آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٧)
فُتْيا في صيغة الحمد «الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده»
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية
(٦٩١ - ٧٥١)
تحقيق
عبد الله بن سالم البطاطي
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
"الحمد لله حمدًا دائمًا سرمدًا، حمدًا لا يحصيه العدد، ولا يقطعه الأبد، وكما ينبغي لك أن تحمد، وكما أنت له أهل، وكما هو لك علينا حقٌّ".
"اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا، ورزقتنا، وهديتنا، وعلمتنا، وأنقذتنا، وفرَّجْتَ عنَّا .. لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل، والمال، والمعافاة .. كَبَتَّ عدوَّنا، وأظهرتَ أمْنَنا، وجمعتَ فُرقَتَنا، وبَسَطْتَ رزقنا، وأحسنتَ معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربَّنا أعطيتنا .. فلك الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمد بكل نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديثٍ، أو سِرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصةٍ أو عامةٍ، أو حيٍّ أو ميتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ .. لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت" (^١).
اللهم "تَمَّ نورُك فهديتَ، فلك الحمد، وعَظُم حلمُك فعفوتَ، فلك الحمد، وبسطتَ يدك فأعطيت، فلك الحمد .. ربَّنا: وجهُك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهنَؤُها .. تُطاع - ربَّنا - فتشكُر، وتُعصى - ربَّنا - فتغفِر، وتجيب المضطَر، وتكشف الضرَّ، وتشفي السقيم، وتنجي من الكرب، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا
_________
(^١) هذا من دعاء الحسن البصري ﵀، كان يستفتح به حديثه.
أخرجه ابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم ١١، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٢٦٦.
المقدمة / 5
يجزي بآلائِك أحدٌ، ولا يبلغ مِدْحَتَك قولُ قائل" (^١).
فـ "اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا خالدًا مع خلودك، ولك الحمد حمدًا لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمدًا لا منتهى له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدًا لا أجر لقائله إلا رضاك" (^٢).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الحامدين، وعظيم الشاكرين، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من أَقْربِ القُرَب، وأفضل الفضائل، وأحقِّ الحقِّ؛ اشتغالُ العبد
_________
(^١) روي عن علي ﵁ مرفوعًا وموقوفًا:
فأما المرفوع فأخرجه أبو يعلى في مسنده رقم ٤٤٠، وسنده ضعيف.
وأما الموقوف فأخرجه:
ابن فضيل الضبي في (الدعاء) رقم ٦٩، وابن أبي شيبة في (المصنف) ١٠/ ٢٢٩ رقم ٩٣٠٦، والطبراني في (الدعاء) رقم ٧٣٤.
وعزاه المتقي الهندي في (كنز العمال) ٢/ ٦٤٠ رقم ٤٩٦٣ إلى: جعفر فى (الذكر)، وأبي القاسم اسماعيل بن محمد بن فضل في أماليه.
وهو حسن -إن شاء الله- بمجموع طرقه.
(^٢) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٠٧٩ من حديث عليٍّ ﵁ مرفوعًا، وقال عقبه: "فيه انقطاع بين عليٍّ ومن دونه".
وضعفه الألباني في (ضعيف الترغيب والترهيب) رقم ٩٦٨ و٩٨٢.
وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) ٨/ ٢٢٣ ومن طريقه الحافظ ابن حجر في (نتائج الأفكار) ٣/ ٢٨٩ - ٢٩٠ من قول محمد بن النضر الحارثي.
المقدمة / 6
بالثناء والحمد لذي العُلَى والمجد؛ فإنه -سبحانه- أهلٌ لأن يُحمد، وأهلٌ لأن يُشْكَر ويُثنى عليه، وهو ﷻ المحمود على كمال محاسِنه، وتمام إحسانه.
