوتك.»
المغتربون - أكثرهم - هم أبدا في سكرة عاطفية من شوق وحنين، وقد زادني نشوة سمعي «أطمنك إلى»؛ ذلك أن عمي أمين تقي الدين الذي هذبني في الأدب كان يغيظه مني أن أكتب «أطمنك عن!» «أطمنك إلى» هي اللغة الصحيحة، ومرة أصلح خطئي بصفعة شديدة!
وفيما أنا في نشوة الذكريات سمعت من عادل أرسلان أن منظمة الأمم المتحدة ستصوت على التقسيم، وأنه يرجح أن تصوت الفلبين مع أميركا ضدنا، وأنه من واجبنا أن نسعى لكسب صوت «الجنرال رومولو» مندوب الفلبين، خصوصا وهو شخصية عالمية، وأن الحالة حرجة. سألته: وإن فشلنا؟ أجاب: سنخوض الحرب! لفظة الحرب من عادل أرسلان سجلت في أذني دويا أصيلا، لم تكن لفظة فارغة، رجعت إلى الطاولة منفعلا، ورويت الحديث الذي سمعته.
قال طام «توماس» نجار، وهو وليد أميركا: «لا بأس أن أخذ اليهود فلسطين، هكذا نتخلص منهم في أميركا، وأي شأن لنا نحن مع العرب؟!»
وانفجرت في محاضرة.
السيدة وديعة حمادة هي من عائلة هاشم في كفر شيما، عمر ابنها الكبير ستون سنة، أشهد أني لم أر في حياتي عينين يلمع فيهما العزم والصبا مثل عينيها، ولا جنديا استقامت قامته كما استقامت قامتها، ولقد ثارت ثورتها؛ فهرعت تتلفن «إلى مانولين». ومانولين هذا هو اسم التحبب تدعو به «مانويل روهس» رئيس الجمهورية الفلبينية. مانولين ربي في دار السيدة وديعة، وكان يدعوها «أمي» باللفظة العربية. وفي عشاء عيد الميلاد كان يأتي لتناول الطعام على مائدة كامل حمادة، وقد كنت أجالسه مع الصديق سعد الدين الجارودي، المزارع في صور اليوم.
قالت وسماعة التلفيون على أذنها: «هل من بأس إن قابلتموه غدا؟»
أجبت: «بل هذه الليلة.»
وانطلقت والصديق كامل حمادة، وكان كامل صامتا متجهم الوجه شأنه في الأزمات النفسية.
ودخلنا على رئيس الجمهورية، فاستقبلنا فخامته بالقميص التحتانية وبالكلسون. القليلون الذين يزورونني في بيتي أستقبلهم بالقميص والكلسون، وإن أبدى أحدهم استهجانا أقول: هكذا استقبلني فخامة رئيس الجمهورية الفلبينية وعدد رعاياها 22 مليونا من البشر.
كان الرئيس روهس جاهلا كل شيء عن فلسطين وعن اليهود؛ فراح يستفهم، ورحت أفهمه وأنا غير فاهم، ولكن روهس- ككل أبناء الفلبين - رجل عاطفي، وله حادثة شهيرة في الكونغرس الأميركي؛ إذ وقف يخطب مطالبا باستقلال بلاده وبكى. لم أكن متصنعا حين اختصرت له الحركة الصهيونية العدوانية، وفي ذروة الكلام بكيت أيضا. لم يعد بشيء، ولكني حين قلت له: إن مندوبنا في منظمة الأمم يعتقد أن رومولو سيقترع ضدنا أجاب: «هذا مستحيل التصور
This is unthinkable .»
وانصرفنا وكأنه لمح بي ريبة، فردد العبارة:
This is unthinkable .
وتواعدنا على أن نعود إلى مكتبة في الصباح التالي الساعة العاشرة، فنجتمع إلى وزير الخارجية.
وفي طريقنا إلى البيت مررت بمكتب البرقيات، فأرسلت تلغرافا مطولا إلى عمر حليق في مكتب الشئون العربية الأميركية في نيويورك أطلب إليه أن يبرق باختصار الحجج التي في صالحنا، وكنت واثقا أني أجد الجواب في الصباح؛ لأن بين مانيلا ونيويورك 12 ساعة فرقا بالوقت.
ونمنا تلك الليلة ونامت صينية الكبة في البراد.
وفي الصباح، وجدت على طاولتي في مكتبي جواب عمر حليق وبرقية مطولة موقعة باسم كميل نمر شمعون يطلب مني ما طلبه عادل أرسلان. وجهت هذه البرقية إلي لأني كنت قنصل لبنان الفخري في الفلبين. ذكرني أن أحدثك من حياتي كممثل ديبلوماسي، وكيف كنت أنثر الباسبورتات اللبنانية على كل «مقطوع» يتكلم العربية، منها تسعة باسبورتات للاجئين من ثوار إندونيسيا، ومنها نصف دزينة لعائلة «ميرو أسعد»، وهم سوريون من أنطاكية. على طريق فرن الشباك قامت بناية لآل أسعد كلفتهم سبعماية ألف ليرة، وقد حضرت أعراس سليم، وأنطون، وفيلكس أسعد على ثلاث فتيات من لبنان. الحق على شارل مالك، هو الذي أصر على أن أصبح قنصلا، والقوانين الدولية التي لم أعرفها، اخترعتها.
حاصله ...
ذهبنا الساعة العاشرة إلى مكتب رئاسة الجمهورية، وكان فخامته بالكلسون، ولكن كان فوق الكلسون بنطلون، وكان وقار الرئاسة يسود الغرفة هناك، وبين يديه «ملف «فلسطين»، قرأ منه أن ليس هناك اتفاق بين الفلبين وأميركا على شيء، بل كل ما هنالك تبادل رسائل تقول: إن المسألة الفلسطينية ستثار في منظمة الأمم، وإنه يحسن التشاور بين الدولتين حين تفتح الدورة.
وراح الرئيس يستفهم عن فلسطين، وكنت متسلحا بالمعلومات التي تلقيتها من عمر.
وفي حضورنا أرسل تلغرافا إلى الجنرال رومولو - أصبح فيما بعد رئيسا لمنظمة الأمم - يطلب منه استعراضا للموقف، ولكن كلمات التلغراف صيغت بشكل يستنفر الموالاة لقضيتنا، وأذكر أن عبارة «ثلاثمائة ألف كاثوليكي في فلسطين» كانت من صوغي.
ولما خرجنا لحق بنا وزير الخارجية «البيديو كيرينو» الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية الفلبينية. وكيرينو هذا كان لي صديقا؛ إذ كنا نجتمع أيام الحرب على طاولة بوكر في بيت الصديق فيليب شاوي، وهو أخو مدام رجا كساب صاحب المحل على باب إدريس.
أذكر صحن بوكر عظيم في «المكشوفة» أمامي أصان، وعشرتان ظاهرتان، وأمامه خمستان مكشوفتان، وقد نظفني حين ظهرت الخمسة الثالثة المستورة.
قال وزير الخارجية مداعبا: «الموقف في صالحكم، ولكن اذكر أن في الحياة دائما ورقة مستورة، حذار الخمسة الثالثة.»
وفي بعد ظهر ذلك اليوم، واتقاء للورقة المستورة، اتخذت احتياطات من شأنها أن تطلعني على نسخة كل برقية صادرة عن مانيلا أو واردة إليها في شأن التصويت على قضية فلسطين، ولم تكن هذه التلغرافات بالشيفرة. وإني أسجل أن الرئيس روهس كان صادقا في كل ما حدثنا به كما أثبتت نسخ التلغرافات التي كانت في يدي أحيانا قبل أن تكون في يد روهس. وجاء تلغراف رومولو يقول أن ليس بينه وبين اليهود أو ممثلي الدول العربية أي ارتباط، وأن الأميركان لم يباحثوه في الموضوع بشكل حاسم، وأن الفلبين تقدر أن تصوت مع اليهود أو ضدهم، وأنه يرى أن التصويت لصالح اليهود أوفق مجاراة للرأي العام العالمي، وأنه على كل حال ينتظر تعليمات حكومته لاتخاذ الموقف الحاسم.
ورد روهس بواسطة كيرينو على رومولو ببرقية جاء فيها أن الفلبين، وهي دولة شعبها كاثوليكي، وهي أمة جاهدت من أجل استقلالها، وسبق لها أن قاومت في الماضي مشروع تقسيم اقترحه أحد النواب الأميركيين لشطر إحدى جزرها حيث - الأكثرية محمدية - لا يسعها أمام الله والتاريخ إلا أن تعارض بتمزيق بلاد ثانية.
وفي تلك الليلة بطشنا بصينية كبة في دار كامل حمادة.
وكنت في كل يوم أبعث بتلغرافين على الأقل بالحروف الإفرنجية واللغة العربية؛ لأنه لم نتفق على شيفرة بسبب مفاجأتنا بخبر التقسيم. وكنت أنهي البرقيات ب «قلوبنا تواكبكم». كانت نسخة ترسل إلى الأستاذ شمعون، وثانية للأمير عادل، وكنت أبتهج أن شركة التلغراف تحسب اللغة العربية شيفرة فتتقاضى أربعة أضعاف عن اللغة العادية.
أذكر أن أطول تلغراف عدد كلماته 784؛ ففي كل يوم كنت أوافي نيويورك بالأخبار والتطورات، وفي الليل - بسبب فرق الوقت - أتلفن إلى القنصلية اللبنانية أو السورية، فأتكلم مع شمعون أو أرسلان مستطمنا، وفي بعض الأحيان لا أجدهما.
هكذا تعرفت إلى قنصلنا في أميركا إدوار غرة حين رد علي ذات مرة، قلت: «إدوار غرة؟ من أين في لبنان؟» أجاب: «من زحلة، أجلك الله!» قلت: «لا أصدق! هات البرهان.» فراح يحدو: «... وشرب العرق عادتنا.» ومرة طلع بوجهي في إحدى القنصليتين موظف جديد طفق يحاضر في واجبات المهاجرين نحو السعي للانتصار لقضية فلسطين.
فأقفلت التليفون، وأعتقد أن الأخ الفصيح لا يزال يتكلم حتى هذه الساعة.
كانت أياما وليالي محمومة سجلت خلالها العبارة التي بدأت تظهر اليوم في الصحف: «كل مواطن خفير.» أي يهود؟ أي تقسيم؟ نحن في الفلبين خمسة عشر مغتربا، ربحنا صوت دولة، فكيف يكون شأننا في البرازيل والأرجنتين والمكسيك حيث منا مئات ألوف المواطنين؟
وفي صباح يوم تسلمت تلغرافين من كميل نمر شمعون وعادل أرسلان، فيهما تهنئة حارة، وانبسط على صفحات جرائد مانيلا الأولى نص خطاب رائع لكارلوس رومولو - وهو من خطباء الدنيا المعدودين - هاجم فيه التقسيم، وانتصر لقضيتنا.
يومان مرا بي كنت خلالهما أشعر أني أقوى من ذلك الذي يطأ الأرض مترفها من تيهه، فلقد كنت أمشي من غير أن أطأ الأرض.
ولكن الأرض انخسفت بي حين قرأت تلغرافا جديدا بتوقيع شمعون يخبرني فيه أن رومولو أبدل بمندوب ثان (نسيت اسمه، وأرجح أن اسمه الأول طوماس، فلنسمه طوماس)، وذلك تمهيدا لتعكس الفلبين موقفها من التقسيم، وأن حالتنا في منظمة الأمم خطرة، وأن التصويت تأجل.
وهرعت إلى من كان يزودني بنسخ البرقيات؛ فقلب شفته، وحك قفاه وبصق، وكانت هذه عادته في ساعات الخيبة. وقال: «إن الحكومة انتقلت إلى المصيف في «باغيو»، وهي مدينة جبلية تبعد أكثر من ثلاثماية كيلومتر عن مانيلا، وأصبحت المخابرات في يد الجيش، والولدنة مع الجيش، ومخابراته خيانة تعاقب بأحكام مختلفة أخفها الإعدام، وقلب شفته، وحك قفاه وبصق، وشاركته في كل ما فعل.
إنني كنت أعرف جيدا من هو طوماس المندوب الجديد للفلبين، إنه أكبر عدو لجاليتنا في الفلبين، وقد أصدر منشورا فور عودة الأميركان، بعد طرد اليابانيين، يتهمنا بأننا خونة، وبأننا تعاونا مع اليابانيين أيام الاحتلال، وسبب عدائه لنا أن أولاد أسعد اشتروا من قريبة له شريرة قطعة أرض إبان الحرب بثلاثين ألف دولار، ادعى طوماس أنها تساوي ربع مليون، ونشبت الدعاوى، وراح هو، وراحت قريبته تهدد بقتل أولاد أسعد، وقد جرت محاولة للفتك بأحدهم؛ يعقوب.
واجتمعت إلى الصديق المرحوم كامل حمادة وإلى أحد أولاد أسعد - نسيت أيهم - واتفقنا أن يتنازلوا عن حقوقهم في قطعة الأرض إن أيد طوماس موقفنا في قضية فلسطين. ووجدنا أن في يدنا ورقة ثانية - الخمسة المستورة - وهي أن طوماس انتخب عن دائرة جزيرة «إيلويلو»، وهناك مواطن لنا من بشراي اسمه الدكتور فرمين كرم، لا يستطيع طوماس أن يظفر بالنيابة من غير تأييده، وأرسلنا التلغرافات للدكتور كرم وإلى الأصدقاء في جزيرتي «إيلويلو»، و«نغروس» مفتشين عن فرمين كرم ليتلفن إلى صديقه وحليفه في منظمة الأمم. واتفقنا على دفع أي مبلغ إضافي قد يطلب منا. كنا في سنة 1947 والمال عبارة عن تسطير «شك» إذ كنا في بحبوحة بحيث إن سقطت من أحدنا ورقة المائة ريال لخجل أن ينحني لالتقاطها، وكنا في حمى القتال من أجل فلسطين.
وركبت سيارتي منطلقا إلى «باغيو». كانت سيارتي عامئذ من مخلفات الجيش، وهي ال
Command Car
تشعر فيها أنك مستو على برج فوق بالوعة بنزين، وكانت طرقات الفلبين بسبب الحروب والإهمال خلال أربعة أعوام تكاد تشبه أكثر شوارع بيروت. وفيما نحن في منتصف الطريق سمعت طقة حجر، ولكننا تابعنا حتى وقفت السيارة فجأة؛ لأن الحجر كان قد أصاب خزان البنزين، وهو منخفض يكاد يلمس الأرض؛ فتسرب البنزين.
تطيرت من الحادثة، وتأخر وصولي إلى «باغيو» بسببها إلى فجر اليوم التالي؛ إذ قرعت باب صديقي مخيبر كيروز.
وفي باكر الصباح أرسلت باقة من الزهر إلى البيت الجمهوري، وعند التاسعة استأذنت بزيارة الرئيس.
وتوجهت إليه فإذا هو خارج بيته يتمشى، وحوله زوجته - بادرت إلى شكري على باقة الزهور - وابنته وهم يلاعبون كلبهم.
أريد أن أثبت هنا أن موقف رئيس جمهورية الفلبين كان سببه صداقته مع كامل حمادة وزوجته لا صداقته معي.
من السهل تشويه الأمور وتزويرها؛ فكامل حمادة ميت، وزوجته لن يسمع بها أحد هنا في بلادنا، ولكن الصدق يقضي بأن أسجل أن الأهمية كانت لهما، ولم أساهم أنا إلا بالنشاط.
وأقبلت على عائلة روهس؛ فبش بي الرئيس كثيرا - أكثر من كل مرة - فتحققت أنه مؤاس لا مرحب.
أجابني أن تعليمات الحكومة لمندوبها في منظمة الأمم لم تتغير.
كلمات سمعتها، ولم أصدقها. ولكن من أين لي أن أثبت عكسها والمخابرات اللاسلكية أصبحت في يد الجيش؟
ثم دعاني الرئيس روهس إلى داخل البيت، وقال: «انظر!»
رأيت كومة تلغرافات لا تقل عن مئات، قال الرئيس: «إن سياسييكم متبجحون؛ راحوا يملئون الدنيا تفاخرا بأن الأكثرية معهم، أين هي كياستهم التي قرأنا عنها في الكتب؟ كل هذه التلغرافات هي من يهود - منظمات وأشخاص - انصبت علي من أنحاء الدنيا. كان يشوقني أن أستلم تلغرافا واحدا من أي مواطنيكم يشكرني به على خطاب رومولو. لقد اصطدمنا مع أصدقائنا الأميركان، وأنت تعرف كم نحن في حاجة لهم بعد خراب الحرب. كان خطاب رومولو الخطاب الوحيد الذي ألقاه مندوب ضد التقسيم، عدا خطابات رجالكم بالطبع ... ولو! ما منحرز كلمة شكر؟» واستدرك: «ولكن بالطبع هذا لم يغير موقفنا، نحن لم نبدل تعليماتنا لمندوبنا.»
وعدت فتحققت أنه أبدلها بسبب ضغط أميركا، وضغط اليهود، ولحد ما لأنه لم يجد التقدير من دولنا. والغريب أيضا أنه في يوم استقلال الفلبين لم ترسل من الدول العربية تلغراف التهئنة التقليدي، إلا العراق، وكان وزير خارجيتها فاضل الجمالي.
بماذا كنا مشغولين سنة 1946حين أعلنت الفلبين استقلالها؟
وتدحرجت راجعا إلى بيت مخيبر كيروز، وقلبي مثقل بالحزن، فلما وصلته سمعت دق الكبة، وناولني مخيبر رسالة «تلتيب» من مانيلا تقول إننا خسرنا التصويت، وإن الفلبين صوتت ضدنا!
ولم أستطع الابتسام!
كانت ثاني صينية أعرضت عنها في الفلبين.
الحرب ... الحرب ... بقيت كلمة عادل أرسلان تدوي في أذني، وبعد أسابيع ثلاثة أرسلت إلى شخصية ضخمة (غير فاروق) في القاهرة أعرض مئتي ألف بارودة من مخلفات الجيش الأميركي بثمانية دولارات البارودة واصلة إلى أي مرفأ يعين، فلم أتلق جوابا. وفي طريقي إلى بيروت مررت بمصر - آذار 1948 - وسألت هذه الشخصية الضخمة: «لم أغفلت عرض الأسلحة؟» أجاب: «إن الأسلحة متوفرة لدينا، عندنا منها أكثر من الحاجة!»
وبعد أسابيع رجع «رومولو» إلى مانيلا؛ فتوجهت إليه مع الصديق كامل حمادة لنشكره؛ فأخبرنا قصة التقسيم، وكان أبدا يردد: «إنها جريمة، إنها جريمة.» ولكنني اضطررت إلى ترك نيويورك والسفر إلى لندن.
أنا لا أحفظ الأوراق والوثائق حتى ولا الكمبيالات، ولا أدري كيف استبقيت رسالة سرية بعث بها إلي صديق لي في الفلبين عن مؤتمر صحفي عقده رومولو، واستحلف مستمعيه أن يبقى سرا، وقد بقي إلى هذه الساعة، وإني لن أبوح به. وقد أهديت نسخة منه إلى «وليم ليلنثول» - الكاتب اليهودي الذي يهاجم إسرائيل - ووكلت إلى السيدة مدام أديب خرطبيل أن تسلمه الكتاب لتغيبي عن الحفلة.
ما الفائدة من سرد هذه الحوادث؟
نحن حين نقول بإنقاذ فلسطين لا نعني النصر اليوم، أو في السنة القادمة. صراعنا مع اليهود يقاس بالأجيال لا بالسنين. وعلينا أن نسجل الآن أخطاءنا ومواطن القوة فينا، لقد أخطأنا حين افترضنا أن الفلبين هي مستعمرة أميركية ، وأن النبل في حكامها لا يستثار، وقد غفل اليهود عن استمالتهم إلى جهتهم توهما منهم أنهم ألعوبة في يد الأميركان. وقد أجرمنا حين قتلنا الثقة في نفوس شعبنا، ومنهم المهاجرون، وأخطأنا حين توهمنا أن من واجب الأغراب أن ينتصروا لنا من غير أن نتودد إليهم حتى بكياسات اجتماعية.
وذلك الصديق الذي ائتمنني على سر، وهو اليوم من كبار موظفي الحكومة الفلبينية، هل أنا أخونه حين أسلم رسالته للكاتب؟
نحن اليوم نسجل تاريخا نستعين به، أو يستعين به أولادنا، أو أحفادنا في الصراع مع اليهود. أية أهمية للفتك بصديق في سبيل قضية كبرى؟ هذه الخشونة في الروح تتغلغل فيك حين أنت تنتظم في حركة.
أذكر لحظة وقف فيها قلبي؛ إذ ظننت أن سعيد فريحة كاد يقع في هوة المصعد قبل أن تكتمل بناية العسيلي. أما اليوم فلو أن انتصار القضية الكبرى يقتضي أن أدفش سعيد فريحة إلى هوة المصعد لفعلت. وقد ألتقي بعد ذلك بسكرتير تحرير الصياد، أنطون متري، فأسأله: «سعيد، كيف صحته؟»
حين ودعت «كيرينو» راجعا إلى بلادي سألته: «هل من وصية؟» أجاب: «لا! إنها نصيحتي أن تحسب أبدا حسابا للورقة المستورة، الخمسة الثالثة تقلب الموقف حين تنقلب!»
رامز صعب
هل أنقذت حياته القنبلة الذرية؟
تبدأ هذه القصة بعد أن هدمت إحدى طائرات الأميركان الدير الذي التجأ إليه نحو من مئتي أجنبي في مدينة جبلية في الفلبين تدعى «باغيو»، وكان من اللاجئين أصدقاء لبنانيون ثلاثة: حسني الحلبي البيروتي، ومخيبر كيروز البشراني، والكاتب وعائلاتهم.
وكان السبب المباشر لضرب الدير أن اليابانيين كثيرا ما كانوا يخبئون الأسلحة والذخائر في الكنائس، والأديرة، والمدارس، والمستشفيات. ويبدأ هذا الفصل بعد احتراق الدير: ... وفي أواخر الليل مزق أذني صراخ نساء ثلاث؛ زوجتي، وزوجة مخيبر كيروز، وزوجة الإسبنيولي سلسمندي؛ فأفقت أسأل: ما الخبر؟! وأشعل مخيبر الشمعة التي إلى جانبه، وتبين لنا أن إحدى السيدات حلمت بالطائرات تضربنا فذعرت، وساهمتها بالخوف رفيقتاها. وهدأ روعهن حالا؛ لأننا تعلمنا من رفاقنا الأطباء أن أسرع الوسائل لتهدئة من تصيبه الهستيريا هي صفعة على الخد، وقد عقد الرجال منا ميثاقا فيما بينهم، وفوض بعضهم بعضا أن يصفعوا خد أية زوجة عند الأزمة، علاج أسرفنا في وصفه والتداوي به في كثير من الأحيان.
وجثمنا في ذلك الكوخ نرتجف من البرد، ومن الرعب؛ إذ نذكر حوادث اليوم الفائت في جوار الدير المحترق الذي حسبناه ملجأ أمينا، ومرت أمام عيني من جديد لوحاته الكئيبة: طائرة تحوم فوق الدير تقذفه بالرصاص، وفتى إسبنيولي قتيل في باحة الدير لم يجسر على الدنو منه إلا أمه التي ركعت إلى جانبه تهز قبضتها صوب الطائرة القاتلة، وراهبات يطفن بهدوء يعالجن الجرحى، وغابت الطائرة؛ فإذا بالدير يطير في الفضاء نارا ودخانا، وإذا بأكثرنا - وأنا منهم - نهجم نحو المخزن محاولين تخليص مئونتنا، ونتخطى في ركضنا جثتي راهبتين اعترضتا طريقنا؛ إذ إن أحشاء إحداهما تجمعت على البلاط، وشظايا رأس الثانية التصقت بالحيطان.
كل هذه الصور امتثلت أمام عيني، ودوى في أذني أزيز الطائرة، وقرقعة رصاصها، فنزلت بي الرهبة التي طالما شلت مشاعري خلال شهور أربعة رأيت فيها الموت كل يوم، وفي بعض الأحيان مرات كل يوم.
قد يكون من حظي أن أعصابي بطيئة التجاوب في ساعة الخطر، تراني هادئا غير مرتعب في وسعي أن أدعي الجرأة، غير أنه بعد أن تمر بي الحادثة بساعات ينهل علي الخوف دفعة واحدة، فأصاب بما يشبه الشلل.
في ذلك الكوخ الحقير بين ضجيج الأولاد والنساء وصيحات مخيبر كيروز العنترية كنت في شبه غيبوبة؛ لذلك لم أشترك في القرار الذي اتخذوه، وهو الابتعاد عن الدير والمدينة والفرار إلى البراري.
وللمرة الثالثة بعد ابتداء هجوم الطائرات المنتظم حملنا ما نقدر عليه من الأدوية والمآكل، وسرنا نحو البرية غير قاصدين إلى مكان معين.
وحين طلعت الشمس وجدنا أنفسنا على بعد كيلومترين من المدينة في سهل بين جبلين، قافلة ملونة من رجال ينوءون تحت أحمالهم، ونساء يحملن السلال ويرتدين المعاطف الملونة، وأولاد في ألوان الفراشات التي بدءوا يطاردونها حين حميت الشمس. وأرجع النور الأمل إلى نفوسنا والدفء إلى أجسادنا وأرواحنا ، ورجعنا إلى الدعابة؛ فتطلع مخيبر إلى ماء يجري بين الأشجار المنتصبة في مضيق الجبل إلى يسارنا، فقال: «ما رأيكم لو «صلينا دبق» في هذه الأغصان ودققنا كبة على هذه البلاطة؟»
وقبل أن يسمع مخيبر الجواب لاح ظل على الأرض مخيف، وتفجر فجأة صوت محرك، فرأينا في الجو إحدى الطائرات، تلك المزدوجة الجسم، من معامل «الأكهيد»؛ ذلك أن من بعض حيل الطيارين أن يوقفوا المحرك فوق الغيوم؛ فتهبط الطائرة صامتة كي يفاجأ بها العدو، وعندما تدنو من الأرض يتحرك الموتور، وتنفذ الطائرة رسالتها التدميرية.
ودارت الطائرة في دائرة مبتعدة عنا، ثم رجعت نحونا. قلت في نفسي: هذه المرة ستفتك بنا بدون ريب؛ فنحن في سهل لا مكان فيه نختبئ، وتعالت الصيحات، ثم دارت الطائرة مرة ثانية، وإذا بذراع تمتد منها ملوحة لنا، ودارت مرة أخيرة، والذراع تلوح. في يقيني أن ألوان المعاطف أقنعت الطيار ورفاقه بأننا سكان مدنيون لا جنود.
ومشينا متثاقلين نحو المضيق حيث الأشجار والماء، وحيث أراد مخيبر أن يصلي الدبق ويدق الكبة، وانحنينا بالشفاه نعب من الماء، يقولون إن الجريح يتطلب الماء، وأزيد: أن الخائف كذلك.
وبعد أن سلقنا الرز، واستسغناه ترويقة فاخرة، انطلق مخيبر - وهو ربيب الجبال - يتكلم بطلاقة لغة القبيلة التي تسكنها ليختار لنا مأوى نلجأ إليه، ثم عاد عند العشية يبشرنا بأنه وقع على كوخ لصديق له كان شريكه في تجارة الخشب فيما مضى، عندما كان مخيبر يقدم الجسور الخشبية للحكومة، ويقتطعها صديقه من الحرج الذي يملكه.
واستأنفت قافلتنا المسير نحو كوخ جديد، وملجأ جديد، وفي تلك الليلة بتنا - وعددنا نحو من أربعين - متمددين على أرض الكوخ المبني من القصب المحبوك.
وفي صباح اليوم الثاني اقتسمنا الأعمال؛ فتولى حسني الحلبي بناء الملجأ؛ لأنه كان يدعي أنه خبيرنا العسكري؛ فضرب بالمعول ضربات ثلاث استراح بعدها، وترك لرجال القبيلة إنهاء الملجأ، ورجعت ومخيبر كيروز إلى المدينة مع رجلين، واحتملنا من أغراضنا ما سلم من الحريق والسرقة، وكان أثمن ما احتملنا أربعة صناديق من الويسكي.
هذه الصناديق كانت هدية أعطانيها إيليا الأخرس - من حمص - وهو أعز من صادقت في هجرتي؛ فحين افترقنا في مانيلا قبيل بدء المعارك بين الأميركيين العائدين لاكتساح الفلبين، وبين اليابانيين المحتلين المدافعين، ودعني إيليا بقوله: «من يدري إن كنا سنجتمع على هذه الأرض مرة ثانية. أهديك هذه الصناديق من الويسكي، حذار أن تمسها إلا خلال المعارك والمخاوف.»
ولبثنا زهاء عشرين يوما في حياة شبه منتظمة؛ إذ كنا ننهض في الصباح الباكر فنسلق شيئا من الرز والبطاطا البرية فنزدردها. ثم نجتمع نحن الثلاثة؛ أنا وحسني الحلبي، ومخيبر كيروز، حول قنينة ويسكي - الساعة السابعة صباحا - بين أشجار الصنوبر على حجر كبير، فيتغير اسم المكان بتغير الشخص القاعد على الحجر الكبير؛ فالمجلس هو إما «صالون مخيبر»، أو «مقعد الشيخ»، أو «مكتب حسني». وفي نحو الساعة التاسعة تفرغ القنينة، ويمتلئ الجو بأزيز الطائرات التي يتراوح عددها بين الثلاثة والأربعة والعشرين؛ فيدخل الملجأ الأولاد ثم النساء، ثم أنا وحسني، ويبقى مخيبر خارجا ملاحظا حركة الطائرات، ولا يهرع إلى الملجأ إلا حين يكون الضرب على بعد مئات الأمتار منا، أو حين تمر الطائرات فوق رءوسنا.
وكانت الطائرات تبيض قنابلها كل يوم على مسافات تتراوح في البعد منا بين الكيلومتر والثلاثة، وفي كثير من الأحيان نجد أن الشظايا اخترقت حيطان الكوخ، أو دفنت في سطح الملجأ، ثم راحت الأخبار تتسرب إلينا عن أصدقاء ومعارف لنا قتلوا أو جرحوا، ودرسنا الحالة فلم نجد مكانا يفوق سواه بالأمن أو الخطر فلبثنا حيث نحن، ولعل سبب اطمئناننا على الرغم من تفجر القنابل حولنا كل يوم أننا في مكان مشجر، على شفا شير مشرف على مدرسة زراعية دمرتها الطائرات في أول زيارة، فقلنا لن تعود إلى ضرب منطقة ضربتها وإلى تدمير مكان دمرته.
هكذا استمرت الحياة أسابيع، أصبح الرعب والخوف والدمار والقتل من عادياتها ومألوفاتها. وكنا خلال ذلك قد نفذت نقودنا، وارتفع سعر البطاطا بحيث ساوى الكيلو نحوا من عشر دولارات؛ فأخذنا نبيع ألبستنا وحاجاتنا، وعشنا نحن الثلاثة حسني ومخيبر وأنا حياة اشتراكية نقتسم وعيالنا النقود والمئونة. أذكر يوما ظفرنا بجدي من الماعز التهمناه عشاء فاخرا، وكان ذلك الجدي مبادلة على جزمة صيد ملكها حسني، واليوم إن سألت سكان باغيو ما هو أفخر طعام في الدنيا أجابوك: «جزمة صيد.»
كنا نستبدل حاجياتنا بما نأكله غير حاسبين أن في الأمر مأساة؛ إذ لم يمر بنا يوم شككنا فيه بفوز أميركا، وبأنه في نهاية الأمر سيرتفع عنا نير اليابانيين، وأن هذه الأثواب والحاجيات أمور تافهة، غير أن الأمر لم يخل من مأساة. ذات يوم وجدت في البيت كيسين من الرز، وتطلعت إلى زوجتي فإذا الفاجعة في وجهها، وبعد تحر واستجواب فهمت أنها استبدلت بخاتم الخطبة كيسين من الرز.
لقد مرت بنا فواجع كثيرة؛ ضيق انقلب نعمة، خمول ذكر استحال في بعض الأحيان إلى ما قد تتوهمه مجدا. لقد محت الأفراح أكثر ما نزل بنا من آلام، ولكن السنين لم تمح عن وجه زوجتي بعض المصائب، ومنها أنها باعت خاتم خطبتها.
نسيت أن أخبرك أن القبيلة التي عشنا بينها لا تستطيب من اللحم إلا لحم الكلاب.
وفاتني أن أخبرك أنني تثبت من صدق نظرية صديقي بشارة «أبو أنطوان» الجريديني من الشويفات؛ إذ كان يعظني: «يا ابني! التجارة لا تموت، الرجال تموت.» فتحت ضرب القنابل ازدهرت تجارة البيع والشراء، ومن حسن حظنا أن مخيبر كيروز تعاطى الاتجار بالبقر فكان حينا بعد حين يبيع ويشتري ويقايض ويذبح، وفي كل مرة نلتهم أرباحه معلاقا، أو قصبة سوداء، أو كتف عجل.
وفي ذات يوم انزوى مخيبر بصحن تعالى فيه اللحم والرز المسلوق، فدعاني إلى مشاركته ففعلت، وبينما أنا منصرف سألني مخيبر: «سعيد! هل سبق لك أن أكلت لحم كلاب؟»
قلت: «لا، معاذ الله.»
أجاب مخيبر: «أنت غلطان يا ابن عمي، غلطان.» وقهقه ضاحكا متطلعا إلى الصحن الذي شاركته بالتهامه.
قد يعتقد قارئ هذه السطور أن حياتنا كانت مرحا ودعابا. هذا صحيح؛ فلم يمر بنا يوم لم نواجه به الموت، كذلك لم يمر بنا يوم لم نملأه ضحكا وسخرية وقهقهة.
وكان حسني يصر أبدا على أنه الخبير العسكري، واستنتج من ملاحظاته أن طائرة برغشية صغيرة تأتي منفردة مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، فلا ترمي القنابل، بل تتمهل في طيرانها وتجولها على ارتفاع من الأرض قليل، وكان يعقب مجيئها قصف المدفعية، أو زيارة الطائرات المغيرة.
وفي ذات يوم جاءت تلك الطائرة فحومت فوقنا وفوق المدرسة الزراعية المهدومة ساعات وانصرفت.
وعبس حسني وتشاءم.
وفي الواقع جاءت في اليوم الثاني أربع طائرات فحومت فوق المدرسة الزراعية، وهي لا تبعد عنا أكثر من مئتي متر، وألقت بقنابل كثيرة على المدرسة وجوارها، وعند انصرافها أمطرتنا إحداها بضع ألوف من رصاصها أصاب الأشجار والكوخ، وحائط الملجأ الأمامي، ولكنه لم يصب أحدا منا.
في صباح اليوم الثاني إذ كنا في «صالون مخيبر» نوشك أن نمتص آخر نقطة من ويسكي إيليا الأخرس، سمعنا أزيز الطائرات فأسرعنا نحو الملجأ على عادتنا، وبقي مخيبر في صالونه يراقب.
ولم يمض بضع دقائق حتى كان مخيبر يرتمي بجسده الهائل على باب الملجأ، وإذا بهدير الطائرات يتفجر من داخل آذاننا. - كم طائرة يا مخيبر؟
فلم يجب، وتطلعت إليه فإذا بوجهه - للمرة الأولى - بلون وجه الجثة، وإذا به يحاول بلع ريقه، وأعدت السؤال فلم أظفر بجواب، وإذا بجهنم تنفجر من السماء فوقنا قنابل، ورصاصا، وهدير محركات، وطائرات تعصف وتقصف، وتنقض، وتأز صعودا وهبوطا، وشظايا القنابل لها عنين وغلغلة، وأشجار الصنوبر تتقصف وترتمي، وفي الملجأ صراخ وبكاء وعويل وصلوات وشتائم.
ثم حدث ما كانوا يقولون لنا إنه يسبق الموت، فسمعنا صفير القنبلة - هذه متى سمعتها يعني أن اسمك مكتوب عليها وأنها قاصدة إليك - وعصفت بالملجأ ريح سخنة فتهدم جانبه الأيسر، وتطلعت فإذا «لودي» ابنة مخيبر - وهي في السابعة من عمرها - قد طمرها التراب إلى كتفها فبان فوق التراب رأسها، وقد تقززت عيناها، وصرخت صرخة ظننتها من غير هذه الدنيا.
وتعاونا على نبش الفتاة من التراب، فإذا هي والحمد لله سليمة.
بقينا على هذا المنوال من التاسعة صباحا إلى نحو الرابعة بعد الظهر حين صمت أزيز الطائرات.
واحتملنا أنفسنا من الملجأ إلى الخارج، فإذا بمكتب حسني شجر مقطوع، وإذا على نحو عشرين مترا منا هوة حفرتها القنبلة التي كادت تذهب بنا، وإذا الشمس كأنها مكسوفة والجو ملؤه غبار أحمر - لون تربة باغيو - وورق أبيض لا أدري من أين ثار، وإذا بالمدرسة الزراعية وما حولها تتطاير شبرا شبرا بتفجيرات متتابعة.
الظاهر أن اليابانيين عادوا فخبئوا الذخائر سرا في المدرسة المهدومة، وأن الطائرة البرغشية اكتشفت الأمر بالمنظار أو الصورة، فجاءت أربع وستون طائرة تفرش بساطا من القنابل إطارا بأربعة كيلومترات مربعة من الأرض، وكاد يطيح بنا معها. (في كتاب مقبل سأسرد كيف كان العيش بين المخاطر، من طائرات تضرب، ومدافع تقصف، وشراذم جنود يابانية مهزومة تفظع، إلى أن جاء يوم سمعنا به أن في الجبال دربا ضيقا بين الأحراج «شريك» كانت تستعمله القبائل فيما مضى، وهو يصلح أن يكون طريقا للفرار إلى المعسكر الأميركي؛ فقررنا نحن الثلاثة - حسني الحلبي، ومخيبر كيروز، وأنا - أن نهرب بعائلاتنا. وكان من الأسباب التي حدت بنا إلى هذا القرار فراغ النقود، ونفاد الزاد، والاعتماد على المقدر. كل هذا سيظهر في كتاب مقبل، أما الآن فنحن في مانيلا عاصمة الفلبين مع بضعة آلاف من الأجانب في ضيافة الجيش الأميركي.)
وعاودتني الأزمة المالية، كيف لا وعلبة السكاير ثمنها دولاران، وبرحت في مظاهر الدمار؛ فالمدينة (مانيلا) أكثرها طلول سوداء، وبرمنا بحياة الخيمة في المعسكر، وقد ذهبت عنا نشوة الفرح بالنجاة، وأبواب الرزق مقفلة، ولا أخبار عن لبنان تطمئننا عن الأهل. وأكثر أحبائنا قتلى؛ إيليا الأخرس، بشارة جريديني، عبد الله الحداد ... وسواهم كثيرون.
ويوما رجعت من المدينة إلى المعسكر أجر حذائي العسكري على أسفلت الطريق الملتهب، ودخلت الخيمة فإذا على مخدتي ورقة سمرت بدبوس لمحتها مكتوبة بالعربية، فتناولتها بلهف وقرأت فيها:
أنا رامز عبد الحليم صعب من الشويفات في الجيش الأميركي، لم أجدك في خيمتك، ولكن يهمني أن أجتمع بك، سأكون في البار الفلاني خلال الساعتين المقبلتين.
أخوك رامز
كان رامز في دائرة من ضباط وجنود تعد نيفا وعشرين ، غير أني عرفته حالا لأول مرة حين رأيت عينيه السوداوين الكبيرتين ووجهه الأسمر.
وتصافحنا من غير أن نتكلم العربية تأدبا أمام رفاقه الذين أخذوا يصرون على أن أشرب وأشرب؛ لأن الحفلة على شرف رامز صعب وحسابه. قلت: ما الخبر؟ أجابوا: «إنه فاز بشريطة جديدة.» وتألب رفاقه عليه فانتزعوا من جيبه مرسوم الترقية، وقرأه أحدهم بصوت عال: «يرقى الشاويش رامز عبد الحليم صعب إلى رتبة باشاويش
Master Sergeant .» لأنه ورئيس دائرة التصوير الفوتوغرافي في الغرفة الفلانية اكتشفا من دراستهما لبعض الصور أن حفريات جديدة قام بها العدو حول المدرسة الزراعية في «باغيو»، وكان من نتيجة هذا الاكتشاف أن تمكن الطيران من تدمير ذخائر هائلة بقيت تتفجر ثلاثة أيام بلياليها.
وتطلعت إلى رامز وصحت: «الله يحرق دينك على دين الشويفات، هذه الشريطة كاد أن يكون ثمنها أرواحنا.»
وساد الهرج والمرج إلى أن وقف أحدهم، وقال: «من يريد أن يراهنني على أن رامز سيصبح بأقل من أسبوعين ضابطا (ليوتنان)؟» سألته: «وما الذي يحملك على هذا الاعتقاد؟» أجاب: «لأنه اكتشف مهربا في الجبال كانت تسير عليه القبائل في الزمن القديم، فأرسلنا دعاتنا نخبر المدنيين، وبعثنا بالأدلاء فتمكن من النجاة من اليابانيين مئات هربوا بواسطة هذا الدرب المهمل.»
حينئذ تطلعت إلى رامز عبد الحليم صعب، ولم ألعن دين الشويفات.
سألت رامز: «كيف عرفت بوجودي في الفلبين وأنت في الجبهة والمدينة خراب وفوضى؟» أجاب: «اسمع؛ قبل هجرتي إلى أميركا كنت أدرس في كلية القسيس طانيوس سعد في الشويفات، ومرة في حفلة مسائية جاءنا من يحسن التنويم المغناطيسي، ودعا أحد التلامذة أن يتطوع لينومه؛ فانبرى أحد التلامذة، واسمه مالك تقي الدين، وسأله المنوم: «بمن تفكر؟» أجاب مالك: «أفكر بأخي عارف تقي الدين، وهو في الفلبين.»
قال رامز: «وبقيت هذه الحادثة عالقة بذاكرتي، فلما رجعت من الجبهة سألت في المعسكر عن اسم تقي الدين فدلوني عليك.»
أمس كنت في منزل الشيخ عبد الحليم صعب أتحدث إليه وإلى السيدة زوجته أم رامز، فإذا هما في فرح، رامز سيرجع من أميركا في شهر آب بإذن الله.
متى وصل رامز بالسلامة، لا تنس أن تذكرني بأن أقص عليك حادثة «برنيطة الجنرال».
