أما بولينا فكنت قد تركتها مريضة بين يدي تيريزا خادمتي الأمينة التي قد أحاطت علما بكل ما توقع. وعندما نقهت من المرض أرسلت فطلبت إليها أن تأتي مع بولينا إلى إيطاليا، وعندما اجتمعت بهما رأيت أن جريمة ماكيري أفقدت الشاب الحياة والابنة العقل.
غير أن بولينا كانت تنتقم مني بدون قصد أو علم بذلك بنظراتها الباردة التي لم تكن سوى أسهم تنفذ في فؤادي فتعدمني الراحة، وأخيرا لم يعد بوسعي الوقوف أمام تلك الضحية، فبذلت جهدي بالابتعاد عنها، فأقمت في غرفة قريبة من غرفتها وأوصيت الخادمة أن تعتني بها جدا، وتذهب أحيانا بها إلى النزهة، ولكنها لم تأنس بالسكن في إيطاليا بل كانت تطلب بلجاجة أن تذهب إلى إنكلتره.
أما ماكيري فكان لم يزل له أمل بالاقتران بها، حتى وفي الحالة التي هي فيها زاعما أنها لا تعي شيئا مما مضى فما يمنعه من ذلك، غير أني مع كل ما أتيت من المنكرات وما اقترفت من الذنوب لم أتجرد من الإحساس الشريف، ولذلك لم أرض عن زواج ابنة شقيقتي إلى قاتل أخيها. فأرسلتها إلى إنكلترا تصحبها تيريزا، وبذلك أمنت عليها غائلة ماكيري الذي كان كثيرا ما يتوعدني بانتشالها من تحت حمايتي والزواج بها سرا، وهناك قدر أنك رأيتها وأعلنت للخادمة تشوقك للحصول عليها، وأرسلتها تعلمني بذلك، وكنت حينئذ في جينوى، فلم أتأخر عن المجيء والاجتماع بك، وعندما رأيت كلفك الشديد بها لم يمكني رفض طلبك وأنا على تلك الحال، فهذا مما هيج غضب ماكيري وجعله ينفث علي سم شكايته.
وعند وصوله إلى هذه العبارة شعرت بأن حملا ثقيلا قد تزحزح عن صدري وحسبتها المرة الثانية التي كنت بها كفيفا فشفيت.
الفصل الرابع عشر
هل تتذكرني؟
وبعد أن أنهى حديثه جلس برهة صامتا وعيناه شاخصتان إلى الأرض، ثم نهض وقال: هل تجد عذرا يا مستر فوكهان؟ - إني أشفق عليك. - هل ترجح شفاء بولينا؟ - أرجو أن أجدها بحالة حسنة. - إذن فأخبرها عن الحالة التي رأيتني فيها، فلا ريب أنها تتعزى نوعا إذ ترى أن الله قد انتقم لأخيها، والآن يجب أن أذهب.
قال ذلك وخطا نحو الباب حيث كان الحارس بانتظاره، وقبل أن يخرج قلت له: أعلمني إذا كان بوسعي أن أخفف عنك بعض الأتعاب؟ فتبسم بمرارة وقال: يمكنك أن تنفعني بدريهمات قليلة. فلم أتقاعد عن إجابة طلبه، ثم سألته إذا كان يحتاج لغير ذلك؟ فشكرني وأراد الخروج. فاستوقفته قائلا: كيف تنتهي بك الحياة، وهل تلبث على هذه الحال عشرين سنة؟ - سيذهبون بنا قريبا إلى مدينة نيرتشك في أقصى داخلية سبيريا حيث نشتغل بالمعادن. - أف لهذه الحالة التعيسة، ألا يوجد طريق للفرار منها. - لا ولكن أرجو أن أنال حظوة في عيني الرئيس إذا اجتهدت في العمل عامين فقط، وبعد ذلك ربما ينقلني من الأعمال الشاقة إلى تطبيب المرضى المسجونين.
قال ذلك بصوت منخفض.
وعند ذلك ناداه الحارس بالخروج، وقبل أن يبارح الغرفة قال: أسألك حاجة أخرى، وهي أن ماكيري لا بد أن ينال جزاءه، فهل لك أن تتكرم بإعلامي عن محاكمته ونتيجة الحكم عليه إذا كنت لم أزل في قيد الحياة، فهذا مما يخفف آلامي إذ يكون قد انتقم لي منه. وخرج بدون أن ينتظر جوابي وهو يقول: أستودعك الله يا مستر فوكهان، وأطلب منك الصفح فإننا لا نلتقي بعد. ثم توقف قليلا بعد أن رفع يده إشارة للوداع ودخل السجن، وهكذا توارى عن عيني إلى الأبد. وفي الحال ذهبت إلى القائد فارلاموف، وأثنيت عليه وشكرت همته وذهبت مسرعا حيث كان الدليل والجوادان بانتظاري، وإذ ذاك لم يكن ليعيقني أمر عن الرجوع إلى الوطن وبولينا.
Unknown page