و"الحمد" من أحب العبادات إلى الله ﷿، كما ثبت ذلك في حديث أنس ﵁: أن النبي ﷺ قال:
"وما من شيءٍ أحبَّ إلى الله من الحمد" (^١).
وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري ﵄، أن النبي ﷺ قال: "أفضل الذكر (لا إله إلا الله)، وأفضل الدعاء (الحمد لله) " (^٢).
فلا غَرْوَ إذن أن يحرص الناس على سؤال أهل العلم عن صيغ الحمد وألفاظها، بل عن أفضلها وأجلِّها وأكملها؛ لأن ذلك أسعد لحظِّ المؤمن.
فها هو الحافظ السخاوي (٩٠٢) يُسأل عن ألفاظ الروايات الواردة في جوامع التسبيح، فيذكر ما استحضره من الروايات الواردة في صيغ
_________
(^١) أخرجه: أبو يعلى في مسنده رقم ٤٢٥٦، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٠٥٨، وفي (السنن الكبرى) ١٠/ ١٠٤.
وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة) رقم ١٧٩٥.
(^٢) أخرجه: الترمذي رقم ٣٣٨٣، وابن ماجه رقم ٣٨٦٨، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم ٨٣١، وابن أبي الدنيا قي (الشكر) رقم ١٠٢، وابن حبان رقم ٨٤٦، والحاكم ١/ ٤٩٨ و٥٠٣ وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٠٦١ وغيرهم.
وحسنه الألباني في (صحيح الجامع) رقم ١١٠٤، و(السلسلة الصحيحة) رقم ١٤٩٧.
المقدمة / 7
الحمد والتسبيح (^١).
ويُسأل ابن حجر الهيتمي المكي (٩٧٤) عن قول السراج البلقيني إن أفضل صيغ الحمد "الحمد لله رب العالمين"، فَسَردَ أقوال العلماء في أفضل الصيغ، ثم استحسن صيغة: لَفَّقَها من سائر الأقوال، وهي "الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه" (^٢).
ولربما يتوجَّه السؤال إلى صيغةٍ بعينها للاستفسار عن ثبوتها، أو عما تحمله من المعاني؛ كما هو الحال في السؤال الذي وُجِّه إلى الإمام ابن القيم ﵀، وأجاب عنه بهذه الفتيا التي بين أيدينا.
مضمون الفتيا:
السؤال الموجَّه إلى الإمام ابن القيم ﵀ يتعلق بصيغةٍ من صيغ الحمد، هي:
"الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده"؛ عن ثبوتها وصحتها، وهل ما ذكره بعضهم من أن هذه الصيغة هي أفضل الصيغ وأكملها صحيحٌ أم لا؟.
فأجاب ببطلان ذلك، وبنفي ثبوت هذه الصيغة من جهتين: من جهة الرواية، ومن جهة الدراية.
فأما من جهة الرواية فذكر أن هذه الصيغة ليس لها إسنادٌ؛ فضلًا عن
_________
(^١) انظر (الأجوبة المرضية) ٣/ ٩٠٨ - ٩١١.
(^٢) انظر (الفتاوى الكبرى الفقهية) ٤/ ٢٦٣.
المقدمة / 8
ثبوتها أو صحتها، وإنما هو أثرٌ يرويه أبو نصر التمَّار عن آدم ﵇، وهذا الأثر لا تقوم به حجةٌ لانقطاعه.
ثم إنه لم يرد عن أحدٍ من خلق الله المكرمين التلفظ بمثل هده الصيغة؛ لا الملائكة، ولا النبيين، ولا خيار هذه الأمة وعلى رأسهم صحابة رسول الله ﷺ، وأخذ يطيل في سرد الآيات والأحاديث الواردة في صيغ الحمد، والتي ليس فيها هذه الصيغة المسئول عنها.
وأما من جهة الدراية فقد بيَّن ﵀ أن هذه الصيغة قد تتضمن معنى فاسدًا.