لبنانيان في استقبال الفاتحين
في بعض الأحيان تجابهك الحياة بوقائع ترفض أن تصدقها، حقائق تظهر أمام نظرك أكبر من الجبال فتغمض عينيك، وتأبى أن تراها. أما قوي البصيرة فيستعيد بصره بعد الوهلة الأولى، ويؤمن بما يرى، ويسير على ضوئه. وأما المكابر فتسحقه واقعية الحياة فيما هو يحاول أن ينكرها. وأما الضعيف فينهزم إلى زاوية يسكر فيها بالأوهام والأحلام ناسيا منسيا. أشخاص ثلاثة ما هم بأغراب عنك تجدهم بين أصدقائك ومعارفك.
أما نحن «أولاد العرب» في «مانيلا» الفلبين، فقد طلعت علينا الحقيقة جبالا وأبراجا في أواخر كانون الأول سنة 1941، وأرعدت في آذاننا من الإذاعة المحلية والإذاعة العالمية، فأغمضنا عيوننا، وصحنا: «مستحيل.» ما هو بصحيح هذا الواقع؛ لأنه يجب أن لا يكون صحيحا.
ولكنه كان صحيحا؛ ففي 29 كانون الأول 1941 انسحبت القوات الأميركية من «مانيلا» بعد أن أتلفت مستودعاتها الحربية، وفتحت عنابرها للأهالي، فأقبلت الألوف تحمل الطحين والجلد والبرادات واللحوم، وكل ما وصلت إليه الأيدي الرشيقة.
وقد استيقظت غريزة النهب في السكان؛ فهجمت الألوف تنهب حوانيت التجار والعنابر. غريب كيف يقفز الإنسان القهقرى فيستحيل حيوانا بهيميا في الأزمات، فلقد نهبت الحوانيت وبعض البيوت في كل حي، في كل شارع، في كل جزيرة من السبعة آلاف جزيرة في الفلبين. بين 29 كانون الأول 1941 و2 كانون الثاني 1942 مرت أيام خلت فيها المدينة من النظام، وقوات الأمن؛ فالأميركيون انسحبوا، واليابانيون بقيت جيوشهم مرابطة خارج المدينة؛ لأنهم خشوا مكيدة من الأميركان، والنهب قائم في البيوت والشوارع، وحرائق ذخائر الأميركان وأخصها الزيوت مشتعلة، والسيارات ملأى بالناس والحاجيات تفر من المدينة إلى الأرياف، وسيارات بالمئات ملأى بالناس والحاجيات تدخل المدينة هاربة من الأرياف. في الأخطار تنتبه غريزة الفرار، فيحسب الإنسان أنه ظفر بالأمن حين ينتقل بسرعة من مكان إلى مكان.
وفي مطلع السنة - أول كانون الثاني 1942 - بدأت الاضطرابات؛ فتوجه محافظ المدينة، واسمه «فارغاس» ومدير البوليس في سيارة رفعا في مقدمتها علما أبيض نحو الجيش الياباني، وأخبرا القائد أن ليس في «مانيلا» قوة مدافعة فليشرف ويستلم العاصمة. ولكن القائد لم يصدق، بل أرسل مع المحافظ ومدير البوليس ضباطا ثلاثة تجولوا في المدينة، فلما وثقوا من خلوها من قوى الجيش الأميركي، أصدروا بلاغا وزعوه على الأهالي يعلمونهم به أن الجيش الياباني المحرر الفاتح سيدخل في صباح اليوم التالي «مانيلا» بعد أن طرد العدو المستعمر، وأن على الأهالي أن يلزموا بيوتهم والسكينة. أما الذين يرغبون في استقبال الجيش فيسمح لهم بذلك بشرط أن ينزلوا إلى الشارع لا أن يتطلعوا من الشبابك، فجيوش جلالة الإمبراطور هي أقدس من أن ينظر إليها أحد من عل.
وفي الصباح بدأت الجنود تدخل المدينة، وكانت الشبابيك على الشارع الرئيسي - تافت أفنيو - حيث مر الجيش كلها مقفلة، ولم يخف إلى لقاء الفاتحين إلا عشرات من الناس، وقد مثل «أولاد العرب» في هذا الاستقبال لبنانيان؛ أحدهما بطرس عواد من بحرصاف بكفيا، شقيق المحامي الدكتور إبراهيم عواد، والثاني يوسف أبو رجيلي من كفر زبد البقاع، وهذان الفتيان أعزبان كانا يعيشان في غرفة واحدة في لوكندة، دأبهما الدعاب والمرح في أشد ساعات الخطر. وحين فتح الأميركان عنابرهم للأهالي كانت حصة بطرس ويوسف بضعة صناديق من الويسكي المعتقة لعلها كانت سبب المرح والشجاعة.
بعض من يعظم شأنه يحاول أن يطمس ماضيه؛ يوسف أبو رجيلي ما هو بخطير الشأن، ولكنه غني يصارحك أنه كان في لبنان فقيرا، فيتحدث عن جمل وحمار رافقهما سنوات، ويذكر اسم امرأة في جديدة مرجعيون لا تزال مدينة له بثمن ثلاثة أرطال عدس، وحانوتي في معلقة زحلة أعطاه ريالا ممسوحا لا يزال يحمله، ويقول في حرارة واقتناع إن ابن آدم لا يؤاخى، وإن الحيوان خير من يصادق. ولا يتحسر من فرقة «الوطن القديم» إلا على الحيوانات، وأخصها الحمار.
أما بطرس عواد فهو فتى جبلي، فوار الحيوية، عنيف الود، عنيف البغضاء؛ فالناس إما أحباؤه أو أعداؤه. وعلى رغم أن ليس في نفسه شيء من الشر؛ فإنه يستشعر من المصائب والانقلابات وحالات الطوارئ شيئا يستهويه ويطرب له.
ورحبنا ببطرس وبيوسف في ظهر يوم 2 كانون الثاني حين جاءا إلينا، وكنا خمس عائلات قابعين في بيت من ضواحي المدينة لا نعرف ما يجري حولنا من حوادث.
قال يوسف: «لقد شهدت الجيش الياباني، أطول واحد فيهم لا يقبلونه بوليس في بيروت، ولو أن في جيبه عشرين كارت توصية من عشرين نائب. أسلحتهم - عندنا في كفر زبد بواريد أحسن منها، فرقة المواصلات - كميونات محطمة.»
وهنا قاطعه بطرس قائلا: «إنما في جيشهم فرقة ليست عند الأميركان!» وقهقه الاثنان؛ ذلك لأنهما رأيا في فرقة المواصلات نحوا من ثلاثين حمارا، أعتقد أنها جاءت من كوريا.
ومن غريب ما حدثنا به الزائران أنهما عرفا بين الضباط عددا غفيرا من التجار اليابانيين الذين كنا نتعامل معهم، فهذا خادم في خمارة رجع بسيف طويل وبدلة كولونيل، وذاك بائع بوظة جاء يتهادى ببزة كابتن بحري، وكان يركب في بعض الكميونات أشخاص من الفلبين كانوا - ولا ريب - قبل الحرب يتجسسون لحساب اليابان.
وانصرف يوسف وبطرس قاصدين بيوت «أولاد العرب» لينشرا أخبار دخول الجيش الياباني.
في تلك الليلة أصغينا إلى الراديو فسمعنا أوامر أصدرها الجيش الياباني، منها أن على الأجانب المقيمين في مانيلا أن يحضروا في اليوم التالي فيسجلوا أسماءهم لدى الجيش في الفندق الفلاني.
نسيت أن أخبرك في أية حالة عصبية كنا. ما هو بالشيء الهين أن تكون أبيض الوجه غريبا في بلاد السمر والصفر - الشرق الأقصى - وكل أقاربك زوجة مريضة، وطفلة دون العاشرة، وكل مواطنيك عائلات أقل من العشرين، عدا كلهم مثلك قابعون في بيوتهم رعبا، وكل أموالك نحو من عشرين ريالا، وفي المدينة جيش ياباني فاتح سبقته أخبار همجيته، وتفظيعه بالنساء والأطفال، والفاتح الياباني بهيمة كاسرة تدعو لسحق الأجانب المتغطرسين الملاعين، وتتودد إلى شعوب الشرق الأقصى باضطهاد كل من ابيضت سحنته.
يسألني الكثيرون: أحقائق هذه التي أرويها؟! أجيب: بل هي حقائق ملطفة، بعضها لا أذيعه؛ لأني أنا - وقد مرت بي - أجلس اليوم وأتساءل: أحقيقة كانت؟ أم هي حلم مرعب؟
لذلك لن أخبرك كيف بتنا ذلك الليل هلعين لا ندري ما الذي يريده الجيش بنا، تسجيل أم تقتيل وتشريد.
لن أبوح لك بأنني اشتريت السم، وتعاهدت وزوجتي أن يأتي هلاكنا نحن الاثنين وطفلتنا على أيدينا، إن وضح من ظواهر الأمور أن اليابانيين سينزلون بنا ما أنزلوه في الأجانب في الصين.
ليال مريرة مخيفة قلقة مرت بنا خلال الحرب، من أشدها قلقا كانت تلك الليلة.
يقول الناس: إن جفونهم لا تغمض في الليالي السوداء، الحمد لله أنني في الليالي الفاجعة أنام ملء جفوني.
وفي الصباح الباكر نهضت حائرا فيما ينتظرنا، وماذا عساي أن أفعل!
صديقي الحميم ماك آرثر ...
حين أذاعت التلغرافات أن الجنرال ماك آرثر أقيل من مهمته ملكتني هزة من حبور ذلك؛ لأن ماك آرثر صديق لي حميم، وإن كنت في شك من أن الإنسان أشد ما يكون فرحا إذ هو يسمع بنكبات تنزل بأصدقائه؛ فاستعرض القوائم الانتخابية، وتأمل كم صديق فرح لسقوط صديق.
بدأت صداقتي الشخصية مع ماك آرثر سنة 1941؛ إذ كنت في «مانيلا أوتيل»، فإذا بحركة غير عادية والناس تحولت أنظارهم نحو الباب، وإذا بقامة عسكرية تنقل قدميها بخفة وخيلاء من غير أن تمس بلاط الأوتيل، وتمشي نحو المصعد من غير أن تلتفت أو أن ترى، ولما اختفت القامة سمعت وشوشة: «هذا ماك آرثر.»
وتوثقت بيني وبينه الأخوة بعد الحرب؛ إذ كنت أتمشى في إحدي نواحي المدينة، فإذا نحن أمام قصر انتشر حوله الحرس ويافطة كتب عليها «ممنوع المرور»، وقابلته مرة يوم إعلان استقلال الفلبين، فظهر على بعد عشرين مترا مني، وضرب لي سلاما خاصا، لي ولمائة وعشرين ألفا من المتفرجين. وبعد هذه المقابلة الثالثة تلطف واستمر بالاتصال بي مرارا كل أسبوع، في المجلات والصحف وأفلام السينما، ماك آرثر وفي، لم يقطع عني أخباره هذه السنين.
ما الذي سبب سقوط هذا الرجل الكبير؟ أقول الكبير، ولا أقول العظيم؛ لأن أمر عظمته لم يقره الإجماع.
في رأيي أن ترومن أحسن إلى ماك آرثر كثيرا حين عزله؛ لأنه خلق له شعبية كانت نقمة عليه وبغضا ، لا أعرف في الدنيا شخصا لقي كرها من رجاله مثل ما كان يلقى ماك آرثر من ضباطه وجنوده؛ كنا نمشي في مانيلا والحرب لا تزال محتدمة في الجزر الأخرى، فنلقى الجنود الأميركان، الصاحي منهم يشتم ماك آرثر، والسكران يشتم ماك آرثر، كنا نقرأ اللعنات على حيطان الخمارات، وعلى الشوارع، وأبواب المراحيض، وكان أقلها عنفا تلك العبارة التي تسبق في بيروت «كل من يبول هنا».
ما السبب؟
السبب أن الأميركيين شعب متناهي الديمقراطية، وأن ماك آرثر شيخ ابن شيخ، وفيه عدا عن عنجهية الإقطاعيين أنانية تقص المسمار، وحسد من كل ناجح، وقد خلق هذا الرجل ليأمر فحسب!
أبوه كان قائدا شهيرا، وهو في تلمذته أصاب النجاح الباكر، فعلاماته في «وست بونيت»، أشهر كليات الدنيا العسكرية، ضربت الرقم القياسي - لمن سبقه أو لحقه - 98,14 على مائة! ولذلك كانت بلاغاته الحربية شكسبيرية!
وفي الحرب الأولى كان أصغر من تولى قيادة فرقة، غير أن اسمه لم يلمع في الحرب الأولى، ولكن لم يكن في سيرته العسكرية ما يعاب عليه.
وبعد الحرب الأولى تولى قيادة الجيش الأميركي في الفلبين، وراح يتبختر، وكان في عداد ضباطه كولونيل متواضع محبوب فوار الحيوية والذكاء، بدا اسمه يكسف اسم ماك آرثر، فما برح هذا يحمل على الكولونيل حتى نقل إلى واشنطن؛ ذلك الكولونيل هو اليوم الجنرال «أيزنهاور».
واستمر ماك آرثر خلال حياته العسكرية يعزل أو ينقل كل من اشتهر من معاونيه حتى عرفت «القيادة العامة» باسم «مقبرة النابغين».
لا أعتقد أن خيلاء ماك آرثر كانت كبرا في النفس أصيلا؛ لأنه حين انتدب لتدريب الجيش الفلبيني أمسى زحفطونا - من الزحف على البطن - يسرف في التودد والخضوع لرئيس الجمهورية الفلبينية، ولم يأنف أن يصبح شبه المرافق له، فهو إذن لين أمام من هو في حاجة إليه، صلف على مرءوسيه، وعلى الذين يحسب أنه أقوى منهم.
وانفجرت الحرب العالمية، وكان ماك آرثر في الفلبين، وانهار الجيش الأميركي الفلبيني، غير أن عار الانهيار لا يلحق قائده. وكان أهم ما يشغل قادة واشنطن أن يدفعوا روح اليأس عن شعوب أوروبا وأميركا، وأن يقنعوا شعوب الشرق الأقصى أن الغلبة في النهاية مضمونة لدول الديمقراطية؛ لذلك راحوا يتغنون في صحفهم ومحطات الإذاعة ببطولة ماك آرثر والجيش الأميركي الفلبيني، وخلقوا أسطورة «معركة باتان»، ونحن الذين لم نكن بعيدين عن «باتان»، وتسنى لنا التحدث إلى بعض الضباط والجنود الذين كانوا في المعمعة، نعلم أن اليابانيين بعد أن احتلوا أكثر جزر الفلبين تركوا شراذم من أضعف جنودهم أمام قوات ماك آرثر، فلما ربحوا معركة سنغافورة رجعوا بقواتهم إلى «باتان» فاحتلوها بعد أن استسلمت جيوش أميركا والفلبين.
كل هذا نفخ اسم ماك آرثر وضخم شأنه، وكان من الذين قادوا حملة الدعاية صحفي فلبيني يعبد نفسه، التحق بحاشية الجنرال، فصار هو الآخر جنرالا، وتغنى بماك آرثر فيما هو يتغنى بنفسه، ووصف معارك لم يشاهدها، وبطولات تخيلها، وباع كل ذلك في كتابين لقراء أميركا؛ فأثرى. اسم هذا الصحفي اللامع الجنرال رومولو الذي صار فيما بعد رئيسا لمنظمة الأمم.
قبل أن أخبرك أن هذا الصديق الحميم فر من الفلبين في غواصة أميركية، بأمر من قائده الأعلى روزفلت، وقف أمام المذياع ولفظ عبارة سجلها التاريخ: «سوف أعود.» كذلك يجب أن تعلم أن أسطول أميركا الهوائي من قلاع ب 17، حطمه اليابانيون بغارة مفاجئة، وأن الناس يتهمون صديقنا الحميم بخزي ذلك التحطيم؛ لأنه عرف قبل 18 ساعة بغدر اليابانيين في «برل هاربر»، ولم يتخذ أسباب الوقاية والدفاع، وأنه منع التحقيق في حادثة تحطيم الأسطول الجوي في الفلبين.
وتمركز ماك آرثر في أوستراليا، ومشى نحو اليابانيين بعد معارك بحرية وجوية وبرية اشتركت فيها كل أسلحة أميركا، ولما نزلت جيوشهم في الفلبين، وقف ماك آرثر أمام المذياع، وفاه بعبارته التاريخية الثانية: «قلت لكم سوف أعود، وها أنا قد رجعت!» منذ تلك اللحظة بدأت الشتائم تغمر اسم الجنرال الصديق. يقول له مبغضوه: «لقد رجعت.» رجعت وحدك؟ والمليون جندي الذين رافقوك؟ وألوف الطائرات، ومئات القطع البحرية، والذين قتلوا وجرحوا وتشوهوا ... كل هذا وهؤلاء ليس لهم من شأن؟ ثم يروون الغرائب عن بذخه وأنانيته، كيف شاد قصرا على جبل من غابات «نيوجنيه»، وفي اليوم الذي لم يكن للجيش الأميركي طائرات لنقل الجرحى والأدوية، كان ماك آرثر يستعمل الطائرات لنقل الرياش الفاخرة لقصره من أوستراليا إلى «نيوجنيه»، ثم يتساءلون: أين هي مقدرته الحربية، وقد كانت المعارك الحاسمة معارك بحرية أو جوية؟ ويحدثونك عن مسرحياته كيف تنشر صوره خائضا المعركة والصور أخذت بعد انتهاء المعركة، وكيف قتل ستمائة شاب أميركي حول أسوار المدينة القديمة في مانيلا، كل ذلك رغبة في سلامة بعض الأهالي وتزلفا لأصدقائه الفلبينيين، ثم يقولون إن حملة الفلبين من أولها لآخرها لم تكن ضرورية، ولكنه خاضها إرضاء لإثرته، ولكي يتسنى له أن يقول: ها أنا قد رجعت!
هنا أكشف عن سر يقودني إلى تفسيره الاستنتاج: لماذا لم يعد هذا القائد الظافر إلى أميركا بعد الحرب ليتمتع بالتكريم؟
في يقيني أنه كان يخاف الاستقبال الذي أعده له جنوده من بيض فاسد، وبندورة مهترئة؛ كذا كانت النقمة عليه.
كنت في مانيلا حين جاءت طائرة من اليابان تحمل أكبر سياسييها ليفاوضوا ماك آرثر بشروط التسليم، هل تعلم ماذا فعل هذا الجنرال؟ أبى أن يقابلهم، وعهد إلى بعض أعوانه أن يتحدثوا إلى الوفد الياباني.
وتولى الصديق إدارة اليابان بعد الحرب؛ فأسرف في الاستبداد بالرأي، ولم يكن رؤساؤه في واشنطن ليجسروا أن يصدروا إليه أمرا، بل كانوا «يقترحون»، أو «يبدون رأيا»، أو «يستمزجون»، وفي الأشهر الأخيرة جاء ترومن بنفسه ليباحثه في شئون الحرب، بدلا من أن يستدعيه إليه.
وكان الأميركان يقابلون بين الوضع المستقر في اليابان، وبين الحالة القلقة التي تسود منطقتهم في ألمانيا، فينتهون إلى الاستنتاج أن سبب الاستقرار في الشرق الأقصى عائد إلى مقدرة الصديق الحميم، غير عارفين أن اليابانيين - بعكس الألمان - شعب قروي ساذج طائع، من تقاليد فروسيته أن يخضع المغلوب للغالب.
وجاءت كوريا ... وكانت فاجعة هزيمة الجيوش التي قادها ماك آرثر، هزيمة كادت تؤدي إلى خسارة ماك آرثر لولا حنكة قائد جديد اسمه «ردجواي»، وتبعتها مسرحية دعوة أرسلها الصديق الحميم من غير تفويض ، إلى قائد الجيوش الشيوعية للاجتماع، ثم رسالة وجهها الجنرال إلى أحد أعضاء البرلمان يقول له فيها إنه من الحكمة ضرب مراكز تموين الجيوش الشيوعية، وغزو شواطئ الصين، كل هذا نطق به قائد كاد يخسر كوريا، وجندي تجاوز السبعين من العمر، وشخص مكروه، في وقت عصيب قد تؤدي فيه الكلمة الخاطئة، أو العمل الأحمق، إلى اندلاع حرب عالمية؛ فكانت إقالته.
أخالني جرت على الصديق الحميم، يجب إعادة القول أنه كان تلميذا لامعا، وأنه ليس من يتهمه بأنه جنرال رديء، وإن لم يكن الإعجاب بمقدرته العسكرية شاملا، وأنه إن كان في بطولته مسرحية، فهو بطل على كل حال. من الراهن أنه لم يكن خلال الغارات الجوية يرفع بنظره إلى السماء، بل يسأل مرافقه بكل هدوء: «أهذه طائراتنا أم طائرات العدو؟» وإن كاد يهم بأن يخسر معركة كوريا، فأي قائد يأمن خسارة معركة؟ وإنه ربح الحرب في الباسفيك، وإنه في نظر شعوب الشرق الأقصى رمز القوة الأميركية، وإنه إن كان يهوى الدعاية لنفسه فأي منا يكرهها؟ وإن من أسباب تصلبه في رأيه أنه يعلم من أمور الشرق الأقصى ما لا يعلمه سواه، وأن رؤساءه - ومنهم ترومن - أقزام فكر، وأخصياء دبلوماسية.
لعل سبب سقوطه تلك العبارة التي تلفظ بها قائد روماني، وقد علقها ماك آرثر في مكتبه:
هنا لا نستمع إلا إلى الرأي الذي نبديه نحن.
غريب بلا بسطبورزو
في الصباح الباكر، نهضت حائرا فيما ينتظرنا، وماذا عساي أن أفعل؟ أحقا أن الجيش الياباني الفاتح الذي أذاع بالراديو دعوة للأجانب المقيمين في مانيلا عام 1942 أن يأتوا إلى الفندق الكبير يريد منا أن نسجل أسماءنا فقط، أم أن في الأمر خديعة، وأننا سائرون إلى القتل، أو السجن، أو التشريد؟
أمر سمعناه، ولم نجسر أن نطيعه، ولا أن نعصاه، ولكنني أخيرا بلغت اللوكندة الكبرى في نحو الساعة العاشرة من الصباح، ووجدت الأجانب من مختلف أجناس البشر، ألمانا، وإسبانيين، وفرنسيين، وأكثر ما أنتجته أوروبا وأميركا، مئات وقف بعضهم في صف بلغ طوله نحوا من نصف كيلومتر، وانتشر الباقون في الساحة.
يقولون في الصامتين: «كأن على رءوسهم الطير.» إن صح هذا التشبيه؛ فقد كان على رأس كل واحد من الأجانب بومة وغراب. صحيح القول أنه ليس من شيء يدخل الخوف على القلب مثل رؤية جمع من الناس يعدون بالمئات، وهم صامتون واجمون، بل كل واحد وقف منفردا كأنه خشي أن يؤذيه اختلاطه بسواه. ورأيت في الجمهور كثيرين من أصحاب العروش أصبحوا عوام من بني البشر: أغنياء وصيارفة وقادة مجتمع، وطغاة بذخ، وطهاة الصفقات المالية، راكبي السيارات اللماعة، وساكني القصور، صاروا مثل سواهم، ممتقعة وجوههم لا يدرون المصير، وقد لبسوا كلهم الأثواب العتيقة، لما اشتهر عن اليابانيين من التقشف، ومن بغضهم للمتأنقين، وكان من الواضح على وجوه هؤلاء المذعورين أنهم تعمدوا إهمال أمر الحلاقة في ذلك الصباح.
ورأيت في بعض الأيدي وريقات صغيرة، ولاحظت الناس يحيون بعضهم بعضا بابتسامة مغتصبة مقتضبة.
لم أعرف ماذا يجب أن أفعل: هل أبقى في الباحة؟ أم أنتظم في الصف الطويل؟
وفيما أنا أفكر، إذا بصوت عربي يدوي ويصيح - أقول يدوي ويصيح - من بعيد: «يا هلا بأبي السعد!» وهرع إلي من كنا ندعوه «عودة أبو تاية»، واسمه الحقيقي عودة الحداد من السلط، ابنه اليوم جندي في الجيش الأردني.
قال عودة: «أنا في انتظارك يا ابن أخي، جئت باكرا، وأخذت نمرة (فيشة) حفظتها لك كي لا يطول انتظارك في الصف.» ودفع إلي وريقة مثل التي رأيتها في أيدي الكثيرين، وقرأت عدد «68».
وعاد «عودة» يشرح بألفاظه البدوية، ولهجته الصحراوية المرتفعة: «الياباني ملعون الوالدين، ستنتهي الحرب قبل أن ينتهي من تسجيل الأجانب، صار لهم يشتغلون منذ الصباح الباكر، ولم يسجلوا خمسين شخصا بعد.»
وفيما نحن في الحديث اقترب مني سلطي آخر، اسمه جاد الله؛ فتى قصير، ولكنه عتل، لم أر في حياتي صدرا في ضخامة صدره، كان يروي لنا، ويروي عنه أبناء بلدته، أنه فيما مضى، احتال على ضبع حتى أدخله قن الدجاجات في السلط، فأهوى عليه جاد الله بالعصا، وما زال يضربه حتى قتله. ذكرني أن أخبرك كيف ودعت جاد الله عشية سفري من الفلبين، في مستشفى الأمراض السارية، وكيف فتك به السل.
أما «عودة» - وكان، شأن البدو، ينادي أصدقاءه ب «يا ابن أخي» - فهو مثل السبعة أو الثمانية السلطيين الذين عرفتهم في الفلبين؛ رجل قاس، فقير، كريم الخلق، ساذج، ذو مروءة وود، ولعل أبناء السلط بحكم جغرافية بلدتهم - بين قبائل شرق الأردن - كان عليهم أن يهلكوا، أو يكونوا شجعانا، فاختاروا أن لا يهلكوا، و«عودة» يعرف جبل الدروز، ولم يكن غريبا عنه في ثورة سنة 1925؛ إذ كان يهرب الأسلحة من فلسطين إلى حوران، وكثيرا ما تغنى بالدروز، وافتخر بأنه ضاف سلطان الأطرش ليلتين.
وعودة على ضعة حاله لا يتورع عن الدعاب، وتوهمت أن عودة كان فرحا بالحالة الطارئة، يتطلع فيمن حوله فيراهم غنما مذعورة - هؤلاء الذين كانوا بالأمس ذئابا كاسرة، ثم يجس عضلاته، فيتحقق أنها صلبة، ويوقن أنه في هذا اليوم ارتفع عمن كانوا محلقين، وأنه لم يعد في وادي المسكنة، وأدار عينيه بالجمهور هازئا، ول، ول، ول، ول. لم يعد في مانيلا لا مستر ولا سنيور، كلهم رعيان غنم يا ابن أخي.
وحملت الورقة، ويدي تنوء بها، وكذلك قدماي، وتسكعت خائفا نحو اللوكندة؛ فإذا بي أسمع عودة من خلفي يخاطبني مقهقها: «والله يا ابن أخي، لو أن تحتك حصانا لكنت تشبه سلطان الأطرش قاحما قلعة السويداء.»
ضحكت ملء رئتي، لأول مرة، منذ أن أعلنت الحرب، وانتصبت في الصف الطويل، وليس أمامي إلا نحو من عشرة أشخاص، فلما جاء دوري دخلت إلى غرفة ضابط ياباني، وضع سيفه الطويل أمامه على الطاولة، وحف به ضابطان آخران، ويابانيان في لباس المدنيين.
وانحنيت باحترام من الوسط شأن من يحيي أي جندي ياباني.
أكثر الناس يبغضون ما لا يمتلكون، والياباني قصير، دميم، صفراوي، سحنته عكر وتعقد، وأنا طويل، سمين، أبيض، وفي وجهي صفاء وشموخ؛ لذلك لم أستغرب إذ صوب إلي الخمسة عيونا لهابة تتدفق بغضا، نظرات يابانية معادية كاسحة استمرت تلطمني وتحرقني كل يوم خلال ما يقارب سنوات أربعة تلت. وفهمت فورا، من غير أن أنظر إلى ما تكوم على الطاولة، حيث سمعت أحد اليابانيين يصيح: «بسطبورزو!» أنه يريد الباسبورت؛ ذلك أن من عاهات الياباني أن لسانه لاصق في فمه يرتطم بالألفاظ ارتطاما، ويقذفها من بلعومه، وهو يزيد «الزاي»، و«الواو» أبدا على الكلمات؛ فكلمة بيروت مثلا تصبح «بيروتزو»، وربما جاءت بيطرزو، أو طبورزو، فلا عجب أن تقمص الباسبورت إلى بسطبورزو.
واشرأب الخمسة مدمدمين حين لم أضع بين يدي الضابط باسبورتا عاديا شأن سائر الأجانب، بل ورقة هوية؛ ذلك أنني حين وصلت الفلبين في كانون الثاني سنة 1926 أبى القنصل الفرنسي أن يسجل اسمي؛ لأن لفظة «درزي» ظهرت على باسبورتي، وكانت الثورة في أوج شدتها، والقنصل الفرنسي في «مانيلا» في ذروة لؤمه؛ فاستعضت عن التسجيل في القنصلية الفرنسية بورقة هوية من الحكومة الفلبينية أعلنت فيها عن جنسيتي بلفظة «عربي».
وتماوج بحر الكلام مدا وجزرا بين الصفر الخمسة، ولم أفهم من الحديث إلا لفظة آرابيان (عربي)، ولحظت أن عيونهم بدأت ترمقني بشيء من الود والاحترام.
الياباني حيوان ليس فيه من العاطفة إلا بهيمية الكواسر، هو لا يقبل زوجته، ولا يداعب حبيبته، ولا يطرب للغناء إلا متى سكر، ليس له صديق، ولاؤه لإمبراطوره وإمبراطوريته هو ولاء العبد لسيده، وليس ولاء الإنسان لعقيدة أو مثالية. علمه، واختراعاته، وثقافته، كلها تبرج سطحي وتسلح. تأدبه، ودعته، وكياسته، هي بعض أساليبه الدفاعية. نفسه وحشية لا تجد نشوة إلا في القتل والتدمير والقهر والفتوحات؛ إذن فحين أقول لك إن اليابانيين الخمسة الصفر أظهروا «الود والاحترام» لشيء اسمه «العروبة» فمعناه أنهم أخفوا المخالب والنواجذ، ولم يبطشوا.
أما عطفهم على «العروبة»، فلسببين؛ أولهما - وهذا استنتاج وتخمين - أنهم حين أراد قادتهم تقوية الفروسية في نفوسهم، وترسيخ عقيدة البأس - ويسمونها «بوشيدو» - عمدوا إلى تدريسهم تاريخ البطولات القديمة، ومنها البطولة العربية. أما السبب الثاني، فكان أن ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وإذاعات بعض تجارنا في اليابان، أوهمت الكثيرين من اليابانيين أن العرب موالون لدول المحور.
وخفتت دمدمتهم شيئا ما، ورحت أملأ ورقة أسجل فيها سيرتي، وأجبت على سؤال: «ما هي اللغات التي تعرفها؟» بجواب: «العربية، الإفرنسية، الإسبنيولية، الإنكليزية»، ودارت عيونهم المزججة تحدق بأجوبتي، كأنما هي طلاسم، وعلت الهمهمة من جديد، وشعرت كأنهم في مرح، وهم يرددون لفظة «مورا كامي، مورا كامي». وأفهمني الترجمان أنني ما دمت أتكلم الفرنسية فمن الضروري أن أجتمع بالكولونيل «مورا كامي»، وهو يجيد الفرنسية كأحد أبنائها؛ إذ إنه سكن الهند الصينية سنوات عديدة، ونهض أحد اليابانيين مشيرا إلي أن أتبعه إلى الكولونيل «مورا كامي». وقد ذكرت أن الياباني شليل اللسان، يتكلم من بلعومه؛ لذلك هو يزدهي بكل مواطن له يجيد لغة أجنبية.
أما أنا فمشيت نحو هذا الكولونيل الذي يتكلم الفرنسية كأحد أبنائها خائفا أن يفتضح أمري؛ فإن معرفتي للغة الفرنسية هي من مخلفات دراسة قروية شردها الإهمال، وهدمتها وبعثرتها الأعوام، ومثلت أمام الكولونيل «مورا كامي» حتى انتهى الترجمان من همدرته وطنينه، وكنت أسمع لفظة «آرابيان، آرابيان، آرابيان» وانصرف. وأقبل الكولونيل نحوي - وهذا تكريم غير عادي - وانحنى، وهش بأنفاسه نحو رئتيه - وهذا نهاية التكريم الياباني - ومغزاه أنني أقدس من أن تطالني أنفاسه، ثم احتقن وجهه، واهتزت نظارتاه، وأحسست أن طابة من الكلام تنتفخ، وتتسلق زلعومه، متضخمة، فلما بلغت فمه انفجرت منه قنبلة سمعتها: «جبرونزو»، وأرهف الله في تلك اللمحة ذهني، فعلمت من فوري أن الكولونيل يريد أن يقول بونجور، وأنه لا يملك من اللغة الفرنسية أكثر مما يملك سعيد فريحة من أسهم الكوكا كولا، فأجبته بطلاقة وفصاحة: «بونجور مون كولونيل.» وشعرت إذ رحت أتكلم الفرنسية بثقة في النفس، كأني تلك الأرتيست التي تقدم «النومرو» على مذياع البيسين في عالية.
وجلسنا متلذذين نمسخ اللغة الإفرنسية، وننهشها ونقطعها، ونمرغها بالحصى والتراب.
غير أني لم أخرج إلا وفي جيبي باص يوصي بي خيرا، سطره بخط يده، ومهره بختمه على الشمع الأحمر الكولونيل مورا كامي.
باص في مانيلا في أيام الاحتلال الياباني الأولى، كان أفعل من كارت شمدص جهجاه في دوائر الحكومة اللبنانية.
ذلك الباص دفع عني الخوف والجوع، كما سأحدثك ، وقربني إلى كثيرين من الناس، منهم يهودي حلبي اسمه عزرا ديان.
وقد رد لي الجميل عزرا ديان في لباقة وإهانة؛ إذ رجع أحد مهاجرينا من الفلبين في العام الماضي، وبلغني أن عزرا يهديني السلام، وأنه إن كان يلزمني باص ثان ليحميني في تجوالي، فإن عزرا يستحصل لي على مثل هذا الإذن من ابن عمه الجنرال ديان، وهو في الجيش الإسرائيلي اليوم، وكان - كما تذكر - قائد حامية القدس في أيام حرب فلسطين.
أغرب من الخيال، ولكنها وقائع.
زلزال الفلبين
هل النفس - كالأرض - أحشاؤها نيران فوارة، وقشرتها جماد تصلب، فلا يحس الجاهل - ولا يرى - إلا ما طفا عليها من حياة، حتى تشق النار بعض هذا الجماد فتثب بركانا، أو تخمد بعض تلك النار، متقلصة، فتهتز في رعشة أو زلزلة معيدة تكوم الأحشاء والأشياء بترتيب جديد، مدمرة بعض تلك القشرة، باطشة ببعض تلك الحياة الطافية؟
وهل الأرض كالنفس ذات أثرة وطلاسم لم تكشف بعد عن أسرارها؟
وهل نحن بعض هذي الحياة، بعض هذه القشرة، لا ننفعل إلا إذا جرحنا، أو ذعرنا، أو هالنا في أنانية الدفاع عن النفس، ولو حيال خطر موهوم، قتل ودمار، أو خشينا بعثرة تنتهي بترتيب جديد؟
هذه القشرة في نفسي حسبتها تتكثف، كنت أتوهم أنني أصبحت كجذع شجرة، كل سنة تطوق أحداثها بدائرة تشطرها عن الدائرة السابقة.
في العام الماضي قرأت نبأ ثورة بركان في جزيرة «مامباهو» في الفلبين، أشغل الخبر قراء الصحف أسبوعا، ثم تطوق وجمد، وانتهى.
ورجعت إلى نفسي أعد أطواق السنين - خمسة وعشرين - فإذا أنا عام 1929 في قارب بخاري صغير أقصد من شمال جزيرة «مندناو» في سفرة قصيرة إلى جزيرة البركان في «مامباهو».
ها أنا منبطح على كيس جوز الهند، وإلى جانبي فتى هندي يده في يد خطيبته.
هو ذا الجو اغبر من بعد وكشر، ونفخ كأنه كبير في السراي يقابل طالب وظيفة.
هو ذا ربان القارب يحاول قدح الشرارة في عقله فيحك قفاه، وينزع من فمه سيكارا كأنه كرباج، ثم يبصق مطمئنا أنها ليست زوبعة بحرية (باغيو ) بل اضطراب عابر (شوبسكو).
وثار الاضطراب، وما عبر، بل استقر أمواجا وطوفانا، وكانت الستائر محكمة على جوانب القارب.
وكنت قد تعلمت من ربابنة السفن إبان الأعاصير أنهم يرفعون السجف كي يخففوا المقاومة المعترضة للرياح؛ فأمرت برفع تلك الستائر؛ لا لأني عليهم، بل لأن ربان القارب غبي، وراحت الفتاة في هلع تصيح، وكأن الأمر الذي أصدرته برفع الستائر والرعب الذي سيطر عليها خلقا لأوهامها أني منقذ بطل، فتعلقت بي تستغيث، ورحت أشجعها متكلفا البطولة، فلما نجحت جرأتي بتطمينها - وهي الخائفة - انتهى الأمر بجرأتي؛ فنجحت بتطميني أنا الأكثر خوفا.
هو ذا قاربنا يصل إلى الشاطئ - شاطئ «مامباهو» - فنربط على أقدام البركان الهادئ، ونقصد إلى المدينة ملتجئين في فندق جديد أياما ثلاثة.
وتشتد الأنواء والأعاصير، ونحن في الفندق.
إني اليوم أنشق رائحة خشب الحيطان، وقد فاحت بعد أن انتفخت بالأمطار.
إني أسمع «الدوار»؛ أي البلاسيه المتجول، وهو أحد نزلاء الفندق، يغني الأنشودة الرائجة الجديدة «رامونا»:
Ramona I hear the mission bells above .
إني أرى البارومتر يسجل سرعة الإعصار 114 ميل في الساعة.
هذه الجزيرة «مامباهو»، والنساء فيها تسعة لكل رجل، وكلنا دون الثلاثين، وكلنا يغني «رامونا»، والويسكي كالنساء متعدد الأنواع كثير ورخيص.
هي ذي صحف الصباح أمامي تقص أنباء البركان الثائر الذي دمر الجزيرة والفندق الجديد، ترى بمن تعلقت الفتاة، وهي قد أصبحت أما أو جدة؟ ورماد البركان وسيوله النارية تنهال عليها؟
أية أغنية شائعة كان ينشدها الناس حين أحرقهم البركان؟
أحسست برعشة، ولكن ... أقلب الصفحة من الجريدة أقرأ خبرا ثانيا، وتطلع إلي صورة جديدة.
قشرة الحياة صلبت، وحلقات الجذع جمدت.
إنها لا تصلح لغير العد.
ومنذ أيام جاءت التلغرافات العالمية تنبئ بزلزال في جزيرة «مندناو» قتلاه مئتان ... ومصائب الزلزال تبدأ صغيرة ثم تكبر؛ ففي يوم الكارثة لا يستطيعون أن يعدوا إلا بعض الضحايا، أقلب الجريدة من جديد؛ خالد العظم يسافر إلى مصر، حنا الكسواني يفوز بانتخابات الغوطة، جبران حايك يرد على شارل مالك، مئتا قتيل زادوا في اليوم الثالث إلى 350، دمار لا يقدر الآن. سامي بك يمدح الأتراك ، مدينة أوسامس أكثر الأمكنة إصابة، المدن الواقعة على البحيرة، تقديراتنا في سباق الخيل.
هل هي مدينة أوسامس أم ميسامس؟ الأرض انشقت في أماكن كثيرة.
في «ميسامس» صديق لي حميم، هو نصري جريديني، رجع منذ سنتين إلى لبنان، وحضرنا معا حفلة راقصة. آخر رسالة لأهله يهدي بها إلي سلامه، ويسأل هل تغير قانون الجمارك؟ هل يسمحون بأن يأتي بأكثر من ثلاث صناديق سيكار هدية؟ هل الكارثة في ميسامس أم أوسامس؟
أوسامس اسم لفتى فلبيني له أخوات ست، كان هو وكانت أخواته الست في صداقة حميمة مع نصري جريديني، وكنا نحسب أن نصري سيتزوج إحداهن أو كلهن، وانتخب أوسامس عضوا في مجلس الشيوخ، وفي زمن الحرب ناهض المستعمرين اليابانيين فقتلوه. وعند انتهاء الحرب أعلنته حكومة الفلبين شهيدا قوميا، وأطلقوا اسمه أوسامس على بلدة قرب مدينة ميسامس حيث يقطن صديقه نصري جريديني.
انشقت الأرض في أماكن كثيرة، وانشقت القشرة عن ذكرياتي في أماكن كثيرة بعد أن جاءت التلغرافات العالمية تذكر اسم ميسامس، ولم تعد الهزة في نفسي رعشة، بل صارت زلزالا.
إني أعرف بالضبط المقاطعة حيث نزل الدمار. لقد جلت مزارعها وقراها، وتفيأت أشجارها، واتجرت في حوانيتها، ولا شك أني بت في إحدى البيوت التي ضربها الزلزال.
أطللت عليها في أوائل سنة 1927، وكنت «دوارا» أصحب ثماني شنتات هائلة كلها مساطر بضائع، وتنكة مستديرة كبرى فيها مساطر البرانيط، وكان - حتى يتم زي «الدوار» - على وسطي مسدس كولت 38 (نمرو سبعة في لغة بيروت).
شككته في زناري الجلدي بحيث يراه الناس؛ لأن القانون يحرم نقل السلاح المخفي.
جئت إلى جزيرة «مندناو» في باخرة قبطانها إسباني، وقد أخذت السفرة يومين وثلاثة ليال، وكان على الباخرة تاجر صيني، يتجر في كل ثغر ترمي الباخرة فيها مرساتها. وكان هذا الصيني طوال السفرة مرتميا على سريره يهز ساقه، وعيناه عالقتان بلا شيء بعيد، لا يأكل ولا ينام ولا يتكلم، حتى إذا وصلنا إلى مرفأ كان الصيني أول من ركب الزورق إلى اليابسة، وحين يرجع أراه محمر الوجه براق العينين ثرثارا يضحك ويداعب . وقد صادقته وفهمت منه أنه ينشق الكوكايين حين ينزل من الباخرة، وكاد يقنعني بتجربة.
