المقسم أعم وفيه أن التقسيم قرينة على أن الامر هناك مستعمل في المعنى الأعم والاستعمال لا يوجب الحقيقة مع أنهم قد قسموه إلى ما ليس حقيقة فيه قطعا كالارشاد والتعجيز والتسخير وبأنه يستعمل تارة في الايجاب وأخرى في الندب فلو كان موضوعا للقدر المشترك لم يلزم المجاز ولا الاشتراك وفيه أن الاستعمال في خصوص الايجاب واقع وقد سبق منا أن الأصل المذكور لا ينهض دليلا على هذا التقدير على أنا قد بينا ما يوجب الخروج عنه على تقدير تسليمه وبأن فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به و فيه منع الكبرى إن أريد بالامر معناه الحقيقي وإلا فلا يفيد المدعى فصل اختلفوا في أن صيغة الامر هل تقتضي الايجاب أو لا إلى مذاهب ومنهم من عنون المبحث بقوله صيغة افعل وما في معناها يتناول بظاهره كل ما دل على معنى افعل ولو مجازا مع أنه خارج عن المبحث قطعا إلا أن يراد بما في معناها وضعا وأيضا يتناول ما كان بمعنى الامر من أسماء الافعال مع أن الظاهر خروجها عن النزاع لفظا وإن دخلت فيه معنى فالتعبير عنه بما ذكرنا أسد وأولى ثم الظاهر من كلام الأكثر أن الامر هنا بمعنى مطلق الصيغة و يظهر من بعضهم أن المراد به الصيغة الصادرة عن العالي ولا يخلو من بعد والتحقيق هو الأول نعم لما كان الغرض هنا لا يتعلق بالبحث عن الصيغة مطلقا بل من حيث وقوعها في الكتاب والسنة كما في سائر مباحثنا المتعلقة بالألفاظ لئلا يخرج عن كونها مسائل لهذا الفن فلا محيص من اعتبار صدورها عن الشارع لكن لا على أن يكون ذلك داخلا في مدلول لفظ أمر بأن يكون معناه خصوص الصيغة الواردة في الكتاب والسنة بالنقل أو التجوز بل على أن يكون ذلك مدلولا للفظ الامر من حيث العهد أو معتبرا في البحث عن الصيغة كما في لفظ العام والخاص والمطلق والمقيد إلى غير ذلك ومما يدل على اعتبار الحيثية المذكورة هنا مضافا إلى ما ذكرناه ظواهر الألفاظ المتداولة منهم في المقام من لفظ الوجوب والايجاب و الندب فإن المفهوم منهم إطلاق الوجوب على كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح والثواب وتاركه الذم والعقاب وعلى قياسه الندب و هذه إنما تصلح لان تكون معاني التزامية للصيغة إذا أخذت بالحيثية المذكورة ويحتمل أن يكون مرادهم بالوجوب والايجاب هنا مجرد الالزام أعني طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك وبالندب طلبه مع الرضا به فتدل عليه الصيغة بالتضمن وحينئذ فلا يكون له دلالة على ما ذكرناه لكنه تكلف من غير حاجة تمس إليه وأما احتجاج القائلين بدلالة الامر على الايجاب بذم العبد على مخالفة أمر سيده فلا ينافي أن يكون المقصود دلالته على الالزام مطلقا كما سبق إلى بعض الأوهام فإن تخصيص البيان به إنما هو بالنظر إلى أن أثر الالزام لا يظهر إلا في مثله ثم اعلم أن الفاضل المعاصر زعم أن نزاع القوم في صيغة الامر يتصور على ثلاث صور الأولى أن العالي إذا أورد هذه الصيغة مجردة عن القرائن هل يفهم منها الايجاب الاصطلاحي أعني ما يذم تاركه ويعاقب عليه أو لا الثانية أن هذه الصيغة بمجردها هل تفيد الالزام مطلقا فيلزمها فيما