ووجه ذلك؛ أن هذه الصيغة قد تفيد أن العبد بشكره للنِّعَم يكون قد أدى ما عليه من حقٍّ لله تعالى، وهذا فاسدٌ، لأنه يخالف المستفيض في النصوص الشرعية من أن نِعَم الله ﷿ لا يقوم بتمام شكرها أحدٌ، ولا يفي بحقها قول قائلٍ، فمهما أثنى العبد على ربه، وتقدم بين يديه بحمده وشكره، فحق الله أعظمُ، وإحسانه أعمُّ، ومِنَّتُه أكرم.
وهذا المعنى الذي ردَّه ابن القيم ﵀ هو المنقول عن جماعةٍ من الأئمة المتقدمين، أنهم ردُّوه، وفنَّدوه، وأبطلوه، ومن ذلك ما قاله الإمام بكر بن عبد الله المزني ﵀:
"ما قال عبدٌ قطُّ (الحمد لله) إلا وجبت عليه نعمةٌ بقوله (الحمد لله)، فما جزاء تلك النعمة؟ جزاؤها أن يقول (الحمد لله)، فجاءت نعمةٌ أخرى، فلا تنفد نِعَمُ الله ﷿" (^١).
_________
(^١) أخرجه: ابن أبي الدنيا في (الشكر) رقم ٧ و٩٨، والبيهقي في (شعب =
المقدمة / 9
وقال الجنيد: سمعت السريَّ يقول:
"الشكر نعمةٌ، والشكر على النعمة نعمةٌ، أي إلى أن لا يتناهى الشكر إلى قرارٍ" (^١).
وقال طَلْقُ بن حبيب ﵀:
"إن حقَّ الله أثقلُ من أن يقوم به العباد، وإن نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن اصبِحُوا توَّابين، وامسُوا توَّابين" (^٢).
وأنشد محمود الورَّاق ﵀:
إذا كان شكري نعمةَ اللهِ نعمةً ... عليَّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ
وكيف وقوعُ الشكرِ إلا بفضلِه ... وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ
إذا مَسَّ بالسرَّاءِ عَمَّ سرُورُها ... وإن مَسَّ بالضراءِ أعقبها الأجرُ
وما منهما إلا له فيه مِنَّةٌ ... تضيقُ بها الأوهامُ والبرُّ والبحرُ (^٣)
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي ﵀:
"إن الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأَكْلَة فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَة فيحمده عليها، والثناءُ بالنِّعَم، والحمدُ عليها
_________
= الإيمان) رقم ٤٠٩٥.
(^١) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٠٩٦.
(^٢) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٢٠٤.
(^٣) أخرجه: أبن أبي الدنيا في (الشكر) رقم ٨٢، ومن طريقه البيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٠٩٩.
المقدمة / 10
وشكرُها عند أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم، فهم يبذلونها طلبًا للثناء، والله ﷿ أكرمُ الأكرمين، وأجودُ الأجودين، فهو يبذل نعمَهُ لعباده، ويطلب منهم الثناءَ بها، وذكرَها، والحمدَ عليها، ويرضى منهم بذلك شكرًا عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاحٍ إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحُه وكمالُه فيه. ومن فضله أنه نسب الحمدَ والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، ثم استقرض منهم بعضَه، ومدحهم بإعطائه، والكلُّ ملكُه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك" (^١).
فهذا هو خلاصة الفتيا ومحتواها، وعين الخلاصة المذكور في هذه الفتيا قد ذكره ابن القيم ﵀ في كتاب آخر له وهو "عدة الصابرين" (^٢)، وخَلَص فيه إلى نفس ما خلص إليه ههَنا في الفتيا مع إيجازٍ شديدٍ.
وقفةٌ مع الفتيا:
من المعروف عن ابن القيم ﵀ أنه صاحب بَسْطٍ واستقصاءٍ؛ وذلك لما يتمتع به من سعةِ اطلاعٍ، وقوةِ ذاكرةٍ، وسيلانِ ذهنٍ، فقلَّ أن يفارقه الصواب في أجوبته.