وحين نزلت في أول بلدة شمالي جزيرة «المندناو»، واسمها إيليغين، عرفني أحدهم على «التركو» هناك، فإذا هو «ميجال»، أو نخلة شاكر من دير القمر، وكان نخلة هرما أخبرني حالا أنه مدين، وأنه فقير، وأنه يملك خمسة آلاف شجرة جوز هند لن تثمر إلا بعد ثلاث سنوات، وحينئذ تصبح غلتها ثروة، قلت: «وهل ترجع إلى «البلاد» حين تبدأ بقطاف الشجر؟»
أجاب: «لا أدري»، ولكن الذي سأعمله حين أرى الجوز على الأشجار هو أن أتعرى وأرقص بينها.
وحين أثمرت الأشجار لم يتعر شاكر ولم يرقص؛ لأنه كان قد مات.
على كل حال لم أقع بغرام نخلة شاكر عند أول نظرة، ولكني عشقت أخاه الذي أتى بعد قليل، واسمه شكري، وهو لقصره واعوجاجه، وللكاسكت الذي يلبسه كأنه «جوكي» يتحدب على غير حصان، ولولا بعض الشتائم، لما عرفت أنه يتكلم العربية. وفغر فاه يتحدث لي ففهمت منه أنه خسر أمواله وأسنانه منذ سنين، وأنه سيصبح مليونارا بعد قليل. «طول بالك على شكري.» ثم انهال علي بنصائح أبوية خلاصتها أن كل الناس كلاب غشاشون. ولما أردت أن أستودعه لأذهب إلى «دانسالان»، وهي بلدة جبلية على ضفاف البحيرة - حيث ابتلع الزلزال قريتين - نصحني بقوله: «السفرة بعيدة، ساعتين بالأوتوموبيل، الناس كلاب قد يسرقون شنتاتك، انتظرني عند بائع البوظه هناك. في يدك كتاب، هيئتك تحب القراءة، كل المؤلفين كلاب، خذ بوظة، واقرأ ربع ساعة أعود إليك. عندي أعظم بوسطة ركاب ماركة «هوايت» أعظم ماركة في الدنيا. أركب أنا وأنت قرب الشوفير كالملوك، وندير قفانا إلى الركاب - الكلاب - بنصف ساعة نصل إلى «دانسالان»، انتظرني عند الكلب بائع البوظة، رايح شوف الكلاب.»
وكان الوقت صباحا، وقد استهوتني شخصية شكري، فدخلت إلى دكان البوظة، ولم يطل الأمر حتى أقلعت الباخرة متابعة سفرتها، وتفرقت السيارات، وخلا الشاطئ من الكلاب، وبقيت أنا وبائع البوظة وكتابي وشنتاتي.
وحوالي الساعة الرابعة من بعد الظهر سمعت هديرا وخشيشا وصفيرا، ودويا وحرتقة، وسط غيمة من غبار وبخار زيوت، فإذا شكري يبرز من الغيمة متبوئا شيئا سماه بوسطة، احتشد فيها نحو من ستين راكبا أكثرهم «موروز» - مسلمو الفلبين - فوق أكياس من الرز - لا أذكر عددها - ودعاني، من غير أن يعتذر عن تأخره، إلى الجلوس قربه في المقدمة إلى جانب الشوفير حيث احتشد ثلاثة سواي. لا أعلم إن كان ذلك الكميون «هوايت»، ولكن أكبر ظني أنه أول كميون أنتجه أول مصنع، وكان ذلك على سبيل التجربة.
على أننا لم نخرج من البلدة ونبدأ بالصعود حتى شعرت بزهو كثير؛ إذ بدأت وشكري بأغنية «هيهات يا بو الزلف»، وكان الركاب يردون علينا بأغانيهم الحربية.
ورحنا نصعد على طريق واسعة من «الباتون» بين أحراش كثيفة، وقد اعترض سبيلنا مرتين قطيع من القرود، يعبرون إلى الغابة غير مذعورين، وكنا نرى على جانب الطريق بعض القردة متعلقة بأذيالها تتأرجح، تتطلع بنا وتهذر.
واستمر سيرنا نحوا من ساعة، وإذ ب «أعظم بوسطة في الدنيا» تقف وتأبى المسير، وراح الشوفير يستثير تفكيره، فيحك قفاه ويبصق.
ووجدت أن شكري لم يصطحب آلات التصليح، فلم يعد لهذه الأزمة إلا الصراخ والشتائم، فكأنه أحد قادة الشعب عندنا يبحث في الأحلاف. وطال وقوفنا، وعلا الشجار بين شكري والركاب، وانتهينا إلى تدبير، فمشى الركاب إلى المزارع المجاورة، وبقي الشوفير في البوسطة يحرسها، ومضيت أنا وشكري إلى مزرعة قريبة يملكها أميركي اسمه «روجرز» فضفناه، وحصلنا منه على طلبية بثمانمائة ريال.
وفي الصباح أرسلنا في طلب سيارة، وودعت شكري، ومضيت إلى «دانسالان» البلدة الأخاذة على البحيرة.
تسألني: ماذا جرى لشكري؟ قبل الحرب تعين حارسا ليليا لإحدى البنايات في مدينة «سيبو»، في الصباح وجدوه ميتا على كرسي في بوابة البناية! تسألني كيف يذوب مهاجرونا «طول بالك على شكري».
وفي «دانسالان» تعرفت إلى فؤاد أخي نخلة وشكري، وهو غير الأخوين، وأصغرهما، فصيح الكلام، روى لي شيئا من شعره؛ قصيدة حفظتها في زمن الدراسة من نظم حافظ إبراهيم. وفؤاد لا يعمل شيئا، ولا يملك شيئا، ولكنه أكد لي أن نفوذه يسهل لي أعمالي التجارية، وهو قد اجتمع فيما مضى إلى مكآرثر الأب وإلى روزفلت «ثيودور» وإلى «الجنرال وود»، وكلهم كان حاكما للفلبين، وله صداقة حميمة معهم جميعا، وانتهى الأمر بأن اقترض مني خمسة ريالات.
وكثر ترددي على مقاطعة «لاناو»، فقد كانت بلاد خير فيها جوز الهند وقصب السكر والتبغ، وحوالي «دانسالان» بدءوا يزرعون أشجار القهوة، وهي تصلح لذلك بسبب علوها.
وكانت بحيرة «دانسالان» ومناخها البارد ملجأ لنا من حر الأسفار - والفلبين بلاد حارة - وكان أكثر ما يجذبنا إلى «دانسالان» نادي ضباط الدرك، وهو جنة عمران في ضيعة بدائية.
وطابت الحياة في ذلك النادي من لهو وأكل وشراب، وسبب وجود النادي هنالك أن قوة كبرى من الدرك كانت مرابطة على ضفاف البحيرة، وهي أبدا مستعدة لقتال «الموروز» - مسلمي الفلبين - وما أنا بثقة تاريخ، ولكن المؤلفين العلميين اللذين يعتمدان على تاريخ الدعوة الإسلامية في الفلبين ألفهما المرحوم الدكتور نجيب الصليبي الذي كان «الموروز» يحبونه ويحترمونه جدا.
غير أني عرفت أن في «الفلبين» نحوا من مليوني مسلم يقطنون جزيرة «المندناو»، وجزيرة «الهولو» في الجنوب. وهم ثلاث قبائل أو عناصر، فأما الذين يسكنون حوالي البحيرة، فهو أشدهم بأسا، وهم جماعة قتال لم يستطع الإسبانيون التغلب عليهم، ولحد ما عجز الأميركيون عن إخضاعهم، ولكنهم صادقوهم.
أعتقد أنهم اليوم ما عادوا بمتمردين، وصاروا - بعد أن تثقفوا - يتحسسون قوميتهم «الفلبينية». ولكنهم في العهد الذي أتكلم عنه كثرت ثوراتهم، فكان أحد رؤسائهم، ويسمى «الداتو» يعلن الحرب، ويتم ذلك بعد أن يعد للأمر عدته، فيبني حصنا يسمى «كوتا» في إحدى الغابات، أو على «رأس تلة»، ويحيط هذا الحصن بقنال يطوفه بالمياه، ويتزنر القنال، أو يقع فيه، ثم يجمع «الداتو» رجاله داخل الحصن، ويحفر أنفاقا للهرب إلى مختلف الجهات، ويرفع على الحصن راية حمراء، فإن لم يفهم الدرك أن «الداتو» أعلن الحرب على الحكومة أرسل لهم كتابا رسميا يعلمهم بذلك.
وقد أخبرني الضباط الأميركان أن عصف تلك الحصون هي من أخطر عمليات القتال، وأن لا مفر لاقتحام الحصن من استعمال المدافع.
و «الموروز» لا يفهمون من الإسلام شيئا، ويعلقون في منازلهم صورة محمد رشاد على أنه لا يزال خليفة المسلمين، وهم حين يريدون أن يقسموا يصيحون «لا إله» فقط، وفي كثير من الأحيان يصيب بعضهم شيء من الهوس، فيعكف يرتل آيات القرآن الكريم من غير أن يفهمها، ثم يحلق شعر رأسه وحاجبيه، ويأخذ سيفه مهاجما أيا لقيه فيقتله، واثقا من أنه بفعلته هذه يدخل الجنة.
وقد حاول بعض المشايخ في دمشق وغيرها - الذين قصدوا إلى الفلبين - أن يعلموهم الدين فلم يفلحوا، واتهموا المشايخ بالكفر، ونعتوهم بأنهم يهود.
وحدث في إحدى السنوات أن متعهد أسفار جاء بباخرة للحجاج من الفلبين، فأوصلهم إلى «سنغافورة»، وقال لهم هذه مكة المكرمة، ثم أرجعهم إلى الفلبين حجاجا.
أما القبيلة الثانية من مسلمي الفلبين، فهي تتمركز حول مدينة «كوتباتو». وفي بيروت اليوم تاجر مكتبه على البور هو عمر القيسي. إن سألت عن عمر القيسي فلا أحد يعرفه، أما إن سألت عن «أبو سمير» فهو معروف، هو ونسيبه عبد الرحمن الجارودي، وقريبه الثاني سعد الدين الجارودي، عاشوا واتجروا في «كوتباتو» سنين.
وكان بعض «الموروز» - وأخصهم المتقدمون بالسن - يتقدمون إليهم بعض الأحيان يطلبون منهم الأدعية والرقى.
وكان أكثر الثلاثة تبرما بهذه الطلبات عبد الرحمن الجارودي، ومرة جاءته امرأة تقبل يديه وتطلب إليه أن يعطيها رقية ترجع إليها زوجها الذي غاب عنها منذ سنوات. وكان عبد الرحمن الجارودي يصرف المرأة وينتهرها فتعود إليه تتضرع. وأخيرا، وجد أن أحسن وسيلة للتخلص منها أن يكتب لها ما تريد، فتناول قلما وورقة، وكتب بالعربية:
هذه فلانة زوجة فلان، غاب عنها زوجها منذ سنوات، إن رجع كان به، وإلا فللقرد ...
أو ألفاظا بهذا المعنى وأفصح. وفي اليوم التالي عادت المرأة باكية تخبر عبد الرحمن أن زوجها عاد، فكيف تقدر أن تكافئ حضرة الإمام؟
وفي «كوتباتو» كذلك عاش رجل من دير قوبل اسمه نعيم أبو علي، اشتغل بتجارة صيد التماسيح من نهر كوتباتو الكبير حيث تكثر التماسيح، و«الموروز» يصطادون التماسيح بأن يقاتلوها في النهر وفي يد الصياد مدية حادة فيحتال القانص على التمساح حتى يغطس إلى تحته، ويتناول بطن التمساح - وبطنه هو القسم الوحيد من جسده الذي ينفذ فيه السكين - فيطعنه بالمدية، أو قد ينصبون على ضفاف النهر فخا من قصب يربطون فيه معزاة، فإذا جاء التمساح ليأكلها تخبط وعلق، فيداهمه الصيادون بحرابهم ويقتلونه.
إن كنت يا قارئي متبرما بعملك فاذكر أنه أفضل من طلب الرزق بصيد التماسيح.
نعيم أبو علي قتله اليابانيون، وكان قد باع تجارته إلى ابن عمتي عارف تقي الدين، وهذا مات منذ سنين. بالأمس تسلمت أمه عوضا عن ابنها رصيد غربته النهائية: أربعة آلاف ليرة.
حين تقف على المرفأ - أو على المطار - تنظر إلى فتياننا المهاجرين، اذكر كل هذا.
وفي كوتباتو عاش وتاجر عم لي؛ فؤاد تقي الدين، هو الآخر دفن هناك قرب أخيه الدكتور نجيب. وفي جزيرة «المندناو» حيث الزلزال، مدينة «داقاو» عشت فيها سنوات هناك، ولدت ابنتي ديانا، وفي تلك المدينة عائلة أبو رجيلي أصابوا ثروة، كبيرهم سليم هنا في زحلة، وأخواه رشيد ويوسف، لا يزالان هناك، يوسف شخصية فكهة فريدة، هو أحد قلائل المهاجرين الذين يعترفون أنهم ما كانوا في «البلاد» من الوجهاء. يوسف يحدثك بفخر أنه جاء من قرية «كفر زبد» من البقاع، وكان فيها أكارا، وهو حين يذكر البلاد لا يتشوق إلا إلى حماره، وفي تلك المدينة بعض أولاد المرحوم رشيد عواد. في الأسبوع الماضي زارني من الفلبين عضو مجلس الشيوخ وزوجته، اسمه «فلسبرتو قيرانو». مررنا بمقهى شتورا الكبير الذي يملكه ورثة المرحوم رشيد عواد، وتحدث السناتور إلى الفتى ابن رشيد عواد بإحدى اللهجات الفلبينية بطلاقة.
وكان فيما مضى حنا عواد كبير العائلة قد سكن «داقاو»، وهو الذي استورد العمال اليابانيين إليها، وكان ذا وجاهة وشأن، كبير الجسم، ضخم الشاربين، يشبه شبلي الملاط في شبابه. وقد أسس في المدينة شركة الكهرباء فيها، ولكن وجاهته وبرمكيته أنهكتا ماليته فأفلس. وقد أخبرنا الفتى عواد في شتورة أنهم اليوم حين يحضرون حفلات قتال الديكة في «داقاو»، ويخسر أحدهم الرهان يصيح «عواد»؛ أي إنه أفلس. وحفلات قتال الديوك تقام في الأعياد والآحاد، وبالطبع أنت تعرف كيف تتقاتل الديوك، وكيف يربطون في رجلي الديك شفرتين حادتين يضرب بهما خصمه، فالقتيل والمراهن عليه خاسران، ولكن المدهش في هذه اللعبة هو الشخص الذي يسمونه في الفلبين «هيسوس»؛ أي يسوع، يجلس هذا الرجل في زاوية الملعب في مكان مرتفع يراه الحضور ويراهم، وقبل كل معركة يبدأ الرهان، فيصيح كل مراهن في الملعب - وهم مئات - بالمبلغ الذي يراهن عليه، ويسمي الديك، فيسجل «هيسوس» كل هذا في دماغه من غير ورقة، وحين تنتهي المعركة يخبر كل مراهن المبلغ الذي ربحه بعد أن يحسب في عقله النسبة حسب معدل الرهان على الديك الرابح، يفعل كل هذا بسرعة ودقة، ومن غير ورقة ولا قلم، ولا يذكر أحد في الفلبين أن نشأ خلاف، أو ثارت شبهة أو وقع خطأ بسبب تقسيم الأرباح. و«هيسوس» هذا لا يمس النقد لا قبضا ولا دفعا.
ولقد فاتني أن أحدثك - على ذكر قتال الديوك - أنني في سنة 1931 كنت أول من استورد إلى الفلبين السينما الناطقة النقالة. وكنا نطوف بها في الضياع من بلد إلى بلد نعرض الأفلام في باحات المدارس، أو في ملاعب قتال الديوك. ولما وصلنا إلى «دانسالان» بدأنا العرض في الفلاة في ملعب الديوك على جمهور «الموروز»، وكانت الصورة فيلم رعاة البقر حيث يكثر العراك وإطلاق الرصاص والقتال الفروسي على ظهور الخيول. ولقد أصاب الموروز - وهم رجال قتال - هوس، فكنا كلما انتهى عرض الصورة أرغمونا على إعادتها صائحين: «دوغما! دوغما!» أي «حرب! حرب!» ولم نستطع أن نتوقف حتى طلع الصباح، واستحالت رؤية الفيلم على الشاشة.
وفي «داقاو» تلفن لي يوما المرحوم رشيد عواد يسألني: «هل تعرف عبد الرحيم قليلات؟» قلت: «نعم، هو مدير البوليس في بيروت، هذه كانت وظيفته سنة 1925حين هاجرت.» فهمس رشيد في التليفون: «ترى هل له علاقة بمقتل أسعد خورشيد؟ إنه هنا، وقد ارتبت به واليابانيون يشكون به.» فهرعت إلى عبد الرحيم، وكان في خسفة نفسية محزنة، وهو في طريقه إلى اليابان من إندونيسيا مسافر على باخرة يابانية، يصطحب نحوا من خمسماية كتاب، وكان اليابانيون - وهم يرتابون بجداتهم - قد شغل بالهم هذا المسافر يحمل كتبا كذا عدها. وكانت جرائد بيروت التي تأتينا تحفل بأنباء مقتل أسعد خورشيد؛ فربط صديقنا رشيد عواد كل هذا بمديرية البوليس واستفهمني.
وسافر عبد الرحيم قليلات إلى اليابان بعد أن قضى بيننا يومين في ذكريات بيروت ومجالسها.
لماذا نسيت أن أخبرك أن الموروز يلفون رءوسهم بحطاطات ملونة، إلا أن وجهاءهم وأغنياءهم يعتمرون الطربوش الصغير، وشرابته مرتكزة إلى الأمام فوق المرآة مدورة صغيرة.
وفي جزيرة «المندناو» رجل من الشويفات اسمه وديع صعب. كان له أخ اسمه فائز من أذكى من عرفت، مات فقيرا. وديع بعد أن تقلب في الأعمال التجارية انعزل في الجبال مع قطيع من البقر وقطعة أرض زرعها «أناناس»، وأطلق لحيته، ونسي اللغة العربية، ونسي الذين يتكلمونها، رأيته لآخر مرة سنة 1934.
ومن المدن التي تعربست في أخبار وكالات الأنباء عن زلزال الفلبين قرية اسمها «كولمبوغن»، عرفت هذه القرية، وكانت مرفأ ومدينة عمال، فيها منشرة للخشب تملكها الشركة البريطانية العالمية «فتلي ملر»، أعتقد أن عدد العمال الذين يشتغلون في المنشرة في الأحراش ألف عامل، وكانت السوق فيها عبارة عن ثلاثة حوانيت أحدها لجرجي التبشراني من الشويفات ابنه فؤاد هو اليوم في بيروت، كنت أتردد على هذه القرية «دوارا»، وكان زبائني ثلاثة فقط، وكان علي أن أقضي نحوا من يومين؛ لذلك كانت تطول ساعات الفراغ، وبالطبع كنت أقتل الوقت عند المرحوم جرجي وابنه فؤاد، وأذكر أن ليلة طال أرقها بسبب شدة الحر، وطال تقلبنا على الأسرة، وطالت أحاديثنا حتى سمعت من قصص أبي فؤاد أنه كان في البرازيل.
سألته عن توفيق قربان هناك، وقد كنت منذ أيام الدراسة معجبا بأبحاثه وكتاباته، وكانت سيرته المدرسية العلمية أسطورة، فقعد العم جرجي في سريره، وراح يقهقه، قلت: «ما الخبر؟» قال: «بتزعل؟» قلت: «لا.» قال: «توفيق قربان فتى مثقف، فيلسوف، كتلة نار، فصيح، كثير الحركة، مفقوع، طفران ؛ يعني نسخة طبق الأصل عنك!»
تترسخ في أذهاننا صور عما لا نرى هي ظل لما نرى؛ فحين نقول جزيرة نحسب أنها «أرواد»، أو منشرة تخيلنا مناشر الخشب في بور «بيروت»، ولكن جزيرة «المندناو» هي أكبر من فرنسا، سكانها أربع ملايين، وهي تتسع لخمسين مليونا. أما الأشجار فقد كنت أرى في «كولمبوغن» حين سافرت على قطار الحديد جذوعا قطرها يتراوح في ما بين المتر والثلاثة أمتار.
مدينة «هيمانس» محتها الزلزلة. ترى ما حل بأحد تجارها وعائلته؛ رجل صغير أعرج اسمه «نوينس»! كانت أولى سفراتي إلى تلك المدينة لا أذكر في أية سنة، ولكني أؤرخها في العام الذي أدخلوا فيه على السيارات «الفرام الهيدروليكي»؛ لأني أذكر أني كنت أسوق سيارة، وحاولت إيقافها، وراحت قدمي تشد على «الفرام»، ولكن السيارة استمرت مسرعة نزولا فهلعت، وفتحت الباب أبغي القفز، فلما نزعت قدمي عن «الفرام» الهيدروليكي وقفت السيارة. وفي أول مرة جئت «هيمانس» نزلت ضيفا - ضيفا يدفع أجرة النوم وثمن الأكل - عند «نوينس»، وهو صاحب دكان بعقد فاتورة، وجلست في حانوته حتى أقفله في المساء بعد أن نظف جاروره من النقود: غلة البيع في ذلك النهار.
وبعد العشاء طوف الحديث إلى مختلف الشئون الهامة حتى وقف عند لعبة البوكر فشكا مضيفي من أننا اثنان فقط، والبوكر يلعبونها في الفلبين ستة لاعبين وأكثر. واقترح لعبة «البلاك جاك»، وهي لعبة ال 21، قلت إني أجهلها، ولكنك إن علمتني إياها فإني ألاعبك، فشرحها خلال دقائق، وأقبلنا نلعب وزوجته تراقبنا، وجاءني حظ غريب؛ فكانت الورقة التي أسحب عليها تأتيني، حتى طارت غلة النهار من بين يدي «نوينس»، وفتح صندوقه، ولم يطل الوقت حتى انتقلت محتوياته إلى التحصينات الأمامية التي تمترست خلفها، وثارت بين الزوج والزوجة عاصفة كلامية بلغة لا أفهمها، واحتقنت الدماء في وجهيهما، ثم استأذن الزوج وانصرف؛ ليقترض مالا من جار له، وعاد يواكبه ثلاثة لا يصلحون أن يكونوا أعضاء في جمعية العناية بالطفل، وجرى ما تتوقع؛ إذ وجهت القدر أن يفقدني أرباحي، وقليلا من رأسمالي، وانتهت السهرة على سلام. وقد صادقت «نوينس» بعد هذا، وأصبحت عرابا لأحد أطفاله؛ فاعترف لي أنه توهم أني تظاهرت بجهل تلك اللعبة حتى أنهبه أمواله بمهارة المحترف، وأن الثلاثة جاءوا كي يتفاهموا معي على إسكاني بئرا في ضواحي البلدة. في الصباح حملت شنتاتي على جاموس، والجاموس أكبر من ثور البقر، وأقوى وأطوع قيادة، يستعمل للحراثة والركوب، وتحميله الأثقال، ولكنه بطيء. وجاءوا إلي بحصان أصغر من حمار، فما إن علوته حتى وقع إلى الأرض معلنا إضرابا شاملا، حينئذ ركبت الجاموس، بين الشنتات، وانطلقنا إلى دسكرة لقنص الريالات.
هل هدمت الزلزلة «ميسامس»، أو «أوسامس»؟ لقد دفنا في الفلبين أكثر مهاجرينا، وآخرون كثر اختفوا أو تطايروا: بشارة جريديني، وعبدالله الحداد (أخوه وليم في البنك السوري) أصابتهما قنبلة مزقتهما شظايا، نقولا القدسي قتل في فراشه واختفت جثته، إيليا أخرس اغتالوه والحرب لم تنته، أربعة مشوا في جنازته؛ ديب عواد اختطفه اليابانيون وأهلكوه، وديع غبريل قتلوه، ومعروف شهاب الدين آخر من رآه قال إنه كان مربوطا إلى عمود، صموئيل عوض تحققوا أن العظام عظامه بعد أن كشف طبيب الأسنان على فكيه، وتعرف إلى جسر البلاتين الذي بناه هناك، موسى كيروز سحقته في الميدان قنبلة من طائرة، ميشال كنعان غرق مع بابور مسه لغم بحري. إنها قائمة طويلة فاجعة.
هل الفاجعة في «ميسامس»؟ إن نصري جريديني يجب أن يعود حيا، فنحن على موعد لليلة راقصة، ما كان نصري من أصدقائي، ولا عشرائي. خلال الثلاثة وعشرين سنة التي قضيناها معا في الفلبين كانت علاقتنا سطحية إلى درجة أني لم أقترض منه مالا ولا هو اقترض مني، ولكن في سلامته وعودته شيئا جميلا.
إن الظفر جميل، نصري كان في الشويفات سنة 1918حين خرج، وبعض الأهالي، وقاتلوا شرذمة من فلول الجيش التركي، كانت حصة نصري من الغنائم جملا، نصري شقي كثيرا، عرفته ودكانه محشوة بما يمتلئ به دولاب السيارة. سمعته إذ ذاك يتبجح ويتحدى أكبر شركة مواصلات أميركية، ويعد مديرها بأنه سيخرجه، بالمنافسة التجارية، من جزيرة «بوهول». رأيته ينمو إلى حيث احتكر المواصلات في جزيرة «بوهول »، وشمالي «المندناو» يسير فيهما مئتي بوسطة.
لقد رأيت الخراب، إن كان نصري جريديني قد نجا من الكارثة؛ ففي نجاته من النصر ما يمحو الكثير من البشاعة.
هل الزلزال شق هذه القشرة الصلبة من الذكريات؟ أحقا أن قلقي على نصري جريديني أملى علي هذه الذكريات؟ أم أني اليوم وحيطان الدنيا تنهدم علي، وسقفها يتواقع حول أذني، أستنجد بهذا الذي تهدمت الدنيا من حوله، فأرى نصره ظلا لنصري في غد؟ سامي بك يعود في الأسبوع القادم، قتيل وثلاثة جرحى في جونية، مظاهرة شيوعية في بيروت، صورة حفلة كوكتيل، انفجارات في نيقوسيا، اقلب الصفحة، اقلب الجريدة، اقلب الدنيا.
يا شهيد المالكية
النقيب محمد زغيب، أحد الذين استشهدوا من أجل فلسطين قبل دخول الجيوش العربية، أقيمت لهذا البطل حفلة تكريم ألقيت فيها هذا الخطاب:
منكسة بيارقنا جئنا نحييك لا نرثيك.
يا شهيد المالكية، علم اليهود فوق المالكية، والأمة التي استردت من عروقك وديعة الدم، ما زالت جبهات قتالها في أرضها لا على تخومها، ونخوة الحياة - وهي الأصيلة في نفسها - ما زالت كما كانت برسم الهدر لا وقفا على يوم النصر. والمقاتلون المصارعون من مواطنيك يفتقدون ولا يجدون، كما افتقدت أنت ولم تجد رديفا من غير المقاتلين يشد ويعطي ويهتف ويكدح، ويعد القذيفة يلتقمها المدفع بدلا من القذيفة أطلقها المدفع.
أكثرنا يا محمد زغيب لا يعرفك ولا يذكرك ولا يمجدك، ولا يجد في حكايتك إلا حكاية.
أكثرنا يدخل وزارة الدفاع فلا يرى إلى يمينه الرخامة البيضاء مشرقة بالأسود من أسماء رفقائك في السلاح وفي الشهادة، ولئن رآها فليس في قلبه رعشة، ولا هي تقنص من فكره وعاطفته إلا بأقل مما كانت تظفر به لوحة لشلال، أو صورة لحسناء عارية.
لعل الذي اختار للرخامة البياض لونا ذكر أن الرومان كانوا يرمزون للأيام السعيدة من أيام السنة بحجر أبيض.
الموت فجيعة، ولكن في الشهادة سعادة.
وحجارتنا البيضاء هي قليلة في مبانينا؛ لذلك صغرت قلاعنا، وضخمت وكثرت مقاهينا.
لقد كومت أجيال الضعف الأوساخ على حجارتنا، فجهل أكثرنا أن المقلع عاجي ناصع البياض، وما فطن أكثرنا إلى أن علينا نحن أن نجلو بأيدينا حجارتنا، ولو حفيت أكفنا حتى العظام، أو تكسرت العظام.
أتخيلك يا شهيد المالكية، وقد ثقبت فوهة في سطح بيت، وركزت عليه رشاشك تطلق منه الرصاص على العدو المهاجم المغتصب، أتخيلك والدم يسيل من جراحك والعدو يتكاثر ويدنو، ورفقاء لك يناولونك العتاد، ثم ينصحونك - بعد أن رأوا دمك يسيل - أن تكف عن إطلاق النار، وأن تنسحب.
في المعركة التي خضتها لم تعد الأعداء، ولا عادلت بين قواك وقواهم، وما همك كيف تنتهي المعركة، الواجب فرض القتال حتى النهاية، وقد نفذت الواجب.
البطولة ليست معادلة حسابية، ومعارك الحرية لا يكسبها إلا من تزين بشيء من الجنون.
ما كنت وحدك في المالكية، ولا في جيش الإنقاذ. رفقاء لك جاءوا يجاهدون من بغداد، ودمشق، وحوران، وسائر أنحاء بلادنا، أكثرهم لا نعرفهم ولا نذكرهم، وهم ما وجدوا حتى اليوم من يكرمهم، أو يسأل كيف حالهم وما حل بعيالهم.
وأنت لم يغمر اسمك، وما أهمل أمرك؛ لأنك أحد أفراد الجيش الذي يعرف كيف يكافئ ويقدر.
فباسم الذين يريدون الدفاع عن هذه الأمة بجيش الحق والنظام والواجب والحرية.
وباسم الذين يرون في أمثالك شرارات من نيران كامنة يريدون أن يثقبوا عنها السطح لتنفجر في وجوه أعداء هذه الأمة.
باسم الذين يدخلون المعارك، ولا يعدون أعداءهم، ولا يأبهون كيف تنتهي المعركة، بل يصمدون لا تؤلمهم الجراح.
باسم الذين يقدرون البطولة بأن يمارسوها.
جئنا نحييك لا نرثيك.
طوربي
انتصب على ظهر البابور عابسا كأنه تمثال النقمة، وجمد لحظة ليتحرك من جديد، ثم قبض بيديه على قضبان الحديد التي سورت الباخرة، وشد عليها كأنه يريد أن يلويها.
كل ما في الدنيا معكوس. إنه في المكان المغلوط، وفي البلاد المغلوطة، وفي مهنة يمقتها، ولم تروضه الحياة لها. ها هو في باخرة، ولكنها في حقيقة الأمر قارب كبير. إنها تمخر نهرا، وما هو بنهر، بل هو بحر. إنه رجل أبيض يتكلم العربية، وكل من حوله زنوج، أو شبه زنوج، يثرثرون مصرعزين كزمرة من نور. في جيبه تحارير من بلاده، وعلى سريره صحف بيروت كلها تذكره بدنيا سلخ عنها إلى الأبد، فردوسه المفقود. وهؤلاء المسافرون ما الذي يضحكهم؟ ما هذا المرح الذي يسيطر عليهم؟ إنهم - برغم عريهم ومظاهر الفقر - في ضجة الفرح، أو سكوته؛ في الليالي يرقصون ويغنون، ويلعبون القيثار، وينامون لا هم، لا شكوى، لا عبوس، لا مشاكسات. إنهم والقدر في صلح دائم، وهذه المواشي والخنازير في بطن الباخرة تخور وتموء وتصوت، وتنشر الروائح، إنها لا تزعجهم. يتقوقعون على أكياس جوز الهند، وصناديق السمك المقدد، وسلال البيض. كيف له أن ينفلت من هذا القفص العائم الذي يحبسه مع هؤلاء البهائم؟ وهذا المسدس على جنبه لماذا يحمله؟
هي ذي التماسيح تتشمس على الشاطئ، وتثب لتقنص عنزة أو خنزيرا، ثم ترجع إلى النهر فتغوص. هذه الجزر الصغيرة من الرمال في وسط النهر تجثم عليها الطيور، أو تحوم مئات ألوفا، بيضاء عالية الأرجل، صفراء المناقير تلعاء الأعناق.
ما شأنك في جهنم هذه الدنيا يا يوسف رستم؟ كيف وصلت إليها؟ وما تبغي منها؟ إلى أين؟
وتقدم منه خادم الباخرة فهرهر كلمات بلهجة سؤال، وبحركة عفوية رفع يوسف حاجبيه، وهذه في بلاده معناها «لا»، أما في هذه الدنيا المعكوسة فمعناها «نعم». وهرول الخادم فحمل حقائب ثلاثا كانت مكومة قرب سرير المسافر، ولكن يوسف لم ير ذلك، كل ما رآه من غير مرآة هذه الدنيا التي قذف إليها، وهو مسمر فيها أسيرا خائبا.
وصفرت الباخرة، واستدارت في النهر فروعت طيورا كانت جاثمة على جزيرة قريبة، فنهضت أسرابا من غيوم بيضاء، ولسبب لا يدريه تناول يوسف مسدسه، وأطلق نحو السرب خمس طلقات، ولم تنطلق السادسة؛ فخلع الفرد غاضبا، وانتزع الخرطوشات. كل ما في حياته مغالط، ولم يرفه عنه ضحك المسافرين من الرصاصات الطائشات، وهم لم يروا طيرا يقع. وكأن الطيور أرادت أن تساهم بالسخرية، فحومت فوق الباخرة صارخة زاعقة مقعقعة، وحين أتمت الباخرة دورتها أطلت بلدة «بطوان»، وعادت الباخرة تصفر بقوة من جديد، وترامت السلاسل فإذا بمراسي الباخرة الأربع تثير الوحول من قاع النهر، وتدلى قاربان من الباخرة أنزلوا فيهما المسافرين وحوائجهم، وفيهما حقائب يوسف رستم، وانطلقا في النهر يبتعدان عن الباخرة ببطء نحو الضفة - نحو بلدة «بطوان» - حيث تجمهر جمع من السكان.
أما يوسف رستم فثاب من نقمته، وهرع إذ رأى حقائبه لم تعد قرب سريره، فلقد كانت في هذه الحقائب كل شباك الصيد: من جواهر زجاجية، وأقلام حبر ملونة لا تكتب، وأقراط زجاجية نقش عليها أنها ألماس، وساعات هي والوقت على غير موعد، وخواتم وأساور خدعت الناظرين إذ تلفلفت بإشاعة كاذبة صفراء.
بهذه الحقائب كان يوسف رستم يضرب في الدنيا المعكوسة وتضرب فيه؛ ليقنص الثروة التي كان يحلم بها.
إنه خشي أن تسرق حقائبه، ولم يكن له من سبيل ليلحق بالقاربين، غير أنه أبصر صبيا في نحو العاشرة يركب زورقا، لعله أول زورق بناه الإنسان ليقهر الخضم؛ فقد كان خشبة سميكة مجوفة فقط لا غير، ولكن الغلام تبوأ طرفه واثقا من نفسه، وراح يجذف بكفيه من غير مجذاف. فلما بلغ الباخرة تطلع نحو الرجل الأبيض، وصاح: «تركو! تركو! أونا بياهي سنكو سنتافوز» (السفرة بخمس نحاسات). وراح يضحك بوجه الرجل الأبيض ويدعوه إلى ركوب الزورق متملقا متحديا مهدئا من مخاوفه، مؤكدا له أنه بحار ماهر، ويعود ليغني: «تركو، تركو، سنكو سنتافوز، براتو، براتو.» أي «ما أرخص السفرة! الشاطئ بخمس نحاسات.»
ونهضت النقمة في صدر يوسف من جديد، وتطلع فإذا بالزورقين - وفيهما كل ثروته وآماله - يكادان يبلغان الشاطئ؛ فلم يشعر إلا وهو في قارب الغلام البحار والقارب يتراقص على مياه النهر، ودار الغلام معاكسا التيار، وراح يجذف بيديه صعدا، حتى إذا هو ابتعد عن الباخرة نحوا من خمسين مترا انقطع عن التجذيف، فحمل التيار القارب بسرعة هائلة نحو الزورقين فارتطم بأحدهما، فإذا بالمسافر الغريب يوسف رستم يتخبط في مياه النهر الموحلة، ولكنه كان سباحا ماهرا؛ فبلغ الضفة ببضع ضربات ليستقبله الناس بالقهقهات، واجتمع حوله الأولاد يضجون ويضحكون ويهزءون.
أما يوسف فغضب ، وأمسك بأحد الأولاد وشد على ذراعه، فصاح الولد متألما: «خنزير.» كلمة عربية لفظها الولد شتيمة مشددا على حرف الخاء، وكشح يوسف الماء الموحل عن عينيه، وتطلع بهذا الولد الأبيض، الأزرق العينين، بين ذلك القطيع من الأولاد السود، وسأله بالعربية: «من أنت؟» ولكن الولد انهزم مبتعدا، وصاح من جديد: «خنزير.» وانفلتت من بين الجمع امرأة تجعد وجهها على الصبي، فهي عجوز شابة، ذات بشرة بيضاء وعينين زرقاوين، وخاطبت يوسف بعربية فيها غنة كسروانية من لبنان معتذرة: «إن هذا الشيطان هو ابني حنا!»
فأجاب يوسف: «إني قد بت من الشوق إلى لغتنا حتى لتطربني لفظة خنزير!»
ودعت المرأة مواطنها إلى بيتها، فقبل الدعوة من غير تردد، وسارا معا يتقدمهما من حمل الشنتات.
أما البيت، فكان غرفا ثلاث من قصب، حيطانه من الحصير، وسقفه من أعشاب كثيفة مستطيلة. هو «فيلا» طابقها الأسفل زريبة لبضعة خنازير، ودجاجات يحميها كلب اختفت شجرة عائلته في غابة لم تكتشف بعد.
وأعدت المرأة ماء حارا، وضعته في إناء كبير في المطبخ، ودعت الضيف أن يستحم ويبدل ثيابه، ثم أعدت له عشاء من أرز مسلوق، وبعض السمك المجفف يسبح في سائل شيوعي اللون ديناميتي الطعم.
وجلس يوسف يحادث «أم حنا»، فعلم منها أن زوجها مات منذ سنوات، وأنه كان سكيرا، وأنها كانت معه على خصام مستمر، وكانت أبدا تدعوه «خنزير»، وهذه هي اللفظة العربية الوحيدة التي يعرفها ابنها لكثرة ما سمعها تنادي بها أباه. وعلم منها أنها شديدة الفقر تتجر بالخنازير وبالسمك المقدد، وأن زوجها اقتلعها من قريتها وأهلها، حين رجع من مغتربه، وكانت هي في السادسة عشرة من عمرها لا تعرف ما الزواج، وما الحب؛ فأوهم المغترب أهلها أنه رجل ثري، فلم تشعر إلا وهي زوجته ترافقه إلى المغترب. أما حياة زوجها فكانت عبارة عن سكرة مستمرة بعصير يستلونه من أوراق شجر جوز الهند الطرية، وكان يقضي نهاره مقرفصا مع تنابل أمثاله يلاعبون الديكة، ويراهنون عليها. وذات يوم راح للنهر ثملا ليملأ سطلا، فلما غمس السطل بالنهر شده التيار، وبقي الزوج متعلقا بالسطل إلى أن اختفى في مياه النهر. واعترفت الزوجة أن مصرع «أبي حنا» على كسله وسكره قد تركها في وحشة وكآبة وحزن عميق.
أما يوسف فأفرغ بين يديها كل نقمته على الدنيا، وبغضائه لها، وأخبرها كيف رماه القدر في هذه البلاد النائية، وكيف هو يتجر بالحلي المزيفة، وكيف أنه يبغض كل شيء وكل شخص، وكيف أن غايته أن يثري، وأفاض بنقمته على البلاد التي هو فيها. تلك البلاد التي تمطرها الطبيعة ثروات تتدلى من أشجار جوز الهند، وتنبت أرضها من غير عناء، سخاء من قصب السكر والقنب والبن والتبغ. وأكد يوسف أنه مستعجل في الحصول على الثروة، وأنه سيظفر بها، وأن الدنيا التي هو فيها لا يسكنها إلا اللصوص يتخاطفون الثروة من الطبيعة السخية، ثم هم يتخاطفون ما اختطفوا. وحين شاخت السهرة تطلع بالمرأة من جديد، فنعم صوته وارتجف، ولمعت عيناه، وبدأ حديثه يجنح نحو الرمزية والوجودية؛ فأجفلت «أم حنا»، وأشارت من جديد إلى البيت في الحي المجاور حيث يرحبون بالغريب ضيفا يدفع أجرة البيت، ولكنها أصرت عليه أن يجعل من بيتها مقرا له يتجر فيه، ويشاطرها فيه طعامه، وانصرف الضيف بشيء من الخجل، وبكثير من التوق والحسرة.
أما هي، فقد تمددت على فراشها أرقة يشرئب الصبا في صدرها ويمور، وذكرت زوجها فضحكت من نفسها، وأخرست هواجسها: «وهذا رجل آخر إنه رجل ... إنه خنزير.»
واستمرت إقامة يوسف في البلدة، وتطوافه في المزارع المجاورة نحوا من شهرين، فكان يغيب ثم يعود إلى «بطوان»، وألف الناس مرآه ومعاملته، وكانت النساء يقبلن على البيت فيتفرجن ويشترين، وكانت «أم حنا» تساعد الضيف التاجر في تصريف المجوهرات؛ إذ إنه لم يكن يتقن لغة البلاد.
أما الغلام «حنا»، فقد استهوته ساعة صفراء دقاقة، وكان كثيرا ما يحاول أن يختطفها من الشنتة، ولكن أمه كانت تردعه بعنف، فيما كان يوسف يطيب خاطره ويعده بساعة أكبر وأجمل يرسلها إليه من «مانيلا» عاصمة البلاد حين يرجع إليها.
وأخيرا كادت الحقائب أن تفرغ، ورجعت الباخرة من سفرتها، فاستعد يوسف للرحيل ، وشكر مضيفته، وعرض أن يدفع لها ثمن ما أكل وعمولة على ما باع، فرفضت المرأة وشكرته، وأكدت له أن إقامته لونت حياتها بزهو، وأنها لم تتكلم العربية ولا لقيت مواطنا من بلادها منذ أن مات زوجها، فكان مجيئه المفاجئ نفحة من بلادها أرجعها إلى قطعة من فردوسها المفقود. وكاد يوسف أن يترك البيت، ولكنه تذكر فجأة أمرا، فقال لأم حنا إنه بحاجة إلى شيء من المال لصفقة يعقدها في بلدة قريبة، وإن تلك البلدة مثل «بطوان» ليس فيها مصرف يقدر أن يستبدل فيه شيكا بنقود، فإن كان لدى أم حنا نقود فهو يعطيها شيكا بالمبلغ، فأجابت المرأة: «حبا وكرامة.»
