إن لك علي حقا من الشكر يجب وفاؤه، فكن في الساعة العاشرة من هذه الليلة تجاه الشرفة القائمة على زاوية بيت أستري في سان كلو. والسلام عليك من ك. ب.
وكان دارتانيان يقرأها وقلبه يخفق ووجهه يتلون، ورآه بلانشت فقال: قاتل الله هذا الكتاب، فقد أثر فيك يا مولاي. قال: لا والله فما هو إلا بشرى تستحق عليها الإنعام، فخذ هذه القطعة واشرب بها. فشكره الغلام وقال: ولكن كيف دخل هذا الكتاب والأبواب والنوافذ مقفلة. قال: لقد سقط علي من السماء، فاذهب ونم. فذهب الغلام وأقام دارتانيان يعيد قراءة الكتاب.
ويلثمه حتى أصار مداده
محاجر عينيه وأنيابه سحما
ولم يزل كذلك حتى نام. ولما أفاق في الصباح دعا بخادمه فقال له: أنت مطلق كل النهار، فإني لا أرجع إلا عند الساعة السابعة من المساء فكن في انتظاري على الباب بجوادين. قال: أظن ذلك لبراز، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقاتل الله هذا الكتاب. قال: صه، وكن على ما قلت لك. وخرج، وإذا بصاحب الفندق على الباب، فحياه وأخذ يقص عليه ما صادفه في السجن من العذاب والاستنطاق إلى غير ذلك، فقال له دارتانيان: هل عرفت خاطف امرأتك؟ قال: لا، ولكن أين كنت؟ فلي أيام لم أرك. قال: كنت في رحلة قريبة مع أصحابي الثلاثة على ماء ذهب إليه أتوس. قال: وإني أراك الآن ذاهبا، فمتى ترجع؟ قال: ولم سؤالك ذلك؟ هل لك في حاجة؟ قال: لا، ولكني بعد إذ خطفت امرأتي وسرق مالي صرت أخشى من قلقلة المفتاح في القفل؛ ولذلك فأنا أريد أن أعرف متى ترجع لأكون في مأمن. قال: لا تخش بأسا، فقد أرجع بعد منتصف الليل بساعتين أو ثلاث أو في الصباح. قال: مصحوبا بالسلامة يا مولاي. فحياه دارتانيان ومضى إلى دي تريفيل، فوجده مسرورا من سرور الملك والملكة منه في ليلة الرقص، فجلس إليه وقال له بعد أن نظر حوله ليرى إذا كان في مأمن من أذن تسمعه: ألا تخبرني أيها الصديق بشيء عن سفرتك التي سر لها الملك والملكة واستاء الكردينال حتى صرت أحذرك منه؟ قال: وما علي إذا كان الملك والملكة راضيين عني؟ قال: ألا تعلم أن الكردينال أحقد من بعير، فهو لا ينسى الإساءة؟ قال: وهل يعرف أني أنا الذاهب إلى لندرة؟ قال: نعم، وإلا فأنى لك هذه الجوهرة في إصبعك؟ قال: إنها ليست من لندرة ولكنها من الملكة. قال : لله درك، فكيف ذلك؟ قال: ذهبت إلى الملكة فقبلت يدها وأعطتني هذا الخاتم. قال: لله من النساء، ما أشد كيدهن، ولكن ألا أنصحك؟ قال: بلى. قال: امض إلى أي جوهري تلقاه فبعه الخاتم، فإن الدراهم آمن من الجواهر، وإن عز عليك بيعه فأدر فصه إلى باطن كفك، فإني أخشى عليك من الكردينال أن يصل إليك بمكروه، وهو قادر على ذلك، ولو كنت بين جلد الملك ولحمه، وقد ذقت ذلك بنفسي فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل، فإن لي ثلاثين سنة في بلاط الملك، فلا يغرنك شيء، وبالغ في الحرص على نفسك حتى لو مررت على بيت يبنى تجنبه لا يسقط منه حجر على رأسك بأمر الكردينال، وإذا دخلت في الليل فلا تدخل إلا وخادمك وراءك، وإياك والاسترسال إلى أحد حتى العشيقة إذا كان لك عشيقة فإن النساء كيدهن عظيم، وأنت تعلم حكاية شمشون ودليلة، ثم أخبرني ماذا جرى لأصحابك؟ قال: أتيت أستخبرك عنهم. قال: لم يصلني عنهم خبر، فأعلمني بما جرى. قال: تركت بورتوس في شانتينلي يبارز رجلا وأراميس في كرافكور مجروحا في كتفه وأتوس في أميان متهما بتزييف النقود. قال: وكيف خلصت أنت إلى لندرة؟ قال: بأعجوبة من الله إذ قتلت الكونت دي ويرد. قال: قاتلك الله، كيف قتلته وهو أمس الناس بالكردينال وأكثرهم تزلفا منه؟ ولكن أرى لك أمرا لو كنت مكانك ما قعدت عنه. قال: وما ذاك؟ قال: تذهب إلى بيكارديا فتبحث عن أصحابك؛ وبذلك تتنكب شر الكردينال ويكون لك عون من أصحابك. قال: أصبت، وسأذهب غدا. قال: ولماذا لا تذهب الليلة؟ قال: لأن علي عملا خطيرا لا بد من قضائه. قال: هو موعد عشق فيما أظن، فإياك والنساء يا بني، فهن أصل الشر ومنبع الفساد، فانتصح لي وسافر في هذا المساء. قال: ذلك لا يكون يا مولاي، فقد رهنت لساني. قال: إذا كان ذلك فعدني أنك إذا سلمت الليلة تذهب غدا. قال: أنا أعدك. قال: أمحتاج أنت إلى مال؟ قال: إن معي خمسين دينارا وأظنها تكفي، وقد تركت أصحابي ومع كل منهم خمسة وسبعون دينارا، وفي ذلك غناء لهم. فأستودعك الله من الآن فإني لا أقدر أن أراك غدا. قال: على الطائر الميمون وبصحبة الله. وخرج فمر على منازل أصحابه فلم يجد منهم أحدا ولا وقف لهم على خبر، فسار إلى الإصطبل فوجد بلانشت يسرج الخيل، فقال له بلانشت: هل أنت واثق من صاحب الفندق يا مولاي؟ قال: لا، فما ذاك؟ قال: رأيته وهو يكلمك ولونه يتقلب كالحرباء؛ فتبينت في وجهه الغدر، ولم تفطن أنت لذلك لسرورك بالكتاب، ثم لما ذهبت أخذ ينظر إليك بعين ملؤها الغدر والحقد وانثنى يركض في الشارع المخالف لطريقك، فهل لك في أن تتحاماه؟ قال: ذلك لا بد منه، وسآتيك عند الساعة التاسعة فكن مستعدا، ثم ذهب.