وأول ما نقرؤه في مقدمة فتياه عن مسألة الحمد تأصيله لها بنفي وجود سندٍ لهذه الصيغة، وإنما غاية الأمر أنها أثرٌ مرويٌّ عن آدم ﵇،
_________
(^١) (جامع العلوم والحكم) ٢/ ٨٢ - ٨٣.
(^٢) (عدة الصابرين) ٢٢٨ - ٢٢٩.
المقدمة / 11
وهدا الأثر من غرائب أبي نصر التمَّار، ولا يُدرى من أين أخذه!.
والحقيقة أن كلامه هذا غايته عدم العلم بوجود السند للأثر المروي، ومن المقرر أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، إلا أن العبارات الكلِّية، والقضايا العامة، إذا خرجت من مثل الإمام ابن القيم ﵀ فإن لها حظًّا عند العلماء؛ استرواحًا منهم لجلالة علومه، وغزارة معلومه.
وهذا ما حَدَا بالعلامة السَّفاريني ﵀ إلى نقل فتوى ابن القيم ﵀ إقرارًا له بتلك النتيجة؛ عندما تكلم عن صيغ الحمد في كتابه المشهور "غذاء الالباب" (^١).
وههنا أمور:
الأول: أن الحافظ ابن حجر ﵀ ذكر أن لهذا الأثر سندًا يرويه ابن الصلاح في أماليه.
وهدا الإسناد عزيز الوجود، ولهدا لما نقل الحافظ ابن حجر حكمَ ابن الصلاح عليه قال عقبه: "فكأنه عثر عليه حتى وصفه" (^٢).
والثاني: أن أبا نصر التَّمار إنما يرويه عن: محمد بن النضر الحارثي عن آدم ﵇، فالأثر ليس من رواية أبي نصر عن آدم ﵇ كما ذُكر، بل بينهما واسطة.
والثالث: أن الحافظ ابن رجب الحنبلي ﵀ ذكر أن الحديث المسئول عنه قد روي مرفوعًا وموقوفًا، واكتفى بذلك ولم
_________
(^١) (غذاء الألباب) ١/ ٢٠.
(^٢) (التلخيص الحبير) ٤/ ٣١٧. ثم ذكر الحافظ ابن حجر أنه وقف عليه بعد ذلك.
المقدمة / 12
يَعْزُهما (^١).
فلعله أراد بالمرفوع ما روي من حديث ابن عمر ﵄، ولفظه:
"من قال: الحمد لله ربِّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، على كل حالٍ، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده؛ ثلاث مراتٍ: فتقول الحفَظَةُ: ربَّنا؛ لا نُحْسِن كُنْهَ ما قدَّسك عبدُك هذا وحمدَكَ، وما ندري كيف نكتبه؟ فيوحي الله إليهم أن اكتبوه كما قال".
ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب"، وعزاه إلى البخاري في "الضعفاء"، وبيَّض له الألباني في الحكم عليه في "ضعيف الترغيب والترهيب" (^٢).
وأما الموقوف فلم أقف عليه، إلا إن أراد به الموقوف على محمد بن النضر الحارثي! فالله أعلم.
والرابع: أن المعنى الذي قد يدل عليه الأثر "حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده" ربما يُظَنُّ أنه قد جاء ما يؤيده، وهو حديث أنس بن مالك ﵁: أن رسول الله ﷺ قال:
"من قال إذا آوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني، وآواني، والحمد لله الذي أطعمني، وسقاني، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ فأفْضَلَ"، فقد حَمِدَ الله بجميع محامد الخلق كلِّهم" (^٣).
_________
(^١) انظر (جامع العلوم والحكم) ٢/ ٨٣.