ولكن كل المال الذي جمعته بلغ 264 ريالا، نقدته إياها فأعطاها شيكا بالقيمة، وافترقا.
وكرت الشهور، وكرت الأعوام، وحياة «أم حنا» خنازير تحبل وتلد وتباع، وسمك مقدد يأتي في باخرة بالصناديق، ويباع بالكيلو والغرامات، وفي قعر صندوقها يتجمع المال ريالا بعد ريال، وذهبية بعد ذهبية، وشيكا بمئتين وأربعة وستين ريالا موقعا من يوسف رستم، ومعادا من البنك في مانيلا ومطبوعا عليه: «أن ليس في المصرف مئونة لتغطية الشيك، وأن صاحب الشيك السيد يوسف رستم أقفل حسابه في اليوم الذي فتحه.»
أما المرأة فقد غلبت عليها - بسبب الشك المرفوض - الحسرة لا النقمة، واخترعت لضيفها ومواطنها الأعذار، وبقي ضيفها طيفا مر بها في لمحة من العمر مستحبة، وهي بعد أن أوغلت في العمر كثرت صلواتها، وكثر تردادها على الكنيسة، وعمق تعبدها، وكانت في كل يوم تضرع لله أن يوفق يوسف رستم، ويدر عليه الثروة، وأصبح كل همها في الحياة وحيدها؛ أن ينشأ مثقفا مهذبا ليصيب نجاحا في الحياة. وأقبلت على تربيته بحمية الأم تريد أن تسجل بابنها النجاح الذي خابت بتحقيقه لأبيه. وما خيب الابن آمالها، فكان مبرزا في دروسه محبوبا محترما، عثليت الجسد. وتمكنت أمه بجهدها واجتهادها أن توفر له الثقافة من المدرسة الابتدائية إلى الثانوية حتى دخل الجامعة في مانيلا، وأنهى سنتين في الحقوق، وإذ هو في الفصل الثاني من السنة الثالثة فاجأ حنا أمه برسالة يقول لها فيها إنه أحب فتاة جامعية، وإنهما سيتزوجان بعد شهر، ورجا أمه أن تأتي لمانيلا فتحضر عرسهما، وألح بالدعوة.
أما الأم فشعرت بما تشعر به كل أم من فرح بزواج ابنها، وأنانية؛ يحزنها أنه سيصبح وليا لامرأة سواها، ولكنها عزمت على أن تلبي الدعوة، فباعت الخنازير والسمك المقدد، واحتملت كنزها مما وفرته من مال، وسافرت إلى «مانيلا».
وهنالك لقيت ابنها وخطيبته، وعلمت بشيء من الذل أن الفتاة فقيرة مثلها، وأن ابنها في شيء من الحيرة، فهو لا يقدر أن يبتاع لخطيبته خاتم الزواج ولا أثواب العرس.
غير أنها في الصباح التالي عدت ثروتها من جديد، فلم تجد نفسها معدمة؛ إذ بلغ مجموع نقودها ما يناهز أربعماية ريال، وهذا مبلغ محترم، بل هو ثروة؛ فلبست الأم أجمل أثوابها، وزينت نفسها، ونزلت إلى سوق الصاغة، وقصدت إلى المحل الأكبر والأفخم؛ فدخلته وجالت بعينيها فوقع بصرها على خاتم زواج من البلاتين، أبيض صيغ بشكل قلب، وفيه ألماسة بيضاء مزرقة مضلعة ما اشتهر أنه «قطع باريس»، وخط على العلبة المخملية الخضراء أن الثمن 600 ريال، فلما وقعت عيناها على الرقم - 600 - وثب قلبها إلى فمها وغصت. وسألت البائع أن يهديها إلى صاحب المحل، فأجابها وقد تحقق من شكلها أنها ريفية: «هنا السعر محدود لا مساومة.» وتحرك صاحب المحل من خلف الطاولة كهل بدين مترهل مغبر الشعر، فواقفت عيناه عينيها، وماج في نفسها شيء دهشت له فحدقت بصاحب المحل والتفتت إلى الاسم المنقوش على الطاولة، فإذا هو: «خوسه أنطونيو روستمبرج».
فتقدمت إليه مرتعشة الصوت محمرة الوجه، وقالت له بالعربية: «أتذكرني؟» فتطلع بها وابتسم، وخاطب أحد مستخدميه: «ماذا تقول هذه المرأة؟ بأي لغة هي تتكلم؟» ولكن الأم لم تجزع، بل فتحت منديلها، وانتزعت ريالاتها، وخاطبته بالإسبانيولية: «أريد أن أشتري هذا الخاتم، هذه 336 ريالا، وهذا الشيك ب 264 ريالا»، فاستوى يوسف في كرسيه، وابتسم كأنه تمثال من ظفر في الحياة وزهو، وتطلع في المرأة، واستأنف كلامه بالإسبانيولية: «هذا الشيك عملة مزيفة ، وبضاعتنا أصيلة يا سيدتي ، نحن لا نبيع ألماسا أصيلا بشيكات زائفة، بالإسبانيولية نسمي من يقبل هذا الشيك «طوربي» (أبله). ما ترجمة هذه اللفظة باللغة التي تتكلمينها؟» فأجابت المرأة وقد جمدت بدورها تمثالا من كبر: «لقد تركت بلادي منذ سنوات عديدة، لا أذكر اللفظة التي تصف من يقبل هذا الشيك، ولكن الذي يوقعه نسميه «خنزيرا»!»
في المرحوم الأستاذ بولس الخولي
أمام صمت الموت، أي لسان هو فصيح؟
هذه العتمة التي ينساب إليها أحباؤنا، وغير أحبائنا، أي عين نفذت عبر ظلامها؟
هذا الستار الذي ينسدل في منعطف الطريق، قد اتخذه البعض حائطا يقيمون عنده مبكى ومناحا، وقال آخرون: هنا البدء، وغيرهم صاح: هنا النهاية، ووجم سائرهم: «نحن حيارى.» فأما الذين حدقوا بالظلمة مؤمنين، فقد رأوا فيها الأنوار المتلألئة، وهزأ الكافرون ضاحكين أن الإيمان خوف، وأن ليست بأنوار تلك التي تتلألأ في الظلمة، بل هي - كذا سخر الملحدون - انعكاس نظرات الذين حدقوا وحدقوا فارتدت أبصارهم شعاعا عن عتمة لا تخترق.
الحياة هي فورة من نور، والذين عميت أبصارهم عما هو عبر الحياة هم الذين بهرت عيونهم الأنوار.
نجتمع اليوم لتكريم رجل مشى الحياة مطمئنا، متزن الخطوات؛ إذ إنه ظفر بمعرفة هدفه، وآمن بالذي هو إليه صائر، رجل حدق بالظلمة، ولم يخفها لأنه لم يرها ظلمة، رجل عاش في دفء الحب والاحترام والثقة المتبادلة والعفة والجد.
وحين نزل الستار لم نولول، ولم نتفجع، ولم نعول لأننا مثله موقنون أنه بلغ البداية لا النهاية.
وانبلج الفجر!
أول مارس 1904 هو عيد ميلاد الزعيم سعادة.
تشرق شمس أول مارس، وأنا أكثر احتراما لسعادة مني له في مثل هذا اليوم من السنة الفائتة.
ولو أنه قيل لي أي عمل في حياتك أنت أشد فخرا به من أي عمل سواه، لأعلنت فورا من غير مفاضلة بين عمل وعمل أن مفخرتي في الحياة هي أنني أحد العاملين في النهضة القومية الاجتماعية.
وسيظل مقياسي في عيني نفسي ما أنتجه من أجل هذه الحركة.
ينتظم البعض في حزب فرارا من غرم أو رجاء لمغنم، ما كنت هاربا من شيء حين اعتنقت عقيدة سعادة.
أما الغنم - كما شاعت مفاهيمه - فهذه النهضة لا تعد إلا بالحرمان.
وقد يقبل البعض على منظمة بسحر مغناطيس قائدها الشخصي، وأنا لم يتسن لي الاجتماع بالزعيم إلا مرتين، أولاهما كانت غاية في الاختصار.
ولرب فان آمن بمن يعده بالخلود والسعادة بعد الموت، وسعادة لم يكن نبيا، وما كفر بدين، بل قال إن العبادة وأمر الدين ليسا من خصائصه، بل هما من اختصاص الفرد، له أن يمارسهما، كما أرادهما الله، مناقب ومحبة.
ليس لسعادة تقديس خاص في نفوسنا كشخص، بل هو كأي منا يكتسب التقدير والاحترام على قدر إنتاجه؛ فنحن إذ نكرمه نقدس أعماله وأقواله.
لا يهمنا من أمره إلا ما بشر به من إيمان، وما فعلت تعاليمه في قلوب تلامذته، وما تجسدت فيهم من أعمال.
وليست له في عيوننا مكانة خاصة إلا لأنه كان - ولا يزال - القومي الاجتماعي الأمثل.
يزيد احترامه في عيني كل يوم؛ لأنني أتفهمه كل يوم، وأستشعره بالقوة التي أطلقها كل يوم.
لقد درست الكثير، واختزنت الكثير، وأنتجت الكثير، وجاء هذا الغائب فأصبت منه ومن تلامذته في لحظة علم ثقافة هزلت عندها شهادات المدارس ووثائق الحياة.
إنه يوحي إلي الاحترام، هذا الرجل الذي أيقظ احترام الذات في صدور مواطنيه، وجعلهم يستشعرون بالقوة والكرامة، هنالك حيثما كان الضعف، وكانت المهانة.
أعرف عن قادة استثاروا الحيوية بالعاطفية، أو بالبغضاء، أو برشوة الوعود، وقادة عبئوا جهود أمة في أزمة مخاطر أو لحظة حاسمة.
ولكنني لا أعرف قائدا غير سعادة، استثار شعبا من هناء الميضعة، وجند مناضلين في أمة تعود مواطنوها معايشة النظام المغلوط، وألفوا ذله، واطمأنوا إلى بؤسه.
لا أعرف سواه من اهتاج زوبعة في سبيل عقيدة ترتكز على رصانة العلم.
إنه لم يستثر طبقة على طبقة، ولا رسمل حركته بالتحريض، ولا فتح بوابته للمطرودين عن أعتاب سواه، بل استنفر جنودا، وكرز بالحق والخير والجمال، وبالحب يغمر أفراد أمة كلهم فيها مواطنون.
إنه لم يعد تلامذته بالمغانم، بل علمهم أن يتغذوا بالجوع من معجن الاضطهاد.
لذلك لم يهرع إليه إلا الشريف المعطاء.
إنه نهض بالفرد إلى الصعيد الأسمى والأمجد حين علم الفرد كيف يرقى بالمجتمع، ويحيا متفانيا فيه.
لكل من رفقاء الزعيم ميلادان؛ أحدهما، أول مارس.
طنبرجي وبغل
كلنا يعرف الطنبر، وقليل منا من لم يقل بالطنبرجي كلمات لا تذاع على الراديو. في بيروت رأي عام ضد الطنابر، أصحاب السيارات وسواقوها ناقمون على الطنبرجية. وأمس حاولت درس قضية الطنابر، فسألت أحدهم - موسى العشار - عن حاله، فأخبرني أنه يملك طنبرين، ويشتغل على طريق صيدا، البغل اشتراه ب 300 ليرة، نسيت أن أسأله عن ثمن الطنبر، عليق البغل في النهار خمسة أرطال شعير ورطلا تبن. ثمن الكل ثلاث ليرات ونصف، يدفع للعامل ليرتين ونصفا يوميا، يبقى لصاحب الطنبر ربح قدره ليرتان في النهار، كذلك هو يربح من الطنبر الآخر الذي يعمل عليه بنفسه أربع ليرات ونصف، مجموع ربحه اليومي ست ليرات ونصف؛ ذلك لأنه يملك طنبرين.
أما الذي يملك طنبرا واحدا، فربحه اليومي ليرتان فقط. «عدم المؤاخذة»، سها عن بالي أن أخبركم أن أجرة الطنبر والطنبرجي في النهار ثماني ليرات، ربحه ليرتان، هذا إذا اشتغل كل يوم من أيام السنة، ولكنه يمر عليه أيام كثيرة لا يجد فيها عملا، هو يشتغل من الساعة السادسة صباحا إلى الساعة السادسة مساء، يشتغل عند متعهد طرقات، خلال هذه ال 12 ساعة، يستريح ربع ساعة في الصباح للترويقة، ونصف ساعة بعد الظهر للغداء.
يا سيدنا أنا آكل على الماشي، إنما البغل لا يريد أن يستعجل في أكله. في الأسبوع الماضي تخرب الطنبر، فأنفق عليه صاحبنا الطنبرجي 21 ليرة أجرة تصليح، اشتغل 18 يوما على الطريق، فكان صافي خسارته - أقول خسارته - 27 ليرة. وفي شهر تموز تهور الطنبر، فجرح الطنبرجي، الحمد لله كانت سليمة يا بك، جرح رأسي، وقطبه الطبيب 8 قطبات. إنما الحمد لله كانت سليمة يا بك؛ لأن البغل لم يتأذ.
نجية وانفلتت
هذا الشعر خلق لينشد لا لينقد.
جمال له روعة تخرس الألسنة، وبهاء يحس المرء أنه من التجديف محاولة وصفه أو تحليله .
امدح، لا تخف! فلن تتهم نفسك بالغلو، مثل هذا الفن لا تليق به إلا التسابيح.
هي الموسيقى، والإحساس المرهف، والبلاغة الطليقة، تلتقي مرة كل جيل، فتتآلف وتتحالف، وتبلغ رقما قياسيا جديدا، فتراها هناك على ذروة الذروة، في سعيد عقل، وتحس - وهذا مقياس العظمة - حين تتغنى بشعره أنك معه هناك - في الذروة - تتفيأ أهداب رندلي وتداعب جدائلها.
وبين الكاتب الواقعي والشاعر الرمزي عداء خفي.
يقول هذا: «ما شأن أديب يستوحي قرقعة عجلات الترامواي، وطرطقة السنكري، ويستلهم صليل ملعقة على صحن؟» ويسخر ذاك مستفهما: «ما معنى غد البلبل» و«خليج القمر» و«شط الظنون»؟ حدثني إذن عن «خيبة البندورة»، و«طموح البسكلات»، و«نبل المجرفة».
وينفلت عن الجموع سعيد عقل، فتصيح: «الله! الله!» ما الرمزية؟ هي الواقعية تجنحت وأبت أن تكتسي، وما الغموض والإبهام؟ هو الوضوح يترنح، وتذكر - بسبب شعر سعيد عقل - أن أنبل ما في الحياة وأعمقها هو مبهم غامض، واسمه الله.
بعد أن يصحى الناس من السكرة الأولى في قراءة رندلي، سيفطنون إلى أن سعيد عقل قفز - بشعره لا بنثره - إلى الضفة الثالثة من نهر اللغة. يسألونك هل على الفنان أن ينحدر إلى مستوى العامة؟ أقول إن المبدع يرتفع إلى صعيد العامة، وهذا الخلاف جاءنا في شعره باللغة العادية التي نريدها. أملك نفسك بعد الرجفة الأولى، وأعد الترنم بالأبيات تر أن تلك الألواح السابحة بين الغيوم والنجوم تشدها إلى الأرض أسلاك، وأن ميكانيكية اللغة العامية قولبت ألوانها.
ليس لنا أن نصفك يا «رندلي»، ولكن لنا أن نعري الرءوس وننحني وفي العيون دموع فخر وإعجاب.
إلى صلاح لبكي
بعد قراءة «سأم»
أخي صلاح
أنت أحرجتني حين أهديت إلي نسخة من «سأم»، فكيف لي أن أشكرك، وأظهر بها إعجابي، ولست أرى على شفتك العليا شاربين، ولا أنا ممن يقبلون الشوارب.
هذه الكوة التي فتحتها فتدفق منها نسيم الجنة، ونورها يطهر عادي الحياة، وينيره؛ أي حورية خدعت فسلبت منها مفاتيح تلك الكوة؟ من الذي رشوت فوهبك كل هذا القطع النادر من السحر؟ ومن الذي توسط لك فازدان صدرك بكل هذه الأوسمة؟ وأي صلاة تمتم في مقدمة الكتاب هذا الراهب - سعيد عقل - المتمنطق بكل هذه المفاتيح؟
في هذا الزمن الذي ننادي فيه بالمساواة، كيف يحق لك أن ترتفع عن أكثر الناس؟
شعرت بالقوة والنشوة والخيلاء حين رحت أرشف من شعرك.
حدثت نفسي: «ماذا على لبنان أن ينقصه القمح والخيش والبطاطا وعندنا من هذا؟»
فهمت كيف يبقى لبنان جميلا برغم قذارة بعض سكانه.
ما دام عن بعضه ينبثق مثل هذا الجمال.
شعرت بالقوة إذ أوهمني عقلي الباطني أني أملك ما به أعجب، كذلك رحت أحترم نفسي إذ أرى هذه الثروة ولا أحسد صاحبها عليها.
أحسست إذ أنا أنشد أبياتك أني أقدر أن أفعل المستحيل، وأحب حتى القبيح.
صحيح القول أنني بعد قراءة الصفحة الأولى، وجدتني أنظم قصيدة أتغنى فيها بالحكومة.
غير أني أعود فأجس الكتاب وأقرأ حروفه، فلا أصدق أنه حقيقة. لعل يقظتي التي شقيت بما أقرؤه من إنتاج هذه الأيام أوهمتني أن «سأم» هو من نتاج مطابع هذه الأيام.
وحين أقنع نفسي أن «سأم» هو حقيقة لا سراب، سأقصد إليك وإلى سعيد عقل، صاحب المقدمة، فأقبل شواربكم واقفا على رجل واحدة.
مقدمة لمذكرات فوزي القاوقجي
أهذا حلم آخر تحققه الحياة: أن أكتب السيرة باللغة العربية؟
إن آداب لغتنا خلو من هذا الأدب، فكل ما وقعت عليه يداي هو إما هجاء معيب، أو مديح مأجور، أو محاولة صبيانية.
يقول «الدوس هكسلي»: «إن العقل يملي الحوادث إن هو صمم وعزم وأراد.» إذن فما هي بصدفة أن التقيت بفوزي القاوقجي، وإنى مدون سيرته، هذا «الزهر» - زهر النرد - يقول هكسلي: «إن التجارب العلمية أثبتت أنه يخضع لإرادة العقل في أكثر الأحيان حين يسيطر العقل ويطغى.»
هكذا أنا في عام 1954 أكتب سيرة القاوقجي؛ لأن هذا ما شئت وعزمت وأردت سنة 1936، حينما كنت في الفلبين، فعامئذ فرغت من كتابي «نخب العدو» مسرحيته وأقاصيصه، وكنت - شأني إذ أنفض يدي من أي تأليف - سكران بالإعجاب بإنتاجي، أحدث نفسي أنني كتبت أروع القصص وأعظم مسرحية باللغة العربية، ماذا ينقصني لاكتمال المجد الأدبي؟ أن أكتب السيرة؟ لقد دونت هذا الشوق على هامش مقدمة «نخب العدو» إذ وعدت القراء بكتاب عنوانه «فوزي».
وكان القاوقجي في تلك السنة تلغرافات تنقش على صدور الصحف، وأنباء ثورة على الإنكليز، وبطش باليهود، وبطولات نعتز بها نحن المغتربين، وكان المواطنون في الشرق الأقصى يشربون نخبه في الحانات والمآدب، ويعلقون صوره على حيطان بيوتهم. واحتملت يوما صورة فوزي فوضعتها تحت زجاج طاولتي في مكتبي التجاري، ورحت أحدق بها معجبا وأقول: «سأكتب سيرته في يوم من الأيام.»
وفي يوم من الأيام تطلعت إلى تلك الصورة فانتزعتها ومزقتها، أية سيرة؟ أي قاوقجي؟ ليس في الدنيا مخلوق أخشع أمامه بأن أتحدث عنه، سأكتب السيرة عن رجل أقل شهرة، فيكون لي عزة أني رفعته لا ميضعة أني ارتفعت به.
وحاولت بعد عودتي إلى بيروت أن أكتب سيرة البحار «إبراهيم بلطجي» قبل حادثة «الشمبوليون» بسنوات، فأبدى أحد أولاده شيئا من الخيلاء، فدفنت الفصل الأول بين أوراقي، لعلي أبعثه في المستقبل، وأبعث سيرة البلطجي إن تغلبت على غرور ومشيخات في نفسي لم تمح بكاملها بعد.
وفي إبان حرب فلسطين التقيت بفوزي القاوقجي في أحد مكاتب السراي، وكان هو في ثوب الميدان العسكري، فتكالمنا خلال دقائق عابرة، وراح يخبرني، من غير أن يعرف من أنا، أنباء القتال، وكيف أنه تلقى 14 تلغراف استغاثة من أحد الجيوش، وأية مهزلة هذه أن يستنجد جيش دولة نظامي بجيش عصابات لينقذه من مأزق جبهة لا يستطيع جيش العصابات أن ينفذ إليها. لقد حسبت حينئذ أنها ليست ميزة عسكرية أن يفضي قائد بهذه الأخبار لرجل غريب، ستكتشف في الصفحات المقبلة سر هذا البوح.
وبعد الكارثة في ربيع 1949 عاودني التحرق لكتابة السيرة، وسألت السيد كامل مروة صاحب جريدة «الحياة»، وبينه وبين القاوقجي صداقة، أن يجمعني بفوزي القاوقجي لأدون سيرته؛ فوعد كامل، وأكد لي، مثبطا همتي بقوله إنني لن أقوم بهذا المشروع الكتابي، متهما إياي بالكسل الإنتاجي.
وجاء «مؤتمر خريجي الجامعة الأميركية » في بدء هذا الصيف ، واقترحت تنظيم الكفاح على كل السويات من أجل مقاطعة إسرائيل، ومكافحة جاسوسيتها، متخذا لهذا النضال شعار «كل مواطن خفير»، ولما قطعنا في العمل شوطا اقترحت أن يكون لهذه المنظمة رئيس فخري، ما رأيكم بفوزي القاوقجي؟
فما ثنى كامل مروة على هذا الاقتراح.
وفي أحد اجتماعات «كل مواطن خفير»، جئت على ذكر فوزي القاوقجي من جديد، وبعد الانصراف، فيما نحن ننزل الدرج، اقترب مني «شمس الدين نجم» وسأل: «هل لك أن تعطيني 45 دقيقة من وقتك؟» قلت: «إن وقتي يكال بالأرطال لا بالدقائق.» - إذن فهيا بنا إلى فوزي القاوقجي في «الفيلا» على الشاطئ في «سان ميشال»، وذهبنا.
ها ... و، و، و، و... م!
إذن فكل ما سمعته عنه في هذه السنوات الأخيرة صحيح؛ «فيلا» على شاطئ «سان ميشال»! هنالك بين مقاصير اللذاذات، حيث يقيم الفجور مهرجانات الليالي، وتنتفخ علقات الخيانة بدماء الشعب متدحرجة إلى أعشاش التهتك بالكاديلاكات. على «البلاج» يقيم فوزي القاوقجي سابحا بالويسكي، متنعما بأموال نهبها تحت ستار الجهاد، مختزنا ثروات تتدفق عليه من أمراء الكويت، ومن صفقات تجارة غانمة باسم الوطنية والكفاح، متمرغا «بباشوية» خلعها عليه الملك عبد الله.
وذهبنا.
غير أني لم أكن أحس برعشة من هو على أهبة أن يلقى بطلا أو رجلا عظيما.
وترجلنا من السيارة إلى مسكن متواضع على قارعة الطريق، ومشينا إليه، فإذا على مدخله امرأة تعلق الغسيل، حيتنا بعربية مكسرة، ولاح وجه فوزي القاوقجي من الداخل؛ فأيقنت أن السيدة زوجته الألمانية.
يقال إن لكل رجل وجه حيوان، فهذا يشبه الثور، وذاك الفهد أو الثعلب، وآخر الأسد. وجه فوزي القاوقجي كما أطل علي وكما يوحي إلي هو وجه جواد يحمحم.
وجلسنا حول طاولة - نحن الثلاثة - وكان هو يلبس الشورت (البنطلون القصير)، وينتعل خفين، هالني أن رأيت فيهما قدمين مسطحتين غير متقوستين، وتبينت جسده فعجبت أن ليست عضلاته كما يتوقع من قرأ أنباء قتاله. ما هو بمترهل، ولكنه ما هو من القوة الجسدية بحيث يبعث الخشية أو يثير الإعجاب، ولكن صدره مرتفع فسيح عتليت، وليس في وسعك أن تصف الأنف أو العينين أو الوجه أيا على حدة؛ فرأسه - رأس الجواد المحمحم - هو وحدة كلاسيكية يوحي إليك أنه في طليعة موكب يسير نحو آفاق لا تحد.
وكان أولاده منتشرين هنا وهناك، وتألمت أن ليس بين أيديهم دمى يلعبون بها، بل إن «أسامة» - وهو في الخامسة - كان يرفه عن نفسه بأن يغير على الرمال فيبودر بها وجهه، ثم يهرع نحو حنفية الماء فيغسله متطلعا إلينا منتظرا أن يسمع كلمات الإعجاب، وهو في مفاجآت ظهوره واختفائه، وكره وفره، كأنه حيوان صغير يظهر من دغل ويختفي في دغل. وأما «مروان» ففي وجهه أرستقراطية هادئة، ولعله برم بأحاديثنا، وليس بين يديه ما يشغله، فتودد إلي بأن وخزني على كتفي متحديا مداعبا.
وكان خوفي - أكبر خوفي - أن يستل فوزي القاوقجي مسبحة من جيبه، وأن يغرقني بالطرائف والتندر، وبالنكات المحفوظة، ولكنه لم يفعل.
وبعد أن رزت محدثي بعيني رحت أحاسب نفسي: إنه لحقير من لا يرى العظيم إلا حين يرتدي هذا مظاهر العظمة، كتاب الحياة تقطع عباراته كلمة «لو». ألم يكن من المعقول أن يكون هذا الجالس «بالشورت» إلى جانبي اليوم، القائد لجيش موحد واحد، سوري (سوريانا)، وأن تكون تماثيله، على الحصان الأبيض التقليدي، في باحات حيفا ويافا ودمشق وعمان والقدس وبغداد وبيروت؟
إن جليسي على طريق «سان ميشال» هو الرجل الذي شربنا أنخابه في «الفلبين»، وتبوأت صدور الصحف أنباء بطولاته، وتغنى بغماره المقاتلون، أفلا يوحي الخشوع إلا حين يلبس بزته العسكرية، وتلمع النياشين على صدره؟
ولماذا نحن نتوقع في الأبطال التفوق الجسدي؟ في يقيني أنه لو ركب حافلة الترامواي هاني بعل، ونابليون، وإسكندر المكدوني، وعنترة، واللورد نلسون، لصعب تمييزهم عن مصطفى منتور الطبش، أسعد تيول، شمدص جهجاه، بندر شنديب، والحاج قعفر طيون الطهشناوي.
ثم أليس الإنسان إمكانية؟ إذن فالحياة تسخو علينا كثيرا، وتنصفنا حين تعرض أمام أنظارنا رجلا له ثقافة وقوة جسدية عاديتان، ثم تخبرنا أنه فعل العجائب، هكذا تقول لنا الحياة إن كلا منا إمكانية تقوى على فعل العجائب.
هنا أسعفني الشاعر الإنكليزي اللورد بيرون بقول حفظته له:
ضع هاني بعل في عينة الميزان، ترى كم كيلو تجد في ذلك المارشال العظيم؟
غير أن في كل إنسان، وفي كل شيء، كمية خفية مجهولة، لا نقدر أن نصفها، أو تقبض عليها أكفنا، لقد عبر عنها الأميركان بلفظة «أمف»
oomph
سمها
x
إن أحببت، ما الذي يجعل هذا الحانوت مقصودا، وهذا الرجل محبوبا، وهذه المرأة فتانة؟ بعضهم تجمع أرقام كفاءاته فإذا هي أكثر من المجموع، وفي البعض الآخر تجدها أقل من المجموع. هذه الكمية الخفية، هذه «الإكس» هي في القاوقجي شيء ضخم.
لقد تعددت اجتماعاتي به، وكان ودي واحترامي له ينموان.
لقد جئته مرة فوجدته مضطربا، صغيره مريض، وطبيب العائلة في الجبل، تلفنت لصديقي «الدكتور جورج صليبي» فهرع، ومعه «الدكتور الفرزلي»، وبعد أن كشفا على الطفل، ووصفا له العلاج، وقفت الأم تحدث زوجها بالألمانية، ووقف القاوقجي يريد أن يقول شيئا فتلعثم، واحمر وجهه، وأرسل كلمات: «إن زوجتي تدعوكم إلى فنجان قهوة.» إنه كان صادقا، فلم يراوغ بأن يتظاهر بدفع أجرة الطبيب؛ إذ إنه لم يكن يملك ذلك الأجر. ولما عاد الدكتور صليبي بالدواء سأله: «كم دفعت ثمنه؟» أجاب: «نحن الأطباء لا ندفع ثمن أدوية، إنها كياسة مهنية بيننا وبين الصيادلة.» «علاك، علاك.» أجاب فوزي القاوقجي مداعبا، وكان في إغضاء عينيه حياء وخجل ومنة. «علاك، علاك.» سمعته يردد هذه الكلمة كثيرا. «مظاهرات» الشوارع، هي «علاك، علاك»، الخطب الحماسية هي «علاك». في إستنبول عام 1912 أدخلونا في حزب، وعصبوا أعيننا، وحلفنا اليمين على السيف والقرآن، وكانت النتيجة «علاك بعلاك». في سنة 1936 جاءتنا رسل رجالات سوريا إلى العراق، فاستشارونا، ووضعنا الخطط، فما فعل رجال السياسة شيئا «علاك، علاك».
ولقد جئت هذا الرجل لأكتب سيرته فوجدته - على عادته في القتال - قد قطع علي الطريق فدونها هو في مذكرات، وأمر هذه الدفاتر والوثائق معروف لدى أصدقائه وأعدائه؛ «ففي سنة 1949 جاءني الأخ مدلول عباس، وهو ضابط عراقي، وقال لي: لقد وكل إلي أمر سرقة مذكراتك يا باشا لقاء عشرة آلاف ليرة لبنانية ، قلت: «لماذا لم تقبضها يا ...؟»
وفي سنة 1950 كانت هذه المذكرات مودعة في بيت الأخ علي ناصر الدين في بيروت، فإذا بأربعة مسلحين يداهمون البيت في الليل للحصول على هذه المذكرات، ولولا بطولة الخادمة التي علا صراخها رعبا لتمكنوا من اختطاف مذكراتي. ولما فشلت هذه المحاولة أرسل «س... ال... ال... أ... ال... لقتلي أربعة أشخاص، فجاء أحدهم في يقظة الضمير - وكان قد سبق له أن قاتل تحت قيادتي - واعترف لي بالمكيدة، على مسمع من رجال الأمن اللبناني الذين دونوا هذه الحادثة في سجلاتهم. ولقد بدأت هذه المذكرات في بغداد عام 1936؛ إذ كان يلح رفقائي أن أكتبها، وتواعدنا أن نبدأها في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 23 يناير 1936، فما إن جلسنا لنبدأ العمل، ورشفنا أول رشفة من القهوة، حتى انتصب أمامي مفوض الشرطة يدعوني إلى مواجهة مدير الأمن العام، فيرسلني هذا إلى المنفى. والآن ما كدنا نتحدث عن هذه المذكرات حتى مرض طفلي «بركان». (ومن الغريب أن مجرمين أحرقوا مطابع «البناء» قبل أن تبدأ هذه المطابع بطبع مذكرات القاوقجي بأيام قليلة.)
قلت لعل هذه المذكرات تحمل ميكروب الكوارث. أجاب ضاحكا: «الحياة ليس فيها كوارث، إن فينا معتقدات توهمنا أن بعض الأحداث هي نكبات.»
إذن، وقد دون هذا الرجل مذكراته، فما شأني أنا، وما هي مهمتي؟
لقد اكتشفت في القاوقجي تلميذ فلسفة اجتماعية. إن ثقافته الكتبية لا بأس بها؛ فهو مطلع على الحوادث، وهو مطالع الكثير من الكتب والصحف، ولكن ثروته الثقافية هي في غنى التجاريب اكتسبها في ميادين الصراع، فاختزنها في عقله وقلبه، وكمنت في أنحاء نفسه، كما كمنت هذه الشظايا التي لا تزال مستقرة في رأسه وصدره وساقه. وإن عين الفنان وأذنه ترى وتسمع، ومهمته أن ينقلها. إن أجمل ما في الأدب الصدق، وإن الأديب ليصبح مجرما إن هو حاول أن يلون بقلمه تاريخا خطه جندي بدمه.
سبق لي في «رفة جناح» أن قلت: «لكل سيرتان؛ واحدة برسم النشر وثانية ليوم الحشر.»
هذه الأقوال التي نقلتها عن محدثي هي للنشر وليوم الحشر. ولكننا ونحن أمام تاريخ وضمير قومي أود أن أثبت أنه لا بد من إغفال بعض آراء، وطمس بعض حوادث. إن كان في هذه الصفحات من جريمة اقترفتها فهي جريمة الحذف. على أنني سأثبت ما أغفلته وأودعته في مكتبة الجامعة الأميركية على أن يفض في مستقبل الأيام.
غير أنني ما استثنيت من مذكراته شيئا. إن الذي لم أنشره هو بعض آرائه التي أفضى بها إلي.
وبعد، فالقاوقجي قاتل في جيوش نظامية، وحارب عصابات. فهذه الملاحظات التي أدونها بعضها له ترتيب نظامي وبعضها عصابات أقوال لا تدري متى تختفي ومتى تنقض.
قال لي: «لقد جاءني الكثيرون يطلبون مني أن يكتبوا سيرتي وينشروا حوادثي. وبعضهم تقدم بعروض مالية مغرية. بعض هؤلاء تعمدوا أن يدونوها قصة، ويطمسوا ذكر صاحب القصة. فأما أكثرهم فأراد أن يسلسلها قصة في جريدة. قد يكون هذا أهم الأسباب التي حملتني على الرفض. وقد قلت لآخرين لا أريد رواية بوليسية أو خيالية. نحن أمام وقائع حدثت، ما أعطي ليد أن تغيرها. وليس الغرض من نشر كل هذه الآراء إلا أن تصبح دليلا يهدي جنديا سواي، إلى خزان القوة في أمتنا فيغرف منه.»
والحق أن أهم ما لفت نظري في أحاديث فوزي أن أقاصيصه لم يروها كذكريات، ولا حنين، ولا تغن، بل كان يسردها كمن يبسط تصميما لصراع مقبل. ليس في نفسه نقمة أو حسرة أو عتاب. إنه لا يحمل فاتورة برسم القبض يلوح بها أمام عيون مواطنيه. لا يمنن أحدا بما فعل. وهو قد عامل وعاشر أكثر رجالات العالم العربي. وكان في كثير من الأحيان - حتى في ميدان القتال - هدفا للدسائس والاغتيال. ولكني لم أسمع منه كلمة واحدة خلال محادثاتي العديدة تنطوي على حقد. والناس في نظره ما هم إما شياطين أو ملائكة. يحلل كل شخصية عرفها ويشير إلى مواطن الضعف ومواطن القوة فيها. إنه لا يريد أن يجرح أحدا، ولكنه يحس بمسئوليته القومية، فهو يريد أن يثبت الأسماء والحوادث، ولأبناء أمته أن يبرئوا أو يدينوا، وعليهم أن يعتبروا وأن يتعلموا. إنه وقد قاتل مع الألمان والأتراك، وقاتل الفرنسيين والبريطانيين، واليهود، انتهى - كما ابتدأ - بحقيقة واحدة؛ وهي أن أمته أشجع وأنبل الأمم بأسا. يقول هذا ببساطة ومن غير انفعال ولا حماسة مصطنعة. هكذا قال له التاريخ الذي درسه وتعمق فيه، هكذا أثبتت له تجارب الميدان في سينا، في فلسطين، في الغوطة، في تدمر، وفي بغداد، وفي جبهات ومعارك خلال ست وثلاثين سنة.
وهذه الحقيقة لا يرسلها فكرا سطحيا. ما هي «علاك بعلاك». إنه يفهم ويعلل لماذا انهزم الجيش السوري في «ميسلون» 1921 وكيف أن بعض هذا الجيش في لباس المدنيين مع مواطنين لهم دوخ الفرنسيين في معارك الشام عام 1925-1927، إنه يفسر موقف الجيش العراقي في حربنا مع اليهود. ما هو بلغز أن الجيش الأردني جيش صغير عظيم برغم أن قائده بريطاني فرنجي غريب.
إنه شيء عادي أن يهرع إلى الجهاد فلاحو فلسطين مسلحين. من أين البارودة؟ «والله يا بك بعنا مباريم (أساور) المرأة وبعنا الدابة.»
هذا المقاتل الذي خدع الموت عشرات المرات - أو مئات - واستبدل دمه مرات، وهزم، وانهزم، هو موقن مؤمن أن البطولة هي بعض الدم الذي يجري في عروق أبناء أمته. وإن النبل والتضحية والمروءة تغلف نفوسهم، وإنهم في كل هذا يفوقون أمم الدنيا قاطبة. لقد غامر بروحه وأرواح ألوف من مواطنيه على أساس هذا الإيمان، وهذا الإيمان بأبناء أمته ترسخ وتجاوب بينه وبينهم؛ فهو الثائر الوحيد - على ما أعلم - الذي انضم إلى ثوراته مرة بعد مرة مجاهدون من كل طوائف الأمة ومناطقها وطبقاتها، وإن هؤلاء ما خاطروا بأرواحهم إلا بعد أن جاءت التجارب تثبت أن قائدهم يستحق هذه الثقة. تعرفت إلى كل هذا من الرسائل الكثيرة التي في حقائبه، ومن قصاصات صحف تعد بالمئات، ومن صور بهتت على كر السنين كما امحت من المخيلات ذكرى تضحياتها، ومن جداول بأسماء من انتدبوا نفوسهم للجهاد والبطولة.
ولقد أعلنت الحرب العالمية الأولى وأبناء أمتنا يتهربون من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، فصار لهم صيت أنهم جبناء ، ولسبب ما - لعله عمق التفكير - خطر في بال القائد الألماني «تلر»؛ فهيأ ثلاثة أفواج من الفلسطينيين في جبهة بئر سبع، وكانت الجيوش البريطانية قد اقتحمت جنوب بلادنا، وحاصرت الجيش التركي في غزة، فما كان من الأفواج الفلسطينية الثلاثة - وضباطها ألمان - إلا أن اقتحمت غزة ومزقت عنها الحصار.
وفي الحرب العالمية الأولى، وصل إلى القفقاز الفيلق الثاني عشر من العراق، وقد جاء العراقيون بملابسهم الصيفية، وحاربوا الروس بين ثلوج القفقاز والقرص وأردهان، وأنقذوا الجيش التركي من كارثة هزيمة. أقتصر على هذين المثلين اللذين سمعتهما من صاحب هذه السيرة، فالمذكرات نفسها تكشف عن نفسية الصراع والبطولة الكامنة في شعبنا. ولقد ذكر القائد الألماني «فون كريس» في معرض المفاضلة بيننا وبين الأتراك أن شجاعة جنودنا لم يشهد أروع منها، وجندينا يمتاز بالذكاء حتى لكأنه يقرأ أفكار القائد من غير أن يستمع لأوامره. أما التركي فهو صلب عنيد يصعب زحزحته من مكانه، ولكنه إن غادر متراسه سيطرت عليه الفوضى، واختلط عليه الأمر؛ إذ إنه يعوزه الذكاء الذي يزخر في عقول مواطنينا.
وصاحب هذه المذكرات يصنف مواطنيه، ويفهم متى يكون أحدهم في الجبهة جريئا، ومتى يكون جبانا.
العراقي بركان يهدأ ويثور، ولكنه قد يخمد فجأة.
البدوي رجل كسب وغنائم، لا يفهم القومية. إنه نفعي يريد أن يستغل من غير أن يغامر، وهو لا يؤمن بأحد ولا يتعرف إليك، ولا يعترف بقوتك حتى يراك ويلمسك، ولا يحالف إلا حين يتحقق أو يتوقع النصر لك، ولا يقاتل إلا حين يصبح في مأزق، فيمسي حينئذ شرسا بطاشا شجاعا كهرة برية مطوقة. والبدوي على أروعه حين يحارب من أجل غنيمة، وشجاعته متأرجحة.
الدروز؟ إنهم شجعان، وهم قسمان: دروز حوران (الجبل)، ودروز الشوف، لبنان؛ فأما في النخوة والبأس فهم متساوون، غير أن الشوفيين متحضرون، فهم أشد طاعة وانضباطا، وليس في أكثرهم شهوة الكسب، وأما بنو جبل حوران ففيهم الكثير من صفات البداوة، وهم غير منضبطين. والدروز يكونون على أتم بطولتهم حين يكونون جماعة سرايا؛ لأن الواحد إذ ذاك يحفز به إلى الأقدام أن رفقاءه سيتغنون به في المجالس، ويصده عن الجبن خشية من الخزي في عيون بني قومه إن نقلت عنه أنباء معيبة.
والدروز يكتسبون قوة إضافية حين يكونون جمعا؛ لأنهم أبدا يفكرون بما سيروى عنهم في المجالس والمضافات. ولقد استعمل القاوقجي الدروز كقوة احتياطية يدفع بها إلى القتال في الأزمات. وكم من مرة قلبوا الهزيمة إلى نصر، وكان اندفاعهم في المعركة ملهبا لحماسة كل المقاتلين، وكانت الصعوبة الكبرى التي حلت به مع المقاتلين الدروز أنهم كانوا في المعركة يضجون من الانتظار، ويتوقون خوض المعمعة، لا يريدون أن يفهموا أن تريثهم حتى الساعة الحاسمة هو أفعل في كسب القتال من اندفاعهم فيه منذ اللحظة الأولى.
وأية بيئة في بلادنا تنبت أصلح المقاتلين؟
يعتقد فوزي القاوقجي أن الشامي هو أفضل مجاهد، الشامي غير المثقف، والشامي - كما يحدده - هو ابن دمشق وقراها المجاورة؛ إنه شجاع رصين، ذكاؤه محدود، مرن في القتال، لا يطلب أجرا، ولا ينتظر غنيمة، يمول نفسه فيأتي بسلاحه وعتاده، وينفق من ماله إن استطاع، وهو مؤمن أنه إن استشهد فسيدخل الجنة.
