وإنسان تلك العين حقا هو المولى
وفي الأندلس إلى اليوم على كثرة ما انتاب مصانعها وقلاعها ومدارسها وتربها وجسورها وسدودها من التخريب لا تزال ترى بعض كتابات من النظم والنثر، وبعضها مثال البلاغة والفصاحة؛ لأن الأندلسيين عاشوا وتنعموا في أرض معتدلة الهواء جميلة الطبيعة فلا بدع أن جادت القرائح على تلك النسبة، وظهرت في كتابهم وشعرائهم آثار الإبداع والإعجاب.
الفصل الثامن عشر
ذكرى مؤلمة
مضت أعوام تلتها أعوام، والنفس تتحدث بالارتحال إلى الأندلس المحبوبة، تستنفض معالمها، وتستبطن معاهدها ومصانعها، فتتدبر، وتدكر، وتستفيد، وتفيد، ولما أتاحت لها الأقدار، بلوغ تلك الأمصار، عرض لها ما كدر صفو تلك الذكرى، ذكرى التطواف في الأندلس بعد عزها للاعتبار، بالدمى والأحجار، واستنطاق الآثار، واستقراء الأخبار؛ لمعرفة عمل العرب في تلك الديار.
اتفق نزولي غرناطة في اليوم الثاني من كانون الثاني، اليوم الذي خرج فيه أبو عبد الله آخر ملوك بني الأحمر من عاصمة الأندلس، وانتقلت أحكامها إلى أيدي الغالبين من الإسبانيين، والجرس يدوي في كنيسة الحمراء دويا متواصلا لا متساوفا مدة أربع وعشرين ساعة، احتفالا بهذا اليوم الذي يعده أهل إسبانيا عامة وسكان غرناطة من بينهم خاصة من أسعد أيامهم الغر. احتفلوا به ضروب الاحتفال، ومن جملة مظاهر سرورهم: مأدبة أدبها يومئذ شيخ مدينة غرناطة في النزل الذي حللته في جوار الحمراء، واسمه نزل «واشنطون» على اسم واشنطون محرر أميركا الشمالية ، وقد حضر المأدبة عظماء المدينة، وشربوا وطربوا على ذكر استيلاء أجدادهم على آخر أرض احتلتها العرب من شبه جزيرتهم.
تذكرت ذاك اليوم المشئوم، وقد رفع الصليب الفضي على أعلى برج في الحمراء إشارة إلى ظفر الإسبان الأخير، وخروج العرب من هذه الديار، وقد أخذ أبو عبد الله بن الأحمر يتحفز في حاشيته؛ ليخرج من الحمراء قبل أن يبغته العدو فيها، ويتلفت وهو يجتاز جبل الثلج إلى غرناطة البديعة فيتنهد ويبكي، وأمه ترافقه وتقول له: لا تبك كالنساء ملكا لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال.
كل سنة يبالغ القوم بعيد غرناطة السنوي، وقد احتفلوا به حتى اليوم أربعمائة وثلاثين سنة يتذكرون كل مرة نصرتهم على أعدائهم ويوما تمت لهم فيه وحدتهم القومية والدينية، وقد مثلوا أفظع مأساة ارتكبتها أنفس متعصبة جاهلة، وسلكوا للخلاص من مخالفيهم طرقا بشعة، لم يسلكها هؤلاء معهم يوم استصفوا أرضهم وحلوا دياراتهم، وهم في رفعة ومنعة، وغبطة وسعة. يحشدون يوم الحفل رجالهم ونساءهم وذراريهم يحفزون أرواحهم ليوقظوها، ويهيجون كوامن الصدور؛ ليعتبروا بما وقع لهم في سالف العصور، وليعلموهم أن غلبة سنة 1492 وإن كانت من باب تسلط الجهل على العلم إلا أنها دلت على أن الثأر لا ينسى ولو بعد ثمانية قرون.
وما كان أجدر بالعرب أن يعدوا آخر يوم خرجوا فيه من الأندلس من أيام البؤس، المشتملة بالحزن، المملوءة بالاستعبار، يتناشدون فيه التعازي والمراثي، ويتطارحون حديث محنة مضت، وتذكارها المؤلم لم يبرح يتجدد، وشرر شرها لم يزل يتولد ويتوالد.
قيل: إن أناسا من جالية الأندلس في بر العدوة ما برحوا إلى اليوم وقد انقضت أربعة قرون على مغادرتهم بلدا نبت لهم فيه العز، وأثمر المجد والسعد، ويخلف الوالد منهم لبنيه في جملة مخلفاته، مفاتيح داره في الأندلس على أمل أن يعود أولاده إليها ذات يوم ويفتحوها وينزلوها. تذكار أن عدة بعضهم في باب الهزل، في سجل المستحيلات يحوي ولا جرم في مطاويه أجمل العظات، وأعظم التذكارات.
Unknown page