(^٢) انظر (ضعيف الترغيب والترهيب) ١/ ٤٧٧ - ٤٧٨ رقم ٩٦٢.
(^٣) أخرجه بهذا اللفظ: ابن السني في (عمل اليوم والليلة) رقم ٧٢٢، والحاكم =
المقدمة / 13
والجواب عن ذلك بأن الحديث ليس فيه أن العبد إذا قال هذا الذكر أنه يكون قد قام بحق الله حقَّ القيام، وأنه وفَّى نعمةَ اللهِ شكرَها، وأتى بما يكافيء ذلك! بل غاية ما يدل عليه أنه أتى بذكرٍ يعدل جميع حَمْد الحامدين، وهذا من تضعيف الأجور.
ويؤكد ذلك أن حَمْدَ العالمين كلِّهم لا يفي بحقِّ الله عليهم، ولا يكافيء نِعَمهُ لديهم، فإن الله ﷿ ليس لشكره نهاية، كما ليس لعظمته نهاية.
هذا إن سلِمَت الزيادة في قوله: "فقد حَمِد اللهَ بجميع محامد الخلق كلِّهم" من الإعلال، فإن أصل الحديث في المسند والسنن وغيرها بدون هذه الزيادة!.
نسبة الفتيا لابن القيم:
ثَمَّ أمورٌ تجعلنا نجزم بنسبة هذه الفتيا لابن القيم ﵀، وهي:
أولًا: أنه قد جيء باسم المؤلف في صدر الفتيا، فقال ناسخ المخطوط:
"أجاب شيخنا الإمام العالم، قدوة المحققين، عمدة المحدثين، شمس الملة والدين: أبو عبد الله محمد بن أبى بكر القيم، تغمده الله برحمته".
وثانيًا: أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في أثناء الرسالة في عدة مواضع، وكاد يصفه بـ (شيخنا)، وتتلمذ ابن القيم على شيخ الإسلام
_________
= في المستدرك ١/ ٥٤٥ - ٥٤٦ وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في (شعب الإيمان) رقم ٤٠٧٢، والضياء في (المختارة) رقم ١٥٧٤ و١٥٧٥.
المقدمة / 14
مشهور جدًا.
وثالثًا: أن ابن القيم ﵀ قد حكى خلاصة هذه الفتيا في كتابه الآخر المسمى بـ "عدة الصابرين"، وما ذكره هناك يطابق رأيه تمامًا في هذه الفتيا.
قال في "عدة الصابرين":
"وأما قول بعض الفقهاء: إن من حَلَف أن يحمد الله بأفضل أنواع الحمد؛ كان برُّ يمينه أن يقول: (الحمد لله، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده)، فهذا ليس بحديثٍ عن رسول الله ﷺ، ولا عن أحدٍ من الصحابة، وإنما هو إسرائيلي عن آدم، وأصح منه: "الحمد لله غير مكفيٍّ؛ ولا مودَّعٍ، ولا مستغنى عنه ربنا".
ولا يمكن حَمْدُ العبد وشكرُه أن يوافي نعمةً من نعم الله فضلًا عن موافاته جميع نعمه، ولا يكون فِعْلُ العبد وحمدُه مكافئًا للمزيد، ولكن يُحمل على وجهٍ يصح، وهو: أن الذي يستحقه الله سبحانه من الحمدِ حمدًا يكون موافيًا لنعمه، ومكافئًا لمزيده، وإن لم يقدر العبد أن يأتي به، كما إذا قال: "الحمد لله مِلْءَ السموات، ومِلْءَ الأرض، ومِلْءَ ما بينهما، ومِلْءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، وعدد الرمال والتراب والحَصَى والقَطْر، وعددَ أنفاسِ الخلائق، وعددَ ما خلقَ اللهُ، وما هو خالقٌ"، فهذا إخبارٌ عما يستحقه من الحمد، لا عما يقع من العبد من الحمد" (^١).