ولكن الدمشقيين، وأبناء الغوطة - بعكس الدروز - تتراخى فاعليتهم إن كثر عددهم؛ فروح الفريق - سمها عصبية القبيلة - هي عند هؤلاء مفقودة، وهم إما تكاثروا ظهر بينهم المتزعمون وطالبو الوجاهة.
وسترى - في الجزء الثاني - كيف كان يستعين القاوقجي على محو الخلافات بينهم بالتحرش بالقوى الفرنسية؛ كي يشغل رجاله بالقتال عن الاقتتال.
الشركسي؟ شجاع. إنه يحس أنه أقلية في بلاد لا يتحسس قوميته فيها بعد، فولاؤه لعشيرته يعلي شأنها بضروب البأس غير مبال تحت أي علم يقاتل، شرط أن يؤمن الثوب العسكري الذي يلبسه رزقه ومجد قومه.
سألته لماذا يستثني المثقفين من أبناء قومنا في تغنيه عن البطولات، وكيف يفسر أن المقاتلين من الغرب هم أشد بأسا، مثقفين منهم وغير مثقفين؟
أجاب: إن الذين أصابوا العلم من مواطنينا هم مرفهون ناعمون، يعتقدون أن المدارس منحتهم حصانة تقصيهم عن جبهات النضال، فهم يتسلمون بارودة «لا يعطونها حقها»، إلا الذين تخرجوا من مدارس عسكرية، أو خدموا في الدرك، أو البوليس، غير أننا إن نظمنا أمورنا في المستقبل بحيث يحترم المثقفون العلم في دورة جبرية، أو يتدربون في المدارس ويتقشفون، فسيصبح المثقفون منا جنودا أفضل من غير المثقفين كما هو الشأن في الغرب.
والحياة في نظره ساعتان: ساعة حب، وساعة حرب؛ في ساعة الحب يكون الرجل أنانية خالصة، وهو يملك كل شيء، يحيا هذه الساعة لنفسه، لأثرته، ساطيا متنعما، ناسيا أن في الدنيا شيئا سواه، وساعة الحرب هي ساعة العطاء؛ إذ يفنى الإنسان في نضاله القومي، ويصبح هو لا شيء، وأمته كل شيء.
هو يقول لك بشيء من التيه إنه يفهم المرأة، وإنها تغويه ويغويها، وإن قلبه لا يزال خفاقا، وكذلك قلب سواه، وإن أنباء غماره في الغرام تستحق كتابا، غير أنني وقد تعرفت إلى «فرويد»، وإن أكن أنا لم أسئ فهم صوت القاوقجي المرتجف، وتلك الضحكة في أطراف عينيه، فأكبر ظني أن الحب عند هذا الجندي لو انتظم شعرا لكان قصيدة من نزار قباني لا مقطوعة من مجنون ليلى.
في دفتر قديم قرأت له مذكرات فيها صبيانيات الغرام: «اليوم قبلت فلانة فأحسست برعشة.» لقد تزوج فوزي مرارا، وهو يعتقد أن البدوية هي أفضل نساء الدنيا، بدليل أن زوجها أبدا يغادر البيت مكرها ويرجع إليه مشتاقا. وأحب اللواتي تزوجهن كانت البدوية «عابدية» من بني ثقيف أم ابنته «سورية»، وكانت من الجمال «عيونها تخرق دبابة»!
إن الذي يوغل في الحياة يتعود غرائب صدفها؛ لذلك لم أهتز كثيرا حين تعرفت إلى خط المرحوم بهاء الدين الطباع في مذكرات القاوقجي. كان بهاء الدين صديقا لي حميما. لقد تصادقنا فتيين في بيروت طوال سنوات العشرين، وكان ثالثنا المرحوم نجيب الريس، حين يأتي بيروت من دمشق. وقد وثقت صلاتي ببهاء الدين أيام فيصل، وكان الصديق بهاء يطمح إلى أن يكون كاتبا، وكان يحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
نصحته أن يكثر القراءة في كتاب «كليلة ودمنة»، وأهديته منه نسخة. بعد ثلاثين سنة، أقرأ مذكرات القاوقجي، فأتعرف إلى خط صديقي من جديد ، وأرى أن قلم بهاء يزخر بألفاظ كليلة ودمنة، وبناء عباراته متأثر بابن المقفع، ولاحظت أن الدفتر الأول يبدأ «باسم الله الرحمن الرحيم»، وتكثر كلمة «الإسلام» في عباراته، وإني أذكر أن بهاء الدين الطباع كان شديد الحماسة لإسلاميته. غير أن أحاديث القاوقجي كانت خلوا من «الإسلام»، وليس في بحوثه أثر للتقوى، كما شاعت التقوى.
سألته: «هل يهزك الإسلام؟»
أجاب من غير تردد: «إن الإسلام يهزني، ويوحي إلي، غير أني أعتقد أن الدين يجب أن ينحصر في مكانين: الضمير والمسجد. أما أن يكون لأحد منا شأن في حياتنا المدنية بسبب أنه تخرج من الأزهر، أو أنه يلبس عمة، أو يطلق لحية، فهذا شيء غير معقول.»
إن علينا أن نبني الدولة ذات الحضارة والقوة والمكانة. لا بأس أن تتوثق علاقاتها الخارجية بأية دولة سواها، ولا بأس إن عبأنا في جملة ما نعبئ أي شيء يجمعنا مع غير الدول من إسلامية ومسيحية.
إنه يؤمن بالله وبالدين، ولكن الدين هو شيء «شخصي بين المخلوق وخالقه».
ولقد أدهشني من جليسي تألق عبارات تسري على لسانه لعله التقطها من رجاله، وهم من كل السويات، ومن مختلف بيئات بلادنا. هذه مساطر من أقواله: متى سحق أعداء «عجنت بواريدهم» حين هزم كلوب باشا، وجرحه صار كلوب «مهزوم مكلوم». حين يهدد بدويا، ويقول له: «أبول بحلقك.» في الميدان «يتساوى البصل والخروف المحشي.» والخطط السرية هي دائما «شيء في الرأس»، وحين ترك عمان، وجاء إلى أراضي الجمهورية السورية ليقاتل الفرنسيين سأله مودعوه: «هل سترسل لنا أنباءك؟» أجاب: «أخبارنا تسمعونها من بلاغات الجيش الفرنسي.» والطموح من أحد رجال السياسة «إنه يوقد ناري ليهيئ طبخة زعامة.» وعلى القائد أن «يزرق» إيمانه في عروق رجاله، وفلان «أجبن من فارة.» و«المرأة كالرجل الجبان إن استبد بك تغطرس وظلم، وإن قويت عليه خضع وخنع.» وهو حين يناقش شكري القوتلي في دمشق يقول: «إن لي رأسمالا في هذا العلم.» وحين تسلل من العراق إلى فلسطين عبر الأردن بمئات المقاتلين، وعشرات السيارات، وبرغم طائرات كلوب وهجانته، وجواسيسه وكشافته: «مررت بين أصابع كلوب باشا.» ثم هو يعري كلوب باشا من عقاله، ولباسه البدوي، ولسانه العربي، ويرده بريطانيا بلفظة واحدة «مستر» غلوب.
ولا ريب أن معاشرته الطويلة للبدو قد أغنت ثروته اللفظية، وأطلقت لسانه بالبليغ وبالفصيح، حين عاش في مكة كان له عبد سمين منقش الوجه بالجدري، وكانت زوجة فوزي البدوية تتطير من رؤيته، وقد زعقت ذات يوم «هالوجيه» (هذا الوجه الصغير) اللي شنه (الذي كأنه) روث منقرة (نقره) غراب.
ومن الأغاني التي يحفظها أحدوة كان بدو العراق يحدونها سنة 1922 إذ ثاروا على الإنكليز: «بيع أمك (والأم أقدس المخلوقات عند البدوي)، واشر الألماني (اشتر البارودة الألمانية)، وعدن (احسب كل شيء) أشقر (أجنبي) قوماني (عدوا).»
بيع أمك، واشر الألماني، وعدن كل أشقر قوماني.
ومن اختباراته مع البدو أنه استبقى أحدهم معه في بغداد، واسمه «تويني»، أخو فايز المثقال شيخ بني صخر، وقد برم هذا بعيشة الحضر في بغداد فشكا أمره إلى القاوقجي، فسأله هذا ما يبغي؟ أجاب: «قطيعا أرعاه.» فاشترى له تسعة رءوس غنم، وراح التويني يرفه عن نفسه ويشغلها برعي هذا القطيع في جوار بغداد. ويوما دعا المضيف ضيفه لحضور حفلة سينما في بغداد، وكان الفيلم مزدوجا «ميكي موس» والصورة الشهيرة «لا جديد في الجبهة الغربية»، فلما انصرفوا من قاعة العرض سألوا التويني رأيه في الذي رأى، فأجاب أنه لم يفهم من «ميكي موس» شيئا، وما رأيك في «لا جديد في الجبهة الغربية»؟
أجاب البدوي: «ذبح، وقلة ربح.» وقد يكون هذا العنوان أصلح للرواية من:
All Quiet on the Western Front .
وسئل التويني رأيه في أحد السعوديين، وهو ذو سلطة عظمى، ومسئولية أكبر من هامة أجاب: «لعينيك ونا برضى.» أي إن نجدته تقتصر على صياحه «لعينيك»، ولكنه لا يبرح مكانه. وسئل رأيه في زميل للرجل الأول أجاب: «لا يدفع ظليمة ولا يجلب غنيمة.»
ومن البدو «افتهم» كيف يستغل الدعاية؛ إذ إنه وجد بعد أن وصل إلى العراق، واشتعلت الحرب العالمية الأولى، أن الإنكليز هيجوا القبائل على الأتراك بترويج أسطورة بينهم بأن العرب والبريطانيين كانوا فيما مضى فخذين من قبيلة واحدة، غزاهم الأتراك، فهجر فخذ إلى ما وراء البحار، وصار اسمهم بريطانيا، وبقي سائرهم في العراق بدوا مستعبدين. والآن في الحرب الأولى يعود الإنكليز ليحرروا إخوانهم من نير العدو الذي استعبد قبيلا ورحل عنه قبيل.
رجعت من «الأزرق» في شرق الأردن ومعي نحو من خمسين فارسا أكثرهم دروز، وكنت أرمي إلى أن أجعل من هذه القوة الصغيرة نواة لثورة ضد الفرنسيين. كان ذلك في خريف سنة 1936 والأمطار شديدة، وليس معنا مئونة ولا عشب حولنا تقتات به خيولنا، فصار من اللازم أن نلجأ إلى مكان ما، خصوصا بعد أن راح رفقائي يذكروني بأنهم إن قدروا أن يصبروا على الجوع، فالخيول لا تصبر؛ لذلك قررت أن أتجه إلى أراضي «الصفا» شرقي جبل الدروز، حيث ضربت خيامها قبائل «الغياث»، وهم أشداء ذوو بأس، وكان بيني وبين شيخها «خلف النعير» معرفة قديمة، وقد ساهم معي قبل ذلك في بعض المعارك.
غير أنني أدركت قبل أن أصل إلى خيمة الشيخ أن البدوي لا ينهض إلى القتال معنا إلا إذا وثق من قدرتنا على النصر، ووضح له من حقائق القوة أن الانضمام إلينا فيه له ربح وضمانة، وما كنت لأنخدع بعبارات المجاملة التي يغدقها البدوي على ضيفه، ولا بالعواطف الجياشة يرسلها كلمات فصيحة حارة، فالخمسون خيالا لا يوحون بالثقة لقتال دولة فرنسا. ولم أكن أملك مالا أوحي به ل «خلف النعير» ليستنفر قبائله، ونحن وخيولنا في ذلك الفصل ضيوف ثقلاء على جماعة من البدو قد يكونون هم في حاجة إلى الغذاء والكلأ، فلجأت إلى الحيلة بعد أن تفاهمت ورجالي على العمل.
فلما كان اليوم الثاني لنزولنا ضيوفا على خلف النعير، رحت أتحدث إلى المشايخ عن الترتيبات الهائلة التي نعدها لقتال الفرنسيين، وكيف أن الخيرات ستأتينا بالقناطير مع المعدات والعتاد والأموال، ثم رحت أتطلع برؤساء حملتي فأخاطب أحدهم مثلا: «أما أنت يا فلان، فاذهب إلى المنطقة الفلانية، وارجع بمئتي مقاتل، وخذ معك تسعة فرسان.» وهكذا انصرف رفقائي كلهم إلى ضياعهم، ولم يبق معي إلا خمسة دروز من عائلة النبواني، وبقي معي الدكتور أمين رويحة، واثنان من الشام. وخلت أنني بهذا خففت حمل الضيافة عن البدو، وأوهمتهم أن رسل الاستنفار ساروا إلى التعبئة على أن يرجعوا إلينا بعد شهر ونصف. وأصبح همي أن أقوم بعمل ما أشرك فيه القبيلة أو بعضها حتى تهب الثورة التي كنت أريد إشعالها، فطفقت أقول إنني أريد أن أهاجم الفرنسيين، ودعوت البدو للاشتراك معي، فتلكئوا منتحلين ألف عذر، مرجئين مساهمتهم إلى يوم مقبل، متمنين لي النجاح والسلامة في كل ما أعمل. وظل الأمر كذلك ونحن راكدون، ورسلي لم ترجع بعد، والحياة بين البدو أحاديث ومجاملات، وهم لا ينهضون إلى نصرتنا، إلى أن كان يوم 24 كانون الأول، فرجعت أحاول أن أحرك نخوتهم للمرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة لم أظفر منهم إلا بالأدعية والكلمات المعسولة؛ فخرجت من مضاربهم بسبعة فرسان؛ خمسة منهم دروز من آل النبواني، وفارس شامي نسيت اسمه، والسابع الدكتور أمين رويحة.
وتوجهنا نحو دمشق من غير أن أطلع رفقائي على ما عزمت إليه حتى بعد النهار، وقد ابتعدنا عن «الصفا»، فأخذت أخاطبهم: «ها نحن في هذه القطعة من بلادنا، وقد كانت بالأمس ميدانا وجبهة قتال، ولكن شهورا كثيرة مضت لم تسمع خلالها طلقة واحدة. الليلة هي ليلة عيد الميلاد، والفرنسيون سيحيونها ليلة مخمورة صاخبة، والمجاهدون من السوريين سيرجعون إلى دفء بيوتهم، والشعب قد يئس من الكفاح مع المستعمر، نحن حفنة رجال، ولكننا في هذه الوحدة، وفي هذه الليلة سنكون أبطال هذه الأمة، يجب أن نعكر على الفرنسيين أفراحهم، ونفيقهم من سكرة النصر، ونوقد الحماسة في صدور مواطنينا، هذا اليوم ...»
وقطع علي خطبتي أحد الفرسان، واسمه هايل النبواني، بقوله: «أتريد أن ترسلنا إلى القتال أم أنك مرافقنا؟»
أجبت: «بالطبع أنا معكم.»
فقال هايل: «إذن لم طول الحديث؟ لا عقلنا أكبر من عقلك، ولا أرواحنا أعز من روحك.» فأغناني هذا الجواب عن المقدمات والفلسفات التي كنت قد أعددتها، وانحرفنا عن الطريق إلى أجمة دفنا فيها أوراقنا وأغراضنا التي تحمل علامات فارقة ، وكومنا فوق الحفرة ركاما من حجارة، وتعاهدنا على أن يعود إلى ذلك المكان من منا بقي حيا فيسترد ما دفناه، ويسلمه إلى عائلاتنا. وقمنا بهذا العمل بين النخوات والأهازيج، ثم شددنا على الخيول متأهبين للقتال، وسرنا وأناشيدنا نفير قتال، ونحن في طرب ونشوة ما عرفت لهما مثيلا، وصرت أسمع لوقع حوافر الخيل موسيقى تواكب الغزاة الفاتحين.
ودخلنا في المساء قرية في الغوطة أظن اسمها «جوبر»، فرأينا فلاحين يشتغلون في الليل على ضوء سراج، وكنت أعلم أن الفرنسيين قد أقاموا في كل قرية حامية من مسلحين، فرحت أتكلم بالفرنسية لحضرة القومندان، وكان معلقا فوق زناره من الأمام خنجرا شأن الشراكسة، وسألت عن فوزي «فوزي القاوقجي»، فحلف الفلاحون أنهم لا يعرفون أين هو، وأنه لم يأت إلى الغوطة منذ زمن بعيد، فأرسلتهم في طلب الحرس، فجاءني بعضهم، ورحت أوبخهم - كل هذا باللغة الفرنسية والدكتور رويحة يترجم - وأعنفهم على تراخيهم وغفلتهم صائحا زاعقا مهددا مصرا عليهم أن يخبروني عن فوزي، فكانوا يجيبون بأنهم لا يعرفون أين هو، ولعله في الأزرق، والأرجح أنه مات، فأخذت منهم أسلحتهم، وأهنتهم، وفرضت عليهم غرامة مائة ليرة ذهبية على أن يأتوا بها في اليوم الثاني، ويجتمعوا بي عند المستشار الفرنسي في «دوما» حيث تجري محاكمتهم.
واستأنفنا السير حتى وصلنا إلى قرية «يرزا»، وأطلقنا بواريدنا صوب دمشق حتى «نثبت وجودنا»، ونخلق ذعرا، ثم انتقلنا إلى جسر «طورا»، وفتحنا على دمشق نارا قوية، وأسرعنا إلى معمل الزجاج في دمشق نفسها، وأمطرناه رصاصا هطالا، وتعالى صياحنا وهزيجنا؛ فقامت القيامة في المدينة، واستنفروا الجيش، وعلا صفير الخطر، وتراكضت المصفحات والسيارات؛ فانسحبنا فرحين، وكان المرج تحت الماء والفيضانات تملأ السهول، ووجدنا حقلا مزروعا بالملفوف فأكلنا وأطعمنا خيولنا، وصابحنا الفجر عبر المرج، وسرنا فنظرنا طائرات الفرنسيين تحوم فوق ضياع الغوطة مستكشفة؛ فشعرنا بلذة غريبة، واستمر سيرنا حتى رجعنا إلى الركام حيث دفنا أوراقنا، فاسترحنا هناك، ثم نبشنا الحفرة واستعدنا أوراقنا وكلنا أحياء ليس في جسد أحدنا خدش.
وتمهلنا بالعودة إلى مضارب البدو متخفين حتى كان رجوعنا إليهم في عصاري اليوم الثالث من مغادرتنا، فأعجبنا أن أنباء مغامرتنا قد سبقتنا مضخمة منفوخة بالغلو والأكاذيب، فتوهموا أننا نسفنا الجسور، وهاجمنا مخافر المدينة، وقتلنا بعض قادة الحامية الفرنسية، وبالطبع لم أفه أنا بكلمة تنزع هذه الأوهام من مخيلتهم؛ إذ إن بعض الغاية من تلك الغزوة كانت أن أترسمل أمام البدو بعمل ينهض بهم إلى الثورة. وخلال السهرة جاء البدو فملئوا الخيمة الكبرى يتوسطها الشيخ خلف النعير وشيوخ القبيلة، وبعض رجالها يكيلون لنا المديح، ويتغنون بأساطير ما حسبوا أننا فعلنا. وكان أحد الرعيان جالسا في طرف الجمهور يجهش بالبكاء قلقا متوترا يتململ يريد الكلام، وهو يتطلع إلي ودموعه تذرف، ويكثر الإشارات نحوي، وكلما هم بالنطق ينتهره الشيخ، ولما طال الأمر قلت للشيخ خلف النعير اتركه يتكلم، أخاله يريد أن يوجه إلي كلاما، وكنت في السر أتوقع أنه ثارت به النخوة فهو متطوع للانضمام إلينا، وقد يأتي تطوعه شرارة تشعل الحماسة في سائر أفراد القبيلة؛ لذلك أصررت على الشيخ أن يأذن له، فسمح له الشيخ بقوله: «احشي لعين أبوك.» (تكلم لعن الله أباك) فانفجر الراعي بالتفجع يقول لي: «والله إني أحبك، أحبك أحبك.» سألت: «ليش؟» أجاب: «والله كان عندي قعود - جمل أشكح أشقر - والله يشبهك، والله مات، وأنا كلما شفتك تتكلم أتذكر القعود وأبكي.»
فندمت على توسطي للسماح له بالكلام.
وشعرت أن أسهمي ارتفعت، وأحسست أن حب القتال بدأ يتوثب بين أولئك البدو. وفي اليوم الثاني أذعت أنني سأغزو قافلة السيارات التي تسير بين دمشق وبغداد، فنفر إلى مرافقتي خمسة وعشرون من شيوخ القبيلة.
فتأهبنا وركبنا، واخترت مكانا خبأت فيه خيولنا، ثم ابتعدنا فرابطنا حوالي الطريق منتظرين القافلة، وجاءت القافلة سيارات «نرن» تتقدمها مصفحة، فتركتها تستمر في السير، وتركت سيارة ثانية تفلت خلفها، وأوقفنا السيارات الباقية، وكنت أعلم أن مصفحة مسلحة ثانية تأتي في مؤخرة القافلة، فصحت بسائق إحدى السيارات أن ينطلق نحو الجنوب، وكانت القافلة تسير شرقا بغرب، وهددت السائق أنه إن لم يسرع فيجنح نحو الجنوب حيث أشرت فهو قتيل، فدار السائق مذعورا، وانطلق بالسيارة جنوبا؛ فرأت المصفحة في المؤخرة السيارة هاربة فتبعتها متوهمة أنها السيارة التي أغارت على القافلة، هكذا بقي سائر القافلة بين أيدينا غنيمة غير باردة. ووقفنا على البريد السياسي من البعثة العسكرية في الشام إلى السفير الفرنسي في بغداد يطلبون منه أن يتدخل مع السلطات البريطانية في العراق لتسليمهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر، وكان فيها لاجئا سياسيا، ووزعنا حمولة السيارات، وكانت حرائر صنع دمشق مختلفة الألوان، وقنابيز، وعباءات، وأذكر أن كل فارس أصابته عشرون قطعة. أما أنا والدكتور أمين رويحة فقد احتفظنا بقطعتين من الحرير المقلم على أن نخيطها بيجامتين، وأمرنا السواقين فدخلوا بالسيارات في أرض «الحراء»، وهي أرض بركانية، وتركوها هناك، ورجعنا إلى الخيول فامتطيناها، وقفلنا نحو خيام «الغياث»، فلما أقبلنا في ضحى اليوم الثاني والفرسان يلبسون الحرائر الزرقاء والخضراء والحمراء والعباءات على السروج كأننا في تلك البادية موكب من ربيع.
وحين أطللنا على المضارب تكهربت القبيلة، وجنت، وهاجت من مرأى المكاسب، فخلت أن الحرائر الملونة أصبحت أعلام الثورة التي كان كل همي أن تعصف زوبعة قتال في الغوطة وأطراف دمشق.
عفوك! فقد نسيت أن أذكر أنني تركت في مكان حادثة القافلة رقعة كتبت عليها بخط كبير إن على كل شركة سفريات تريد أن تؤمن سلامة سياراتها عليها أن تأخذ إذنا من قائد الثورة فوزي القاوقجي، فإن فرنسا أعجز من أن تحمي سيارة أو مسافرا.
وفي اليوم الثاني جاء البدو يحرضونني على غزوة جديدة، ولكنني كنت أهدف إلى ثورة، فاقترحت أن نزحف إلى ضياع الغوطة، فعادوا يتلكئون ويعتذرون، وأخيرا صارحني خلف النعير بأنه يريد مؤنا وكساء قبل أن يتحرك، فعمدت - كالعادة - إلى حيلة، وكان معي رفيق من طرابلس اسمه عادل الحامدي (هو موظف في بلدية طرابلس اليوم)، فناديت عليه، فأقبل وبيده دفتر كبير عديد الصفحات، قلت: «ما تبغي يا خلف؟» أجاب: «والله عقال ... والله دراعية ... فروة ...» قلت: «انتهيت؟» أجاب: «والله أختك (يعني زوجته) أريد لها ...» وهنا كر بطلبية لأختي؛ زوجته «وغيره يا خلف؟» «والله هايش - هكذا - يريد البيت شاي، ثمن - رز - طحين ...» ولما فرغنا من قائمة الشيخ خلف، أقبل شيخ آخر ... شيخ وراء شيخ، وأختك وراء أختك، وبيت وراء بيت، حتى عبأنا الدفتر الكبير ... فقلت لعادل: «اكتب يا عادل على قفا الدفتر.» فكتب: «إلى أول وطني حر في حي الميدان، دمشق: إخوانكم المجاهدون في حاجة إلى هذه الأغراض المدونة في هذا الدفتر، وهم واثقون من أن مروءتكم ستحفز بكم إلى إرسال هذه الحاجيات. أخوكم فوزي القاوقجي قائد الثورة.»
وحمل الرسل الدفتر، وركبوا الأباعر قاصدين إلى دمشق، حاسبين أنهم يعودون بها محملة، ورحت أنا أضحك بسري من هذه الخديعة، ولكن البدو كانوا ألعن مني، فلما ندبتهم إلى التجند، ومهاجمة الغوطة ما تحركوا، بل قبعوا ينتظرون رجوع القافلة، وخلال هذا كان المقاتلون الذين جاءوا معي من الأردن قد بدءوا يعودون إلينا من قراهم، ومعهم رفقاء من فرسان ومشاة حتى صرنا أكثر من مائة مجاهد، فرحنا نباغت المخافر في الغوطة، ونصادم القوات الفرنسية فنبطش بالصغيرة منها، ونتجنب الاشتباك مع الكبيرة، وفي كل مرة بعد المعارك نعود إلى «الصفا» للتخفي والاستراحة، فيلقانا البدو بحماسة ودهشة، ولكنهم لا يتحركون للقتال.
حتى كان صباح فسمعت صياحا ومن يقول: «عادت الأباعر.» فهلعت من انكشاف الفضيحة، وصرخ خلف النعير بفارس أن يذهب ليتأكد إن كانت محملة أو غير محملة، وهممت أنا بالخروج مع رجالي للهرب متظاهرا بأننا مغيرون في غزوة، ولكن الفارس عاد يقول إن الجمال محملة، فسري عني إذ تأكدت أنها غير الأباعر التي أرسلناها. أما خلف النعير فحين سمع أن القافلة عادت محملة أصابته رجفة من نشوة ما سيأتيه من مختلف الكسوة والمآكل، ووصلت الجمال والرسل فإذا هي القافلة التي أرسلناها وفيها كل ما طلبنا إلا بعض أغراض ناقصة، قرر الشيخ خلف أن الرسل سرقوها فحمى سيخ البارودة، وراح يكوي فيه الرسل حتى اعترفوا أنهم مدوا بأيديهم إلى بعض الحمولة في الطريق.
وإني حتى هذا اليوم لا أدري من هو «الوطني الحر»، أو الوطنيون الأحرار في حي الميدان في دمشق الذين لبوا طلبنا، وحملوا الجمال بتلك الثروة، فاستحال ما خططته من خديعة إلى حادثة مروءة ستخلد في تاريخنا القومي.
روى لي محدثي هذه القصة بحضور نسيب له، وهو من مرافقي القاوقجي في بعض ثوراته، فعقب نسيبه على هذه القصة بقوله: «قد يهمك أن تعرف ماذا حل بهؤلاء الفتيان من عائلة النبواني. لقد استشهدوا كلهم في ثورة جبل الزاوية. وفي سنة 1936 كنا في معارك فلسطين، إذ أقبل علينا فتى هادئ، زري الثياب، خجول، يحمل عصا نزع من أسفلها رسالة مخبأة ناولها إلى القائد قاوقجي، فإذا هي كتاب يوجهه إلى القائد أحد المشايخ النبواني يقول به: «يا عتبي عليك يا فوزي، إن عائلة النبواني التي استشهد خمسة من فتيانها تحت قيادتكم، لم تكتسب بهذا حق المساهمة بالجهاد اليوم؟ فلماذا لم تعطونا خبرا حين بدأتم هذه الثورة الجديدة؟ إن حامل هذه الرسالة هو ولدنا سليم الريس من عالية، وإني أستحلفكم بدماء أولادنا الشهداء أن تفسحوا له مجال النضال المسلح.» أعطينا سليم الريس بارودة وعتادا، وراح يشترك في القتال بضراوة، ولكنه عاش بيننا في عزلة، فإن لم يدع للطعام لا يأكل، وإن لم يقدم له سكاير لا يدخن، وكان كثير التغيب عنا، حتى كان يوم جمعنا فيه مخاتير بعض القرى للتداول في أمر، فأدهشني أن هؤلاء المخاتير راحوا يسلمون على سليم الريس بحرارة وإعجاب، فسألتهم: «ما الخبر؟» أجابوا: «إن سليما هذا كان يشتغل حارسا في إحدى المستعمرات اليهودية، وإن سبب تغيبه عنا أنه كان يتسلل إلى بعض هذه المستعمرات وحيدا، فيقوم بأعمال النسف والقتل والتخريب.»
وجاءت معركة «بيت مرين» الكبرى؛ إذ طوقنا الجيش البريطاني في دائرة 17 كيلومترا، وكان الجنرال «دل» يراقب القتال من على طائرته المحلقة فوقنا، وفيما المعركة على أشدها ونحن نصد الإنكليز عن قلب جيش الثوار، جاءت امرأة من قرية مجاورة تزعق صيحة النجدة والنخوة «نشامة ... نشامة عسكر غرب البلدة بين الزيتون ... اذبحوها ... وين راحت النشامة؟» وسمع سليم الريس الصيحة فزغرد، ثم هجم نحو غابة الزيتون ، وعقاله في فمه، وكان في القرية مرضى وجرحى من المجاهدين - شاميين وعراقيين - فلما رأوا سليم الريس راكضا ثاروا، وتبعه من قدر منهم، وثار معه رجال القرية وبعض نسائها، وهاجموا القوة البريطانية فهرب العسكر، وركب أكثرهم المصفحات، وارتدوا إلى الطريق العامة منهزمين، والتجأت منهم شرذمة إلى قرية «سباسطيا»، ورجع سليم الريس - وكان الوقت مساء - مزهوا، وسيكارته في فمه، فرأى بصيص السيكارة جنود سباسطيا فأطلقوا عليه الرصاص وأصابوه في رأسه فاستشهد، ودفناه في دسكرة اسمها «ناقوري» قرب نابلس. وكانت هزيمة القوة من غابة الزيتون سبب فك طوق الحصار عنا في أكبر معارك سنة 1936 وأشدها خطورة.
ولقد عتب علي فوزي القاوقجي، غير الشيخ النبواني، دمشقي اسمه الشيخ محمد فوزي صوري، صاحب دكان صغير أقفله سنة 1925، والتحق بالثورة حتى نهايتها سنة 1927، وكانت السلطات الفرنسية تلاحقه، فالتجأ إلى «إربد» في الأردن، وفتح فيها حانوتا صغيرا. ولما نشبت ثورة 1936 جاء يعاتب فوزي، وانضم إلى قواته، فاستشهد في معركة بين الدبابات، وكان أن جمع الحاج أديب خير في دمشق مبلغا محترما من المال لتوزيعه على عائلات الشهداء، وتوجه رسول إلى «إربد» فإذا بأرملة محمد صوري تدير دكان زوجها، وكل ما فيه من بضائع لا يملأ كيس شحاذ، وإذا في جانب الدكان ولدها الكسيح، فناولها الرسول عشرين جنيها، فأجابت الأرملة: «نحن لا نبيع رجالنا بالمال، زوجي اشترى الجنة بدمه، أنا لا أشوه الجنة بدراهم، أنتم جمعتم المال لتشتروا خرطوشا تقتلون الإنكليز واليهود، لا صدقة توزعونها على أمثالي.» ورفضت الإعانة.
ذكرت هذه النوادر للتدليل على أن بعض عناصر الثقافة والفصاحة في القائد قاوقجي استلها من البدو والبداوة، وكذلك من عاديي المواطنين.
ولم أجد في كل من عرفت شخصا له موسيقية الإشارات كما هي في القاوقجي. لو لم يكن عسكريا لصح أن يكون «ماسترو» يقود سمفوني، فحركات يديه وذراعيه متواقعة مع الحديث لا يسرف منها ولا يحبسها، فهو حين يقول لك بلسانه وقبضة يده مندفعة إلى الأرض «جاءني رسول الفرنسويين «فيشي»، وهم حينئذ «أذلاء»، رأيت الفيشيين ركعا على الأرض يتوسلون ، أو بسط يمينه مبعدا ذراعه عن جسده: «وتمزقت الإمبراطورية العثمانية، تتطاير أجزاؤها أمام عينيك، فطرابلس الغرب تهوي إلى حضن إيطاليا، والبلقان تنشق شظايا من دول. ولكن أجمل إشاراته حين يرفع يديه محاذية رأسه، ويدفعها بعينيه، «ومشينا» في تلك اللمحة ترى في يد هذا القاعد بالشورت عصا مرشال يجب أن تكون هناك في قبضته.
ما أنا برجل عسكري، وكل القتال الذي قمت به كان نضالا غير متكافئ بين طائرات تحوم فوق رأسي، وترمي بالقنابل على مختلف الأبعاد من ملجأ كمنت فيه، وكل الجيوش التي رافقتها لم تتلق مني من الضربات البكر إلا شتائم باللغة العربية كنت أهمس بها حين يبتعد عني سجاني الياباني. ولكني تحققت من أحاديث فوزي القاوقجي ما يجب أن أسجله كي يصبح نذيرا إن رجع هذا المحارب إلى الميدان، وقد يصلح هذا التعليق أن ينبه ناقدا عسكريا يبغي أن يبحث كفاح هذا الرجل من وجهة تقنية صرفة.
يخيل إلي أن القاوقجي لا يقيم وزنا للآلة، وأن الهيجاء في نظره هي عبارة عن مقاتلين وقائد يفولذهم إيمان. إني استمعت إليه وتحدثت إلى بعض رجاله. هو في الميدان وقبل المعركة يعد لها، ويأخذ جميع التأهبات: البواريد، الخرطوش، المؤن، كل شيء. ولكني في نقاشي معه شعرت بأنه يكاد يحتقر الآلة، فلا المصفحات، ولا الدبابات، حتى ولا الطائرات تشغل من سرده وأفكاره وخططه ما يجب أن تشغله. لسواي أن يحقق في هذا وأن يصدر حكمه، غير أنه في القراءة الأخيرة لهذه المذكرات انتفض صاحب المذكرات، وأوضح رأيه في الموضوع معلقا على كلامي: «أنا لا أحتقر الآلة، ولكن الآلة - بيد الجبان - جبانة. والشرط الأول للظفر هو روحية المقاتل. في معاركنا استولينا ببنادقنا على المدافع، وبها أسقطنا طائرات. في معركة «الرمية»، كان سلاحنا السيوف والبواريد؛ فغنمنا المصفحات والدبابات. في جبل الدروز والغوطة سيطرت النخوة على كل معدات العدو وآلياته.
وفي معارك سنة 1948 كانت آليات «جيش الإنقاذ» بغالا حين دخلنا فلسطين، وانتهى الأمر إلى يوم اغتصبنا من آليات العدو الكثير بينها 42 دبابة، ثم إني أحسب في حروبنا المقبلة سيكون غزاة بلادنا أبدا متفوقين علينا بالمعدات، وليس لنا إلا أن نبحث عما في أمتنا من بطولة أصيلة.
أولى مغامراته أثارها حافز تودد إلى امرأة أراد أن يغزو قلبها بشجاعته، ترى أتسكن قلب هذا الرجل جنية ترغمه أبدا إلى الغمار من أجل إرضائها؟! إذن فهل كانت ثوراته والدماء التي أريقت نزوات فروسية لا معنى لها ولا مبرر؟
قد نستطيع الجواب على هذا حين نستكمل السيرة، لا في هذا الجزء الأول، بل في الأجزاء المقبلة.
هذا الإيمان العميق ببني قومه، أكان في القاوقجي مدا مستمرا أم مدا وجزرا؟
هو يعترف بريبة سطت عليه خلال خسفة عاطفية أصيب بها سنة 1922.
كان إذ ذاك في حماة، ضابطا في الجيش الفرنسي والشعب في ركدته، ومظاهر الخضوع في طبقاته، حتى إن بعض رجال الدين كانوا يأتون إلى الفرنسيين، ويفسرون لهم القرآن الكريم على أنه نبوة بظهور الفرنسيين منقذين للإسلام. أدار القاوقجي نظره فإذا بتركيا دولة تتقاوى وعلى رأسها جندي اسمه مصطفى كمال تصدى لقتال دولة ببقايا جيش مهزوم، فثار لفراع جيوش لم يعد جنودها. من هي تركيا؟ إنها أمة، أين هي من أمتنا؟! والجندي التركي أين هو من جندينا؟ ومصطفى كمال زملاؤه الأتراك تخرجوا من المدرسة التي تخرجت وبعض مواطني منها، وحاربوا في صفوف الجيش، وحاربنا نحن فيه. أنا الذي أنقذته، ولم يكن هو الذي أنقذني، كيف تصبح تركيا دولة ذات شأن فتطرد العدو من أراضيها، وتتصدر المجالس في المؤتمرات، وتكنس بضربة واحدة عناكب الرجعية، ونحن هنا في بلادنا مستعبدون، أهمنا شأنا أكثرنا طواعية للمستعمر؟ أحقا أنني أفهم أبناء قومي وتاريخ أمتي؟ أنا مخطئ ولا شك، روح الصراع تلاشت فيهم. كانوا في الزمن البعيد أبطالا، وجاءت حقبة فتحت فجوة بينهم وبين النضال، فانظر إلينا! عبيد تكدح من أجل العيش لا إباء ولا طموح ولا جرأة. التاريخ علاك، شهور مرت عليه والحزن والريبة واليأس ملء قلبه، وجاءت أنباء ثورة في جبال العلويين، ثورة في جبل الزاوية، وفي دير الزور، ثورة في جبل الدروز ، إذن فالحياة هي أبدا تنبض في بني قومي وتفور.
أنا الأعمى الذي لا يراها، أنا الملحد الكافر. سألته لماذا لم يلتحق بالقوى العربية البريطانية في ثورة الشريف حسين على الأتراك. لقد أجاب على هذا بمذكراته، وشرح لي أنه استبق الحوادث، فأدرك أن البريطانيين كانوا على أن يمزقوا بلادنا ويستعمروها، وأنه كان أسلم لنا أن نبقى تحت حكم الأتراك وحدة من أن يستعمر البريطانيون نتفا من بلاد، وقطعا من أمة تسمي نفسها دولا. وهو كذلك يقول إنه رأى في ذلك الحين أن تصفية أمورنا مع الأتراك إن استمروا مستعمرين كان أهون من تصفيتها مع الإنكليز، وليس لي أن أتثبت من هذا الرأي، أنشأ خلال الحرب الأولى أم بعدها بسنوات. أريد أن أزيد على هذا الإيضاح أن شرفه كجندي، وروح الولاء للفريق الذي يقاتل فيه، وعنفوانه العسكري قد تكون بعض الأسباب التي منعته من نقل ولائه إلى المعسكر الذي يقاتله.
بالرغم أنه اجتمع إلى الكثيرين من رجالات الدنيا: بيرون، مصطفى كمال، عصمت أينونو، فيصل الأول، نوري السعيد، الأمير عبد الكريم، الملك سعود، كان يلفظ أسماءهم كما يلفظ أي اسم آخر، لا خشوع ولا استخفاف، غير أنه مرة واحدة حين جاء على اسم «فون لايزر» قال: كنت بمعية الجنرال فان ليزر. لعل في نفسه بقية من خشوع لشيء اسمه ألماني، وفون ليزر هذا كان قريبا للعائلة المالكة القيصرية «هوهنز لرن»، وقد أرسل إلى الجبهة مرفقا بأمر جرماني عسكري سري: «يجب أن لا يموت.»
لا أعلم في تاريخنا الحديث والمعاصر كتابا ظهر، له أهمية هذه المذكرات. وليس الغرض منها تمجيد شخص من واجبنا القومي تقديره إن لم يكن لأي سبب آخر إلا لأن احترامه والتفاخر به هو واجب علينا اكتسبه بدمه، ولا تكون الغاية الرئيسية من سرد حوادث حياة هذا الجندي أن نستعيد الثقة بأمة لا يقوى أن يحجب الثقة عنها أي من فهم تاريخها، وتعرف معرفة صحيحة حميمة حتى إلى حاضرها. بل قد يكون أهم ما في هذه المذكرات أنها بما ترجعنا إلى ماض، وبما تقصينا عن غابة مشاكل حاضرة عابرة، وبما تسمو بنا إلى فترات صراع بهية؛ أنها فيما هي تفعل كل هذا توفر أمام أعيننا النظرة الشاملة التي فقدناها، فتبسط أمامنا بلادنا بقضيتها الموحدة؛ إذ إن أكثرنا - وأخصنا من هم دون الأربعين - ما استفاقوا إلا على حطام من وطن سموها دولا، فأصبحوا في كثرتهم الغالبة إما منشغلين بما يهمهم في هذا الأفق الذي ضاق، وراح الآخرون - في خيبة الحاضر - يحلمون بمستقبل غير عاملين له، بالوطن الذي ما كان ولن يكون.
وهذا الحاضر الكدر الذي نحن نتخبط فيه سوف ننفذ من ظلمته إلى ضياء المستقبل الذي تبصره النخبة منا، أولئك الذين لم تألف عيونهم العتمة، فما خضعت ولا غشيت عن الرؤية، غير أننا لن نقوى على إحراق هذه الظلمة إلا بعد أن نرى الخيط - خيط النور - ونتأثره من يوم أن شع فظهر غير واضح، فكان هزة نفس غريزية، وتجاوبا مبهما؛ إذ ظهر في زمن الأتراك بشخص «قحطان»، واستمر تمردا هنا وثورة هناك، وبطولات مبعثرة حتى وقف - ولا أقول انتهى - عند حرب فلسطين، وبولادة «إسرائيل». إن سيرة القاوقجي تجسد كل هذا وهذه الثورات انتهت كلها بانكسارات، يعلل ذلك أنها لم تكن شاملة، وهي لم تكن شاملة؛ لأن الوعي اقتصر على النخبة، والتربية القومية كانت كذلك منحصرة بالقلة بفعل عصور الضعف، فأهمية ثوراتنا كلها منذ 1910 إلى اليوم لا تتعدى أنها كشفت عن روح البطولة ونفسية الصراع الأصيلة في بني قومنا. وإن وجود «إسرائيل» سيصبح السبب الرئيسي في شمول الوعي، وإرهاف الحس القومي؛ لذلك ستأتي وثبتنا المقبلة كاسحة ظافرة؛ لأنها ستكون شاملة موحدة.
