وندع العاملين كيف كانوا وننظر إلى العمل المقصود، وهو عظمة الدول الحقيقية ووسائل تلك العظمة، وهو مبحث جدير ألا يغرب عن بال الأمراء العظماء؛ لكيلا يدفعهم الغلو في تقدير سطوتهم إلى استنفاد جهودهم في المساعي الباطلة، أو يدفعهم الشك في تلك القوة، والنزول بها عن قدرها إلى الجبن والشح في الرأي والمشورة.
إن عظمة الدولة في سعة أقطارها تدخل في تقدير القياس، كما تدخل عظمة أموالها وخزانتها في تقدير الحساب.
وقد تمثل كثرة السكان بالصور والنماذج، وتمثل ضخامة المدن بالبطاقات والرسوم، ولكننا لا نرى شيئا قط في مسائل السياسة يشيع فيه الغلط، كتقدير قوة الدولة ومنفعتها.
إن مملكة السماء لم تشبه بنواة أو جوزة كبيرة، بل شبهت بحبة الخردل وهي من أصغر الحبوب، ولكنها تمتاز بالخاصة النادرة التي تهيئ لها سرعة النمو والانتشار.
كذلك الحكومات منها ما هو واسع، ولكنه غير قابل للعظمة والسلطان، ومنها ما هو صغير، ولكنه قابل لأن تؤسس عليه أعظم الممالك.
إن المدن المسورة والمسالح المملوءة والعدد الكثيرة والخيل الأصائل، ومركبات الحرب والفيلة والمدافع وما شاكلها - كل أولئك إنما هي كالخراف في جلود الأسود ما لم تكن في طبيعة الشعب صلابة الحرب والجهاد، ولا قيمة لوفرة العدد في الجيوش حيث يبتلى الشعب بالخور، ويحرم فضيلة الشجاعة. وقد قال ڨرجيل: إن الذئب لا يبالي كم يبلغ قطيع الضأن من العدد! وقد كان جيش الفرس في ساحة أربيلا كالبحر الزاخر مما هال قواد الإسكندر، فأشاروا عليه بأن يدهمهم ليلا وهم غافلون، فكان جوابه لهم أنه لا يختلس النصر، ثم جاءت الهزيمة على أيسر ما يكون.
ولما نظر تيجران ملك الأرمن - وهو معسكر على التل في أربعمائة ألف رجل - فرأى أن جيش الرومان لا يربى على أربعة عشر ألفا سخر بهم وقال: إنهم أكبر من أن يكونوا وفد سفارة، وأصغر من أن يكونوا جيش قتال، فلم تغرب الشمس حتى تبين فيهم الكفاية لدحره ومطاردته، والإثخان بالقتل في جحفله العظيم.
والأمثلة كثيرة على التفاوت بين العدد والشجاعة، فلا يتردد الإنسان في الجزم بأن عظمة الدولة التي تتقدم في الأهمية على كل عظمة هي أن تشتمل على شعب مليء بالقتال.
وليس المال بعصب الحرب كما يجري خطأ على بعض الألسنة، فإن الأمة لتضمحل وعندها المال إذا وهن عصب الرجال، وقد أحسن صولون حيث قال لقارون، وهو يعرض عليه ذهبه: «سيدي! إن جاءك من عنده حديد خير من حديدك، بسط يديه على ذهبك.»
فليحذر الأمير أن يغتر بقوته ما لم تكن له عدة من شجاعة جنوده، وليعرف الأمير حقيقة بأسه من الناحية الأخرى إذا اطمأن إلى النزعة العسكرية في قومه، إن لم يكن بهم قصور في غير هذا الباب.
Unknown page