_________
(^١) (عدة الصابرين) ٢٢٨ - ٢٢٩.
وما ذكره ابن القيم ههنا تخريج جيد لمعنى هذه العبارة، وعليه يحمل كلام من استعملها من الأئمة كقول الإمام البيهقي ﵀ وهو يتحدث عن =
المقدمة / 15
ورابعًا: أن لغةَ الفتيا، ونَفَسَ التدوين، وطريقة العرض والاستدلال، ومنهجَ المناقشة والردِّ؛ توافِق ما تميز به أسلوب ابن القيم ﵀ في: صياغة مؤلفاته.
وخامسًا: أن العلَاّمة محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (١١٨٨) قد اختصر هذه الفتيا، وضمَّنها كتابه "غذاء الألباب"، وذكرها في مقدمة الكتاب عند الكلام على مسائل الحمد، وعَنْوَنَ لها بـ (فائدة)، وصرَّح بنسبتها لابن القيم ﵀ (^١).
النسخ المعتمدة في التحقيق:
تحصَّل لنا من هذه الفتيا نسختان:
النسخة الأولى:
نسخةٌ قديمةٌ، ضمن مجموع يحمل رقم (١١٧٤٠ ب)، محفوظ في ليدن، منها صورة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، وعنه حصلنا على صورة من المخطوط، وعدد صفحاتها أربع صفحاتٍ، وهذا المجموع غير مرقم.
والنسخة ليس عليها تاريخ النسخ، ولا اسم الناسخ، وخطها يشبه
_________
= نعمة الله عليه بأن جعل لكتابه "السنن الكبرى" المكانة العالية عند العلماء، فقال: "ووقع كتاب السنن إلى الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني -والد إمام الحرمين- بعدما أنفق على تحصيله شيئًا كثيرًا، فارتضاه وشكر سَعْيي فيه، فالحمد لله على هذه النعمة حمدًا يوازيها، وعلى سائر نعمته حمدًا يكافيها".
(معرفة السنن والآثار) ١/ ١٤٢ بتصرف يسير.
(^١) انظر (غذاء الألباب) ١/ ٢٠.
المقدمة / 16
خطوط القرن الثامن الهجري، وهو قليل الإعجام، وتتداخل فيه الكلمات أحيانًا، والنسخة مقروءةٌ ومصححةٌ، ولا أستبعد أن يكون ناسخها أحد تلاميذ المؤلف، والله أعلم.
ويعيب هذه النسخة أنها ناقصة، فالموجود منها يمثل نصف الفتيا تمامًا، ولولا ذلك لجعلتها أصلًا في التحقيق، وقد رمزت لها بالحرف (أ).
النسخة الثانية:
نسخةٌ حديثةٌ كاملةٌ محفوظةٌ في مكتبة الملك فهد بالرياض تحمل الرقم ٦٧٢/ ٨٦، وخطها نسخي واضح، ولم يُذكر فيها اسم ناسخها، ولا النسخة التي نقل منها، وقيد تاريخ نسخها في آخرها بعام ١٣٣٨، وعدد صفحاتها ثلاث عشرة صفحة.
وبالنسخة بعض التصويبات التي كُتبت في الهامش، وقد رمزت لها بالحرف (ب).
عنوان المخطوط:
كلا النسختين أُهْمِلتا من العنوان، ولم ينص على تسميتها أحدٌ ممن ترجم لابن القيم ﵀؛ حتى السفاريني ﵀ لما نقل عنها ما اختصره منها لم يذكر لها عنوانًا، وقد لا يكون هذا مستغربًا؛ لأن هذا هو شأن الفتاوى؛ أسئلةٌ ترفع إلى العالم، فيجيب عنها بخطه أو بإملائه، ثم يتركها هَمَلًا من العَنْوَنة، وتنتشر في أيدي الناس على أنها فُتْيا فلان، لا أنها فتيا بعنوان!
