وفي مدة خمس وثلاثين ساعة وصلت نوفكورد، ثم ركبت القطار وسرت إلى موسكو ومنها إلى بطرسبرج حيث شكرت السفير ثانية، وهناك أخذت تحريرا من بريسلا تخبرني به أن بولينا قد نالت الشفاء التام، وهذا بعض ما قالت: «إنها تنمو كزهرة نضرة وتظهر بها نفس أخلاق وشعائر سيدي جلبرت.»
فكان قلبي يرقص لهذه البشرى طربا، وما كنت لأصدق قط بوصولي إلى منزلي ومشاهدتي امرأتي المحبوبة بحالة طالما تمنيت أن أراها بها، فهل تتذكرني يا ترى؟ وكيف يكون الملتقى؟ وهل تتعلم أخيرا أن تحبني؟ أيكون هذا اللقاء فاتحة أتعابي أو خاتمتها؟
وأخيرا وصلت إلى الوطن وسررت بمشاهدة أبناء جنسي، وانتعشت نفسي باستنشاق هواء إنكلترا، ثم اتجهت بقلب خافق نحو منزلي، وقد توهمت أن تلك المسافة الباقية أطول كثيرا من السفر الذي قضيته، وحين وصولي إلى باب الحديقة أبصرت بولينا داخلا وإلى جانبها برسيلا وهي جالسة قرب صخر تتفجر منه المياه فتسقي من حوله أزهارا عطر أريجها الفضاء. وفي يدها كتاب ذاهلة عنه وعيناها الجميلتان شاخصتان نحو شجرة قد أرسلت أغصانها ظلا يخترقه من خلال الأوراق رقط من أشعة الشمس الذهبية منتشرة على ثوبها الأرجواني تتماوج كلما حركها النسيم، بما يجعل بولينتي المحبوبة بل زوجتي المعبودة أشبه بكوكب يسطع في الفضاء في ليلة ظلماء. فتقدمت نحوها متمهلا وقد أخذ مني الارتعاش واشتد خفقان قلبي. أما هي فلما شعرت بوطء أقدام التفتت نحوي وحدقت بي برهة ثم صرخت: هذا هو. وبالحال نهضت واقفة ولبثت في مكانها تنتظرني دون أن تحول نظرها عني، فدنوت منها وصافحتها قائلا: هل تعرفيني يا بولينا؟
فأجابت ولسانها يتلجلج: لقد حدثتني عنك بريسلا مرارا. - ألا تذكرين بأنك رأيتيني قبلا؟
فزفرت زفرة طويلة، وقالت: كثيرا ما رأيتك بالحلم. - وماذا كانت تلك الأحلام؟ - اعذرني فلا أقدر أن أجيبك الآن؛ فإني كنت مريضة ... من مدة طويلة ... وقد نسيت أكثرها، ولكني سوف أذكر كل ما مضى شيئا فشيئا. - أتسمحين لي أن أذكرك بها؟ - لا، أرجوك أن تمهلني إلى الغد، فإني تعبة جدا.
وقبل أن تسير إلى المنزل عثرت برقعة كانت قد تطايرت من الكتاب الذي بيدها، فتأملتها مليا، وإذا بها رسمي، فتعجبت لذلك، وسألتها كيف تم لها أن تصنع ذلك وهي لم ترني إلا بالحلم؟!
قالت: لا أعلم سببا لذلك فإن هذه الهيئة لم تبارح مخيلتي قط، وكنت أراك دائما مشتغلا بأمور ذات أهمية، فأخبرني هل فزت بأمنيتك؟ - نعم، لقد فزت بالمرام واطلعت على كل شيء. - أخبرني إذن أين وضعوه؟ - من تعنين بهذا القول؟ - أخي أنطونيوس الذي قتلوه. - لقد دفن بجانب والدته في إيطاليا. - الحمد لله، فسوف أصلي على قبره يوما ما. - وهلا تريدي الانتقام من القتلة؟ - وماذا يفيد الانتقام، هل يعيده إلى الحياة، فضلا عن أنه قد مضى على تلك الحادثة زمن طويل بينما كنت مريضة، فسينتقم له الله منهم. - لقد نال كل منهم جزاءه، فأحدهم مات، والثاني دهمه الجنون، والثالث يرفل الآن بسجن سبيريا، غير أن الرابع لم يزل حرا. - سوف يتجرع نفس الكأس التي تجرعها رفقاؤه، فأيهم هذا؟ - ماكيري.
فقطبت حاجبيها، ولم تعد تفوه بكلمة.
وبوصولنا إلى المنزل، قالت بتذلل وحزن: هل تذهب بي إلى إيطاليا، فأبكي على قبره؟ فوعدتها بذلك، فضغطت على يدي إظهارا لممنونيتها وشكرها، ثم قالت: بعد أن أذهب وأرى المكان الذي ضم عظامه لا أعود من ثم أذكر الماضي.
الفصل الخامس عشر
Unknown page