كل من يقرأ هذه المذكرات بعينين صافيتين ما لوثتهما العتمة يتحتم عليه أن يرى هذه الحقيقة.
يقولون إن أخلاق الرجل تتكشف في أصدقها على طاولة القمار، قد يصح هذا القول بأزخم حقيقة على الرجل في الميدان. وفوزي القاوقجي عرف رجال بلادنا من كل العناصر التي تستل منها أمتنا قوتها؛ فلقد رافقه الفلاح والبدوي والمثقف والمتحضر والقروي وابن المدينة، في العراق والأردن وفلسطين وأنحاء الشام، وفهم - أو «افتهم» كما هو يلفظها - السياسيين، وخرج إلى حقيقة أن السياسيين كمجموع غير جديرين بالاحترام؛ فهم برغم إخلاصهم على وجه عام ليسوا برجال عمل وتنظيم وإعداد، وفهم هذا الرجل ما يستهوي أفراد الشعب ويستفزهم للقتال، ومتى ولماذا يصبح الجبان بطلا، ومتى ولماذا يجبن البطل، وهو لا يحترم العدد، وقد تكون هذه نقيصة فيه، وقد لا تكون، بل ربما إن الأحداث وأوضاع القتال فرضت عليه هذه الفلسفة، فهو ما خاض معركة بجيش أو عصابة إلا وكان عدوه متفوقا عليه عددا وعدة.
ويا طالما حاسبت نفسي هل وقعت تحت سحر هذا الرجل، أو أن خيباتنا القومية جسدت لي في هذا الشخص أحلاما لم تتحقق؟ فإذا أنا صريع خداع عقلي، واصفا من وجب أن يكون لا من هو كائن. وقسوت على نفسي بالنقد، وأنا لا أسمع من أكثر الذين أتحدث إليهم عن القاوقجي إلا الشتائم والطعن والتجريح؛ فهو جبان كان خلال حملة فلسطين يقضي وقته بين مرابع عالية وصوفر، وهو سكير يستحم في الوسكي، وهو نهاب أطلق جيش الإنقاذ في فلسطين ليبطش بالأهلين، ويعري بيوتهم من رياشها، وهو المطواع لزوجته الألمانية لا يحجم عن شيء في سبيل تزيينها بالجواهر، وهو جاسوس الإنكليز، وحليف الفرنسيين، وهو الضابط الصغير قد يصلح لرئاسة عصابة لا لقيادة جيش.
كل هذا سمعته من الكثيرين، وذات مساء خرجت معه تصحبه زوجته إلى ناد، وقبل أن ننصرف من النادي تقدم مني أحدهم، وهمس مستغربا: «كيف تمشي مع هذا ال ...؟» من الفاجعة أن يقف بطل أمة ليدافع عن نفسه كي يرد تهما كل رأسمالها أنها اتهامات، ولا أعرف أن شخصا في بلاد ما خرج إلى المسرح العام ونجا من تهجمات، ولكن القاوقجي أمسى ضحية لأسباب إضافية، هي غير الأسباب التي يتعرض لها كل رجل شهير في كل البلاد.
فنحن اليوم في فترة انحناءة الضعف، تهرأت أخلاقنا حتى ليشوقنا أن نقدح أو نهدم، وفوزي القاوقجي كانت آخر معاركه معركة فلسطين التي استحالت كارثة؛ لذلك ما عاد من الصعب أن تقرن اسمه بكل ما رافقنا من فشل. ستكشف الأجزاء القادمة أي «جيش» هذا الجيش «جيش الإنقاذ»، هذه المجموعة من الشبان، وأكثرهم لا يعرف القتال، ولا النظام، ولا الدربة، وبعضهم انطلق ليجاهد ولينهب، هذا الجيش الذي عبئ بطرفة عين، وسلح بالوعود، وجهز بالدعاء والإطراء، وقيل له انطلق وأنقذ فلسطين، وقائدك القاوقجي. هذا الجيش قهر اليهود في كل معركة إلا حين دخل مستعمرات اليهود.
هذا الجيش الذي حبس عنه العتاد يسخون اليوم على قائده بالبذاءة والتحقير والنكران؛ لأننا اليوم في خسفة خلقية، ولأننا ناقمون على كل شيء وكل شخص.
وإن معارك جيش الإنقاذ ستأتي مفصلة في الجزء الأخير من هذه المذكرات، وكنت أوثر أن لا أشير إلى جيش الإنقاذ بكلمة لولا أن هذا الرجل قد لبسته تهم هو منها براء؛ إذ إنه قد حظر عليه - وهو قائد الجيش - أن يزور المعسكرات حيث كانت تدرب وحدات هذا الجيش حتى يمشي بها إلى فلسطين. وقد ثارت الخصومات، ونشأ القتال بين أفراده، فوقع القتلى، وجرح الكثيرون قبل أن يزحف الجيش إلى فلسطين. وخلال الجهاد ارتكب بعض الضباط والمجاهدين جرائم من نهب وعدوان حيال الأهلين، وكان القائد أعجز من أن يؤدب، وفي بعض المواقف حيث استطاع أن يعاقب أحجم عن فعل ذلك مخافة أن يأتي عقاب المجرم من ضابط أو جندي سببا في إثارة فوضى تمسي أشأم على الأهلين من الجريمة التي منها يشكون.
وبعد، فمن الذي ينتقد القاوقجي وجيش الإنقاذ؟ أكثرهم من الناقمين يجرفون في حسرتهم كل من «اشتغل» في فلسطين، ومنهم القاوقجي وجيش الإنقاذ، وهم بهذا التجني يطمسون ذكرى شهدائنا الأموات وشهدائنا الأحياء.
وينتقد القاوقجي محترفو السياسة ممن يعيشون على هامش الحركات. لقيت في بيروت منذ شهور بعض هؤلاء المشتغلين بفلسطين، وراح يفصح الحديث عن نقائص فوزي القاوقجي مثبتا عيوبه بالحوادث. وإن حضرة هذا المشتغل عرفته في القاهرة خلال شهر آذار 1948 يعد للجهاد طوال النهار بلعب الطاولة في مقهى «بديعة»، وهو نفس الرجل الذي أمر بإحراق مستودع بنزين تركه البريطانيون حين خرجوا من فلسطين مخافة أن يستولي على هذا الوقود جيش القاوقجي الذي كان يحارب اليهود في فلسطين!
هنالك «مجاهد» آخر لا يزال يشغل حتى اليوم مسئولية حكومية كبرى، خاض معارك فلسطين كلها في أوتيل كونتيننتال في القاهرة.
هذا كان يفتش عن سهرة حين كان يفتش القاوقجي عن معركة، وهو اليوم من كبار المتهجمين على القاوقجي.
لقد بدأت الشائعات تهدم من صيت هذا الجندي منذ الساعة التي بدأت فيها أنباء بطولاته تملأ صحف الدنيا في الشرق وفي الغرب؛ إذ إنه بأعماله كسف أسماء فلسطينية كانت تحسب أن الله أقطعها هذا الجزء من بلادنا، فعز عليها أن يأتي هذا «الغريب» فيقضي بالدم والحديد والجهاد على أسطورة التزعمات في فلسطين، وهو لو عمل على رد الاتهامات لما بقي لديه وقت للنضال.
أما أنه سكير فهذا «علاك بعلاك»، وزوجته الألمانية ما هي من طراز الزوجات الأميركيات اللواتي يتبهنن ويسيطرن على أزواجهن، بل هي الزوجة الألمانية «هوس فراد» تهتم بأولادها وبزوجها وبيتها، وتكاد تجهل ما حياة زوجها خارج البيت، غير أنه ليس لها ميعان الزوجة الشرقية، فهي شريكة زوجها في كل أزمة.
ولكني، وأنا ما خضت الحرب في فلسطين، وليس لي مستندات كتبية عن حياة هذا الرجل، فكيف أتيح لي أن أكون القاضي العادل في ترجمة حياته؟ هل إنه رجل فوق البشر؟ أمن المعقول أن تأتي أحاديثه إلا تغنيا بنفسه وتمجيدا لمواقفه؟ إذن فأية قيمة لهذه المقدمة؟
لقد اعتمدت - أكثر ما اعتمدت - المصدر الوحيد الذي احترمه - رجاله - فإني أومن أن هنالك بغضاء أبدا تنشأ بين الرئيس والمرءوس، ورجال القاوقجي ما نالوا أجر جهادهم لا مالا ولا تقديرا؛ فإن كان هنالك من نقمة، فيجب أن تكون في نفوسهم قبل سواهم. ورجال القاوقجي - كما سبق وقلنا - هم من مختلف الأديان والبيئات والطبقات، وما كانوا رجال تجارة، بل رجال قتال، غامروا بأثمن ما يملكون - أرواحهم - وهم اليوم بين موظف صغير يقنص الرزق، وبين بائع خضار، أو «معلم عمار»، أو كل معدم. سألت القاوقجي: من أشجع من عرفت؟ قال: «من استخف بالموت تساوى مع أي سواه استخف بالموت.» ولكن بطولة ثلاثة رجال في «معركة» «قباطية»، طبعت نفسي بذكرى لن أنساها؛ هؤلاء الثلاثة هم: «أبو أنور» وهو دمشقي، «وقاسم محمد» وهو بغدادي، «وقاسم زهر الدين» من قرية كفر فاقود «الشوف، لبنان». ولما جاءني قاسم زهر الدين، وجدت أن الأملاك التي ورثها عن أبيه باعها، أو هي مهملة، ولم يكسب غرشا خلال السنوات الثلاث الماضية إلا مئتي ليرة حين عينوه بعد ألف وساطة رئيس ورشة على طريق.
من حق هؤلاء - لو لم يكونوا أبطالا - أن ينقصوا من القاوقجي، وأن يشتموه؛ فهم ما نالوا بسببه جاها ولا مالا حتى ولا تقديرا. ولكن هؤلاء - وإني تحدثت مع عشرات منهم - وقد رافقوه في الغوطة والعراق، وفي فلسطين مرتين خلال 1936، و1948، لا يقولون لك إن فوزي القاوقجي سكير أو نهاب أو جبان، هؤلاء الذين «حضروا الشرور»، وهم واثقون أنه «مش مضروب على رسنه»؛ أي إنه أصيل، يقولون: «وصلنا حقنا»، و«استغزينا». في يقيني أن أكثرهم يهرعون إليه اليوم إن استنفرهم من جديد. هم يذكرون من قائدهم جنديا مثلهم يلبس مثل ما يلبسون، آخر من يتناول الطعام، آخر من ينسحب، «منظاره أبدا في رقبته»، «دائما قدامنا»، أبدا في قلب المعمعة، وفي ذروة الأزمات وحمى القتال، باسم رصين، غير مستعجل. القيادة في جوهرها هي إيحاء الثقة بالقدوة، وهؤلاء المغمورون اليوم أبطال الأمس الذين خاطروا بأرواحهم في رفقة القاوقجي، يقدسون اسمه.
هؤلاء يعرفونه عف اليدين أبدا يتغنى برفقائه، وعند الحاجة يبيع من حاجاته ليقضي حاجاتهم.
ولم أتحدث إلى أي ممن عرفوا حقائق القتال في فلسطين من مواطنينا - أبناء فلسطين - إلا وأثنى على القائد فوزي معتزا به. أما ثرثرة سواهم فهي «علاك بعلاك».
وما دمنا قد أتينا على ذكر ضحايا التقولات، فإنه ليسرني أن أثبت هنا شهادة فوزي القاوقجي بأحمد شراباتي، وقد كان هذا وزيرا للدفاع في الجمهورية السورية إبان حرب فلسطين، قال فوزي: لقد عرفت أحمد شراباتي في بغداد في ثورة 1936 الفلسطينية، وسنة 1948. وإني أسجل أن هذا الرجل - أحمد شراباتي - هو مثال الوطني المندفع لخدمة بلاده ، وقد أسعف جيش الإنقاذ في فلسطين، كما أعاننا من قبل في بغداد بنخوة عز نظيرها.
صانع التاريخ يجب أن يفهم التاريخ، وفوزي القاوقجي يفهم التاريخ الذي ساهم بصنعه، ولا «يتفهم» هذا التاريخ الذي أهمله وأهمل رجاله. السياسة تخرب الجيوش، والجيوش التي لا يساندها سياسيون حكماء مخلصون تصبح تضحياتها هدرا. القاوقجي يعلن نفسه أنه عربي، وكل ما هو عربي يهزه، ولكنه يعتقد أن الهلال الخصيب، بل بلاد الشام هي قلب العروبة وسيفها وترسها؛ فإن أنت خرجت من هذا الهلال الخصيب، أحسست بأن القاوقجي معجب بقبيلة هنا وقطر هناك، ولكن قلبه في قلب العروبة - الهلال الخصيب - وهو مؤمن أن شرط قوة هذا العالم مرتبطة بوحدة الهلال الخصيب، تضعف وتقوى بقدر ما هي هذه البلاد موحدة أو مجزأة. وهو يعتقد أن من يسيطر على «شرق الأردن» يسيطر على العالم العربي، وأن استرجاع فلسطين المغتصبة أهون من استرجاع الأردن المفقود.
وأردد القول - لأنه هو أبدا يردده - أن هذه الأمة أقوى أمم الأرض قاطبة على القتال، وكل ما تحتاج إليه قضية عامة تصهرها وتفولذها، وزعيم يقودها.
والقتال مهنة احترفها، فهو يمارسها من غير عاطفية، فأحب الساعات إليه ساعة تنتهي المعركة، فيشعل النار يغلي عليها القهوة، وحوله القتلى والجرحى، وحطام المعمعة، ومثل هذا «السيران» لا يجده متعة إلا الذي نذر نفسه للدم والرصاص. لعل أقرب الناس إلى قلبه مقاتل اسمه حمد صعب قتل إلى جانبه، وسارت في الناس إشاعة أن حمد صعب لقي حتفه إذ هو يحمي القاوقجي بجسده. سألته عن حقيقة هذا الخبر فنفاه؛ إذ إن مصرع حمد صعب وجرح القاوقجي - وهذا ما سيجيء تفصيله في جزء مقبل - كان مفاجأة ما أتاحت لأحد أن يحمي أحدا. وقد سرد لي هذا الحادث بتفصيل طويل، وأعاد القول بأن حمد صعب أثمن رفيق عرفه.
ولكنه فاه بهذا القول من غير آه ولا زفرة ولا حسرة، بل زاد: «أشعر أنني لو نزلت إلى الميدان من جديد، فإن في غياب حمد صعب فقدان إحدى ركائز القتال الهامة.» وانساب الحديث إلى مواضيع ثانية.
وتبين لي من معاشرته التضارب في المسلك الذي يكاد يكون ميزة لكل عظيم؛ فهذا الذي بز أعداءه بخداعه الحربي، ومفاجآته، وتضليله لهم، عاش حذرا في الميدان وخارجه، يسيء الظن حتى ببعض رجاله. هو نفس القاوقجي الذي لقيته في السراي إبان حرب فلسطين، وراح يقص علي أنباء أزمات القتال من غير أن يعرفني. وهو هو الرجل الذي يعيش اليوم على ألف ليرة في الشهر، خصصتها له الحكومة اللبنانية بناء على توصية اللواء فؤاد شهاب في عهد بشارة الخوري، ولا يشغل باله أن هذه الألف ليرة لا تكفيه، ولا تؤمن معيشة الثمانية الذين ينفق عليهم. وعلمته التجارب القاسية التي لقيها مع الذين اتجروا باسمه في الكويت واليمن، وهو الذي دفع إلي بمذكراته، وهي كل ما يملكه في الحياة من مادة، ووقع عقدا بيننا أعتقد أنه لم يقرأه. فعل ذلك بعد أن رفض العروض الكثيرة المغرية، وبعضها من صحافة عالمية؛ ذلك لأن إيمانه الأصيل العميق ببني قومه ما قطع عليه طريق الثقة بهم أن بعضهم غدر به، ولغير سبب افترى عليه وحقره. إنه يبيع من أثاث بيته باسما قطعة بعد قطعة من غير خجل ولا آه!
فوزي «باشا» جاءه اللقب من الملك عبد الله، وأصدقاؤه ورواد بيئته القلائل ينادونه «باشا»، و«بك»، وينادونه «فوزي». إنه لا يهزأ باللقب الذي يحمله شأن من هو حقيقة يعشقه ويتظاهر بالسخرية منه.
ولكنه لا ينتفخ به غرورا، فيقول مثلا: «وصلنا بغداد»، ولكن رفقاءه هم الذين قالوا لي إن السيارات التي استقبلته في بغداد امتدت نحوا من عشرين كيلومترا. إنه لا يذكر الاستقبالات، ولا مظاهر الإجلال، ولا المظاهرات التي أقيمت له في الماضي؛ لأن كل ذلك لا يهمه، ولو أن في نفس هذا الرجل وحلا من حقارة، أو كفرا بأمته، لأشغلت باله الرصاصة في رأسه؛ فأذنه اليمنى لا تسمع، وعينه اليسرى لا ترى، ولكان تطلع إلى أولاده وأكثرهم أطفال، وإلى أفق مسود يتقلص حوله، وإلى أثاث بيت ينقص شهرا بعد شهر ؛ لأنه يباع شيئا فشيئا، وإلى وطن رش عليه دماءه فكافأه كما كافأ رفقاءه بالإهمال والاتهامات. إنه لكان تطلع إلى كل هذا فجن أو انتحر. ولكن العظمة الحقيقية تشيع في النفس الطمأنينة والرضا بما فعلت، فلا تعود متحرقة متشوقة إلى مظاهر التقدير والتعظيم، وتغرس في النفس حصانة تزلق عنها سهام الانتقاد والتجريح. إنه واثق بمستقبله ومستقبل أولاده؛ لأنه واثق بمستقبل أمته. صانع التاريخ يفهم التاريخ، وهذه الانحناءة في ضعف أمتنا هي حال عابرة ولا ريب؛ ذلك إيمان هذا الجندي الذي هو في نظري أعظم جندي أنجبته بلادنا بعد «هاني بعل».
وتلك الكمية المجهولة، الإكس
x
في هذا الجندي، ما هي؟ نحن لا نقدر أن نفهمها ولا هو «يفتهمها» بعد أن استبدل دمه بسبب كثرة العمليات ثارت في رأسه وجسده الآلام المبرحة، فراح الأطباء يعطونه المسكنات. سألهم ذات يوم: «هل هذه الأدوية تشفي؟» أجابوا: «لا، بل هي تطرد الأوجاع.» قال: «إذن، فأنا لا أريدها.» ورمى بها وبالأوجاع. «وعملنا خمس ست معارك.» يلفظها كسكير يردد: «وشربنا كم كأس.»
أفاق على الحياة فتى في مدرسة عسكرية في إسطنبول لا يحس قومية ولا وطنا، حتى حدث وانقسم فتيان المدرسة إلى معسكرين، بعضهم قال: «نحن أتراك.» وراحوا يتغنون بجدهم الأعلى «طوران»، وآخرون صاحوا: «نحن عرب.» وطفقوا يفاخرون بجدهم الأعلى «قحطان»، هذا القحطان الذي سمع به فوزي القاوقجي لأول مرة لم يكن في نظره إلا رمزا للاعتزاز والخصومة مع الأتراك.
ولكن بقي في نظره - حتى بدأ أن يعي حقيقته - فروسية، فالحرب للحرب. وبعد، فأكثر الرصاص لا يقتل. واستهوته الأوسمة كشهادة للبطولة، وأصيب بهوس جنوني يحمله على تحدي الأخطار رجاء أن يجرح؛ فكثرت جراحه، وهذه الجراح في نظره - وهي بعض الموت - كانت له مصلا وقاه من الموت. «رفيقك يا فوزي ما يعود.» هكذا كان البدو يقولون له، لعل نظرية «هكسلي» صحيحة، فهذا رجل طلب البطولة بشهاداتها من أوسمة وجراح، ولكنه - والموت ما كان شرطا لانتصار قضيته - لم يطلب الموت.
فكان له ما أراد؛ كانت له الأوسمة والجراح؛ لأنه هكذا شاء وعزم وأراد.
وكانت غلطته الكبرى أنه ما أراد الموت، فلم تعترف بعظمته أمة لا تكرم الأحياء.
أشيائي المفقودة والمردودة
أقولها بلوعة المفجوع: «لقد فقدت إيماني بالله.»
إن كانت هذه العبارة تصنفني كافرا فعزائي أن كفري لا يتقنع بالرياء. ترى كم واحدا بين جموع المترددين على المعابد من مختلف الطوائف، كم من الذين تسري على ألسنتهم كلمة الله، وبه يحلفون، هم في حقيقة الأمر مؤمنون؟ أكثرنا يخاف أن يصارح الناس، أو يصارح نفسه، بأن قلبه فارغ من الإيمان برب في السماء يعبده، فالصلوات والزكاة ومظاهر التقوى هي - في أكثر الأحيان - ضريبة الخوف، يدفعها من يوظف في المجهول مالا أو وقتا أو جهدا اتقاء لشر أو طمعا بمغنم قد يكون هناك.
وإن بعضنا - من أدعياء المعرفة - يعلنون بخيلاء أنهم كفرة، مزدهين بهذا القول ببطولة مزيفة، أو بعلم هو في الصحيح غي؛ فإن من الواضح أن الكون بنظامه الدقيق العجيب وروعته وغموضه، وتفتح أسراره، يستحيل أن يكون وليد صدفة، أو أن يكون قد وجد لغير غاية، فالعلم - وما أقل ما أصبنا منه! - لا يقدر أن يثبت وجود الله، ولكنه بلا ريب ينفي عدم وجوده.
أقول لقد فجعت بإيماني؛ لأنني ربيت في بيت تعلمت فيه التقوى؛ فأنا منذ أن نموت عن طفولتي ألهج بذكر الخالق، ويملأ اسمه سمعي: «حرام أن ترمي دجاجة بحجر، حرام أن يقع الرغيف على الأرض، حرام أن تشتم، أبوك يرجع من منفاه متى أراد الله، فرسنا الشقراء ماتت لأن تلك كانت مشيئة الله.» فما كانت التقوى في مشتلنا العائلي طقوسا بقدر ما كانت سلوكا، وحين تعلمت فك رموز الأبجدية اطلعت على كتب الدروز، وسهرت الليالي في «الخلوة» أقرأ من كتبنا، وأستمع إلى تجويدها ومواعظ الشيوخ ولشروحهم لها. وبعد ذلك طالت وتعددت سياحاتي المدرسية، ولكنها انحصرت في مدارس كلها تبشيرية من راهبات الكاثوليك، ورهبان الموارنة، والمبشرات والمبشرين بالبروتستنتية، وهممت ذات يوم بأن أعتنق الدين المسيحي إثر موعظة خطابية سمعتها من قسيس استهوتني منبريته، ولكنه استمهلني أسبوعا، أرجع بعده إليه لأثبت له عزمي، وما رجعت.
ولقد تثقفت بالقرآن الكريم على يد شيخ معمم أزهري، وعبر السنين كنت - ولا أزال - أقرأ في المصحف الشريف، كما أكثر من ... كدت أقول دراسة الإنجيل المقدس والتوراة.
ولكن ذلك اليقين بأن في الوجود - أو عبر الوجود - قوة مسيرة تحاسب وتعاقب وتكافئ وتستمع للابتهالات تلاشى من نفسي، وخلف فيها فراغا من الحسرة؛ فأنا اليوم أحسد وأغبط كل من اعتقد بالعزة الإلهية، وإن من الجريمة أن يسعى أحد لهدم هذا المعتقد في نفس مؤمنة به، كما أنه من الجهل والتضليل أن نعتبر الطقوس وأقذار الطائفية هي بعض عبادة ذلك الشيء العظيم الذي اتفقنا على تسميته بالله.
أما الشيوعية، وهي أداة تهديم المجتمعات والسيطرة الاستعمارية على الشعوب، فقد وجدت أن أفعل السبل لتقويض الأنظمة وإثارة البلبلة، هي في أن تطرد الإيمان من قلوب البشر، فما قنعت بإفراغ الأفئدة من اليقين، بل زادت على الإلحاد الاستخفاف بالمؤمنين والهزء بهم وبعقيدتهم، ممهدة بهذا العمل التخريبي الفردي للتهديم المجتمعي الشامل.
وحين انضممت إلى الحزب القومي الاجتماعي كنت أصبو إلى أن تعيد عقيدته إلى نفسي اليقين بغيبية شردت عنها، وكنت أتوق أن يزودني الحزب بمعتقد سماوي جديد يملأ الفراغ الذي أحدثه شرودي، وسببته حيرتي، ولكنني وجدت مبادئ الحزب تنصب، وتقتصر على بناء المجتمع دون أن تعنى بأي موقف إيجابي أو سلبي من الغيب، وفكرة الله، والثواب والعقاب، بل إن مبادئ الحزب تصون للفرد حرية معتقده الديني فلا تدفعه إلى أي دين. ولكن حيرتي الكبرى زالت، وامحى التساؤل من غير أن أدري، وما عدت أستشعر بقلق ولا فراغ؛ إذ اعتضت بالعمل المجد المثابر في سبيل تحقيق شيء عن دراسة نظرية للتحقق من شيء.
يقولون أن ليس في أزمات الخوف من ملحد. إن اختباراتي الشخصية تنفي هذا القول؛ لقد واجهت أخطار الموت مرارا لا عد لها، في العواصف البحرية والزوابع الهائلة على اليابسة، في السجن، وفي حرب طاردتنا خلال سنواتها قنابل طائراتها. كنت أشتهي في أزمات المخاطر - وأنا أسمع صلوات سواي وضراعاتهم - لو أنني أقدر أن أنطق - بصدق - بكلمة فيها تعبد أو بصلاة أو ابتهال أو استسلام لرب العباد.
والحياة - وقد نهبت مني نعمة الثقة بالله والتطلع إليه والاتكال عليه - هل ردت لي من هذا الشيء المفقود ما أعتاض به عن السعادة التي حرمت منها؟
الجواب: نعم!
لقد فلسفت سلوكي؛ فانتهيت إلى الاعتقاد أن الله - إن ثبت وجوده - لن يحاسبنا على المظاهر - وهذه هي طقوس الأديان - بل على ما نوفره أو نجدد توفيره لسوانا ولأنفسنا من خير، وقد تحتشد في لفظة «الخير» هذه معاني القوة والسعادة والجمال. وما دمت أتوهم أو أدعي أو أثق أني ساع أبدا للخير، فحسابي مع الله مسدد سلفا؛ فما بي لوعة وما أنا بالمفجوع.
كنا في جمع حول كئوس من الويسكي، والدنيا طرب ودعاب، وأنا والزمرة - وبيننا أحمد ونمر طوقان - نتحدث عن أخيهما، وأخي إبراهيم طوقان، وقد ظهر ديوانه منذ أيام، بين القهقهات جئنا على ذكرى الشاعر الذي دفناه وكلنا أحبه. ويقينا أحسست بتقريع ضمير، وشيء من حقارة في النفس أن يمر طيف رفيق الصبا، فلا يلقي على كئوسنا ظلا من كآبة: إبراهيم طوقان - الشاعر - ولد على يدي، وقد تعهدت شاعريته بأمومة وأبوة. كان آخر من ودعني على الباخرة التي سلختني عن بلادي سنة 1925، وكانت آخر كلمة سمعها مني؛ إذ ابتعد قاربه المودع عن باخرتنا المقلعة فصحت به، وأعدت الصراخ مرارا حتى سمع الكلمة، وهز برأسه موافقا:
؛ أي «أنتج». تلك كانت آخر كلماتي له، ولقد بكيته في المغترب ألف مرة، وها نحن بين العبث والشراب نبحث في أمره، وفي شعره، وليس في نفوسنا وحشة.
هذه السنوات الموغلة بي في العمر أفقدتني العاطفية لا العاطفة، والعاطفية هي ضعف وتخاذل، ولكنها شيء جميل؛ بحيرة دافئة تغتسل فيها الأرواح. ما استردت من الحياة بديلا عن هذا الشيء الذي فقدت؟
استللت من الحياة قوة، وفي القوة نشوة وجمال. قد تكون الكآبة والوحشة والحسرة أشياء نبيلة، ولكن القوة هي كذلك شيء جميل نبيل. من يدري أن لا تكون القهقهة كبرا تصغر عندها الآهة والدمعة. قد يكون الله - الذي ننفي وجوده - يغير لعينيك النظارات كلما ضعف بصرك أو زاغ؛ فالأشياء المردودة والمفقودة هي هي، غير أن المنظار الذي يستر عينيك هو الذي يتبدل، ولا أدري إن كانت هذه الفكرة فلسفة أو سفسفة، ومن يدري أن لا تكون الفلسفة سفسفة لبست ردنكوت ومونوكل، وفي عروة سترتها شارة نيشان، وكل أهميتها أننا نخاطبها بصاحبة المعالي.
وفي هذه السنة - هذا المقال يكتب بمناسبة عيد رأس السنة - فقدت صحتي، فقلبي، كذا يقول الطبيب، وكذا تسجل آلته، قد عطب فلا شفاء من علته، فمداواته تنحصر في مداراته. إن طريقي نحو الموت سلك قادومية. ذعرت وخفت بادئ ذي بدء، غير أن الحياة وهي تسير بك - وهذه السنة اندفعت بي نحو الموت - كيفتني لملاقاة الموت، ليس في نفسي اليوم من خشية أو ذعر، أقولها من غير مبالاة ولا مباهاة، لو أنني تحققت وعلمت سلفا أنني سأقع ميتا بعد خمس دقائق لما تهيبت ولا هلعت ولا حزنت. سنة الحياة أن تمنحك شيئا حين تنتزع منك شيئا، إنها حين تهم بأن تقبض منك الروح تهبك الجرأة للتخلي عن الروح. لعل كل هذا هو الله الذي نتحدث عنه، لعله هذه الحياة المستمرة المبهمة السخية، هذا اللغز الأخاذ الجميل الشائق. قد أكون في حقيقة غير كافر؛ لأني أومن بالحياة؛ بجمالها، بخيرها، بعظمتها، بعدلها؛ إذ هي «تضرب باليمين، وتسند باليسرى». أشياؤك المردودة توازي أبدا أشياءك المفقودة؛ لأن غنى الحياة هو أبدا في النفس، وفي المواقف النفسية من الأحداث. الحياة هي شيء ذاتي لا موضوعي، فثق إذن أنك أنت بخير في كل عام من غير أن تسمع من أحد يتمنى لك «كل عام وأنت بخير».
معاقل سوف ننسفها
في أكثر ضياع لبنان يرثون العداء كما يرثون عن آبائهم الأملاك، ولكن هذه تتجزأ إذ يقتسمها الأبناء. أما العداء فيرثه كل ابن وابنة كاملا غير مجزأ؛ لذلك راح النظام الاجتماعي في هذه القرى يتفولذ بعنف الصراع بين فئات - هي في أكثر الأحيان اثنتان وقد تكون ثلاثة - ترفع له راية من متزعم يظفر بولاء فئته، وهذه لا تشعر بولاء لبلاد أو أمة، فيجيء ولاؤها لهذا الفرد قويا راسخا صافيا؛ لذلك أصيبت الفئة التي كان يتزعمها بالوراثة أبي في ضياع الشوف بنكبة، حين أعلنت فجأة أنني اعتنقت العقيدة القومية الاجتماعية. وعد هذا الفعل بعضهم خيانة، وكبر على آخرين أن أمسي في مؤخرة أعضاء الحزب، أنا الذي في كثير من الأماكن أتقدم الكثيرين بسبب أنني ابن فلان. من هؤلاء الأصدقاء الأصفياء الأشداء رجل اسمه سعيد أبو تين، له في البأس والمروءات وصداقة «بيتنا» تاريخ، ولقد أرسل لي عتابا، وكشف عن حسرة، فوجهت إليه هذه الرسالة:
أخي سعيد
هذه الرسالة موجهة إليك، وليس الذنب ذنبك أنك قد تحتاج إلى من يقرؤها عليك، ولكني واثق أنك تفهمها وتستوعبها بأكثر من الكثيرين الذين يكتبون ويقرءون وينظمون.
أؤكد لك أني حين كنت أسطر بياني وأعلن إيماني، كنت أنت والكثيرون من إخوانك وإخواني ماثلين أمام عيني، ولم أكن أخشى ما قد ينتظرني من حرمان واضطهاد ونقمة، بل أخاف الخوف كله من أن تؤلم وثبتي أمثالك.
لقد نشأت وإياك، وستبقى لي أخا، وسيبقى كل أخ لي أخا، أية جريمة اقترفت حتى تبعد عني أو أبعد عنك؟!
غير أني حريص أن لا تتألم؛ لأني أودك وأحترمك. ومما يحببك إلي - ولا يعيبك - أنك رجل منسي وفقير وغير شهير.
لقد عرفتك وفئة من إخوانك فتيانا في الحرب الأولى يتخطون الجبال، ويقاتلون عصابات البدو، ودوريات الأتراك، تتسللون في الليالي الكالحة تحت الأمطار وفوق الثلوج لتوفروا لمواطنيكم لقمة عيش لو لم تقتنصوها لمات الكثيرون جوعا.
وأذكر سنة الثورة كيف وقفت وأخوك، وأخوك الآخر، وابن عمك، ورجال لا يبلغون العشرين عدا؛ وقفتم حول نسيب الداود في «حلوى»، وقاتلتم حتى هزمتم ثلاثمائة جندي فرنسي، ثم كانت لك معارك غيرها انتهت بك وبسواك من الأبطال - هذه كلمة سخفوها اليوم - إلى صحراء «الأزرق».
وأذكر أنك كنت بين الأربعة عشر مقاتلا الذين اختارهم القاوقجي حرسا خاصا له؛ فبقيت في الجهاد - هذه كلمة ثانية سخفوها - سنوات تسعا، وخبروني عن موقف لك في بيروت كنت تزغرد فيه للمروءة وتثأر للعزة.
ولكني أريد أن أقول لك إنك لم تكن في «حلوى»، ولا راشيا، ولا في الأزرق، ولا في فلسطين أشد رجولة منك في الصيف الماضي حين قبلت أن تصافحني واقفا باليد الواحدة بدلا من أن تنحني مسلما بالاثنتين، ولم تظهر في حياتك إذ تقحم المعاقل بطولة أعظم من بطولتك منذ شهرين حين ارتضيت أن تقحم الباب فتتقدمني في الدخول إلى بيت لتتصدر مجلسا فرضت التقاليد أنه كان لأبي، ووجب أن يبقى لي ويستمر وقفا على أولادي، فيما حرم منه أبوك، وأقصي عنك، ليبتعد عنه أولادك.
يوم نزلت أنت إلى المعركة لم تكن مدفوعا، ولا مأجورا، ولا أنانيا، بل كانت لك حوافز هي اليوم زادك الروحي؛ لذلك قلت لك في مطلع هذا الكتاب إنك تفهم رسالتي هذه وتستوعبها، لقد سمعت أنت الناس إذ ذاك يصيحون، ويتقولون عنك «شو بدو؟» «شو صاير عليه؟» «لماذا لم يستشر إخوانه وأصدقاءه؟» أنت تعرف الأجوبة أكثر من سواك.
أنت لم تشترط أن تصبح قائد الثورة حين «مترست» في حلوى، ولا ساءلت نفسك من يغضب ومن يرضى، ولا همك أن تخسر أو تظفر؛ فإنك شعرت بالقوة إذ تجمهر جيش في قلبك، فرأيت الجيش المهاجم برغشة. الدنيا اليوم أراها كما كنت أنت تراها؛ برغشة.
لم يسبق لي أن طلبت منك ولا من إخوانك شيئا، ولن أطلب من أحدكم شيئا، ولكني تعلمت منكم، وتثقفت على أيديكم، وكانت اجتماعاتي بكم الكهرباء التي تعبئ بطارية روحي، إني من أجلكم خطوت هذه الخطوة، أمامنا معاقل يجب أن ننسفها، نريد أن نصهر نفوسنا بالعقيدة القومية التي صهرت الإقطاع والطائفية، نريد أن نعيش في بيت لم تحجز مقاعد المخمل فيه على عائلة، وكراسي الخيزران على عائلة، فيما بقي أفراد سائر العائلات وقوفا أو خارج الدار. نريد أن نوقظ العزة في نفس المواطن العادي. نريد الدين عبادة وروحانية، وتقوى، فقط لا غير. نريد الجبان يصبح جريئا والشجاع لا يهدر بسالته في السخف، نريد نظاما حزبيا حديثا، ليست المشاكسة والتزريك والبغضاء من عناصره.
أريدك أن تبقى صديقي، ويصبح ابن عدو أبيك وعدو أبي رفيقا لك ورفيقا لي.
ونريد فوق كل هذا أن يحيا مواطنونا، ومنهم القادة والأحزاب ما به يبشرون.
لقد ألفت فيما مضى رواية «نخب العدو»، وكل ما أفعل هو أني أعيش ما بشرت به، على عقيدة انطلقت آفاقها.
أكثر الناس يهمهم أن يتقدموا سواهم، ولكني يا صديقي أشعر بكبر حين أمسي في صفوف المشاة.
يهمني جدا أن أعلم أنك وإخوانك غير عاتبين وغير متألمين، ويشوقني أن أرجع إليكم، فأشعر فيما أنا بينكم أني أحد جنود قضية هذا الشعب الذي لن يقهر، وفيه أمثالك.
لك أخوتي.
يدي إلى قلبي.
أخوك سعيد تقي الدين
إلى سعادة
في 8 تموز 1949 أعدم الزعيم سعادة
ألوف من رفقاء لك اليوم - هنا وعبر الحدود - يغتصبون لحظة ليرفعوا الأكف بالتحية، لا دمعة في عين، ولا حسرة، ولا زفرة، فأنت علمت الإيمان بالقوة، وحقرت الضعف، ولولة وآهات.
هي لحظة مختصرة، يبرر قصرها أن رفقاءك يمارسون فضيلة الصراع، فيومهم لحظات تحتشد جهودا، وصفاء الذهن لا يرتفع في صعيد الأدب إلى حيث يطمئن أحدهم أنه قام بما هو فوق طاقته، وأنت الذي بشرت بالنبل أنه ما يبذله الفرد عبر واجبه وأكثر من مقدرته.
إن الذين اغتالوك عرفوك، وفهموك، وأدركوا أي خطر كنت عليهم.
ولقد اتهموك أمس بما هم يتهمون به تلامذتك اليوم، فقالوا إنك عدو لبنان. أنت الذي استشهد ليحرر لبنان من أوهام الخرافات، واستبداد الإقطاعية، وعاهة الطائفية، ومن تلاميذك كان سعيد فخر الدين، شهيد الاستقلال، قالوا إنك عدو لبنان، أولئك الذين خربوا لبنان، ونهبوا كنوزه، واستعبدوا مواطنيه، ومجدوا السخف والشعوذة.
اتهمك بالخيانة أولئك الذين أثروا على حساب لبنان، ووصلوا إلى مركز النفوذ، وكانوا أبدا عمالا للدول الأجنبية، يحملون أرقاما في دوائر استخباراتها، ويتربعون على أرائك سفاراتها ومفوضياتها.
قالوا إنك حليف اليهود، أولئك الذين باعوا فلسطين، وضيعوا فلسطين، وتلاميذك ورفقاؤك - عشرات منهم - قاتلوا في فرقة «الزوبعة»، فكان من قتلاهم سعيد العاص، ومن جرحاهم جورج عبد المسيح.
ولقد اتهمك بالإلحاد من جعل الدين متجرا وسوق بورصة، وأنت الذي جوهرت عقيدتك نفس معتنقها، فهو يمارس تعاليم الله إذ يمارسها، ويقترب من الخالق كلما اقترب عملا وحياة من القومي الاجتماعي الأمثل.
وشيعوا عنك أنك عدو العروبة، وأنت أنت الذي بشر بالجبهة العربية وبالعالم العربي، تفولذه رصانة المصلحة والعلم والتاريخ، وتقوده أمة جهزها لقيادته تفاعل الحياة فيها.
نقف اليوم، وفي نفوسنا نقمة على نفوسنا، فأنت الذي أوضحت لنا مسئولية المواطن نحو أمته، فتحسسنا بالأخطار التي تحيط بنا من الداخل والخارج، فإذا بأرجلنا دامية على طريق الحياة التي اختططت، وإذا بنا نلهث تعبا، وإذا بنا نعنف أنفسنا صائحين: «قليل ما فعلنا.»
بناتك «صفية»، و«اليسار»، و«راغدة»، ما هن بيتيمات منتحبات، بل رفيقات ضاحكات.
وعرزالك لا يزال يتوج المتن الشمالي في وقفة عز تطل على قصور في بيروت، طوابق شادتها «طوابق».
وتلك الحفنة من الرمال جبلها دمك، صارت لبنة صلبة تتكاثر وترتفع أسوارها وتصطف متاريس.
بلى بلى، إن الذين اغتالوك فهموك، وعرفوا الخطر منك عليهم.
وأما المعرضون والخائفون والمبغضون، فإنهم رفقاؤك في غد حين يفهمونك ويعرفونك، ويدركون أن عقيدتك هي وسيلة الإنقاذ، وحزبك هو جهازه.
لقد آمنت بمواطنيك، ونحن نؤمن بكل مواطن، وسيؤمن بمبادئك كل مواطن؛ لأنك - هكذا علمتنا - قلت إن في كل مواطن خيرا. إني أيها الزعيم أراك في كل يوم النظرة الواثقة المتحررة الجريئة في الرفيق الذي كان بالأمس لا يستشعر الكبر في نفسه وقوتها، أحسك في القوة التي تتوثب في نفسي التي انصهرت فانتصرت، في هذه النهضة، في الكبر الحقيقي وقد كان بالأمس انتفاضا وغرورا.
أحس القوة في عزة الحرمان، في جمال التضحية، في الثقافة أتلقاها عن تلاميذ لك، حرمهم المجتمع الدراسة، في مبادئ العقيدة التي اعتنقت، يؤيدها العلم وتزكيها الوقائع في كل يوم.
رفقاؤك اليوم هم أصفى لبنانية، وأصدق عروبة، وأعمق إنسانية؛ لأنهم يمارسون عقيدتك.
من رفيق لك أيها الزعيم الخالد، تقبل «شكرا» يا من خلد «شكرا».