إذا صدرت عن العالي إفادة الايجاب الاصطلاحي أو لا الثالثة أن الصيغة بمجردها هل تفيد الايجاب الاصطلاحي نظرا إلى دلالتها على الالزام وعلو المتلفظ بها ما لم ينكشف الخلاف أو لا وفرق بين الصورتين الأوليين بعد ما نفاه أولا بجواز كون دلالة الصيغة على الالزام في الصورة الأولى مستندة إلى صدورها عن العالي فلا يفيده إذا صدرت عن غيره بخلاف الثانية فإنه قد صرح فيها بكونه مفاد الصيغة وبأنه لا تعرض في الأولى بكون الصيغة الصادرة عن غير العالي حقيقة أو مجازا وقد صرح في الثاني بكونها حقيقة وبين الصورتين الأخيرتين بأن حصول الذم و العقاب خارج عن مدلول الصيغة في أوليهما داخل فيه في الأخرى ثم اختار الصورة الأخيرة وجعل نزاعهم فيها مع اعترافه بعدم مساعدة تحرير كثير منهم لمحل النزاع على ذلك هذا ملخص كلامه و محصل مرامه وأنت خبير بأن مدلول افعل لا يزيد على طلب الفعل فقط أو مع المنع من الترك فدعوى أن الصيغة بمجردها تفيد أن المتلفظ بها عال مما لا يكاد يلتزم به من له أدنى درية بالمحاورات فرمي الأكثرين به كما هو قضية كلامه عجيب وأعجب من ذلك أنه استقرت بعد ذلك مقالتهم التي رماهم بها في الصيغة وبنى عليها متمسكا بحجتهم وكان الذي أوقعه في ذلك ما وجده في كلامهم من لفظ الوجوب والايجاب أو تسميتهم إياها أمرا فزعم أنهم يقولون بأن مدلول الصيغة أمر حقيقة وأن مطلق الامر يقتضي الوجوب و الايجاب الاصطلاحيين لغة وفساده يعرف مما مر ثم ذكر أن الاحتمالات التي قررها في صيغة الامر تجري في لفظ الامر أيضا و جعل الحكم فيهما واحد والتحقيق أن ما اختاره هناك من توجه النزاع إلى الصورة الأخيرة متجه هنا لكن مع تبديل علو المتلفظ بعلو المسند إليه كما عرفت والفرق غير خفي إذا تقرر هذا فالحق عندي أن صيغة الامر حقيقة في طلب الفعل فقط مطلقا لكن حيث يطلق الطلب يتبادر منه الالزام وعدم الرضا بالترك تبادرا إطلاقيا ولهذا نحمل الأوامر المطلقة على الايجاب مع أنا نجعل استعمالها في الندب حقيقة أيضا والأكثر على أنها حقيقة في الوجوب أعني الايجاب فقط وذهب علم الهدى إلى أنها مشتركة بينهما لفظا بحسب اللغة وأما بحسب الشرع فهي حقيقة في الوجوب فقط ومرجع كلامه إما إلى دعوى أن الشارع وضع لفظ الامر للوجوب فقط بعد أن كان في اللغة مشتركا بينه وبين الندب فمتى ورد في كلامه حمل على مصطلحه أو أنه بنى في استعمالاته الشرعية أو مطلقا على متابعة وضعه للوجوب فقط حتى إنه لو استعمله في الندب اعتبر العلاقة بينه وبين الوجوب وهنا أقوال أخر شاذة لا ينبغي أن يلتفت إليها لنا على أن الامر حقيقة في مطلق الطلب شهادة التبادر عليه فإنا لا نفهم من نفس الصيغة إلا مجرد الطلب وذلك آية الحقيقة وإذا ثبت ذلك عرفا ثبت لغة وشرعا بضميمة أصالة عدم النقل وعلى أن الطلب المطلق ظاهر في عدم الرضا بالترك إنه حيثما ورد طلب مطلق سواء كان بصيغة افعل أو غيرها تبادر منه ذلك عرفا ولذا نجد أن العقلا يذمون العبد على ترك ما طلب منه مولاه مطلقا كما لو صرح بالالزام وليس ذلك إلا لاستظهارهم منه الالزام ولولا ذلك لما دلت الجمل الخبرية المستعملة في
Page 64