فقال سنيري: أرجوك يا مستر فوكهان أن تدعني مع بولينا نهتم بمعدات الزواج ريثما يكون غدا كل شيء معدا فيمكنك أن تزورنا.
فودعته دون أن أرى بولينا، وذهبت واجف القلب قلق البال تتنازعني الأسرار من كل الجهات، فما كنت لأفقه كلمات تيريزا، ولا أدري مراد الطبيب بهذه السرعة. ومما زاد في قلقي وارتباكي جمود بولينا وذهولها، ولكن مهما كانت النتيجة فلا يمكنني الانفصال عمن كلفت بها، حتى إني صرت أرغب بالحياة لأجلها، وقلت: لا بد أن المستقبل يغير الأحوال، ومتى تأكدت خلوصي لها واعتنائي الشديد بها لا تكتمني أمرا يتعلق بماضي حياتها. وإذ ذاك أفقأ بعيني خالها حصرما، وأكتفي مئونة التعب بنفي أقوال تيريزا.
وفي اليوم الثاني زرت بولينا وحدثتها في مواضيع شتى، فكانت كعادتها هادئة تقتصر على كلمة لا ونعم، وأحيانا ينجدها الطبيب - الذي كان مرافقا لنا كالظل - بكلمات ينهي بها الحديث دون أن يدع لها مجالا للتكلم. وعند الساعة العاشرة من صباح اليوم الثالث كانت بولينا واقفة إلى جانبي مرتدية أثوابا حريرية بيضاء أشبه منها بالملائكة، وقد طوق رأسها البديع إكليل من الزنبق يشابه جبينها الوضاح، فما كنت لأصدق وأنا بذلك الموقف أن الفتاة التي كنت يائسا من لقائها منذ ثلاثة أيام هي الآن موثقة معي بعهود لا يحلها إلا الموت.
الفصل الخامس
بحسب الناموس لا المحبة
ما من يصف سروري وابتهاجي حينما كان يقلني القطار مع بولينتي المحبوبة في ظهيرة اليوم الذي تم به عقد زواجنا، فإنه عند نهاية الصلاة ودعت الطبيب وذهبت ببولينا إلى جنوبي إنكلترا، وهو سار إلى جينوى تصحبه تيريزا التي لم أخلف لها بوعدي، بل نقدتها القيمة بكل طيبة خاطر فودعتني شاكرة. وعند وصولنا إلى أول محطة خرج الناس أفواجا لتسريح النظر في تلك الجهات، وبقيت أنا وبولينا، فجعلت أنظر إلى محياها اللطيف بينما كان النسيم يهب متلاعبا بشعرها الحريري فألفيتها أجمل جدا من ذي قبل، وما تمالكت نفسي أن هتفت صارخا: بولينا، ما أجملك! آه كم أحبك! فرمقتني بنظرة باردة وأمالت رأسها عني كأني بها لم تفقه كلامي، فبكيت حزنا، ثم أخذت يدها بين يدي وقبلتها قائلا: إنك لا تحبيني الآن يا بولينا، ولكن سوف تحبيني فيما بعد.
فكأنها تأثرت لمشاهدتها الدمع يذرف من عيني فبكت، فقلت لها: لم تبكين يا بولينا؟ فلم تجب بل ارتعشت قليلا ثم خفضت رأسها وعادت للافتكار، فاعتمدت رأسي بين يدي وجعلت أتأمل في الحالة التي صرت إليها، وقد ندمت حيث لا ينفع الندم باتخاذي زوجة حسب الناموس لا المحبة المتبادلة، وقلت في نفسي: ما ضرني لو كنت ذهبت مع الطبيب وخطيبتي إلى جينوى وانتظرت ريثما أتأكد منها الخلوص، ومن ثم لا أصادف منها عدم مبالاة فأحيا سعيدا. وأما الآن فما لي أن أعاتبها على جفاها لأني أنا الجاني على نفسي. لقد رضيت بالاقتران بها دون أن أعلم عن حقيقة حالها أمرا، زاعما أنها لا تلبث طويلا حتى تتجرد من هذه الهيئة المحزنة المغايرة لكل ذي فكر، فما أتعسني إذا دامت على هذه الحال! وهكذا كانت تتقاذفني الأفكار، فأعدت على ذاكرتي ما مر بي في سالف حياتي من غرائب الحوادث من حين كنت أعمى حتى تلك الساعة، فلم أر سوى أسرار ومخاوف تترصدني من كل الجهات. ثم نبهني تماهل سير القطار معلنا بالوصول إلى «إدنبرج»، فالتفت إلى بولينا فلم أر أقل تغيير في هيئتها الجامدة وكأنها ألفت تلك المناظر قبلا. فصرفنا نحو ثلاثة أيام بالتفرج على مدينة إدنبرج لم أفتر بأثنائها عن الاعتناء ببولينا واستلفات أفكارها لكل منظر جميل. لكن واأسفاه! لقد اختبرت طباعها واتضحت لدي كلمات تيريزا من عدم أهليتها للزواج، وعلمت مقاصد الطبيب سنيري وشرطه على من تكون بولينا زوجته أن يرضاها بالحالة التي هي فيها. فيا لشقاوتي! إن من أفرغت لها أرفع المنازل في قلبي هي فاقدة الشعور، بيد أنها لم تكن خالية العقل، إنما كانت فاقدة قوة الذاكرة، فلا تذكر شيئا ماضيا ولا تبالي بمن حولها من الناس، وكان جل اهتمامها بقوتها وراحتها وترتيب أثوابها. فتنقاد لأقل إشارة تبدو مني دون أن تعلم النتيجة منها، فهي آلة صماء، وبعبارة أخرى: عقل طفل في جسم امرأة. أفألام إذا حسبت نفسي أتعس المخلوقات؟ فإني ما زلت ولن أزال أحبها، بل أصبحت أشد ولوعا بها من ذي قبل؛ فإن هيئتها الذابلة وجمالها السامي وسكوتها الدائم لمما يجعلها كالحمل الوديع، ويقوي عاطفة حنوي إليها ويذيب قلبي شفقة عليها.
