الخاتمة
ومضى علينا بعد ذلك عدة أيام دون أن يتفوه أحدنا بهذا الموضوع، وكنت حائرا في أمري لا أدري كيف يجب أن أظهر نفسي لبولينا وأفهمها الحقيقة. أما هي فلم تفاتحني بأمر أو تتعجب لوجودي دائما بقربها، وكنا نصرف أوقاتنا بالقراءة تارة وطورا بإنشاء الأغاني على البيانو وأحيانا نسير للنزهة، فتتأبط ذراعي كأنها عالمة أن تلك اليد تخصها.
فيوما ما بينما كنا جالسين وقت الغروب على صخر مرتفع يشرف على البحر، وقد أخذت أشعة الشمس بالاصفرار، التفت يمنة ويسرة إلى تلك السهول الواسعة الأطراف التي كنت أملكها، وإذا بها قد زينتها الطبيعة بانعكاس نور الشمس على أشجارها، فتأثرت لهذه المناظر اللطيفة وجعلت أتفكر بعظمة الخالق وكرمه، فوجدت بأنه قد متعني بالسعادة بعد الشدة ومنحني مالا وافرا ومقتنيات كثيرة، وهي أشياء يستحيل على كثيرين الحصول عليها، ولكن ماذا يفيدني كل ذلك وبولينا لم تزل على حالها ضعيفة الإدراك لا تهتم بي، فإني أفضل أن أكون فقيرا لا أملك شروى نقير وتكون بولينا كما أريد. وعند ذلك فاضت مدامعي وشعرت بأني ما زلت أتعس البشر، فالتفت إليها وكانت شاخصة بي تتأملني بنظر حاد، فكدت أبوح لها بكل ما يجول في خاطري لو لم تبادرني بقولها: أخبرني من أنت؟ ومتى وكيف عرفتني؟ ولماذا كنت أحلم بك وأنا مريضة؟ وكيف اتفق وجودي في منزلك؟ - لقد طلب إلي الطبيب أن أعتني بك مدة غيابه، فوعدته بذلك، ولكنه لا يعود لأنه كما أخبرتك سابقا قد قبضت عليه العدالة وأودعته السجن لأنه كان شريكا للقتلة.
فسترت وجهها بيدها كأنها تقصد إخفاء ذاك المنظر الهائل عن عينيها، فأردت أن أغير مجرى أفكارها فقلت لها: أخبريني الآن يا بولينا كيف رأيتني بالحلم؟ - لقد أبصرتك واقفا بجانبي في نفس الغرفة التي جرت فيها تلك الفاجعة، ولكني أعلم جيدا أن تلك أوهام لا صحة لها، وبعد ذلك عدت فأبصرت من خلال غيوم الأحزان وجهك، فكانت تلوح عليه لوائح الجد والتعب، وكأني بك تقول: «إنني ذاهب لأبحث عن الحق.» وهكذا كنت منتظرة رجوعك بفروغ الصبر. - ألم تريني قبل ذلك؟
فأجابت بصوت مرتجف: لا أعلم، لا تسألني. ثم تحفزت للقيام وهي تقول: لقد خيم الظلام فهيا بنا إلى المنزل. فتبعتها وبوصولنا إلى البيت ذهبت توا إلى غرفتها معتذرة عن عدم مقدرتها على مجالستي في السهرة كعادتنا، وقبل أن تلج الباب كلمتني بالإيتاليانية - حيث إن بريسلا كانت حاضرة - قائلة: جلبرت، هل يجب علي أن أنسى الماضي أو أحاول تذكاره؟ وانسحبت إلى الداخل. أما أنا فلم أكن باحتياج إلى الرقاد، فخرجت أنزه الطرف بالحديقة، وكان النسيم باردا منعشا والقمر يسطع بنوره الفضي، فجلست على مقعد خشبي وإذا ببريسلا مقبلة نحوي وهيئتها تنبئ بكتمانها أمرا تود التصريح به، فقلت لها: اذهبي الآن إلى بولينا فربما تحتاجك. - نعم، سوف تحتاجني، ولكن ليس الآن ففي الغد سأخلو بها وأفهمها كم أنت معذب بسببها. - لا يا بريسلا، لم يحن الوقت بعد. - ولكني متى أخبرتها كم تجشمت لأجلها من الأخطار وكم سهرت على راحتها واعتنيت بها، فلا بد من أن تتذكر ذلك حالا، وحينئذ ترى نفسها مديونة لك بأمور كثيرة، وقد تعلو منزلتك لديها فلا يمضي زمن قليل حتى تبادلك عواطف الحب الأكيد. - لا، لا أريد أن أغتصب قلبها، فآمرك ألا تفعلي ذلك. - طالما حفظت أوامرك يا سيدي، فدعني غدا أعصي واحدة منها لأجل راحتك. - لا يا بريسلا، لا يا صديقتي القديمة؛ فإنك بذلك تسببين لي كدرا عظيما.