سنة 1952: قطع طفت منها على الزمن
تصدر صحف هذا الصباح وهي تحمل نبأ خطيرا، معلنة أن عاما مضى، ثم تؤكد جازمة أن أمرا ثانيا مهما كذلك قد حدث، وهو أن سنة جديدة بدأت، وإن أنت مررت بساحة البرج فرأيت فارس الخيل والليل يطارد باعة الجرائد، فطمئن بالهم؛ إنه المتنبي ينهض من قبره في مطلع كل سنة يتحرى في الصحف عن صدر بيته: «عيد بأية حال عدت يا عيد!»
كاتالوج
وإن الذي يريد أن يستعرض الأشهر الاثني عشر الفائتة يجب عليه أن لا يفتح كاتالوجها أو يسرد وقائعها حادثة حادثة. إن القمم لا تغيب عن الأفكار، وما غار في وادي النسيان فهو لا يستحق الذكر، وفي ضباب السنة التي انسابت إلى عتمة الماضي، ما الذي لا يزال يلمع ويشع؟
غرق وإنقاذ
من غير تردد أقول إن أهم ما حدث هو غرق «شامبوليون»، ونجاة سمعتنا في الدنيا. إن البلطجي لم ينقذ أرواح مسافرين، بل أنقذ صيت أمة، هذه الأمة التي لا يكفر بقدرتها إلا الخونة والمخنثون. من الصعب على الجمهور أن يؤمن بكلمات ويفقه معناها حتى تتجسد أعمالا. اليوم يفهم الكثيرون ما معنى «إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.» لقد خط المجذاف في شاطئنا سطرا من المجد جديدا؛ إنه درس في البطولة الإيجابية يلقى علينا وتتلقنه ناشئتنا، يا للصورة الرائعة إذ ينبري القارب اللبناني، فيقوم بالمعجزة التي انخذل عنها الطراد البريطاني، ومعداته، والطائرات، وإذ نتغنى ببطولة «البلطجي»، فنحن نشيد برفاقه ورجاله، وبليغ أن يكون بينهم فلسطينيون، فندرك أن ليس بين خنوع اللاجئ ووثبة البطل المنقذ إلا زوبعة تستثير.
والكسليك؟
أما الرجل الذي انتحر، رهين الكسليك، فقد يقال أن ليس من المروءة الطعن في جثته، ولكن بشارة الخوري لا يزال حيا، بل هو لا يزال حيا وفعالا، ولا يهمنا من أمره إلا ما فعله أمس، وما يفعله اليوم، وما قد يفعله غدا، وما نقوله الآن فيه هو أقل عنفا مما سمعه منا وقرأه لنا أيام سيادته وسؤدده.
قد يكون كل الذين يتبجحون بأنهم ساهموا بخلعه صادقين، ولكن الحقيقة الراهنة التي يجهلها الناس هي أن بشارة الخوري لم ينته أمره إلا حين قرر المعسكر الغربي التخلي عنه. لقد كان رئيس الجمهورية اللبنانية زلمة الأجانب، ولقد نبذوه كما ينبذون كل من تنعدم منفعته لهم. إن أردت أن تسجل تاريخ قرارهم باستدباره، فقد كان شهر حزيران 1952 حين تحققوا أن عهده بلغ نقطة اللارجوع في الفساد، وأن استمراره ينشر الفوضى والشيوعية.
على أن الأجانب، وهم لا «يتزوجون» أحدا، كذلك هم لا «يطلقون» أحدا، لا أدري إن كان بلغك أن الأميرال مونتباتن حين جاء بيروت زائرا، منذ أسابيع جلس إلى مائدة مع الأستاذ بشارة خليل الخوري، وقائد الجيش الجنرال شهاب، رهين الكسليك، رجل ساحر الكياسة، إنه اليوم يتستر بأقنعة كثيفة حاكتها اختبارات الحياة، فالتف بها ساترا عن الناس نفسه، أقنعة لا تطل منها حقيقته إلا في لحظات مرح، وهو اليوم مرح يتأنق بلبسه، شأن من يزهو بظفر، أو من يريد ترميم معنوياته، وهو في غير ساعات المرح يقف مذعورا، وعيناه كقبضتي ملاكم؛ إحداهما امتدت لتضرب، والثانية حذرة متوترة تحرس وجهه وجسده.
والجريمة؟ إنه لا يعترف بها. من الذي مجد السخف في هذه البلاد، وزركش الحكم بالترف الشرقي والفخفخة؟ من الذي نهب الخزينة، وسجن الأبرياء، وأطلق سراح المجرمين؟ من ألبس السرقة والخداع والفساد ثوب الاحترام؟ من رسخ المحسوبية، وجعل من هذه الدولة مدينة ألعاب؟ بشارة الخوري؟ إننا نجور على الرجل إن قلنا إنه سبب الكوارث كلها، وهذه المخازي، ولكننا نجور على الحقيقة إن قلنا إنه لم يلعب الدور الرئيسي في تمثيل هذه المأساة.
بشارة الخوري هو رجل له ثقافة القرن العشرين، وكياسة رجل القرن الواحد والعشرين، والتحسس الاجتماعي لرجل القرن الثامن عشر، إنه يؤمن بالإقطاعية سلبا وإيجابا، فهو ينحني أمام العائلات الإقطاعية، ولو أنه يرجع إلى الحكم في غد لما استعان إلا بالأشخاص أنفسهم الذين تعاون معهم فيما قبل. إنه ما كان ليوافق على إعدام أنطون سعادة لو أن اسمه الشيخ أنطون سعادة، إنه يزدري الرجل العادي، ويرفس اسمه بشفتيه. وفخامة الرئيس الشيخ بشارة الخوري أراد أن يحكم دولة بعقلية مختار ضيعة هي بطبيعة حالها حزبان؛ فمن وسائل تسيير الأمور فيها النكايات والتنكيل والمحاباة، وهو صاحب عقلية تمجيد «الشاطر حسن» لا جبران خليل جبران، ولا شارل مالك. إنه في قعر نفسه كان يحس أنه ملك مطلق، أو متصرف تركي، أو الأمير بشير، كل شيء فهو ملكه، وما يتسرب إلى الشعب فهبة منه إليه.
لقد «أعطى» الحزب رخصة كأن ليس للحزب حق برخصة، إنه «عفا» عن فلان، كأنما ليس من حق البريء أن لا يسجن، كل قرية «أعطاها» تليفونا، و«منحها» مدرسة، «جاد عليها» بطريق.
إنه لا يشعر ولا يعترف بجرائم عهده، ولا هو مقتنع بأنه أجرم. الحكم في نظره هو دق طاولة. الصفقات، السرقات، الفوضى، هذه ألفاظ ليس لها في ضميره لسعة التعنيف. الفلوس التي طارت في المطار تكفي لبناء عدة مستشفيات، ليس له ضمير اجتماعي يوبخه، لقد كان يلعب دق طاولة، وخسر البرتيتة، على حدفة. أتاه «بنج جهار» فخسر، لو أتاه «بنج دو» لربح. خذها مني: هذا الرجل سيعود إلى مسرح السياسة اللبنانية إلا إذا أصابت نفوذه اليوم ضربة قاضية كمحاكمة أو إبعاد، وإلا إذا طغت موجة وعي قومي اجتماعي على هذا الشعب فنبذ أمثاله، وسيرجع نافضا يديه من أقاربه، متنصلا من بعض حلفائه، متحالفا مع بعض أخصامه، وستكون «الطائفية» نفير هجومه. إن المحامي بشارة الخوري أخذ يعد دفاعه عن الرئيس بشارة الخوري منذ اللحظة التي وقع فيها وثيقة الاستعفاء، وقد بدأ يدون لائحة الاتهام منذ أن توجه خلفه إلى منصة البرلمان ليلقي خطبة الرئاسة. إنه يجند كل ناقم على هذا العهد، وكل نقمة ثارت أو ستثور، إنه يعبئ الأنصار، ويختزن العتاد ليوم الزحف، وقد يكون سواه حامل العلم.
إن الرجل الذي انتحر رهين الكسليك قد يبعث حيا.
وقائد الجيش؟
قام الجنرال شهاب بخدمة عبر واجبه، ندر أن أداها جندي. أما لماذا لم يستلم الحكم فلأنه يعتقد - كما صارحني في أواسط آب الماضي - «أن الجيش اللبناني إن تداخل بأمور الحكومة اللبنانية فسد الجيش اللبناني، وفسدت الحكومة اللبنانية.»
قائد الجيش يستحق تحية من سنة 1952.
قواصو الآلهة
لا أدري إن كان على وزارة الخارجية أن تشير على ممثلي الدول الأجنبية بمنع القواصين ارتداء هذه الأردية الطاووسية التي ترجع موضتها إلى العهد الإنكشاري، والتي تحقر الكرامة الوطنية والإنسانية. لعل بقاءها مفيد إذ يذكرنا أن النفوذ الأجنبي الذي طغى في العهد التركي لا يزال بيننا. إن الإنكليز سجلوا انتصارات عديدة في العالم العربي في العام الفائت، كاد العراق ينفجر بين أيديهم فتداركوه، حاولوا إشعال الفتنة بين إمارة قطر والمملكة السعودية فتلافاها السعوديون بقبلات الأخوة العربية القبائلية، وبهدايا الكاديلاكات تحمل السجاد الثمين. تطلع إلى تلك المنطقة في سنة 1953 وترقب، فقد تسمع هنالك دويا. أما في الكويت فلا يزال الإنكليز يستأثرون بأكثر من مائة مليون دولار من حصته السنوية، فيما هم يوهمون الدنيا أنهم يعطونها للكويت. ولقد شددوا حكمهم على تلك الإمارة بعد خسارتهم إيران. غير أنهم ليسوا بمسرفين بالضغط، ولا يستغرب أن تشهد هذه السنة إنشاء قواعد حربية هناك، وعلى شواطئ الخليج الفارسي. الذي يصد الإنكليز عن تحويل الكويت إلى مستعمرة إن تقاربا جديا حدث مؤخرا بين العراق والكويتيين.
أما الفرنساويون ودولتهم ففي تفكك وانهيار؛ فقد اختنق صوتهم الداوي في لبنان، وأصيب نفوذهم بصدمة عنيفة، وخفت إلى نأمة وهمهمة، فاقتصر نفوذهم على ما يستطيع عمله تطوعا بقايا الكوميسارية من موظفي الحكومة، وآخرون من الذين يؤمنون بأنهم أبناء الأم الحنون.
وإن شئت السؤال عن الأميركان، فأنت تدخل ساحة السمك في أشد ساعات الزحام، فهناك الصخب، واللغب، والعراك، وهناك بعض السمك البائت ينادى عليه: «طازة يا سمك.» لقد مثل الأميركان بيننا في السنة التي فاتت الحياة الأميركية الحقيقية؛ فالأميركي رجل خير وإحسان ومروءة؛ لذلك تدفقت مئات ألوف الدولارات على الجامعة، وهذا رئيسها يطوف الولايات المتحدة متسولا عشرة ملايين، وها هي مؤسسة «فورد» للإحسان بيننا منذ شهور تدرس بصمت وهدوء كيف ستنفق ملايين الدولارات في سبيل البر. والأميركي أبله سياسة؛ فأنت تلقى منهم كل معتوه يحاول درس الأحوال خطفا واختزالا، محاولا أن يمشي على الماء، مفسرا كل ظاهرة بفلسفة سمعها من جار له حول مائدة عشاء، أو فقرة من كتاب قرأه على طائرة تقله من واشنطن إلى أوكلاهوما، وليس بينهم من لا يطمح بأن ينشر كتابا عن هذا الشرق وطلاسمه. والأميركي كرجل تجارة وأعمال يؤله الكسب، ويستبيح في سبيل الوصول إليه كل رذيلة. لقد مثل رجال الأعمال من الأميركيين في لبنان دورا مجرما دنيئا بدأ اليوم يتكشف وتفوح روائحه، والأميركي اكتشف أن له في لبنان عملاء وسماسرة، ولكن ليس له أصدقاء، خصوصا في الأوساط الحكومية؛ فهذه النقطة الرابعة، وهو مشروع إنساني والقائمون عليه فتيان أشراف يقرعون الأبواب متوسلين أن نتناول منهم ثلاثة ملايين دولار تنفق على مشاريع إنماء درست درسا علميا، فلا يجدون من يسهل أعمالهم.
مسرحية مستر لوك
نحن شعب عاطفي تسيرنا صحافة سطحية. إن لوك ما أقيل من منصبه لأنه انتقد حكومته بسبب موقفها من اللاجئين ومن الدول العربية. إن لوك انتقد حكومته وانفجر ودا وعطفا وحبا مناصرا الدول العربية لأنه أقيل من منصبه. لقد كان لوك يتكئ على صديقه الوحيد في واشنطن الرئيس ترومان، فلما خسر هذا الانتخابات تحقق لوك أنه منصرف عنا، فعصفت تصريحاته، ومحاضراته، وحفلاته، وأوسمته؛ أملا منه أن تتوطد شعبيته بيننا، فتجد الرئاسة الجديدة في واشنطن أن لا غنى عن خدماته فيعود إلينا.
ليس لنا ما نأخذه على لوك إلا أنه يعطي «شيكات» من وعود ضخمة ليس لها مئونة في بنك التنفيذ، ولقد كنا أشد احتراما له لو أنه ثار في زمن صديقه ترومن.
أما جورج حكيم
حين تجددت المفاوضات في هذا العهد، كنت - وهذا ثابت - أول من قال إن الوحدة الاقتصادية لن تتحقق لأسباب؛ أحدها يكفي، وهو أن دمشق لا تريدها، وهذا قول أريد أن أردده الآن، مثبتا إلى جانبه أن أشهى ما لدي أن أكون مخطئا.
ولعل ظهور جورج حكيم في الحكم ظاهرة فريدة؛ فهو رجل علم وإخلاص، لا تدعمه قوة سياسية. هذه أمور يعرفها الناس، أما ما لا يعرفونه فهو أن هذا الفتى الأملد صلب الروح، هكذا يشهد له رفقاؤه في السجن ، وكان جورج حكيم مريضا يشكو قرحة في معدته، وكان من أصلب المساجين على العذاب؛ لذلك لم يأت موقفه من شركات الزيت مفاجئا للذين يعرفون الوزير حكيم، وإنه من الجريمة أن نحاول إغناء الخزينة اللبنانية بصرف صغار الموظفين، فيما نحن لا نتخذ خطوة حاسمة لإغناء الخزينة بجباية عائدات معقولة من شركات عقدت اتفاقياتها مع عهد فساد.
إن الملايين تنصب على الخزينة اللبنانية، لو أعلن الشعب صرخة: «اقفلوا الأنابيب.» وماذا يصير إن أقفلنا الأنابيب؟ وحياة شرفك سنسمع صرخات التأييد من شعوب الولايات المتحدة وبريطانيا.
بيضة الديك
وفي سنة 1952 سجلنا انتصارا واحدا في منظمة الأمم، لم يكن انتصارا حقيقيا؛ لأنه لم ينفذ شيئا إيجابيا، بل رد محاولة إيقاع ظلم بنا جديد. ولقد استعجل اليهود في تقديم مشروع المفاوضة المباشرة بيننا وبينهم قبل أن يستلم أيزنهاور الحكم؛ لأنهم يخشونه. وفي التصويت وقفت أميركا وبريطانيا الموقف المجرم المعتاد إلى جانب إسرائيل، وناصرتنا روسيا لنفس السبب الذي من أجله وقفته ضدنا في التقسيم؛ مصالحها.
خلع الخليع
وفي مصر انتحر عاهل آخر بصورة نهائية. لسنا في معرض اجترار الحوادث ولا إعادة نشر ما هو منشور، فليقتصر التعليق على القول إن محمد نجيب - وقد يشمل اسمه الضباط التسعة الذين يقال إنهم يسددونه - أثبت للمعسكر الغربي أن حركة وطنية إصلاحية ليس من المستحيل قيامها في العالم العربي من غير أن تستمد قوتها من عناصر رجعية أو معادية للغرب، بل يشوقها أن تتعاون مع الغرب على صعيد الكرامة والمساواة.
أما المشاكل التي تواجه رجل مصر، فهي اقتصادية أكثر منها سياسية، وجاء تدهور أسعار القطن يقيم أمامه مصاعب جديدة، وليست مشكلة السودان كما يتوهم الناس مشكلة قومية أو سياسية، فمصر تقبل - وقد تفضل - أن تقوم في غد دولة سودانية مستقلة لولا معضلة المياه. إن النيل ينقص عن حاجات مصر، يجب بناء الخزانات الهائلة لا لتؤمن الري في وادي النيل على نطاقه اليوم، بل على نطاق أوسع بكثير، وإلا فلا رجاء للنهوض بالفلاح المصري من هوة تعاسته . وكان قد سبق لبريطانيا أن أعلنت في الماضي البعيد أن مياه النيل من نبعه إلى مصبه هي ملك لمصر، فعلت ذلك لا حبا بمصر، بل دفعا لمطامع استعمارية أوروبية، كألمانيا وفرنسا، من السطو على هذه المياه أو البلدان التي تمر فيها، وقد عنت حينئذ بلفظة «مصر» المستعمرة البريطانية التي كانت آنذاك إنكلترا موقنة أنها باقية فيها إلى الأبد. فإن استقل السودان اليوم فمن الطبيعي أن يذيع فورا أن إعلان بريطانيا فيما مضى عن ملكية مياه النيل لا يربط الدولة السودانية المستقلة، فتقع مصر إذ ذاك في مشكلة حيوية، وإن بقي السودان تحت سلطة إنكلترا بقيت مصر كذلك تحت رحمة الإنكليز، وقد تعقدت الأمور - بل قد تكون بريطانيا قد عقدتها - حين بنت الإنشاءات الكبرى فرفعت بحيرة فكتوريا - منبع النيل - أقداما ثلاثا، ودرست مشاريع، وبدأت بتنفيذ مشاريع سدود تبلغ قيمة أكلافها مئات ملايين الدولارات.
غير أنه وقد راق الجو بين الدولتين البريطانية والمصرية، ووضح أمامهما أن المصلحة في التعاون، فلن يطول الأمر حتى يجد الخبراء وسيلة لتوزيع المياه، واستغلال الموارد والحلف العسكري.
ولقد تساءل المخلصون حين حدوث الانقلاب المصري عن سبب تأييد محطة اسرائيل لمحمد نجيب فور استلامه الحكم، وارتفعت حواجب هؤلاء المتسائلين تستغرب زياراته لكنيس اليهود وتودده لهم. واليوم بدأت محطة إسرائيل تهاجم محمد نجيب، وبدأ يتضح أن تودده لليهود كان سببه أنه أراد أن يوضح للرأي العام الدولي أن حركته تحررية، وأنه ابتغى من تلك التصريحات والزيارات أن يطمئن أصحاب الرساميل في مصر - وهم غير مسلمين - بأنه لن يضطهد حتى اليهود؛ فلا مبرر لفرار الأموال من وادي النيل.
ولمحمد نجيب مأثرة يجب أن نتغنى بها، إنه جند ستة آلاف لاجئ فلسطيني.
ماذا في تركيا؟
من مجهولاتنا الواسعة ما لا نعرفه عن جارتنا تركيا. إن عناصر القوة الذاتية في هذه الدولة ما زالت كما كانت منذ القدم؛ فلاحها، وجنديها. وتركيا اليوم - كما كانت تركيا مصطفى كمال، وكما كانت تركيا السلاطين - لا تزال شرقية في روحها ونزعتها. إن الفتاة في تركيا إن مشت وحدها في الشارع بكم قصير سمعت ما لا تحب، والفلاح لا يزال كما كان، حتى أولئك الذين جاءتهم التراكتورات هبات يركبونها للنزهة نحو المدينة. أما الجندي فلا يزال ذلك القادر الجبار الشجاع، ولكن العصر الحربي هو عصر آلات، والتركي كأكثر الشرقيين لا يحسن تسيير الآلة ولا العناية بها. لم يكن في الجيش التركي - حتى منذ شهرين - فرقة مظليين، فالجندي التركي الذي أثار احترام الدنيا ببطولته في كوريا، والذي قهر الروس خلال التاريخ أربعة عشر مرة، له من القوة المعنوية ما يحفز به إلى الإيمان بأنه يقهر الروس في المرة الخامسة عشرة، وهو يهرع بلذة وضراوة إلى جبهة القوقاس في غد إن دوى النفير. ولكن المطلعين يعلمون أن قوة الجيوش تتمركز حول الآلة، والتركي لا يملك الآلة ولا يعشقها.
ويثبت النظرية القائلة بأن التركي لم يتغير بعد انبعاث حركة رجعية. لو أن ساستنا جبابرة لما بقوا أغرابا عن حركة هذا البعث التركي.
أما سبب انكماش الأتراك فيفسره أنهم لم يكونوا عبر التاريخ مثلنا متفتحين على الدنيا، ولا أرسلوا مئات ألوف المغتربين إلى المهاجر، وصهرهم عداء جيرانهم وعدوانهم إلى كتلة متماسكة تطرد عنها كل ما هو غريب.
ألمانيا - إسرائيل
وفي السنة الفائتة ساق الحلفاء بكرباج الإرهاب ألمانيا الغربية إلى إعطاء إسرائيل ثمانماية مليون دولار كتعويض عما أنزله هتلر باليهود. ولقد نجح ساسة الدول العربية بأن استثاروا الرأي العام الألماني ضد حكومتهم التي خنعت للضغط الأميركي البريطاني.
آلات الموت والحياة
واستفادت بريطانيا الكثير من صيتها العسكري كدولة حربية رئيسية حين نجحت بتفجيرها القنبلة الذرية الأولى. وأذاعت السلطات الأميركية أنها اخترعت سلاحا سريا يشل أعمال الغواصات، وروسيا تملك من الغواصات العدد الفتاك المرعب، وثبت أن أميركا توفقت بإنتاج القنبلة الهيدروجينية، وبصنع مدفع ميدان يطلق القذائف الذرية؛ اختراعات يدعي الروس أنها آلات دمار وعدوان، ويقول الغرب إنها أسباب قوة تمنع العدوان الروسي.
الرجل الذي هرم
واستعاد تشرشل رئاسة الوزارة، ولكنه جاءها هرما رجعيا يذكر الناس كيف أن العظيم يصبح في بعض الأحيان رمادا قبل أن تذروه رياح الموت.
والشيوعية
أما رايات الماركسية فقد تكاثرت في لبنان، وهي تخفق عارية حمراء في عتمة الدهاليز، وفي العلانية تظهر متنكرة بمختلف الألوان. ولقد تفيأها الكثيرون ممن خابوا في محاولات وطنية توهموا أن أداتها بعض المنظمات التي انتموا إليها فانهزموا عنها يتفيئون الشيوعية مطمئنين إلى خدر في النفس تشيعه هذه العقيدة. إنه من الخطل أن كل الشيوعيين في لبنان خائبون، أو فقراء، أو مأجورون. إن أشد الناس احتراما لحق المواطن باعتناق أي عقيدة، حتى العقيدة الشيوعية، هم القوميون الاجتماعيون الذين يقاتلونها. إن الشيوعية كمبادئ نظرية تطبع في كتاب هي إنتاج ذهني يستثير التفكير، ويبعث الجدل، ولكنها بخلقها للطبقية بين أفراد الأمة الواحدة تخلق الفتن، وتستنفر البهيمية، وهي في هدمها أسوار القومية بين الأمم ترمي بالضعيفة منها إلى براثن الاستعمار، وهو اليوم روسي، وقد يكون في غد غير روسي.
ولعل من أمضى أسلحتها في الدعاية الهجوم على الأميركان والإنكليز. والشيوعيون يلجئون في ذلك إلى الأسلوب الصهيوني الذي نجح في خلق إسرائيل؛ فلقد كان اليهود ينادون في الدنيا «أن انظروا كيف اضطهدنا هتلر؛ إذن فأنصفونا بأن نأخذ فلسطين.» والشيوعيون اليوم يصيحون: «هاكم الاستعماريون الأميركان والإنكليز، أليسوا أشرارا؟» إن الأميركان والإنكليز هم أشرار، وهم أفاضل. ولو سلمنا جدلا أنهم يمارسون نظاما رأسماليا نخاسيا، فأي منطق يربط هذا باعتناقنا الشيوعية، وهو المبدأ الذي فشل في كل بلد نفذ فيه، وخسر كل بلاد ربحها بالاحتلال، وهو المبدأ الذي في أساسه يجعلنا خونة ننتقض عن ولائنا لبلادنا التي يجب أن يكون لها منا أبدا ودائما الولاء الأول والأخير.
إن الشيوعية سجلت في لبنان في العام الفائت نصرا كبيرا؛ لم يعد أحد يخجل بأن يقول إنه شيوعي، بل صارت الموضة أن يعترف بشيوعيته بعض المواطنين بشيء من الغنج والخيلاء.
ويستحيل أن تذكر الشيوعية في لبنان من غير أن تذكر حالا نقيضتها العقيدة القومية الاجتماعية. ولبنان الذي شهد في مختلف الظروف حلفا بين الإخصام والعقائد المتضاربة لم يشهد بعد لا حلفا ولا تقاربا بين هاتين القوتين برغم أن شهر أيلول كاد يحشد في معسكر واحد كل القوى اللاخورية.
وقد سجلت العقيدة القومية الاجتماعية نصرا كبيرا في السنة الفائتة بما كسبته من عدد وفير أقبل على اعتناقها، وبموجة من الود والإعجاب انطلقت من كل الأوساط المدركة، غير أن هذا الظفر يجب أن يستمر ويتضاعف حتى يقضي على أباطيل النظام - بل الأنظمة - التي أضعفت وشلت قوى مجتمعنا.
ونحن نعلم أن العهد الماضي - وقد كان في خدمة المفوضيات - كان يعتبر أن القومية الاجتماعية لا الشيوعية هي عدوة الأجانب رقم واحد. إن الأجانب لم يحسبوا فيما مضى أن الشيوعيين يؤبه لهم ما دام أمرهم إن اشتد يتأزم في مظاهرة يفرقها بوليسان أو ثلاثة، ولكن الأجانب - وهم ذوو مصالح - يخافون قوة عقيدة نبتت من هذه الأرض لغرض واحد، وهو خدمة أمتها، فهم إذن يؤثرون أن يعظم أمر المنظمات التي لن يكون لفعلها تأثير عام، ويفضلون تقوية الأشخاص الذين يباعون ويشترون، ويرضخون للوعيد، وتغريهم الوعود، ولا تدعمهم منظمة تسيرها مبادئ. وما دام الأجانب يفهمون الاستقرار في أن يستمر ضعف الدولة الصغيرة، فسيبقى القوميون الاجتماعيون هدفا لاضطهادهم يتنازعون والشيوعيين المكان الأول كأعداء للأجانب.
برغم مظاهر السذاجة في القوميين الاجتماعيين، فهم يفهمون هذا الموقف، ولهم في كل يوم عليه برهان قاطع.
أيزنهاور يفوز
إن أميركا ستلعب في عهد أيزنهاور ورقتها الأخيرة في العالم العربي، فإن لم يعكس عهده اتجاه عهد ترومان، فكل انحراف، وكل عمل عدائي نحو أميركا يصبح مبررا. ولكنا نسرف بالتفاؤل لما سنلقاه على يدي رئيس الولايات المتحدة الجديد لولا الضربات التي لقيناها في عهد سلفه.
دروس من بلاد الشاه
وفي السنة الفائتة لف الأسد البريطاني ذنبه بين رجليه، وانهزم من إيران. من بلاد الشاه انطلقت هذه الدروس: (1) تحالف الشيوعية مع الحركة القومية في يوم حاسم هزم به الأجنبي. (2) لم يفهم العقل الغربي مدى عاطفية الشرقي الذي لا يهمه أن يفقأ عينه اليسرى نكاية باليمنى؛ فالفقر لم يخضع الإيرانيين. (3) أفلست أساليب القرن الفائت الاستعمارية؛ فمن أسباب هزيمة الإنكليز عجرفة ممثلهم فى إيران الذي لا يزال يعيش بعقلية القرن الفائت.
سلسلة قمم
وكشر الروس في وجه صهيون، وانفجرت كينيا، وثار المغرب الأقصى، ونشأت دولة ليبيا، وماتت إيفا بيرون، وتوفي ملك إنكلترا، وجن طلال، وجرت الانتخابات البلدية في لبنان حيث سجل القوميون الاجتماعيون 12 بالمائة من مجموع الأصوات، وأثبتوا أنهم أكثر عددا من أية وحدة انتخابية.
صرعزة
وغار في العالم العربي أتلانتيك الكلام ... عزام!
عفوك يا عام!
يطلب اللبنانيون المغفرة من السنة التي انقضت؛ إذ لا يزال من أبطالهم القوميين الاجتماعيين عشرات من مساجين ومبتعدين، هؤلاء لا يستعطفون، بل يصبرون وينتظرون، أنهم لا يبتهلون، ولا يتضرعون؛ فالذين قاتلوا من أجل الحق لا يستجدونه.
من مغترب عاد للبنان
السيد شمدص جهجاه، المعروف بالاسبنيولي باسم:
Senor Carlos Shannon
Importacion Y Exportacion
41 Avenida San Jose
Villa Grande, Argentina
عزيزي شمدص
عسى تصلك رسالتي هذه والأشغال عندك على قدم وساق وفخذ.
كلمة صدق تريد أن تسمعها؟ إنك لم تخطر على بالي كثيرا في الأيام الأخيرة. في هذه اللحظة أذكر فراقنا على ظهر الباخرة وكلانا نصف سكران، وأنت تنهال علي بالقبلات، وتوصيني بألف وصية، هذه أكثرها لم أقم بها؛ فإني لم أقدر أن أقبل شوارب الكثيرين الذين أوصيتني بتقبيل شواربهم؛ ذلك لأن أكثر الناس صاروا بغير شوارب، وبعض الذين دمعت عيناك لذكراهم لا يذكرونك، كذلك لم أوصل بعض الهدايا لأصحابها خشية أن يشمئزوا من تفاهتها، لبنان تغير منذ تركته يا شمدص، ثلاثون سنة هي وقت طويل.
حين رست الباخرة في مرفأ بيروت، نزلنا إلى الكمرك؛ ذلك المكان المرعب الذي طالما سمعنا أخبارا مخيفة عنه، لا تصدق الأراجيف فالكمرك منظم هنا، ورجاله أولاد حلال. وكان يوسف ابن عمنا قد اتصل بصديق له في الأمن العام أو البوليس - لا أذكر - وهيأ لنا الأمور، ولم نتأخر هناك تأخرا غير عادي، كذلك لم ندفع ضريبة على كم صندوق سيكار، ولما تركنا البناية كان أكثر أهل الضيعة - المديلبه - في انتظارنا في بوسطتين - يعني باصين - وقد وضعوا في كل بوسطة يافطة - يعني آرمة - مكتوبا عليها: «أهلا بالمغترب الكبير الأستاذ عوسج شنديب.» وهنا لا تستغرب هذه الكلمات، فكلنا في لبنان «كبير»، والأستاذ هو لقب يعطى لمن ليس له لقب، شرط أن يكون في لبسه شيء من الأناقة، ومظاهره تدل على أنه لا يشتغل بيديه، أو أنه على شيء من الثقافة، «الثقافة» كانت تعرف في أيامنا ب «العلم».
وتراكض أهل البلد من حمل شنتاتي، وانطلق الفتيان بالحداء، وضرب الدربكة، وتحمس يوسف ابن عمنا فتناول مسدسه وأطلق رصاصاته في الفضاء، وبعد قليل علت الضجة بينه وبين بعض البوليس، فنظموا به ضبطا وأخذوا منه الفرد. وخرجنا فطفنا بيروت، فوجدتها مكتظة، ضيقة الشوارع، ولاحظت كأن بيوتها كانت في قبضة جبار رمى بها في عجل على الرمال؛ فانتشرت وتراكمت فوق بعضها غوغاء من حجارة وحديد.
ربما تستغرب بلاغتي يا شمدص، ولكن الناس هنا كلهم بلغاء وفصحاء، بل إنني في الثلاثة الأشهر الأولى فتنت ببلاغة المواطنين كلهم؛ مثلا جاء بيروتي إلى الضيعة فقالوا لي إنه جاء يستجم، هذه على أيامنا كانت أبسط بكثير، كنا نقول ليرتاح، أو ليشم الهواء.
بلى، صرت أفهم البلاغة، بل أتقنها. ذكرني أن أرسل إليك قصائدي الزجلية (الزجل في أيامنا كان اسمه قرادي).
ورحنا نمشي في أسواق بيروت، ووجدت أن النساء صرن يتجولن بحرية، والحق يقال إن شعبنا يحترم النساء في الأسواق احتراما عجيبا؛ فلا تصفير، ولا غمز، ولا تسميع كلام. ثم اقتربت من بائع كعك بسمسم، وأخذت كعكعة، وكان يدغدغها بيديه، وحالا سألني متى رجعت من أميركا يا خواجه؟ الله ما أذكى أفراد شعبنا! ثم جمع أصابعه على زعتر وقال «صحتين»، مثل الأيام القديمة بالتمام. واكتشفت أنه ليس معي عملة لبنانية؛ فدفع عني يوسف ابن عمنا، وأبى أن أعيد له الربع ليرا بعد أن بدلت ورقة العشرين دولار بالعملة الوطنية. ثم ركبنا البوسطتين وانطلقنا، فلما وصلنا إلى فرن الشباك أوقفنا كومسير البوليس هناك، وأرجع الفرد ليوسف ابن عمنا، وأعطاه الضبط قائلا: «مسح به جزمتك، ولعيون أسعد بك.» وقيل لي بعدئذ إنه كان لهذه الحادثة أهمية كبرى في أنحاء البلاد.
كذلك كان لنا في «المديلبه»- قريتنا - لقاء حافل، وسمعت الخطب والقصائد ، وبقيت أكثر من أسبوع أودع جمهورا، واستقبل جمهورا، وأرسلت مع يوسف ابن عمنا حوالة بمئتي دولار ليصرفها لي في بيروت، فتأخر بالعودة، ثم رجع بعد أيام ومعه قصص. كيف أن الصيارفة منتظرون وصول علم من بنك نيويورك، كذلك قطع يوسف ابن عمنا رجله عن دارنا، وسمعت أنه يلعن أميركا ومن أتى منها، ويقول إنني قليل الشئمة؛ إذ إن يوسف ابن عمنا نظم لي استقبالا في بيروت، ووقع بسببنا في «مشكل» - وهذه لفظة جديدة عليك سأشرحها لك في فرصة ثانية - وإن كعب صرمايته العتيقة يقطر دولارات.
وحقا شعرت بزهو كثير لمظاهر الاحترام والخشوع والتعظيم التي تحيط العائد إلى لبنان؛ فهو شبه بطل راجع من معركة ظافرة، والناس يظنون أننا كلنا عباقرة في المهجر، متفوقون، وتراهم يعتذرون لي عن بعض العادات والأخلاق والإدارات البلدية.
بل ولكن - هذا التعبير من أدوات البلاغة - حضرت حفلة خطابية، وصلت إليها متأخرا، فدخلت قاعة مكتظة بأصناف البشر، وقد وقف على المسرح أستاذ يخطب عن أحد أنواع البشر، وينعتهم بالنبوغ، والوطنية المثالية، والسخاء المدهش، والجد، والقيام بالمعجزات، وكان الأستاذ ينفعل والناس تصفق والكلمات البليغة والحمم والبخار تموج في بلعوم الأستاذ، ثم تنفجر، وتنطلق فتلهب القاعة، فسألت جاري بمن يتغنى الأستاذ؟ فأجاب: بالمغتربين طبعا، فوضعت يدي على فمي، وركضت من القاعة إلى الخارج أضحك لأنه خطر على بالي ... و... و... و... سلم عليهم جميعا.
بل ولكن، هل تذكر يوم فار حماسنا قبيل حرب فلسطين، وجمعنا ألفا وخمسمائة دولار أرسلناها تبرعا؟ وحياة شرفك صار لي ستة أشهر أفتش عمن قبضها، ومن أنفقها، ولم أهتد، ثم هل تذكر ... الذي زارنا في
Villa grande ، وأقمنا له حفلة كبرى، وألقى علينا محاضرة طويلة عريضة؟ التقيت به صدفة، وسألت عنه فإذا هو أستاذ فقط لا غير.
قل لفارس أن يستحي فيرسل إلى أبيه كم دولار، ليس من الضروري أن يرسل الواحد منكم حوالة ضخمة، مسكين أبو فارس فهو في أيام الصحو، وحين يبتسم له الحظ يشتغل على حماره بنقل البحص من النهر إلى الضيعة - سفرة كيلومترين - والنقلة بثمانين قرشا، إلا تزال «هوانيتا» زبونة فارس أم هو رجع إلى «أنيتا»؟
المعيشة رخيصة جدا في لبنان، لا تصدق أقوال الجرائد عن الغلاء، إجمالا تقدر أن تعيش هنا بأقل بكثير مما تنفقه هناك بشرط أن لا تطلب الزعامة وألا تصدق نفسك بأنك مغترب كبير، وبشرط أن لا تطلب أكل العنب في شباط بدلا من أيلول. المعيشة هنا رخيصة، الكنفشة غالية، بليرا تصل إلى بيروت في أوتوموبيل ثمنه عشرة آلاف ليرا من غير أن تدفع عشرة آلاف ليرا ثمن أوتوموبيل.
أكثر ما تنشره الجرائد هنا صحيح، وعلى ذكر الجرائد فإني أشكرك على أهدائك إياي جريدة «الأورينتي»، هكذا يتسنى لي تتبع أخباركم، وأنا حين أقرأ «الأورينتي» الأرجنتينية، و«الأوريان» اللبنانية، أرى التعليق والأخبار تقريبا هي هي، الأسماء والأماكن مختلفة. على كل حال يا شمدص متى رجعت، وهذه هي الوصية الكبرى التي أوصيتني بها، أي أمر رجوعك إن كان من الحكمة أولا، فأنت تريد العودة للعيش لا للوعظ ولا للإصلاح ولا للقيام بالثورات الاجتماعية أو السياسية. فإذا مررت وزوجتك بشوارع بيروت، ورأيت بعض الرجال يبللون الحيطان فلا تقترب من الرجل وتؤنبه، بل قل للمدام أن تدور بوجهها إلى الجهة المعاكسة، وإن اتفق أن كان هناك أيضا رجل آخر واقفا قبالة الحائط، قل للمدام ترى لماذا هذا الرجل يحدق بالحائط؟ وإن ركبت تاكسي ادفع للشوفير نصف ليرا زيادة، فقولة «الله يعوض عليك.» لم نكن نسمعها في الأرجنتين يا شمدص، وهي تساوي أكثر من نصف ليرا. ومتى أردت أن تستبدل حوالة مائة دولار رح بنفسك إلى الصراف لا ترسل يوسف ابن عمنا.
عدم المؤاخذة لم أذكر شيئا عن فلسطين؛ فإني أعلم أنكم هناك تهتمون بها، إن الناس يفوهون بأقوال، ويكتبون مقالات عن اليهود الأعداء، لو أنها قيلت أو كتبت في أي بلدان الدنيا عن أعداء تلك البلدان، لهاجموا القائلين والكاتبين، وأحرقوهم في الشوارع.
في الأسبوع الماضي زرت مخيما قرب طرابلس، وجدتهم - رجالا ونساء وأولادا وأطفالا - على الأرض، بدون فرش ولا أغطية، ورأيت غلاما راجعا إلى الخيمة فرحا؛ إذ إنه وجد كسرة جرة يستعملها لجلب ماء الشرب من النهر. هل ممكن أن تجمعوا شيئا هناك لهم، وهذه المرة ننتقي شخصا أو منظمة توصل المال إلى مستحقيه.
البناء في بيروت - شأنه في أكثر بلدان الدنيا - على قدم وساق وفخذ. سمعت أن قصرا شيد حديثا زينوا أحد جدرانه بالذهب المذوب. أعتقد أن هذا مبالغة، إنما قصة كسرة الجرة قرب طرابلس - وحياة شرفك وشرفي - إنها صحيحة.
ثم لا تقلقوا عما قد تقرءونه في الجرائد عن المشاحنات والقتل والضرب، هل تذكر حينما كنا نخشى في الأرجنتين وقوع حرب أهلية في لبنان؟ إن هؤلاء الذين يتناظرون ويتطاحنون، يقضون أكثر السهرات سوية بين ضحك ودعاب ولعب بوكر. ذكرني أن أرسل لك مكتوبا آخر عن اللعب في لبنان، فإن لاحظتم من مقالات الجرائد أن ستقع الواقعة هنا خففوا من مخاوفكم، واذكروا أن ما تقرءون هو كلام أساتذة فقط.
كدت أختم هذه الرسالة من غير أن أوضح لك الأمر المهم؛ أي مسألة رجوعك، ورجوع سائر الإخوان، وأختصرها بما يلي: (1)
لا ترجع بأقل من عشرة آلاف دولار إن كان هذا المبلغ متيسرا، فمن الهين أن تبدأ أعمالا كثيرة تسوكر لك مصروفك. أما من معه أكثر من عشرة آلاف دولار، فلا يحتاج إلى نصيحة أحد. (2)
شعبنا مع كل نقائصه أشرف وأحسن وأكرم وألذ شعوب الدنيا. في وسعك اختيار شلة من الأصحاب تعيش معهم في هناء، من الآن إلى عندما. (3)
لا ترجع بفكرة أنك ستصلح الحكومة أو البشر، وابتعد عن الحكومة ما أمكنك. (4)
اجلب معك - عدا عن العشرة آلاف دولار - عقلك ورصانتك؛ لأنك إن انتفخت خربت. (5)
لا تجلب معك إلا القليل من الثياب، هنا الرجال يتأنقون في اللبس كثيرا، وأعظم خياطي الأرض في بيروت. (6)
لا تجلب معك هدية لأحد، لا تفتح ها الباب. أما ما كنا نتخيله عن مناظر لبنان ومناخه وفاكهته ومآكله، فهو أقل بكثير من الحقيقة، الجنة هنا يا شمدص.
قرأت أن حكومتنا عينت عندكم سليمان الحلبي قنصلا فخريا، لا بأس بسليمان، دون سلمون . ولكن يا ليتهم عينوا نجيب رافع، زره عني، وسلم عليه، وقبل يده، بطنها وقفاها، وقل له إنني لا أنسى جميله ما حييت. على هذا الرجل ينطبق خطاب الأستاذ شولح الذي تغنى بالمغتربين.