فقلت لها ذات يوم: هل لك رغبة بالرجوع إلى لندره؟ فلم تبد إشارة تعلن بعدم ارتياحها إلى ذلك، بل نهضت حالا وأعدت أمتعتها لمرافقتي، فسافرنا من إدنبرج قصد الرجوع إلى الوطن، وقد عزمت بعد ذلك على اللحاق بالطبيب ليوضح لي الأسباب التي جلبت على زوجتي هذا الداء، فربما يوجد وسيلة لشفائها.
وبعد أن قضينا أكثر الليل على الطريق وصلنا إلى محطة بوستون، وكان قد أشرق جبين الصباح، فخرجت مع بولينا من الباخرة لاستنشاق نسيمات السحر، وعندما وقعت عيني على تلك المناظر تبسمت بمرارة متذكرا يوم أتيت ببولينا ولم أكن أعلم وقتئذ من حالها شيئا، بل كنت أعد نفسي من أسعد البشر غير عالم بما خبأ لي الدهر من الرزايا. ثم التفت إلى بولينا فوجدتها بيضاء كالرخام وقد فارق الذهول عينيها الجميلتين، فجعلت تنقل بناظريها إلى كل الجهات باشة الوجه منتعشة بذلك النسيم اللطيف الذي كان يهب عليها مجعدا أطراف ثوبها، فوددت من صميم قلبي أن تكون بولينا كما أشتهي ولو فقدت كل ما تملكه يدي. وعند الساعة السابعة وصلنا إلى منزلي في شارع ويل بول، وبأثناء ذلك سألتها إذا كانت تعلم مقر الطبيب سنيري لأكاتبه؟ فكان جوابها بأن خفضت رأسها ولم تفه ببنت شفة، فأعدت القول: أجهدي الفكرة يا عزيزتي علك تهتدين إلى الصواب. فجعلت أصابعها الفضية على صدغها ولبثت برهة جامدة، فلحظت أنها باضطراب شديد، فقصدت أن أنبه منها الفكر فقلت: أظن بأن تيريزا تعلم ذلك. - نعم فاسألها. - ولكن أين هي؟
فأمالت رأسها عني ولم تجب. فقلت أيضا: لقد أخبرني الطبيب أنه ذاهب إلى جينوى، فهل تدرين لأي جهة منها؟ فنظرت إلي بارتباك ولم تفه بكلمة، فتيقنت أنها غير قادرة على مساعدتي، فقصدت السفر إلى جينوى حتى إذا ما التقيت به هناك أذهب توا إلى إيطاليا. وفي اليوم الثاني ودعت بولينا قائلا لها: إنني سأغيب عنك بضعة أيام فلا تتكدري مدة تغيبي، وإنك لتجدين من يعتني بك كثيرا. قالت: كما تريد يا عزيزي جلبرت. قد علمتها أن تناديني هكذا لأني ألذ باستماع اسمي يلفظ من بين شفتيها. فذهبت بعد أن أوضحت لبريسلا حالة بولينا وحرصتها على الاهتمام بشأنها والاعتناء بها، وقبل أن أخرج من باب الحديقة نظرت إلى النافذة حيث فارقت حبيبتي الجميلة، ويا لها من ساعة شملت فؤادي وسرور ملأ قلبي فكان لي زادا للسفر؛ فقد عاينت بريق الأمل يلوح لي من خلال دموع قد تساقطت على خديها كقطر الندى، ولبثت واقفة أمام النافذة تنظر إلي وأنا أسير الهويناء متلفتا نحوها حتى تواريت عنها، وكانت هي المرة الأولى التي ظهر عليها التأثر والانفعال.
Unknown page