ثم تركتها وجعلت أخطر في وسط الحديقة وأنا مضطرب الأفكار، وكنت أردد في ذهني كلماتها الأخيرة، وهي هل أنسى الماضي أو أحاول تذكاره؟ فماذا تقصد يا ترى بهذه الكلمات، ألم يفدها ذلك الخاتم أنها ذات بعل، فمن يكون سواي وهي ترى نفسها في منزلي؟ وقد تأكدت أنني مطلع على كل أسرارها، فهل علمت ذلك يا ترى وتجاهلت عنه إذ لا ترى من نفسها ميلا إلي؟ نعم يمكنها أن تتخذ ذلك حجة لقلبها؛ فإني قد اقترنت بها بينا هي فاقدة قوة يمكنها أن تقبل أو ترفض طلبي. وجملة القول إنني من تلك الساعة بدأت أفكر أن أتعابي أخذت بالابتداء. وأخيرا عولت على أن أطلعها في الغد على كيفية ارتباطنا القريب ووقوعي في شراك سنيري، وإني برئ من اللوم لأني لم أكن أعلم عن حقيقة حالها أمرا، وبعد ذلك أصغي لاستماع الحكم من بين شفتيها، فإما أن أحيا سعيدا أو أنفصل عنها إلى الأبد؛ لأن ما من قوة تجذبها للبقاء معي سوى الحب، فإذا لم يكن لديها قلب استحق الحصول عليه أكون إذ ذاك كالحمل الثقيل على عاتقها، فالأوفق أن أبتعد عنها وأهبها قصري وما فيه وأوكل عنايتها إلى خادمتي، وهذه أحسن وسيلة لتوطيد راحتها.
وبينا أنا بالافتكار إذ وقعت عيني على وردة زاهية اللون، فتأملتها مليا، وإذا بها تشبه وجنتي حبيبتي، فأسرعت لاجتنائها وأتيت من جهة الغرفة التي كانت بولينا نائمة فيها، ورميت بها من النافذة وربما صادف وقوعها على السرير.
وعند الصباح اتجهت نحو غرفتها متهللا وقد نبذت مخاوف الليل ظهريا، فالتقتني الخادمة عند الباب وأعلمتني بخروجها إلى الحديقة باكرا. فانطلقت إلى هناك وإذا بها سائرة بتمهل ورأسها منخفض، وقد ظهر على محياها الصبوح إشارة الذبول، فكان وجهها مصفرا وعيناها غارقتين، مما دل على أنها لم تذق الرقاد كل ذلك الليل.
فاقتربت منها وحييتها كالعادة، فردت تحيتي وهي تبتسم عن ثغر كالدر، ثم سرنا سوية، وأول ما حاولت البحث على وردتي في يدها، فألفيتها مجردة منها، ومن ذلك الخاتم الذي كان يسطع في عيني كنجم الأمل. وعند ذلك لم يعد بوسعي الشك بأنها تذكرت كونها زوجتي وأنها ترفض ذلك، ولقد وضح لي جليا بهذه الإشارة عن أفكارها بأنها ترغب في حل العقد، فما لي ما أقوله بعد، لقد أفحمتني بالجواب قبل أن أبدي الخطاب، فويلا وتعسا لقلبي، إنها لا تحبني، وقد لاحظت هي أني أنظر إلى يديها باستغراب وحزن عظيم، ولكنها لم تكترث بذلك.
وهكذا مضى بنا النهار دون أن نتحدث بهذا الموضوع، غير أني استوضحت منها تغييرا عظيما، فإنها كانت حزينة جدا وتميل إلى الانفراد لا تتكلم إلا فيما ندر، ولم تعد تعتبرني كصديق بل كرجل غريب مستعملة الألقاب السامية، وهذا مما قوى أحزاني وسحق قلبي أكثر فأكثر.
Unknown page