الفصل الحادي والعشرون
الشرفة
ولما كانت الساعة التاسعة قدم دارتانيان إلى الإصطبل فوجد بلانشت قائما في انتظاره وفي يده زماما فرسين، فركبا وسارا تحت الليل حتى أبعدا عن باريز ودخلا في غابة بولونيا، وحثا جواديهما حتى قربا من سان كلو، فقال دارتانيان لخادمه: أنظرني هنا حتى أرجع إليك. قال: يا مولاي، أجد الليلة باردة وأخشى أن يصيبني منها بعض أذى يقعد بي عن خدمتك، فلو أذنت لي بالمبيت في أحد هذه الأكواخ؟ قال: أنت وذاك. وسار بجواده ينهب الطريق ويتنكب الواسعة منها حتى انتهى إلى الشرفة، فوقف تجاهها وأقام ينتظر ساعة وهو لا يسمع حسا ولا يرى إلا قفارا يجللها ضباب كثيف تلمع من خلاله بعض الكواكب، حتى قرعت الساعة العاشرة ولم ير شيئا ولم يسمع ركزا، وبصره موجه إلى نوافذ البيت القائمة الشرفة على زاويته، وهي كلها مقفلة ليس فيها إلا واحدة مفتوحة في آخرها يلوح من خلالها نور ضعيف ولا حركة فيها. فأقام ينظر إليها حتى الساعة العاشرة والنصف، فجالت وساوسه وجعل يقوم ويقعد، ثم توهم أنه مخطئ في قراءة الرسالة، فدنا من النافذة وقرأها فإذا هو مصيب غير مخطئ، ثم كانت الساعة الحادية عشرة فضاق صدره وأوجس في نفسه خوفا من شيء يصيب حبيبته، فجعل يروح تلقاء النوافذ ويجيء، ثم حاول الصعود على الحائط فلم يقدر، وخطر له فصعد إلى شجرة تقابل النافذة ونظر فرأى نورا ضعيفا يضيء من خلال نافذة مكسورة الزجاج، وتظهر به الغرفة مصروعة الباب مقلوبة المتاع والأثاث، وعليها بعض قطرات دم، فنزل من الشجرة وقلبه خافق وفكره مضطرب، ونظر إلى الأرض فرأى فيها آثار أقدام وحوافر وعجلات مركبة تمتد إلى طريق باريز، ووجد على قارعة الطريق قفاز امرأة لم يكد الوحل يعلق به لنعومته ولينه، فضاقت عليه الدنيا وانقبض صدره وعدل إلى الشارع، فسأل بعض المارة فقال له إنه رأى امرأة تقطع النهر متشحة ببرنسها، فظن دارتانيان أنها هي، فعاد إلى النافذة ليتحقق قراءة الرسالة لعله ضل عن المكان، فوجد نفسه مصيبا وأن قد حال دون لقاء حبيبته حائل، فمال إلى بيت قريب وقرع باب ففتح له رجل شيخ، فسأله عما حدث؟ فقال: هو أمر إذا أخبرتك به ساءت مغبته علي. قال: لا بأس عليك، فقل. ثم رشاه بشيء من المال فقال له بصوت منخفض: إنه عند الساعة التاسعة بينما أنا في بيتي هذا سمعت خفق نعال وقعقعة لجم، ففتحت الباب لأرى، وإذا أنا بثلاثة رجال بلباس الخيالة، وعلى مقربة منهم عربة تقودها الخيل، فاستخبرتهم الخبر فقالوا: هل عندك سلم؟ قلت: نعم. قالوا: علينا بها وخذ هذه القطعة على أن تكتم ما رأيت. فأخذت القطعة وأعطيتهم السلم ثم تظاهرت أني داخل في الباب وتواريت وراء شجرة فإذا بهم نصبوا السلم وصعدوا إلى الغرفة ثم سمعت صوتا يقول: هي هذه. ورأيت الامرأة قد دنت من النافذة فصدها الرجلان الصاعدان على السلم فأخذت تصيح وتستغيث حتى خفي صوتها ونزلوا بها إلى العربة، فسارت بهم ولم أدر ماذا جرى بعد ذلك. قال: ألا تصف لي زعيمهم؟ قال: بلى. ثم أخذ يصف له الرجل، فقال: قاتله الله، لم يزل يتبعني، هو خصمي، والله لأذيقنه الموت ألوانا. ثم قال الرجل: فاكتم يا مولاي ما سمعت مني تحفظ حياتي. قال: لا عليك . ثم سار فوجد خادمه في أحد الأكواخ، فركب وإياه وسارا إلى البيت.
الفصل الثاني والعشرون
بورتوس
Unknown page