وعند التأمل في المخطوط نرى ما يلي:
المقدمة / 17
١ - أن طبيعة المخطوط ينطبق عليه حقيقة الفتيا، فهو استفتاءٌ من أحد الناس عن مسألةٍ ما، فكان الجواب بهذه الفتيا.
٢ - أن الاستفسار كان عن حديثٍ واحدٍ فقط، هذا الحديث يتضمن صيغة واحدة من صيغ الحمد الواردة، فأجاب ابن القيم ﵀ عنه، ثم اتبعه -تكميلًا للجواب- بسَوْق ما يستحضره من النصوص الشرعية الواردة في صيغ الحمد وألفاظه، فكان حشده لهده النصوص تبعًا لا أصلًا طُلِب الكشف عنه في السؤال.
وبالنظر إلى ما ذكرناه، واستئناسًا لما جرى عليه العمل في مثل هذه المؤلفات، يحسُن بنا أن نُعَنْون لها بـ:
فتيا في صيغة الحمد: "الحمد لله؛ حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده"، والله أعلم.
طبعات الكتاب:
طبع الكتاب مرتين:
الأولى: في دار ابن خزيمة بالرياض، سنة ١٤١٤، بتحقيق: فهد بن عبد العزيز العسكر، ووضع عنوانه هكذا: (مطالع السعد بكشف مواقع الحمد)، ذكر في المقدمة أنه استشرف هذا العنوان من خاتمة الرسالة.
وعناية بالكتاب ظاهرة، وطبعته هذه أجود الطبعتين.
والثانية: في دار العاصمة بالرياض، سنة ١٤١٥، بتحقيق: محمد بن إبراهيم السعران، ووضع عنوانه هكذا: (جواب في صيغ الحمد)، ذكر في المقدمة أن الشيخ بكر أبو زيد -حفظه الله- هو الذي أشار عليه بهذا العنوان.
المقدمة / 18
وكلا المحققين اعتمدا على نسخةٍ خطيةٍ واحدةٍ، وهي النسخة المتأخرة التي كتبت سنة ١٣٣٨، وعملهما جيدٌ على فوتٍ يسير لا يخلو من مثله عمل الحريص، لكني استفدت من طبعة دار ابن خزيمة أكثر، ولهما فضل السبق، والله يتقبل منهما صالح العمل.
منهجي في التحقيق:
١ - قمتُ بنسخ المخطوط، ثم قابلته على أصله، مراعيًا الرسم الإملائي الحديث.
٢ - أختار من النسختين ما أراه -فيما يغلب على ظني- أقرب للصواب، وقد أُضيف حرفًا أو كلمة لا يستقيم الكلام بدونه وأضعه بين معكوفتين [].
٣ - فقَّرتُ الكلام، وراعيت علامات الترقيم.
٤ - خرَّجتُ الآيات والأحاديث والآثار، فأما الأحاديث فإن كانت في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت عليه، وما كان في غيرهما خرجته من مصادره الأصلية؛ ثم أنقل كلام أهل الشأن في تصحيحه وتضعيفه.
٥ - ترجمت للأعلام، وعلَّقت على مواطن مما يقتضيه المقام.
٦ - بَيَّنْتُ بعض معاني الغريب بما يكشف عن المراد.
٧ - أقمتُ قوائم الفهارس على التفصيل: فهرس الآيات، والأحاديث، والآثار، والأعلام، والكتب، والموضوعات.
هذا؛ وأسأل الله العلي العظيم جلَّتْ قدرته أن يهدينا للتي هى أقوم، بالتي هي أحسن، إنه بكل جميلٍ كفيلٌ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المقدمة / 19
الصفحة الأولى من النسخة (أ)
المقدمة / 20
آخر الموجود من النسخة (أ)
المقدمة / 21
الصفحة الأولى من النسخة (ب)
المقدمة / 22
الصفحة الأخيرة من النسخة (ب)
المقدمة / 23