تأليف
نجيب محفوظ
أول أبريل
في منتصف الساعة السابعة صباحا وصل علي أفندي خليفة إلى المدرسة التي هو سكرتيرها، كعادته منذ خمسة عشر عاما، وباشر أعماله بالأسلوب الذي تعوده وألفه وصار قطعة من صميم حياته؛ إذ إن كل ساعة من حياته الحكومية كانت تسير على وتيرة واحدة لا تتبدل ولا تتغير، يدخل إلى «حجرة السكرتارية» فيحيي زملاءه - الكاتب والضابطين - تحية الصباح، ويجلس إلى مكتبه ثم يحضر عم خليل بالقهوة والماء المثلج، فيمضي في احتسائها وهو يتحدث إلى القاعدين أو يستمع إليهم، ثم يأخذ في فتح الدفاتر ويراجع ويكتب. ثم تخلو الحجرة حين يذهب الآخرون إلى فناء المدرسة لمراقبة التلاميذ وتنظيم صفوفهم، ثم يخف بعد ساعة من الزمن إلى لقاء الناظر لعرض الأوراق واستشارته في بعض الأمور وتلقي الأوامر والإرشادات. وإذا جاء اليوم الأول من الشهر ازدحمت حجرته بالمدرسين والموظفين وامتلأت يده بالأوراق المالية، فلا يزال يوزعها حتى لا يبقى إلا وريقات معدودة يودعها جيبه ساعة ريثما يوزعها بدوره أشتاتا على صاحب البيت والقصاب والبدال.
هكذا تدور عجلة حياته فتبدأ من نقطة وتعود إليها، ثم تبدأ وتعود بحيث لو شذت عن الخط المرسوم بمقدار ذرة - كأن يتأخر عم خليل بالقهوة دقيقة أو يدق الجرس فيبطئ الضابط لحظة في مغادرة الحجرة - قلق واضطرب واهتز رأسه يمنة ويسرة، مثله مثل النائم في ظل ساقية دائرة إذا وقف الثور لعلة انتفض مستيقظا منزعجا! إلا أن طارئا من الحدثين نزل بساحته أخيرا فبدل طمأنينته رعبا وسكينته قلقا وتفاؤله تشاؤما، وكان الكاتب يعلم بخبيئته من دون الآخرين؛ لأنه كان أحب الناس إليه وأقربهم مودة إلى قلبه، فلما رآه هذا الصباح دنا منه وفنجان قهوته في يده وسأله همسا: كيف حالك؟
فأجابه بصوت تمزقه نبرات اليأس: يسير من سيئ إلى أسوأ. - ألا يوجد بصيص أمل؟ - أبدا .. أبدا .. لا بيع ولا شراء .. الحركة راكدة، والديون متراكمة، والتجار يطالبون ويلحون ولا يعذرون، وبات شبح الإفلاس مني قاب قوسين أو أدنى .. فإذا وقع - ولا مرد له - خربت خرابا تاما، ودمرت حياتي وحياة أولادي تدميرا، وهويت إلى أعماق السجون.
فتنهد علي أفندي من قلب مكلوم، وقال بصوت خافت: لا أمل في النجاة.
فسكت الرجل محزونا، ثم ذكر أمرا فسأله: وعمتك؟ - أف .. أف .. لا رحمها الله في دنيا ولا آخرة .. إنها تود لو تفقد ذاكرتها كي لا أخطر لها على بال، ولقد انقطعت عن زيارتها مضطرا منذ حين؛ لأنها لا تراني حتى تصيح في وجهي: «ماذا جئت تصنع؟! أنا لم أمت بعد!» والمرأة تتبرع كل يوم بمئات الجنيهات للجمعيات الخيرية لا حبا في الخير، ولكن كي لا تخلف لي مالا بعد موتها المتوقع يوما بعد يوم.
فهز الرجل رأسه أسفا، وقال: ليتك يا علي لم ترم بنفسك في ميدان التجارة غير المأمون. - هذا هو الكلام الذي لا جدوى منه .. ومع هذا هل تنكر أن هذه التجارة هي التي يسرت علي أمري وجعلت عيشي رغدا، وأعانتني على تربية ستة من الأبناء؟ •••
قبل ثلاثين عاما كان علي أفندي تلميذا بالمدرسة الابتدائية يجتهد أن يفوز بشهادتها، وقد جرب حظه مرات في سنين متتابعة، فخاب مسعاه فيها جميعا، حتى نفد صبره وذوى أمله. ورأى أبوه أن يفتح له حانوت عطارة في الغورية، لبث فيه عامين يناضل في معترك الحياة، ولكن لم يكن حظه في حانوته بأسعد منه في مدرسته، فاضطر إلى إغلاق الدكان، ورجع خائبا إلى بيت أبيه. وهناك فكر في أمر مستقبله طويلا فوجد أن خير طريقة، أو أن الطريقة الوحيدة الباقية لديه، هي أن يعود إلى نبش كتبه التي نسج عليها العنكبوت، وأن يجرب حظه مرة أخرى كتلميذ مجتهد وإن تقدم به العمر. وفعل ونجح، ووظف كاتبا في وزارة المعارف، واطمأن إلى الحياة بعد أن أشرف على اليأس والقنوط، وغبط نفسه على عمله المضمون الرزق، وأحس في أعماق نفسه بفخار الرجولة ونشوة الاستقلال. ولما كان عرضة للنقل إلى أقاصي الوطن، آثر - عن حكمة - أن يتزوج. وقد جاب مختلف البلدان في مصر العليا والسفلى إلى أن انتهى به المطاف رجلا في ذروة الرجولة إلى مدرسته الحالية فتقلب في وظائفها جميعا حتى رقي إلى وظيفة السكرتير.
Unknown page