ثم يا شمدص أخبرك أنه في لبنان حتى يكون لك شأن يجب أن يصبح لك مركز رسمي: رئيس جمعية، أو سكرتير نقابة. ولا أكتمك أن أكثر هذه المؤسسات تبدأ بأكل الشوربا وتنتهي بشرب الأنخاب. وليس لي أمل بتزعم أي منها، فكل الكليات والمدارس لها جمعيات متخرجين وتلامذة قدماء، كذلك كل المهن لها نقاباتها، ففكرت أنك إن رجعت نؤسس جمعية «مغتربي
Villa grande »؛ أنت سكرتير، وأنا رئيس، ونسند بعضنا بقصص مغامراتنا، وكبير شأننا. هنا يصدقون كل القصص عن المغتربين، شيء من الكنفشة يفرح القلب. هذا، وسلم لي على الإخوان، يدي إلى قلبي.
أخوك: عوسج شنديب
رئيس جمعية فيلا جراندي مستقبلا
على فوقه: هل جمعت لي شيئا من الدين القديم الذي تركته بين يديك؟ ثم بعد كتابة ما تقدم جاءنا يوسف ابن عمنا معتذرا وفي يده صك بيته يريد أن يرهنه ليؤمن لي المئتي دولار. ألم أقل لك إن أفراد شعبنا أشراف؟ بل ولكن، يجوز أنه يقصد أن يستدين من جديد، والصك تمهيد، ثم قل ل «ريمندو» ابني حين يكتب لي أن لا يخاطبني ب «بابا»، فبعض مكاتيبه ضاعت، كذلك يمكنك أن تدفع للمحامي «أميليو تيرونا» لا أكثر من خمسماية دولار شرط أن يمزق ورقة زواجي من سجل البلدية، الكلام بسرك أريد أن أتزوج هنا من جديد. جميلة؟ سي سنيور!
سفري إلى الفلبين
هذه المذكرات كتبت على ظهر الباخرة التي أقلتني إلى «الفلبين» في شهر أيلول 1925. أعتقد أنني كتبت منها ما يملأ كتابا، ولقد أعطى لهذه الصفحات القليلة من ينقذها؛ إذ حفظها بين أوراقه خلال هذه الثلاثين سنة. أما الباقية فيحتفظ بها اليوم، ولا يريد أن يطلقها من طلق كل جميل واحتفظ بحثالات الكئوس.
جعر البابور، بل جأرت الباخرة، على لغة القاموس والقوامسة، وكانت جأرته تبعث في النفس وحشة وريبة.
لا أدري معنى جأر في اللغة، ولكن تصويت باخرتنا كان مزيجا من خوار الثيران الضخم المرعب، ونعيب البوم الحاد النائح.
رفعت السلالم، وقرقعت الآلات.
دقت ساعة الهول، وتمزيق الحشا؛ فاحمرت العيون، وانكمش المسافرون في أسرتهم.
تلك كانت ساعة الوداع.
غرفة على البحر
انقضت من حياتي ثماني سنوات متتابعة في الجامعة الأميركية، وقد بقي في نفسي حسرة حين تركتها؛ لأني لم أقدر أن أسكن في غرفة تشرف على البحر؛ فقد كنت كلما طلبت إلى الناظر أن يتكرم علي بغرفة أرى منها البحر راح فجاد علي بواحدة تشرف على البر. أما في هذه الباخرة - لله ما أطيبهم - فمن غير أن أطلب إليهم أعطوني غرفة تشرف على البحر؛ فشكرت لحضرة الجرصون لطفه. ولكننا لم تمر بنا ساعة إلا وتحققت أن غرف البابور جميعها لا تطل على غير البحر، وأن حضرة الجرصون لم يكن لطيفا، بل إن حضرتي كنت ...
من ربح الحرب
من الألفاظ ما يدل بنفسه على معناه، مثلا لو قلنا «قرقعت» الدواليب تخيلنا معنى «قرقع»، وإن لم نكن ندري معناها من قبل، وإن من هذه الألفاظ كلمة «العلج»، فقد كنت كلما قرأت في كتب الأندلس القديمة هذه اللفظة في مثل قولهم: «وركب الأمير عبد الله في طلب العلج.» - وهم يعنون بذلك عقيد الإفرنج - كنت كلما قرأت ذلك تخيلت «العلج» رجلا كالعجل ضخم الرقبة، هائل الخلقة، بطيخي الرأس.
كنت أرى ذلك بالخيال، ولكنني ما كدت أفتح باب غرفتي - تلك الغرفة التي تشرف على البحر - إلا ورأيت بعين الحقيقة ما كنت أراه بعين الخيال، وها هو العجل - عفوا أردت أن أقول العلج - في سريره، وقد كان مضطجعا، فلم أكد أدخل الغرفة حتى هرول العلج إلي فعرفني إلى نفسه أنه روسي، وأنه كان في الحرب جنرالا، وما جئنا على ذكر الحرب حتى طفر الدمع في عينيه فقال: كان لي ثلاثة أولاد كلهم قتلوا في زمن الحرب، وكان صغيرهم في مثل عمرك يا ابني، قتل أولادي وعمي، وجرحت زوجتي، وتعذبت أنا، ولماذا كل هذا؟ أما والله إني لأجن كلما سألت نفسي: لماذا أشعلت تلك الحرب؟ ومن ربحها؟
قلت إن صاحبنا كان لطيفا، ولكنه تناهى في اللطف حتى ...
كلما أردت أن أحول مجرى الحديث عاد فحدثني عن زوجته: «نعم إن زوجتي شجاعة، نعم هي شجاعة هذا أمر لا ريب فيه.»
قلت في نفسي: «وكيف لا تكون شجاعة وقد أقدمت على الاقتران بذلك العلج؟!»
طره يما نقشي
من المسائل السيكولوجية المختلف عليها «الفراغ العقلي»، وهي تختصر بهذا السؤال «هل يمكن للمرء أن يفكر في لا شيء؟» وعلماء السيكولوجيا مختلفون في الجواب؛ فالسلبيون منهم يقولون إنه يستحيل على الدماغ أن يكون خاليا، وكنا نحن في مقام المفاضلة بين النظريتين، ولكن الثابت أن العقل الإنساني ميال بطبيعته إلى الافتكار بشيء، ولو كان تافها، ونحن - جماعة المسافرين - حين فرغت جعبة أخبارنا ومحادثاتنا قعدنا واجمين، ويظهر أن أدمغتنا أبت «الخلو» فرحنا نلعب - كصغار الأولاد - «طره يما نقشي»!
درجة واحدة
أحمد الله أنه لم يكن بين المسافرين لا بلاشفة ولا اشتراكيون متطرفون؛ إذ إنهم لو كانوا بيننا لأوقعوا الفتنة لا محالة؛ فإن بين «عفش» الباخرة نحوا من ثلاثماية بقرة، وضعت في ما يسمونه «الدرجة الخامسة»، وبين الدرجة الخامسة والدرجة الرابعة سلم يفصل الاثنتين، وكان في الدرجة الرابعة مهاجرون من الأروام - لله من منظرهم - أربعون أو خمسون، رجال ونساء وأطفال، افترشوا ظهر الباخرة، وتدثروا بعباءات الرجال وناموا، يقلقهم خوار الحيوانات، وتمزق أنوفهم الرائحة النتنة المنبعثة من الأبقار.
سبحانك ربي! لقد جعلت سلم البشر عاليا جدا، فأجلست البعض في قمة، ثم لم تجعل بين الآخرين وبين الحيوانات إلا درجة واحدة؛ فالأروام ركبوا الدرجة الرابعة، والبقر ركبت الدرجة الخامسة، أما تلك «المدموازال» التي عمرها ستون سنة لا غير، والتي غضبت علي حين عثر لساني فدعوتها ب «مدام»، تلك المدموازال تأففت كثيرا، وندمت على ركوبها باخرة فيها أناس من العرمط.
إني أسأل الله يا مدام - عفوا مدموازال - أن لا يمسي «عرمط» العالم كعرمط روسيا، وإذ ذاك لا تعودين تتأففين.
الشكوى والإصلاح
من أيسر الأمور عليك أن تمر ببناية متزعزعة الحيطان فتقول: إن ذلك الحائط عائب، ما أشد غباوة المهندس. ولكن من أصعب الأمور أن ترسم خريطة تصلح ما تداعى من ذلك البناء.
تلك هي الحال بين الشكوى والإصلاح، فهذا التفاوت الاجتماعي بين الناس الذي أشرت إليه بركاب الدرجتين الرابعة والخامسة هو تفاوت يسهل على الكل ملاحظته.
إلى هنا كل الناس يقرون بأن حالة المجتمع غير مرضية، ولكن ما هي طريقة الإصلاح؟
وهنا وجه الاختلاف.
فمنهم من يبتغي الإصلاح العنيف العاجل، ومنهم من يؤمنون بالإصلاح الهادئ المستمر.
طفل وعجل
في الليل الماضي زاد عدد ركاب الباخرة اثنين - طفلا وعجلا - تفاءلنا خيرا - يا مرحبا بالطفل والعجل - إن السفرة ميسرة بإذن الله.
مشكلة حقوقية!
هل ينبغي أن يدفع رسم السفر عن الطفل والعجل وقد ولدا في الباخرة بعد قطع أوراق السفر؟
تفتيش الركاب
والله إنه لذكي مفتش الجمرك في بورت سعيد؛ لم يكن لديه وقت لتفتيشنا وتفتيش جميع حقائبنا، ولكن ذلك لا يضيره، ولماذا؟ إن في عينيه أشعة إكس التي تخترق الأجسام الكثيفة. ها هو قد أدار باصرتيه، وأمر بلهجته الجازمة، أن افتحوا تلك الحقيبة.
لعله ظن أن بها حشيشا، ولكنه وجد بدلا من الحشيش ... أحذية ...
فتشوا تلك السيدة ... افتحوا الجزدان إن فيه كوكايين، ولا ريب.
فتحوا الجزدان فوجدوا فيه مادة غبارية بيضاء ناعمة ... وليس ذلك بكوكايين يا سيدي المفتش، بل ... بودرة!
ولكن أصدق نظراته كانت في أنه أجال ناظره في جيوبي المنتفخة فقال: «ذلك الفتى يهرب ذهبا، فتشوه.»
هل تحققت أنني لم أهرب ذهبا، بل إني هارب من أجل الذهب؟
كل جيل يلعب مع جيله
نصيحة لوجه الله: لا ترافق من هم أكبر منك سنا، أو أرفع قدرا، أو أوفر مالا؛ إذ إنك دائما تشعر بتفوقهم عليك، بل إن الناس يجعلونك تشعر بذلك؛ فإن تكلمت درا وتكلم رفيقك الكبير صدفا، قالوا إنك مهذار، ونعتوه بأنه حكيم عليم.
وإن أنت أنفقت عليه قالوا إنك تملقه، وإن هو أنفق عليك قالوا إنك عالة عليه.
أما أنا فقد قاسيت من ذلك الأمرين، وآخر اختباراتي أني رافقت من هم أكبر مني في سنهم وعلمهم ومالهم.
ونزلنا نتفرج على بورت سعيد، فاكترينا عربة، وبالطبع ركبت أنا بالقلب ... فصار وجهي في عكس المخازن التي نمر بها، وكانت النتيجة أنني بدلا من أن أتفرج على المدينة تفرجت على رفيقي الكبيرين.
تفرنجنا
يفتخر الناس بأن هذا العصر هو عصر الحرية، ولكن الإنسان لم يكن - ولن يكون - حرا في معنى الكلمة المطلق، فهو عبد لهذا المجتمع الذي يعيش وسطه.
المجتمع قدم لك الأردية وأجبرك أن ترتديها، وهو الذي أرغمك على السلام بهز اليد أو رفعها إلى الرأس، وهو الذي يقول لك لا تدخن الحشيش.
والمجتمع المستبد هو الذي استبدل طربوشي ببرنيطة، وهو الذي حرمني من شاربي ... توفاه الله في بورت سعيد على أثر عملية جراحية عند الحلاق.
يعز علي حين أدير كفي
أفتش في مكانك لا أراكا
مس هدسون
إيه مس هدسون! أنت بين الغادات كسميك الأوتوموبيل بين الأوتوموبيلات!
إيه مس هدسون ... ولكني استعجلت، فقد جمح بنا القلم إلى الغزل قبل أن نتمم البكاء على الطلول. ألم يقل امرؤ القيس «قفا نبك» قبل أن يقول «أغرق من»؟ إذن فلنقف قليلا على الأطلال، ثم نتخلف إلى مس هدسون.
غريب مسكين
للعالم رأي في بعض الناس، وبعض أصحاب المهن يصعب تفسيره؛ فهو - أي العالم - يعتقد أن المحامين يخلقون مشاكل أكثر مما يحلون، والعالم يعتقد أن الإسبانيولي متعجرف والفرنساوي سريع الغضب سريع الرضا.
وقد كانت عقيدتي قبل أن ركبت هذه الباخرة الإنكليزية التي تقلني من بورت سعيد أن الإنكليز أبعد الناس عن معاشرة غيرهم من الناس، وأنه كان من سوء طالعي أن أرافق خمسماية من الإنكليز والإنكليزيات، فلا يتيسر لي أن أكلم واحدا ولا واحدة.
ذلك كان رأيي الذي أخذته عن العالم؛ لذلك استكملت عدتي من بيروت، فجهزت نفسي بأربعة مؤلفات لأربعة من أشهر مؤلفي الإنكليز، حتى إذا وجدت نفسي بعيدا عن رفقائي عكفت على كتبي أستقصيها الأخبار، وأستنطقها الحكم.
ولكن كتبي إنكليزية ومؤلفوها إنكليز.
تبا لهم! أتهرب منهم إليهم؟
ومر بي يومان في أسوأ حال.
غريب مسكين ، لا عشير ولا سمير، لا كلمات ولا نظرات، وقد بدأت أشعر بوحشة وانقباض، بل وبازدراء لنفسي، وقد زاد نفسي صغارة في عيني حادثان؛ أولهما أن رجلا شرقيا مثلنا، لسانه عربي مثل لساننا، ووجهه أشد سمرة من وجهنا، وقد «تبرنط وتنعم» في بورت سعيد مثلنا، ذلك الرجل مر بنا مرة ونحن منكمشون في إحدى الزوايا، فألقى علينا نظرة شامخة أرستقراطية تشبه النظرة التي يلقيها الموظف الكبير على مرءوسه الموظف الصغير، وعند أهل لبنان من هذا علم كثير.
مر بنا شامخا مزدريا، ولم يتنازل إلى مبادلتنا الابتسام.
وثانيهما: أننا كنا دائما نمر بالقاعات أنا ورفيقاي في صف، الواحد وراء الآخر، ولكن أنا آخرهما، وقد سمعت مرة إنكليزيا ظريفا يهمس إلى رفيقه «أفسح طريقا» فالقافلة (أي نحن) ستمر!
وحي من الله
سمعت - ولا ريب - قصصا كثيرة عن الوحي، وكيف أن المرء فعل بعض مرات أفعالا من غير أن يدري لها سببا، ثم تحقق بعدئذ أنها نافعة له.
وأنا لا أدري ما الذي حدا بي، وقد أعلنوا أن الليلة ليلة راقصة أن أنزل إلى غرفتي فأتطيب وأتزين، وأرتدي أحسن أرديتي، وأصلح من هيأتي على قدر ما يقوى العطار أن يصلح ما أفسده الدهر.
شعشعت الأنوار والوجوه، وخفقت الموسيقى والقلوب، وأمسكت الأيدي القوية بالأكف الناعمة، وترجرجت الأمواج على الصدور، ودار الرقص الاسكوتلندي، يرافقه زقزقة الغادات تتناوب مع هدير أصوات الشبان، وأنا كالسيف عري متناه من الخلل، منقبض مسمر إلى مقعدي.
يا وقعة الشوم، أيها اللاصق بكرسيك، إن وجودك في ليلة الفرح شذوذ غريب.
فلما استحكمت حلقاتها
وإني لكذلك - على رأي المنفلوطي - وإذا برجل كهل تقدم مني، وكأنه أراد أن يؤنسني وقد رآني غريبا، فسألني: كم تظن عمق المياه هنا؟
سؤال عجيب! أهو يهزأ؟ ولكن نظراته وديعة، وعمره تجاوز سن الهزء؛ إذ إن شعره قد انسحب متقهقرا بنظام من جبهته إلى قمة رأسه. - كم تظن عمق المياه هنا؟
أجبته متلجلجا: أظنها ألف ميل.
قال: أظنك مخطئا.
فسبقتني النكتة المصرية المعروفة فقلت : إن لم تصدقني تفضل فقس العمق وأعلمني النتيجة.
فاستطاب هذه النكتة، وجلس بجانبي نتحدث عن السياسة والتجارة والاستعمار، وأقوال الجرائد الإنكليزية، وقد استفرغت علمي وجهدي وفلسفتي فوضعتها في تلك المحادثة، فكان صاحبنا مسرورا، ولكن لماذا التواضع؟ إنه كان معجبا، فنادى رفقاءه الخمسة، وأقبلوا علي في حلقة يستفسروني ما صعب عليهم فهمه من مشاكل الشرق، فصرت أجيب بأبهة وفصاحة، ومر بي حين من الدهر حسبت أن أزمة الشرق في يدي.
وكان الرقص قد انتهت دورته الأولى، فانضم إلينا سيدات أربع؛ ثلاث متزوجات، ومس هدسون؛ فوسعنا حلقتنا، وأخذت أشرح لهم أنواع الرقص البدوي، وأخبرهم عن عادات البدو، وأخذن هن يستفسرنني ويصغين إلي إصغاء الأولاد إلى حكايات الجن.
إي والله، لقد كانت أخباري أقرب إلى حكايات الجن منها إلى أحاديث الآدميين. - وهذه العباءة كم تظنها تساوي يا مستر؟ - بكم اشتريتها يا سيدتي؟ - بأربعين شلن. - إنها لا تساوي أكثر من خمسة وثلاثين. - وهذا الشال كم ثمنه في بلادكم؟ - بكم ابتعته يا سيدتي؟ - بليرة إنكليزية. - أظن أنك مغلوبة، فنحن لا نبيعه بأكثر من نصف ليرة. وهكذا دار التثمين والتخمين حتى عزفت الموسيقى برقصة أتقنها - لا بل لا أتقن غيرها - فهلع قلبي. هو ذا في حلقتنا سيدات أربع، كلهن مشوقات إلى الرقص مع الغريب العجيب الذي يعرف الرقص البدوي، والخبير في ثمن الشالات والعباءات والنحاس والسجاد.
أنا أرقص مع سيدة إنكليزية؟
ومن هذه الطبقة، وفي هذا المجتمع؟
قلت لنفسي: «مكانك تحمدي أو فاستريحي.»
وشجعت نفسي، وانتخيت، وسألت مس هدسون الرقص؛ فمشت ومشيت، ورقصت ورقصت.
ثن وثلث يا شاطر حسن
ومن تلك الساعة، الرقصة تتلو الرقصة، وأنا قبلة الأنظار، ومطمح أبصار الراقصات.
دراقة
من تشابيه الإفرنج قولهم للمرأة الجميلة المشبع وجهها حمرة وبياضا إنها دراقة (دراقن في القاموس). إنه لتشبيه جميل وصحيح، وأرجو أن يشيع في العربية.
أليس الخد المشبع حمرة وبياضا أقرب إلى تلك الثمرة الطيبة الشهية منه إلى الجسم البارد والمستدير، القمر؟
ولكن العرب شبهوا المرأة بالقمر، ولم يشبهوها بالدراقة.
لعل تلك الثمرة لم تكن في بلادهم، بل قد تكون سمرة نسائهم أبعدت عنهم ذلك التشبيه. فلما جئنا نحن فاستعرنا الألفاظ الأدبية ولم نستعر الروح، بقينا نشبهها بالقمر، ولم نستنبط لها تشبيها جديدا.
ما أصدق ذلك التشبيه في الاسكوتلندية الفاتنة التي أراقصها. الآن وصلنا إلى مس هدسون.
أسرت إلي أن الرقص أتعبها، فأخذت بيدها واتكأنا على خشب الباخرة، ووجمنا صامتين.
جبل من الخشب والحديد يسير في سهل من الماء، والبحر قد استحالت زرقته إلى السواد، وجماله إلى الرهبة والخشوع. وفي الشمال يلتمع الهلال، وهو ابن يومين، وفوقه الزهرة في عز ملك الصبا جمالا وبريقا.
أخذ الهلال يهبط رويدا رويدا، فيتغير لونه؛ ابيضاضه أصبح احمرارا كالجمر. إنه لامس الأفق البعيد، فنشر نوره على البحر بساطا من الحمرة الموردة، وبقيت زهرة مشعشعة قبالتي، وزهرة إلى جانبي مائلة برأسها على كتفي بشغف وطهر.
ولبثنا صامتين إلى أن بدأت هي الحديث فقالت: أليس فاتنا هذا المنظر؟ - بلى كان فاتنا يا فاتنتي.
أخذنا نتبادل الأخبار، فعلمت من أمرها أنها قاصدة إلى أواسط الهند لتعيش مع أبيها الذي تركها طفلة، وأنها ستشغل وظيفة في إحدى دوائر الحكومة.
واها لها!
أمثل هذه البشرة الناعمة تتعرض لشمس الهند المحرقة؟ وتلك الزهرة الندية العطرة يفوح شذاها بعيدا عن العالم المتمدن في أدغال الهند، لينشقه من؟
لهفي عليها إذ تجلس كئيبة في وحدتها، مجهدة من عملها، قصية عن الملاهي التي ألفتها.
ملكتني هذه الحسرة على زهرتي، وهممت أن أكاشفها هواجسي، ولكن ابتسامتها الجذلة وإقدامها الجريء أجمدا كلماتي في فمي، فما تحركت الأوتار بالموسيقى حتى رجعنا إلى أزواج الراقصين، فكنا حلقة في سلسلتهم. ولما هدأت الأوتار، عدنا فانضممنا إلى أصحابنا الاسكوتلنديين نمازحهم، ونتحدث معهم. وقد يمكنك أن تتحبب إلى امرأة بأن تطري جمالها، وتنقص من جمال سواها، وقد يمكنك أن تتودد إلى المغني بالتظاهر بالطرب الشديد، ولكن ليس في وسعك أن تتقرب إلى شخص بأسرع مما تتقرب إلى الاسكوتلندي إذ تطري أديبا من أدباء بلاده؛ ذلك لأن النابغين من كتابهم وشعرائهم قلائل، وعلى قلتهم لا يعترف الإنكليز أنه قام بين الاسكوتلنديين نابغة، مع أن منهم «كارليل» الحكيم، و«سكوت» الروائي، و«برنز» الشاعر.
رويت لهم اليسير من نوادر حكيمهم، وتناشدنا القصائد لشاعرهم؛ فتوثقت بذلك صداقتنا، فدعوني إلى المقصف - مع ما اشتهر عنهم من البخل - فلبيت الدعوة، كيف لا وجارتي مس هدسون؟!
الحصان الأبيض
وكان الشراب من الوسكي الشهير «الحصان الأبيض»، وأنا لم أتعود من أنواع الشراب إلا الماء والقهوة، فلما دارت الأنخاب اضطررت إلى رفع كأسي، وكنت في كل مرة أكرع أحس بمرارة في فمي وحلاوة في حديثي، وصرت أضحك للاشيء، وأتخيل كل شيء. شعرت بالخفة في رجلي كأنهما أصبحتا مجنحتين، وبالثقل في رأسي كأنه توج بالحديد.
انتهت الجلسة، ونزلت السلم إلى غرفتي، بل تدحرجت عليه. قعدت في فراشي، ومرت بي مواكب الأوهام. عاودتني الهواجس في مس هدسون؛ هذه أفاعي الهند تهاجمها، فينبغي أن أحذرها منها، ها هي الشمس تمطر نيرانها، وأنا لم أر في يد الفاتنة شمسية، بل لماذا لا أقدم لها شمسيتي؟ فتحت حقيبتي، وأخذت منها المظلة، وأنرت الغرفة، وخرجت منها والشمسية في يدي عند منتصف الليل، التقيت بالخادم فسألته عن ... عن ... آه ... نسيت اسمها.
رجعت إلى الفراش، وكان صباح؛ فاستفقت، فإذا بالجفاف يكاد يحرق فمي، شعرت بصداع شديد في رأسي. ذراعي كالخشبة قبح الله «الحصان الأبيض» وألحقه بأدباء اسكوتلندا.
لم أذق من الشراب إلا الماء والقهوة، وسنرجع إلى الماء والقهوة. إن ربك غفور رحيم.
بحر غير أحمر
سمي البحر الأحمر «أحمر»؛ لأن الحمرة تغلب على بعض بقاعه. بلى لقد ارتكبت غلطة يستفظعها علم المنطق؛ وهي أني فسرت لفظة أحمر بلفظة مشتقة من حمرة، وهذا في المنطق خطأ فاضح، كأن تسأل: لماذا سميت بريطانيا «عظمى»؟ فتجيب: لأنها عظيمة. أما إذا سألت هذا السؤال عن لبنان «الكبير» فتكون قد ارتكبت غلطتين فظيعتين؛ الأولى في علم المنطق، والثانية في علم آخر.
ولكن ما لنا وللمنطق؛ فقد قيل: «من تمنطق فقد تزندق.» إنما المهم أن تعلم أننا مررنا بما يسمونه البحر الأحمر، وحدقنا في مياهه طويلا، فكدنا نرى كل الألوان، من الأبيض إلى الأزرق الضارب إلى السواد، أو الأزرق الصافي. ولكننا لم نجد اللون الأحمر الذي من أجله سمي البحر أحمر.
صفعتان
في التاريخ صفعات تاريخية مشهورة، أذكر منها الصفعة التي لقيها النائب الألباني في مجلس المبعوثان من أحد كبار رجال الأتراك، ويقال إن النائب الألباني حين صفع قال: ستكلفكم هذه الصفعة ثمنا غاليا يا رجال الأتراك. وكانت اللطمة السبب العاجل في إشعال الثورة الألبانية، ثم انسلاخ تلك البلاد عن السلطنة العثمانية.
أقول إنها كانت السبب «العاجل» أو المباشر؛ فقط لأنني أعتقد أنه من الجهل أن تسفر حادثة تاريخية جلى بسبب تافه، كأن يقال إن سبب الحرب الكونية هو مقتل الأرشيدوق النمساوي.
شططنا عن موضوع «الصفعتين».
اليوم عيد الميلاد، وللإنكليز عادات خاصة بهذا اليوم العظيم، ولعل أغربها عادة التقبيل تحت شجرة الميسلتو، وهي عادة توارثوها من الأجيال الوسطى؛ إذ ينصبون يوم عيد الميلاد شجرة الميسلتو حتى إذا لقيت تحتها أي امرأة جاز لك أن تقبلها دون أن تستثير غضبها أو غضب رجلها.
وكان معنا في الباخرة امرأة صينية (نسبة إلى الصين لا إلى الإناء النحاسي)، وجهها آية الفن في أنه استجمع كل العاهات وكل ما يمكنك أن تتصوره من قبيح.
وقفت المسكينة تحت شجرة الميسلتو من غير أن تعرف العادة، فمر قربها جبار أيرلندي كان جاري على المائدة.
قلت إنه جبار لأنه يسكر أربعا وعشرين ساعة في اليوم، ويلعب البوكر، وقد أخبرني أنه في كل سفرة يحصل «الناولون» من البوكر، وهو مع ذلك ذاهب ليشغل وظيفة مفتش بوليس في «مالاي».
رأى صاحبنا الفتاة الصينية تحت شجرة الميسلتو؛ فظن أنها تدعوه لتقبيلها، وتقدم منها وقبلها؛ فهاج هائج الفتاة، وصفعته صفعة رنت في القاعة، وتركت على خده ماركة مسجلة لخمسة أصابع.
وقف الجبار يرتجف من الغضب؛ لأنه - في ظنه - لم يقترف جرما، ولأن الصفعة إهانة لا يحتملها دمه الأيرلندي.
وقف وقال: «أيتها الفتاة! لو أن الذي صفعني «رجل» لكان له عندي غير هذا الجواب.»
وهز قبضتين حديديتين هائلتين ومضى .
يا ابن ال ...
أما الصفعة الثانية فقد كان صاحبها مصريا.
كنا في حلقة نتحدث، فسأل أحد الرفقاء الإنكليز رفيقا مصريا كم له من الإخوة.
قال المصري: ليس لي إلا أخت.
فأجاب الإنكليزي: قل لها إني أسأل عنها.
ولم يكد ينهي جملته حتى رنت الصفعة على خد رفيقنا الإنكليزي، وأشفعها بيا ابن ال ...
فتلافينا الأمر، وعرفنا بعدئذ أن عبارة «قل لها إني أسأل عنها» اصطلاح مقصود فيه عند الإنكليز المجاملة والتأدب، وليس فيه شر؛ فاعتذر صديقنا المصري، وانتهى الأمر.
العرض
قادتنا هاتان الصفعتان إلى التحدث عن عقلية الشرقي بشأن المرأة، وكان صديقنا الأيرلندي «المصفوع» قد هدأ ثائره؛ لأن الأيرلندي كالفرنساوي سريع الغضب سريع الرضا، فلما التقينا على الشاي استغرب سلوك الفتاة الصينية.
قلت له: «أعترف لك أولا أنني حين تحدثني عن شجاعة الأيرلندي أحسب أن ذلك من قبيل الغلو في حب قومك. أما اليوم فقد أقدمت على تقبيل مثل تلك القبيحة؛ فقد وثقت أنكم - جماعة الأيرلنديين - قوم بواسل مغاوير، كذلك أهنئك على العبارة التي فهت بها حين صفعت.»
قال: «أليس في سلوك الفتاة شيء من التوحش؟ فهذه العادة مستحبة عند الإنكليز.»
قلت: «نعم ما فعلت الفتاة، وكان عليك أن تتحاشاها؛ لأنها غريبة عنكم، ومتى أصبحت عادة تقبيل النساء تحت شجرة الميسلتو عادة دولية تعترف بها جمعية الأمم، جاز لك أن تهاجم غير بنات جنسك. أما والعادة ما تزال من القوانين الداخلية، فلا تقترب من الغريبات، خصوصا إذا كن لسن من رعايا جلالة الملك وإمبراطور الهند. أما رأيي الخاص فإني أميل إلى الاعتقاد أن المرأة التي تصعر خدها في يوم العيد تصعره في أي يوم آخر.»
القاضي يتكلم
قال جارنا البعيد، وكان قاضيا في الهند: «أنتم معشر الشرقيين مغالون في هذا التأثر السريع للشرف النسائي. جلست في كرسي القضاء ثماني سنوات في إحدى مدن الهند، وإن أول ما يتبادر إلى ذهني وأنا أعالج دعوى جنائية أن سببها ثأر لإهانة نسائية.»
قلت: «أصبت، فنحن شديدو الغيرة، وإننا نفتخر بهذا الذي تعيبوننا به.»
تاريخ اللفظة
إن لكل لفظة تاريخا ؛ مثلا هذا القلم الذي أحمله: حينما شعر الإنسان بالحاجة إلى تدوين خواطره اخترع القلم، وأخيرا أطلق عليه اسما؛ فتاريخ اللفظة يبتدئ بالشعور بالحاجة لشيء ثم وجوده وتسميته.
وكما أن عند الإنكليز لفظة «هوم»، وهي تدل على الحياة العائلية في أسمى درجاتها، كذلك عندنا لفظة غنية غير موجودة في باقي اللغات على ما أعرف هي لفظة «عرض».
لا أعني أن باقي الأمم لا يشعرون بهذا الشرف النسائي، وأن غير الإنكلوسكسون لا يتمتعون بالحياة العائلية، لا بل إن وجود لفظة «هوم» عند الإنكليز يستدل منها أنهم أسبق الأمم لتقدير الحياة العائلية، ووجود لفظة «عرض» عندنا تثبت أننا نقدس هذا الشرف النسائي أكثر من سوانا.
تاريخ العادة
أعجب أصحابنا هذا التعليل التاريخي، ولكنه لم يعجبهم هذا الإحساس الحاد، وتبرير الانتقام من أجل ما نتخيله انتقاصا لشرف يظنونه موهوما.
وكما أن الكلام يجر الكلام، كذلك التاريخ يجر التاريخ، فقصوا علي الحادثة التي من أجلها يروى أن عادة التقبيل شاعت؛ قالوا: تحدرت هذه العادة من الأجيال الوسطى، غير أنهم كانوا يعيرون المرأة التي تقبل؛ لذلك كان النساء فيما مضى ينفرن من الشجرة، ويتحاشين أن يمررن تحتها. وكان لأحد أشراف الإنكليز - واسمه اللورد لول - امرأة تشبه صاحبتنا الصينية بأنها تخاف التقبيل، وتختلف عنها بأنها قريبة إلى الكمال كقرب الصينية إلى القبح.
وكان عيد الميلاد؛ فخافت امرأة اللورد أن تباغت بقبلة، فراحت تفتش عن مختبأ، فلم تجد آمن من صندوق خشبي كمنت فيه، غير أنها لم تكد تطمئن في ملجئها حتى وجدت أن قفل الصندوق قد أطبق، ولم يعد في وسعها الخروج.
ومضت الأيام والناس يتساءلون عن امرأة اللورد أين هي، وشاعت عنها أحاديث السوء، حتى اكتشفوا بعد سنوات هيكلها العظمي، وثيابها الرثة في ذلك الصندوق فعلموا الحقيقة.
ويقال إن عطوفة اللورد مات عليها غما، فلما حدثت هذه المأساة قرر الناس أنه ليس من عار على تقبيل المرأة يوم العيد، بل إنه من حسن طالعها ذلك، وإن التي قبل خدها «سوكرت» رفاه العيش في عامها المقبل.
أنف طويل
قلت إن الرجل الشرقي ذا اللسان العربي تجنب صحبتنا في الأيام الأولى، ومر بنا شامخا مزدريا، فلما ألفنا القوم وألفونا، وشاركناهم في جدهم ولهوهم، وأنس كل منا إلى رفيقه، لمحت من صاحبنا الشرقي رقة لم أتعودها، وأخذ يتودد إلينا. حفظنا من الأمثال العربية: «من لقينا بأنف طويل لقيناه بخرطوم فيل.» وقد لقيتنا أيها المزدري بنا أمس، المتودد إلينا اليوم، بأنف طويل؛ فخذ هذا «المنخار» طوله ميل.
هزأت بنا في يوم العزلة والاغتراب، فاسمح لنا أن نستخف بك ونحن في حمى الاصدقاء وعزة الأصحاب.
من يزرع الثوم لا يقلعه ريحانا.
كلمات هزتني
ليس أسهل من الاهتزاز ... ونحن شعب عاطفي تهزنا الكلمة، غير أنه لا قيمة للانفعال إن لم يترسخ منهجا، أو يذكر عن الحياة موقفا. وأخطار الرعشة النفسية كثيرة، منها أن يمسي الإنسان رجفة مستمرة، أو أن يألف بليغ العبارات، فلا تعود تفعل فيه، بل تصبح الألفاظ أداة طرب وترفيه؛ لذلك في نفسي أبدا ريبة من حفظة الشعر والأمثال. وفي رأيي أن مرددي هذه يستعيضون بالمحفوظات عن التفكير الأصيل. ولو أن أحدنا أراد أن يؤلف كاتالوك الأقوال التي يعجب بها لجاءت كتابا ضخما، ولجاءت كتابا متناقضا؛ ففي مختلف الحالات تطفو على الذاكرة أقوال متضاربة؛ ففي حالات الفقر يعيد أحدنا «القناعة كنز لا يفنى.» وقد يوفق إلى ضرب بورصة رابح، فيستمع إلى نفسه معجبا بنفسه: «ما فاز باللذات إلا الجسور.» وقد تأتي الأقوال التي تهز بعد التجربة أو قبلها، أو قد توحي التجربة قولا.
والفكر الإنساني - لحد كبير - هو موحد الحصاد؛ لأن البشر يمرون في اختبارات متماثلة، فلا عجب والحياة تنكشف خلال مختلف العصور عن وحدة في التجارب أن تأتي هذه مجسدة في وحدة من الأقوال. وإن تصفحنا كتاب الأمثال اللبنانية للأستاذ أنيس فريحة - وقد جمع منها نحوا من خمسة آلاف - نجد أنها تبدو معربة تقريبا عن الأمثال الصينية القديمة أو اللاتينية، وغير مستغرب أن يكون لبعض القبائل التي لا تزال تسكن الغابات أمثال وأقوال.
من غريب الصدف أنني كنت في أمسية أقرأ قصيدة رثاء بالشاعر وديع عقل نظمها صديقه أمين تقي الدين، جاء في عجز آخر بيت فيها:
يمضي الغناء ويبقى السمع نشوانا
وبعد قليل رحت ألاعب القاموس الضخم ل «وبستر»، وفي آخره مجموعة الأمثال العالمية، فوقعت في اللغة اللاتينية على نفس القول منسوبا لشاعر عاش في سنة 1200 قبل المسيح.
كنت في نحو السادسة من العمر؛ إذ توجهت برفقة أبي إلى زيارة قرية لبنانية، ولسبب ما - أظنه كان سياسيا - ثار اضطراب، وتجمهر أهل القرية، وكاد يحصل ما اصطلح الناس أن يسموه ما لا تحمد عقباه. وفي ذروة الصياح سمعنا من يصرخ أن رجلا فوق الخمسين اسمه مجيد طلع إلى سطح البيت وبارودته في يده؛ فساد الذعر، واشتد الهياج، ولكن شيخا من الحاضرين ضحك، وقال: «مجيد طلع على السطح؟ مجيد وفي يده بارودة؟ مجيد في شبابو ما قوس!» لا أعلم فيما قرأت وسمعت تحقيرا مضمنا أفصح من هذا التحقير:
النبت الصالح ينمو بالعناية، أما الشوك فينمو بالإهمال.
هذه عبارة هزتني حين وخزتني شوكة في أرض مهملة تحت «عالية»، ونحن في طريقنا إلى سيران في بستان تفاح دعانا إليه صديق في الصيف الماضي.
رجعت إلى بلادي بعد غياب في «الفلبين» استمر نحوا من ثلاثة وعشرين سنة. كتبت الكثير عن عودتي، ولكن الهزة الكبرى أطلقها الشاعر إيليا أبو ماضي حين عاد منذ ثلاث سنوات فأنشدني:
وطن النجوم أنا هنا
حدق أتذكر من أنا؟
كان لي صديق بولوني في الفلبين، وقد اجتيحت بلاده سنة 1939، ونحن في الشرق الأقصى من 1939 إلى 1941 ما طالتنا الحرب بعد، وكنا في رخاء وحرية وازدهار أعمال. أما صديقي فكان أبدا كئيبا، لم أفهم سر حزنه إلا حين قرأت بعد عشر سنوات:
إن لم تكونوا أحرارا من أمة حرة، فحريات الأمم عار عليكم.
منذ أيام، وقفت في الطريق أمام بيتنا جوقة نور، فيها المنشد، وفيها ضارب الصنج، وصبية ترقص. ولا أدري لماذا استوقفني ذلك المشهد التافه، ورحت أحس أن في ذاكرتي شيئا يشرئب ويموج. في اليوم الثاني استعدت بيتين من الزجل كنت نسيتهما، واستثارتهما النورية الصبية الراقصة:
لا تكذبي شو سارقه ومنين
زغاليل حمام اثنين بعبابك
رح يفطسوا، فكيلهم زرين
مناقيدهم رح يخزقوا ثيابك
وكلمات ثارت الفتن الطائفية أردد: «اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض.»
وفي كل يوم يكتسب بيت شوقي معنى جديدا:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن أفصح كلمة سمعتها في حياتي جاءت على لسان قروي من ضيعتي، كان يصف معركة بينه وبين أبناء عمه، كان وحيدا، وكانوا - على روايته - كثرة، فلما أراد أن ينزل إليهم لينازلهم وصف عمله بقوله: «تجمهرت»، ونزلت إليهم.
حين يقول الفرد عن نفسه أنه «تجمهر» يعطي سامعه معنى الإعداد، والاعتداد، والشجاعة، والبأس، ووحشة الفرد، كلها في لفظة واحدة.
واليوم، وأحاديث السلم، ومؤتمرات السلم، وعرائض السلم تملأ الدنيا أجد: «أن الأمة التي تسلم نفسها للسلم تسلم نفسها للعبودية.» هي عبارة تهزني، وتمثل أمام عيني، وتملأ نفسي وتفكيري.
كثيرا ما تقرأ عن الجمال أنه تضاد. وفي الأدب - كما في الحياة - التضاد في الألوان والمواقف والأشخاص يعطي معنى للجمال وللفكاهة وللمسرحية، بل إن هناك من يعتقد أن الفن كله تضاد. هذه الصورة - صورة التضاد - لم يصورها في مشهد كلامي أروع مما صورها فلاح قصدت إليه وهو يشتغل في حقله يوم الانتخابات النيابية، وكان قد اعتزم أن لا يقترع. ورحت أسأله أن يأتي إلى قلم الاقتراع فيرمي بصوته، والظاهر أن سواي كان قد سبقني إليه، وانتزع منه وعدا أن يمتنع عن التصويت، قال لي الفلاح فيما هو يضرب بمعوله: «لا تواخذني! أجا فلان قنعني. قوبز على هالحجر، ومد حديث.» قوبز على الحجر، ومد حديث، فكرة القرفصة، وما فيها من ركود وسكون، يقابلها بتضاد عنيف فكرة «مد» الحديث.
طاغور مارس فن التضاد حين وصف الحبيبة بقوله:
أنت السماء وأنت كذلك العش
ثم أوضح:
أيتها الجميلة، العش يغلف فيه حبك الروح بالألوان والعطور والأصداء، ولكن هناك حيث تمتد وتعمق السماء إلى ما لا نهاية، حيث تطوف الروح، وتسود في بياض طاهر مشع.
شخصيا أفضل: «قوبز ومد ».
ومذهب التضاد في موسيقى أبيات شعرية هزتني إذ وضحت في قصيدة «نذير العظمة»، وعنوانها «سلام على سوريا». وفي هذه القصيدة تجد الزرع والحصاد والطفولة والرجولة، والسلام والحرب والمواسم، أختار منها المقطع الأخير:
لعينيك يا سورية
حماتك، لا لن تبور الحماة
ستزرعنا الأمهات
غنى من طفولة
كصحو الينابيع كالزنبق
مواسم من قوة ورجولة
غدا نلتقي
غدا في حصاد البطولة
ويهتف كل مع المشرق:
سلام على سورية.
هل من المستطاع، هل من الحق أن أسرد حكاية الكلمات والعبارات والأمثال التي هزتني من غير أن أنهيها وأتوجها بعبارة لسعيد تقي الدين: «ليس من الضروري أن تعلق على قفص الأسد لافتة «ممنوع الدخول».»
Unknown page